أشتات

في الثقافة والهوية والدولة

الثقافةُ هي ما يُقوّم الإنسانَ ويُهذّبه ويرقَى به؛ وتبدأ من طرائق العيش، وأنماطه؛ في المأكل، والمشرب، والملبس، والمسكن، وما يتّصل بها؛ وقد بدأ الإنسان بذلك حين وعى نفسَه بنحوٍ ما، وأدرك ما يفترق به عن الحيوان الأعجم. ثمّ زاد على ذلك أشياءَ من النظام يفرضُها على ما حوله بما يجعل له حيّزاً موسوماً به؛ حتّى إذا تهيّأ له شيءٌ من الكَلِم ذي الإيقاع، وشيءٌ من الخطوط ذات الدلالة على ما يرى، وعلى ما يضطرب في نفسه؛ وضع قدمَه على مدارج الفنّ، وأخذ يرتقي! ثمّ تراكم ذلك كلّه، ونما، وصار مرجعَ الإنسان في تنشئته، وتقويم سلوكه.

ولكلِّ جماعةٍ من البشر تعيشُ في بيئة بعينها، نمطٌ من الثقافة في طرائق العيش وفي الفنّ، يأتلف، بنحوٍ ما، مع ما لغيرها، ويختلف عنه؛ يأتلف بما يشترك به البشر، ويختلف بما يكون من خصيصة البيئة، والحوادث التي تقع فيها. ولها لغةٌ هي مستودعُ الجماعة في كلّ شأن من شؤونها، وهي عنوانُها المبين. وبتراكم ذلك، وبتكرار عناصره، تُصنع هويّةُ الجماعة؛ أي سمتُها التي تدلّ عليها، وتمنح أبناءها كيانهم، وما يشتركون فيه من فكر وشعور.  وكلُّ ذلك ملتبسٌ بالتاريخ، متحقّقٌ فيه، وليس شيئًا يعلو فوقه؛ أي إنّه محكومٌ بالزيادة والنُقصان، وبالتبدّل من حال إلى حال؛ مع الاحتفاظ بما هو أصل فيه.

ثمّ تجيء الدولةُ لتُعبّر عن الثقافة والهويّة معًا؛ فتظهر الكوامنُ والمضمرات؛ ما كان منها عنصرَ قوّة وبناء، وما كان عنصرَ ضعف وهدم. غيرَ أنّ الدولةَ، بما ينبغي لها، قادرةٌ، حين تكون عادلةً رشيدةً، على تعزيز قُوى البناء، وإضعاف عناصر الهدم!

وليست الثقافةُ والهويّة شيئًا ثابتًا قارًّا  لا تبدّل فيه؛ وإنّما هما في مسار التاريخ؛ ينقصُ منهما الزمنُ ويزيد؛ فإذا لزمتا حالاً واحدة من الثبات وإنكار التبدّل؛ كان ذلك إيذانًا بذبول الجماعة وأفولها.

ولقد كان للعرب، في تاريخهم، ثقافة وهويّة؛ نشأتا على مرّ الزمن وتكاملتا، واتّصلتا بالدولة أوثق صلة إذ هما مددُها ونُسغها الخفيّ، وكانتا من القوّة والوضوح بحيث طبعتا أممًا أخرى بطابعهما. وكانتا، مع ذلك، تنقلبان من القوّة إلى الضعف بين حين وآخر، وتنقلب معهما الدولة؛ فكلّما ضمرت الثقافةُ وهَت الهويّةُ وسارع الانحلالُ في الدولة.

ومن أقوى مصادر تجديدِ الثقافة والهويّة، وردِّ الحياة إليهما إذا تقادم بهما الزمن؛ العلمُ الموصول بالوقائع!  ذلك أنّه حين ينتشر منهجُه وحقائقُه بين الناس، وتذوب خلاصتُه في مسالك حياتهم يُحيي العناصرَ النافعة المفيدة ويَنفي ما سواها.

وقد تنفصل الدولة عن الثقافة والهويّة فتكون الثقافةُ والهويّة من مدار، وتكون الدولةُ من مدار آخر كالذي جرى للعراق بعد سقوط بغداد في سنة 656هـ؛ إذ كانت الثقافة والهويّة عربيّتين، وكانت الدولةُ المتسلّطة غيرَ عربيّة!  وهذا أمرٌ، لا ريب، يُضعف الثقافةَ والهويّةَ معًا، ويردّهما إلى أوهن حالاتهما.

وحين أطلّ القرن العشرون، وانزاحت الدولة العثمانيّة عن حكم العراق بعد الحرب الأولى، وأخذت دولةٌ غازية جديدة تتوغلّ في البلد حاملةً معها شيئًا من ثقافتها، وأشياءَ من قوّتها وعنفها؛ وقع ما يزلزل الثقافةَ والهويّة، ويجعل طليعةَ المجتمع تتساءل: أين نحن من هؤلاء الغزاة؟ وكان الردُّ الأوّلُ إقامةَ الحرب لهم، واستنفارَ كوامن الروح في مواجهة الغازي. ثمَّ انجلى الأمر عن نمط جديد من الإدارة يقتحم حياةَ الناس، ويضع ثقافتهم وهويّتهم على المحكّ. وإذ رجع الناس إلى ما استقر عندهم يلتمسون صيغةً للحكم وإدارةِ البلد لم يجدوا غير صيغة الغَلَبة والقهر تتوارثها القرون قرنًا عن قرنٍ! وأرادت الدولةُ الغازية أن تجيءَ بصيغة ممّا عندها تقوم، في الظاهر، على الرضا والقبول من دون قهر وغَلَبة؛ غير أنّ ذلك لم يكن قادرًا على نفي ما كان مغروسًا في الأرض؛ أنَّ السلطان إنّما يؤخذ بالمكر والتغلّب!

كانت عناصرُ الحداثة الوافدة من الغرب في الإدارة والسياسة، ونمط ِالعيش لا تفتأ تدقّ الأبواب، وتساور الناس، وكانت فئات من المجتمع تسعى أن تتعلّق بها، وأن تنتفع منها؛ لكنّ ذلك لم يتحقّق، عندهم، على نحو من التلاؤم والانسجام بين القديم والجديد، وظلّت العناصر غيرَ منصهرة في كيان واحد.

لقد كان من أوضح العناصر الموروثة، وأقواها، وأبقاها على الزمن؛ عنصرُ الغَلَبةِ القاهرةِ في تولّي السلطة؛ إذ كلّما زُحزح عن موقعه عاد كأقوى ما يكون وأشدّ. ولا ريبَ في أنّه هو الذي أفسد أمرَ الدولة منذ قيامها في سنة 1921، وزعزع أركانها، وحرمها الاستقرارَ والهدوء اللذين لا يستقيم بناء وإعمار من دونهما.

إنّ الدولةَ، في نشأتها واختلاف حالاتها، ثمرةُ الثقافة والهويّة؛ فإذا بدت مضطربةً مرتبكةً في إدارة شأنها؛ فإنّما مرجعُ ذلك إلى اضطراب الثقافة والهويّة وارتباكهما!

وقد اضطربت الثقافةُ والهويّة، في مطلع القرن العشرين، حين همّتا بالانفصال عن زمن اتّسم بالركود والبُطء، وحاولتا الاتّصال بزمن جديد موسوم بالتحوّل السريع؛ فكان أن نشأت دولةٌ غيرُ ثابتة الأركان؛ تقوم على الغَلَبة القاهرة، بعيدةً عن الرضا؛ يهدم بعضُها بعضًا. وما زالت، بعد مضي أكثر من مئة سنة، على حالتها تلك!

ولن يستقيمَ أمر الدولة ما لم يستقم أمرُ الثقافة والهويّة؛ واستقامةُ أمرهما مرهون بأن تنشأ ثقافةٌ تستصفي خيرَ ما في التراث من جوانبَ مشرقةٍ تُعلي شأنَ الإنسان في حريّته وكرامته، وتتّصلُ بالوقائع وتبتعدُ عن الأوهام، وتأخذُ من العلم روحه في سعة الأفق، وإدراك الحقائق والتقيّد بها؛ لكي تتعزّز بها هويّةٌ رحبةُ الجنبات تعرف معالمها وتحرصُ عليها، ولا تكره غيرها ولا تُقصيه. والسبيل إلى ذلك إنّما يبدأ بالتعليم الصحيح الذي يجعل من غايته المعارفَ والمهاراتِ، ويزيدُ في مرونة الذهن، ويغذّي تذوّقَ الفنون، والإحساسَ بالجمال؛ ويعتمد على مبدأ المحاورة، متجنّبًا التلقين.

إنَّ الثقافةَ الرصينةَ القائمةَ على إدراك الوقائع إدراكًا صحيحًا لا تتخلّله الأوهام قادرة على صناعة هويّةٍ واضحةِ المعالم رحبة الجَنَبات؛ تحرص على نفسها ولا تعادي غيرها؛ وكلتاهما سبيلُ الدولة الصالحة الرشيدة …!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى