أشتات

في حفلة التيس : جَولةٌ حَولَ الطغاة

العالمُ الذي صوّره ماريو يوسا في روايته “حفلة التيس” عالم مثير، استحق من القارئ الانتباه للدقائق التي أحسن يوسا رسمها وجلّى من خلالها الدكتاتوريات. وما أحسن العنوان الذي اختاره! فالتيسُ بكلِّ المعاني التي يحملها في الأدب العالمي يكون أوفقَ اختيار لتشكيل صورة الطاغية، كما حلَّ الخنزير سابقاً محل الطاغية في “مزرعة الحيوان”..

فالتيس جعل الدومينيكان زريبة بخمس نجوم، وكانت زريبته أصلح من مزرعة الخنزير الذي أخفق في توظيف كلِّ أدواته، وبذكاء تيسيٍّ نادر.. رَقَى تروخييو درجات الحكم واحدة تلو أخرى، ومَن يتخيّل تيساً أتاحت له الفُرص أن يقيم دولة، يستطيع أن يتخيّل الهيئة الداخلية لدولة التيس، فإن كان للتيس عقل إنسان، ويد من حديد، وظروفٌ مواتية، وشعب فقير طيّع، اجتمعت للتيسِ إذاً أركان الحفلة.. واستمرت ثلاثين سنة!

❃❃❃

الزعيم، الرئيس الموقر، والمنعِم، ومستعيد الاستقلال المالي، وأبو الوطن الجديد، فخامة الجنراليسمو(1) الدكتور رافائيل تروخييو، الزعيم المبجّل، والرجل القوي: الذي رفع الدومينكان والدومينكيين من الانحطاط الذي عانت منه البلاد مُذ خلقت الأرض، إلى أن مَنَّ الربُّ بالمتصرّف باسمه: الجنراليسنمو تروخييو.

استولى تروخييو(2) على الحُكم عام 1930 بعد الاحتلال الأمريكي للبلاد(3)، واغتيل بعد إحدى وثلاثين سنة، الحقبة السوداء للدومينيكان -التي تشهد مثلها، وتتجاوزها ألقاً بلادنا العربية الأبية- حقبة سمحت للتاريخ بدراسة شخصية متفرّدة يستنسخها الزمان بين الحين والآخر، عدى أنّه يُنقّلها بين أرضٍ وأُخرى، وسُبحان مُهيئ أسباب الشرِّ للخير، إذ أُتيح للجنس البشري أن يدرس طبائع بعضه. -ودراسة الإنسان -برأيي- أرقى الدراسات على مرِّ العصور، بشرط أن تُبنى المدرسة بعشرات الآلاف من الجماجم، ثُم يُخطُّ على أعراضِ هؤلاء بدمائهم: حياة الطاغية وشيء من مخلفاته قبل أن يحطّ بمنزله الأخير..

كنتُ أحاول أن أتعرّف الأحجار الأولى التي رقاها تروخييو فبلغ رِقاب الشعب، أي: لِم لمْ يكن الاغتيال والإقصاء من بداية الحكم؟ كيف استطاع تعبيد الدومينكاني من السنة الأولى، ولمدة ثلاثين سنة…؟ ولا يبعد أن يكون الدعم الذي قدّمته السلطات الإمبراطورية، والكنيسة والنخب الحاكمة، والوعود المترفة التي قدّمها تروخييو آنذاك لطبقات الشعب المسحوقة، وسلطته على الجيش؛ أسباباً كفيلة بتأخيرِ اغتياله ثلاثين سنة، لكن هل تصلحُ تعويذته تلك أمام كلّ الشعوب، ولكل الطغاة؟

وإنك لا تزعم أن الطاغية إن تولى الحُكم وانقادت إليه أزمّة السلطة، أذعنت إليه أعنّة التاريخ والسنن الكونية، لكنها تبقى كالحبلِ مدلّىً من السماء، مَن تعلّق به نجا. وفي حالة الطاغية دائماً ما يكون أسبقَ لحبل الله من غيره، كما اليهود الذين قال فيهم عزَّ وجل {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ}، وهم مَن هم! اليهود…!

فحبل الله ممدود، مَن تعلّق به أفلح.. بقي إذاً على الطاغية حبل الناس، عسى أبيّن ههنا شيئاً من سعي الطاغية إليه..

ولا أنتَ تستطيع وصمَ طاغيةٍ من الطغاةِ بالغباء أو القصور، فمنجزاتهم تحول دون ذلك.. الشخصية منها على الأقل، وهو اعتلاء سدنة الحكم، وبعيداً عن زعم عُبّاده أو معارضيه، تبقى صفات واحد من الناس حقيقة لا بد أن تظهر بطريقة ما، فالطغاةُ منهم الخائن الخبيث، ومنهم الوفي الشجاع المستحق لحبِّ من هم حوله على الأقل.. أو مَن أنعم عليهم وظهر عليهم فضله، ومَنهم مَن لا يُحَبُّ إلا لِحلبه والازديادِ من ضرعه، ونسبياً، لسنا بصدد تقنين صفات طاغيةٍ ما بعينه، فالطغاة كثير، على كلّهم لعنة الله، عدى أني – كما أسلفت – أريد محاولة تقنين الأسباب التي تسمح للطاغية عادةً بالتمكّنِ في حكمه، أو من فرض صفات المعبود على شخصه.. ولا بد لنا حيال ذلك أن نمرَّ بعدّة منعطفات، منها الأسباب والشخصية.. والولاء للطاغية ولو بعد موته -الأسباب؛ ولاحقاً قد أحاول المرور -ولو سريعاً- على الأدوات التي يوظفها الطاغية أو يخلقها، وعلّي أحاول التعريج على الغايات له، وهل عساه يكون هذا الرجل كائناً من كان، تيساً أبله بقرني شيطان وحسب…؟

❃❃❃

حَفلةِ التَّيْس جَولةٌ حَولَ الطُغاةِ 01 في حفلة التيس : جَولةٌ حَولَ الطغاة

في دير الزور- مدينتي، في طريقي للمدرسة، كان حتماً علينا أن نمرّ بشارع الأمن، لا أتذكر الآن بالضبط ما اسمها، لكن لا تزول من ذاكرتي كتابات الجدران تلك، وأجلاها عندي ” الدكتاتور الرئيس بشار الأسد ” ومذُ كانت تلك المشاهدة والنظرة الخاطفة، انطبعت حول سيادته التساؤلات، فلا أدري أأراد كاتبها مدح فخامته أم الحطَّ من قدر جلالته، وحقيقة التساؤل جهلي آنذاك بمعنى الدكتاتور، فالبهاء الذي يجلل فخامته طوال تلك السنين كان يحول بيننا وبين التفكير بما يتعلق به، ذماً أو مدحاً.. لم يكن الأمر يمسّني بطريقة مباشرة!

وأتذكر أيام الابتدائية، تمُر بشارع المدرسة المسيرات الهاتفة باسمه.. “بالطول، بالعرض، بشّار يهز الأرض” “حط الوردة بالكاسة، بشار أحلى ألماسة” “الله، سوريّا، بشار وبس..”، لا بد أن الهتافات كانت أكثر من ذلك، لكن هذا ما علق بذاكرتي، كان الطلبة يخرجون بأجسادهم من النوافذ ليشاركوا بالمسيرة والهتاف، أظن ذلك كان بأمر من الإدارة، لست متأكداً.. ولم أكن أُعرِض عن الهتاف كرهاً له، إنما أرى ذلك ابتذالاً فأجتنبه، ولا أدري حقيقة مشاعري آنذاك تجاه التيس السوري: سيادة الرئيس، لكن كنتُ أسمع من أحاديث الكِبار أن أقارب لنا قتلوا في أحداث الثمانينات، وما أحداث الثمانينات؟ لا أدري.. لكن أسمع أنها مروعة، سمعتُ آنذاك أنهم حفروا قبراً جماعياً كبيراً ألقوا فيه آلاف الناس، ومن ثُم حُرّقوا. وعندما بدأت الثورة في مصر، قلت في سهرة عائلية “ههه لربما نلحق بهم عما قريب”، وأذكُرُ أني رُمقت بنظرة خاوية، قالوا لي “قول بعيد الشر”.

ولمّا اندلعت الثورة، شعرت بالزهو.. تحققت نبوءتي، وانتابني خوف ما، فصدى أخبار “حمزة الخطيب” كان حاضراً بقوة آنذاك، ومن ثم تدرجت الأيام فكانوا يحذروني من الخوض في المدرسة بأحداث الثورة. وبالرغم من أنّا -لاحقاً- كُنا ممن شاركوا في الثورة بطريقة أو بأخرى.. إلا أن ذلك ما منعنا من التحفظ أمام أقرب أصدقائنا في المدرسة، وخاصةً أنه في الجانب الآخر للمدرسة ثكنة أمنية.. كانوا أحياناً يصعدون فوق الجدار المطلِّ على الفسحة -أو الباحة كما كنا نسميها- ويهتفون باسم سيادة الرئيس ليردد الطلبة خلفهم. وبعد أن انتشرت أخبار المعارضة وذاع صيتها في سهرات العوائل، بدى الطلبة أكثر جرأة على حَطم قيد المجهول الذي يخافونه، أو أنهم أرادوا آنذاك التعرّف على قوة الكلمة وتداعياتها، فبدأت التحشدات المعارِضة تظهر في مدرستنا، مدرسة يوسف العظمة الابتدائية. ولِقرب الأمن مِنا.. لم يكن ليخفى عليهم مثل ذلك، فاقتحموا المدرسة ذات يوم وأخذوا طالباً كان يتسلق قائم شباك كرة السلة ليهتف ضد الرئيس، ولم يكن أغير من الأمن على حرمة التيس، فاقتحموا معقل الأطفال ذاك، وأخذوا الطفل، وأعادوه لاحقاً لا تخفى آثار التعذيب عليه..

هذه كانت البذرة الأولى التي ينشأ فيها الطفل، تظهر جذوره في حضن الدولة، ففي سوريا، التراب من حول البذرة موالٍ للنظام، والطير في سمائها يهتف باسمه، ويتوكّل الشجر عليه فيلمس السماء، حتى حجارة البلد تمجد الدكتاتور، لكن.. وإن هتف الطير، ما عسى طفل دون العاشرة أن يفهم من حب الرئيس والولاء له؟

عَدى أنهم أتقنوا صنع ذلك -التمجيد والولاء أو الانهزام- فيه، فلا أزال أذكر السعادة التي كانت تهتف بها حفيدة مديرة المدرسة آنذاك، ولم تقل عنها سعادة ابنة المُدرّسة تلك، بل كُنَّ هن موريات الهتاف، -ولربما كُن سبباً لكرهي أولاد المعلمين فيما بعد- ويظهر لي.. أنه كلما ازداد قرب الإنسان من مسؤوليةٍ ما في بلد الطغاة، عليه أن يظهر وداً أكبر، وحفاوة أعظم بمجرد ذكر اسمه المبجّل، فأن يَرقى واحد من هؤلاء لشرفِ لقيا سيادته، حلمٌ لا يدركه واحد منهم.

مدارِسنا، والمناهج التعليمية التي تتلى علينا ليل نهار، بل المنظومة التعليمية بأكملها، كانت تشكّل دعامةً من دعائم العرش، فمثلاً.. كان يُقرر على الطفل في مرحلة من مراحل الدراسة الأولى كتاب القومية، ومن ثُم يستمرُ معه إلى أن ينهي الثانوية. وكتاب القومية، -أو باسمه الآخر-: كتاب التربية الوطنية؛ كتاب يدرس في بعض أجزائه الحياة المكافحة العظيمة لسيادته، وفي أجزاءٍ معارك القائد الشهم، وفي أجزاءٍ سياساته وأفكاره، وفي أخرى قيمه وأحزابه، وعلى هذه الشاكلة تبدأ معالم شبح الرئيس والدولة والأسرة الحاكمة تتجلى شيئاً فشيئاً بعظمتها أمام الطالب. تقوم بذلك المنظومة التعليمية على أكمل وجه، بمُدرّسيها ومناهجها، ولا يختص الأمر بهذا الكتاب وحسب، -الذي تبدأ مقدّمته بـ” تهدف التربية الوطنية إلى تهيئة الحامل الاجتماعي للفكر الوطني!”- بل يمتد ذلك لمحتوى كُتب التاريخ… ولا تسل عن تشويه الدول والشخصيات قديمها وحديثها!

حَفلةِ التَّيْس جَولةٌ حَولَ الطُغاةِ 4 في حفلة التيس : جَولةٌ حَولَ الطغاة

وهذه الحالة التي ذكرتها عشتها فهي حاضرة فيَّ دائماً، تفحصها تلقَ بذرة التكوين الأولى التي يرتكز عليها الطاغية فيما بعد، ونحن طلبة المدارس، كُنا نُسأل عن أحلامنا في المستقبل، وإن أستعرض الآن قائمة أحلام الطلبة لا تجد فيها إلا الطبيب، والمهندس، والشرطي.. والحالمين لربما تسمع منهم طلب الوزارة، ومهما بلغت آمال هؤلاء، فلن يعدو أكبرهم من أن يكون أداة للطاغية، الآن.. أو بعد حين. أبداً كان جزءٌ من الأحلام التي ينبغي على الطفل أن يحلم بها في غيبةٍ تامة، فلا يمكن للناس في بلادنا أن تحلم بأن تفكّر، أو أن تكتب، أو أن تمارس عملاً يدل على ضربٍ من ضروب الحرية، فمتى كان حلمك لا يصب في مصالح جلالة التيس ونظامه، فازدريه؛ فإن لَمح مُخبِرٌ ما حلماً يعادي رؤيا فخامته، فأبشر، دولتنا لا تقتل الأحلام وحسب، وإنما تُجهِز على أصحابها وذويهم.

❃❃❃

بالنظر إلى تعامل الأنظمة الكُبرى إلى الناس ومن ثم تتبعِ تصنيفهم بالنسبة لها، يتضح للناظر حقيقة القيمة التي يوسَم الإنسان بها عادةً في صفحات التاريخ أو أمام الشعوب، بل حتى أمام عائلته والمقربين من أصحابه، ولأوضح الفكرة أكثر.. مثّل لها بنظامٍ دكتاتوري عاقل متصرّف، فالنظام الدكتاتوري -ولتفخيمِ أمره أمام مُماثليه، والحفاظ على دعم القوى الكبرى في المنطقة- يظهِر اهتماماً حقيقياً بعقلاء الناس القابعين تحت سطوته، وعادةً مَن يصِلُ منهم لهذه المرحلة من الكرامة! يخضع لاختبار مُحدّد، الناجح فيه عضو منضم، والراسب عضو مبتور؛ مقتول.

لكن يرجع بنا الأمر لتحديد فئة العقلاء المرغوبين هؤلاء، فالمهندس والطبيب والحقوقي وعالم الذرة والفيزيائي وبقية محركي مفاصل الدولة/ النظام: عقلاء مدعومون بالضرورة، وإنجازاتهم منسوبةٌ للنظام، ولربِ النظام، وليسوا سوى دمىً أنعمَ عليها الدكتاتورُ ربُّ النظام، وكافرُ النعمة مَن ينسب علماً أو إنجازاً لنفسه: عضوٌ فاسد مآله البتر.

والفئة الأخرى، بيت القصيد: العقلاء حابكو عُقدِ النظام، ناسجو خيوطه: السياسيون، الكُّتاب، موظِّفو الدين، شعراء البلاط، معلّمو الدراسات العليا، رموز الشعب؛ هؤلاء أساس أسلحة النظام، أنجع في الناس من ألف جيش وسلاح، لأن إفناء الناس لا يقيم النظام ولا الدكتاتورية، والبدء بالحربِ البواح والانتهاك الصارخ يضع النظام على شارفٍ ويقرّبه يوماً بعد يوم من النهاية؛ لكن توجيههم بنخبِهم هم، هو الذي يقيم الدكتاتورية، بل هو شريان الدكتاتور الذي عن خلاله يوصل ما يريده لأصغرِ شُعيرة.. فيتحرك جسم النظام طوعاً لخدماتِ هؤلاء. وهُم أنفسهم رؤساء الانقلاب وأساس خلق الفجوات التي تسمح بانهدام النُظم؛ وبعد سقوط الدكتاتوريات، تُعزى الأمور إليهم ليعيدوا ربط الدوائر ونسج بساط الدولة مرةً أخرى.

وتقصّي أثر الثورات الفاشلة يريك انقطاع الجموع عن موجّهيهم، فتخلو الساحة من هؤلاء، الذين لو أحسنوا توجيه طاقات الشعب وفورته، وربط جهوده، لانقادت إليهم الأمور. والأنظمة الخبيثة متى ما أرادت استثمار فورة الشعب لصالحها خلقت ثورة مضادة عن طريق قطعِ الجماعات عن رؤوسهم وموجهيهم وأئمتهم الذين كانت الأمور تنتهي عند رأيهم، وقد استطاع النظام السوري ذلك بغفلة عميقةِ الجذور من الشعب؛ وبصورة قريبة من ذلك: جلّى يوسا في روايته ذلك بشكل بديع في الفصول التي تلَت اغتيال التيس، فالذي أفشل العملية المُحكمة هو انخذال أكبر رؤوسِها الجنرال رومان: زوج ابنة أخ الزعيم ورئيس القوات المسلحة!(4)

وما كان هذا الانقطاع، وفشل الثورات، وفساد أهدافها نتاج عامٍ أو اثنين، ففي سياق الحديث يتوجّبُ عليّ أن ألفت انتباه القارئ لِـما شهده ويشهده من التهميش المتعمّد لطلبة العلوم الاجتماعية والإنسانية، والمُقبلُ على هذه العلوم غالباً ما يختصُّ بالحقوق والمحاماة والمهن المندرجة تحت هذا البند، ولا تسمع عندنا بالسياسي فلان أو المتخصص في علوم الإنسان والاجتماع علان، فالتجهيل الممنهج المُتبع في السياسة الدكتاتوريات يقضي بنزوع الناسِ عن هذه العلوم، فترى أن محصّل القوة الفكرية في مجابهة هذا النظام، وتوجيه جموع الشعب تقارب الصفر.. واقرن عمل برابِرة الدكتاتورية بالواجبِ المطروحِ على كاهلِ الحاكم في إنشاء حركةٍ علمية ناهضة، يتجلى لك اغتصاب الأول مكان الثاني!

والآن في المنفى.. لا يزال الشعب السوري يكافح بجهود متفرقة في محاولةٍ للإبقاء على هويته الضائعة، وللارتباط بهيئةٍ موجّهة سليمةٍ قوية، ولو صحّ له ذلك لَما كانت الأمور على ما هي عليه الآن.

وفي رسالة سريعة لأصحاب تلك الجهود -مشكورين-، أقول: على مَن يرى أنه يهتم بإعداد الثلة الحاكمة أو التي ستمسك خيوط الحُكم بعد انهيار الحالية الحاكمة، ألّا يرى له فضلاً إن كانت أعظم منجزاته ألف مهندس، وألف طبيب، وألف عالم ذرّة متمكّن، فمتى ما رَقتْ الحكومة جهة فاسدةٌ أخرى، لن يكون هؤلاء أكثر من أدوات يستعملها النظام في نسبِ منجزات الشعب إليه، بل سيجعل منهم هؤلاء النخبة: طريقاً لإعادة تعبيد الشعب للطاغية، لكن: طاغية جديد! ولنتذكر بأن الطُغيان الأول كان كفيلاً بإيذاء طراز تفكير الشعب(5)، ممهداً للاستخذاء أمام الطغاة مرةً أخرى.

❃❃❃

حَفلةِ التَّيْس جَولةٌ حَولَ الطُغاةِ 2 1 في حفلة التيس : جَولةٌ حَولَ الطغاة

حول الطغاة والدكتاتوريات

ولأحوّل دفة المقال للموضوعية شيئاً ما، يجدر عليّ رسم حدود الدكتاتورية أولا، فتستطيع تعريف الدكتاتورية بأنها النظام التي تنتهي عُقَدُه وخيوطه للسيد الرئيس، للرئيس وحسب. أو قُل نظام الحُكم الذي يُقيّد حريات الأفراد والمؤسسات العامة ويُركّز السلطة بعموم أحكامها وخاصّها في يد شخص واحد أو مجموعة محدودة. وقُل: تأليه الحاكم والسجود على بساطه، ومناولته خطام الدولة والشعب، وتخيّل الدولة عربة في العصور الوسطى تجرها الخيول، كل خيل يسجد لقائد العربة، ويناوله خطامه، وينقادُ أمامه كما يُحب، ويوماً بعد يوم، ترى أن الانضباط الاجتماعي الذي يفرضه الحاكم على العربة والخيول “لا يتمثل فقط في تحكم الحاكم بسلوك محكوميه، وإنما تسري كهرباؤه فيهم فيؤثر الانضباط الذي يفرضه عليهم بتحكمهم في ذوات أنفسهم وفقاً لتوقعاته هو”(6) فيكون حُكمه سارياً فيهم في غيبته وبعد موته.

وقد عرفنا الدكتاتورية، فالتكهن بالأسباب التي تمكّن للطاغية ليس بتلك الصعوبة، ولا شك أن أول ما يتبادر للذهن هو قوة الجيش، فغالباً ما يكون الجيشُ اليد المصرّفة الضابطة للدولة، واضرِب مثالاً بما تماسَّ معنا في المقال، فالتيس السوري الأول، قبل أن يُسلَّمَ الحُكم، كان رئيس الوزراء ووزير الدفاع ونائب القائد الأعلى للجيش والقوات المسلحة، وتيس الدومينكان، كان زعيم الشرطة والجيش، والانقلابات الأخيرة التي شهدتها الساحة العربية، كانت انقلابات عسكرية ضارية. والسؤال المؤرق الذي ينكّبُ أمام الشعب والجماهير كل مرة، هو: لِمَ يلزَم الجيش طاعة الطاغية، بالرغم مما يُحلّه على أهاليهم وقُراهم من عذاب؟ فيا تُرى.. أيكون التجييشُ كالرمال المتحركة، كلَّما تحرّك فيها المرء غاصَ لأسفل…؟

المهام التي تُسنَد للضباط أصحاب الرتب العُليا في الجيش غالباً ما تحمل صِبغتين، الأولى: صبغة العبودية في التنفيذ، أي: التنفيذ دون نقاش، والطاعةُ المطلقة هذه نتاج تربيةٍ مكثّفةٍ في الجيش، فالجيش ليس ناديًا رياضيًا لتقوية عضلاتك وتعليمك حمل السلاح، وإنما طابعة عملاقة تمكّن الدولة من خلق أكبر عدد ممكن في صفوفها، ومَن رأت فيه إخلاصاً لجشع استطاعت لمسه، جعلته في الصفوف الأقرب لها، فالمصائد التي تُعدّها الدولة في الجيش تسمح لعددٍ محدود بالترقي كلَّ مرة، والمصائد كثيرة.. المال والنساء والإمارة المحدودة…الخ؛ وإن كنتم قد سمعتم عن الترقّي للأسفل، فهذا هو، كلّ ترقية في الجيش تعني ولاءً أكبر للنظام، وغلطة الشاطر بعشرة، فالخوف عند المجند الصغير لا يُقارن بالخوف لدى الضابط الأكبر، وهكذا تنجح الدولة بإخضاع أكبر عدد ممكن، ويَسهُلُ ذلك متى ما أخضعَ كل رأسٍ مَن يصغره؛ فهذا عن الصبغة الأولى للمهام، أن تتسم بأكبر قدرٍ ممكن من العبودية.

وأما الصبغة الثانية، فهي وسمٌ بأحطِّ المهام، وسمٌ بمهمةٍ تسمحُ للشعبِ بأكله حياً إن خرج من عباءة الدولة، كأن يكون للطاغية خرقة بشكل العقيد فلان والعميد علان، يمسح بها أدرانه ودماء ضحاياه، وتضمن الخرقة أمانها كلّما تشبثت بالتيس، بالسيد الرئيس، فيجعل الطاغية من الجيش خِرقاً لحمل أوزاره والحفاظ على نظافته أمام الديمقراطيات من حوله على الأقل، وأمام الشعب، فإن انفجر الشعب ذات يوم، وأراد التيس احتواءه بأقل الأضرار، أحرقَ خرقة من خرقه.

ومن الرمال التي تسد حلوق الجيوش عن خيانة الطاغية، أنه صاحب نعمتهم.

كذلك فإن أكبر ما يردع الجندي أو الفرقة أو الجناح عن خيانة سيدها هي أهواؤهم الشخصية، فمن يضمن أطماع مجند يداريه ربه بالتليد والطارف؟ ومن يضمن ألا يُبلى بمجند يهوى إراقة الدم.. أو يحب عمله! يستمتع بمهنة التعذيب مثلاً…؟

كذلك ملمح تلزم الإشارة إليه.. “المدارس العسكرية”، إذ إن المدراس العسكرية التي تُنشّئ المجندين تُحب في الدرجة الأولى السُّذج الجهلة، تُحبّهم، وتبقيهم في حجرها وترقّيهم سلّم الجيش درجةً درجة، وعمل المدارس العسكرية على تجهيل الجيش أو النخب العسكرية ليس إهمالاً أو تكاسلاً عن تعليمهم، وإنما مهمة تستدعي الإتقان، فالتجهيل الممنهج الذي يحمل الطاغيةُ رايته فوق أصقاع الدولة وفي مختلف نواحيها، كما قضى بإعدام القوة الفكرية المجابهة، يقضي بالتعويد على الخسة والنذالة والضعة، ويضع كرامة المجنّد -الذي اعتاد الضعة- في يمنى الرئيس، فكأنه متى عَرَف طعمها من يده تعبّده بما يُحب لتدوم نعمته عليه، إذ إنَّ النخب العسكرية التي يُراد لها أن تكون تحت إمرة الرئيس ينبغي لها أن تُصغي إن أمر، والجاهل الوضيع ليّنٌ أمام الأوامر طيّع لها، أحسن مهامه حمل السلاح، والطاعة.. الطاعة لا التفكير…!

❃❃❃

فهذا أول سببٍ ممكّنٍ للطاغية في حكمه، بل تستطيع أن تقول إنه السبب العملي الأقوى في قائمة الأسباب، فمقارنة الجيش بالتلاعب بالانتخابات مقارنة باطلة، ومقارنة قدرة الجيش بقدرة الغش والرشوات.. كذلك باطلة، ولا حتى بالإعلانات والبروباغندا.. لكن كل ذلك سببٌ توصّل الطاغية من خلاله للحكم، إضافة للصفات الشخصية، فهل يمكن لطاغيةٍ أن يكون مهتز الشخصية!؟ وإلا كيف ينحني أمامه أكابر الألوية ممن عرّوا صدورهم أمام الموت…؟

ووددت لو استطعت التفرّغ لدراسة شخصية واحدٍ من الطواغيت، كأن تُسبر أغواره ويُعرّى جزءاً بعد آخر، أحقاً يرى في نفسه الإله؟ أم حقاً يهتزُ أمام شبحِ الشيخوخة؟ أم يزهو أن يقف أمام مرآته ليرى وجهه الذي ارتعب منه الشعب ودان له بالحياة…! أحقاً يرتعش أمام الفاتنة اللعوب ويمسحُ عن أقدامها و…؟

فالطاغية الذي يحاول متعمداً فرض صفاتِ الإله على نفسه يقفُ عاجزاً أمام سنوات عمره، ضائعاً أمام عيني فتاة، خائفاً عند مرض ولده، كأنه يفقد ألوهيته بالجملة أمام الإنسانية التي تمسّه، أو بعبارة أخرى، كأنه لا يكسب هذه الألوهية إلا أمام الشعب، أمام المرؤوسين وحسب.. ولإن كان هو الذي يفرِض صفات الإله على نفسه، فإن الشعب يده اليُمنى في ترسيخ هذه الصفات في عقله الباطن؛ وينظر لنفسه في خلوته ليرى ضعفاً بشرياً مشيناً بإلهيته، كغرق فرعون أو كذبابة أهلكت النمرود، أو الرصاصة التي أردت طغاة العالم الحديث، أو الأمراض العضوية التي يسلمُ منها أبسط قروي!

❃❃❃

حَفلةِ التَّيْس جَولةٌ حَولَ الطُغاةِ1 في حفلة التيس : جَولةٌ حَولَ الطغاة

لأني أردت لهذا المقال أن يكون “جولةً حول الطغاة” لن أُغرِقَ في أمرٍ واحدٍ وأترك غيره، إنما أحاول أن أجمع شيئاً من الشذرات، إذاً لنخض على عَجلٍ في صفات التيس أو الطاغية، ولنبدأ بالأمور التي مهدت له في هوامش التكوين..

إن الطفل على سذاجته لا يكاد يخفى عليه أمر عائلته أو الوسط العام والاجتماعي الذي يعيش فيه، وعادة ما تسمح له ملاحظة الفروق بينه وبين غيره ممن هم في سنه بالتعرّف على الدرجة الاجتماعية التي تحظى بها العائلة -ولو بالإلماح؛ والنشأة الأولى للطغاة في الغالب واحدة من اثنتين، الأولى: نشأتهم في الطبقات الدُنيا من المجتمع؛ وهو الأمر الذي سيسمح لهم لاحقاً بتكوين قاعدة الدعم التي تدفعهم للمنصب، كأن يَرقوا أكتاف البُسطاء بالطعن في الطبقة المخملية أو طبقة الأشراف، ما يُلهب حماس جماهير الرعاع تجاههم، وتأمل في صعود “مزدك”(7) سُّلّم السلطة الدينية حتى دان له المَلك بدينه، وما كان ارتفاع مزدك إلا على أكتاف جماهير الرِعاع الموعودين بمالِ الأشراف وأعراضِهم.

الثانية نشأتهم في طبقة الأشراف التابعة للدولة، وهو ما يسهّل عليهم الوصول لسدة الحكم، أو الانقلاب على الحاكم الشرعي بالحصول على دعم هذه الطبقة أو سلطة الجيش، بحسب المناصب التي تستحوذ عليها العائلة؛ وتاريخ الأسرة الشريف قد يسمح بإنشاء طاغية يتمتع بقدر من الشرف في علمه أو شخصه -كما في الحالات الملكية- بالرغم من الاستبداد الذي ستفرضه عليه السلطة فيما بعد، كما أن تاريخ الأسرة الدنيء يكون ممهداً ابنها للسيرِ على خُطاها؛ وتاريخ الأسرة الدموي -في الغالب- لن يُبشّرَ إلا بالمزيد من الدماء.

وعلى هذا الأساس، يكون الممهد الثاني في هوامش تكوين الطاغية، أبوه، كما هو الحال في تكوين شخصية أي طفل، عَدى أنَّه من الملحوظ في نشأة الطغاة اضطراب علاقتهم مع آبائهم في الصّغر، فعلى سبيل المثال، الدكتاتور الإسباني فرانثيسكو فرانكو عاش مع والدته، بعد أن هجر والده هذه الأخيرة، فربّى فرانكو كرهه لأبيه منذ الصّغر، كما هو الحال مع هتلر، إذ عانى من عنف والده وقسوته عليه. والحالة نفسها عاشها بشار الأسد مع أبيه، إذ لم يكن أبوه حاضراً في ذاكرته إلا بالعسكرية الصارمة، والاستنقاص الذي كان يعامَل به من قبل والده، وقد سعى بشار طوال حياته في محاولةٍ بعد ذلك لإثبات ذاته، ومحاولة الانفراد بشخصيته التي ما استطاعت طفولته تأسيسها، فخرج إلى المراهقة والشباب بنَفسٍ مشوّهة ما اكتمل نضوجها، وفي هذا السياق أُشير سريعاً لطبيعة الأخ الأكبر لبشار، الذي لا بدّ أثر في نشأة هذا الأخير. فـ”باسل” الذي كانت تتم تهيئته للرئاسة قبل أن تغتاله يد القدر، كان حاد المزاج متوحش الطبع، متنمراً متوحشاً على أخيه، أيضاً “ماهر” الأخ الأصغر لبشار كان بربري الطباع، تيساً بالفطرة، فترى أن طاغية الشام هذا نشأ في أُسرةٍ عنيفة مضطربة لها تاريخ دموي، والطاغية الإسباني والآخر الألماني كذلك خرجوا من أُسَرٍ مضطربة وطفولةٍ ناقصة، وبالرجوع إلى تروخييو، نجدُ أنه كذلك لم يحظ بطفولة مثالية مما دفعه إلى عالم الجريمة، حتى انتهى به الأمر لتأسيس عصابة لصوص!

الآن بالتفاتةٍ سريعة للمسرح الضخم للدكتاتوريات، وبضمِّ الأحداثِ بعضها لبعض، ووصلِ النهايات بالبدايات، والكبر بالصغر، ترى أنهم يقتربون نوعاً ما مِن أن يكونوا مرضى مكانهم الأمثل المصحات النفسية، وبالنظر إلى التهيئة التي يمر بها الطغاة والظروف المحيطة بهم، نرى أنه من الممكن جداً أن يخرج لنا ملايين الطغاة والدكتاتوريين في العام الواحد على مستوى العالم، فـالطفولة المشوهة، والشخصية مبتورة التكوين، و” نسيان الجريمة الأولى، ثُم التأله، ثم اكتساب الشرعية الموهومة، والعيش في وهم الاختيار..(8)” كل ذلك يكاد يكون خيطاً ناظماً لصغار المجرمين وكبارهم، غير أن عوامل الخطورة المؤسسة لعنف الإجرام تقابلها في أغلب الحالات عوامل وقائية، على رأسها: عدم الاستطاعة أو العجز أو عدم التوفر، أو حتى التدين، لكن في حالات الطغاة الحاصلة، نرى أن المجال مفتوح والطريق ممهد والأسباب حاضرة.. والرغبات أولوية لا بد أن تتحقق.

وفي محاولة لفهم طبيعة المرض النفسي للدكتاتور، نرجع مرةً أُخرى للطفولة، فالولد الهادئ شديد الخجلِ الذي لا يكاد ينظر في عيني محدّثه، الذي كبُر وحاول أن ينحى عن العسكرة التي وُصِم بها أهله، والذي اتجه للمنحى الأكثر إنسانية على الإطلاق.. واختارَ أن يدرس الطب، ومن ثم لَـمّا وجد نفسه يُعدّ للرياسة وبعد تسلّم السلطة حاول تغيير ما كان عليه عهد أبيه، وبدأ يعد بالازدهار والانفتاح والديموقراطية؛ إن وضعنا هذه الشخصية في ميزان العقل، نرَ أنها حاولت أن تخرج بالطبِّ من محيط الأسرة العسكري، كأنها ترغبُ في أن تكون شخصية منعزلة بعيدةً عن الأضواء، مدنيّة مسالمة، وكأن خروجها ذاك محاولة لإثبات النفس والخروج عن دائرة المقارنات المحتدمة والصدامات العائلية مع أخويه، هذا أولاً، ومن ثم محاولة الانفتاح على الديمقراطية في بداية عهده، ترى أنها مرة أخرى محاولة للخروج عن الإطار العائلي الذي فرضه عليه أبوه، على أنّ ذلك كله انقلب في نهاية الأمر لترى سياسة الأخير مشابهةً لسياسة الأول، يتبع الحافر الحافر حتى يقع عليه، وما ذلك إلا لغلبة النظام على شخص الرئيس الضعيف الذي حاول بداية الأمر مغالبةَ النظام فما استطاع، فانساق وراءه، ولو ثبتت له شخصية في مقام الحُكم لاستطاع الانحراف عن نهج أبيه، عدى أنه رضخ في آخر الأمر لروح الطاغية الأول.

” بلادي مِن يّدي طاغٍ

إلى أطغى إلى أجـفى “

❃❃❃

وفي بقعة أُخرى من العالم، ترى أن دكتاتور الإسبان فرانثيسكو، كان قصيراً نحيفاً مريضاً في صغره، تنمّر عليه زملاؤه في الجيش وأكثروا في ذلك ودارت على رأسه الألقاب حتى وسموه بـ ” ملكة جمال جزر الكناري ” ونعتوه بالمتغنج! أيضاً كان هذا المتغنج الطاغية دائماً ما يصل باكراً ويقف في مقدمة صفوف الجيش، في محاولة لتفادي الآخرين والانعزال عنهم…!

وليس بعيداً عنه، السيد الذئب -كما لقّب نفسه! – أدولف هتلر، الذي عانى -كما أسلفت- من طفولة مضطربة أججت في نفسه الدكتاتورية وكره الضعف لاحقاً، وعلّ أولى هذه المواجهات مع الضعف، ما ذكرها في سياق حديثه عن عنف والده، قال: “عقدت – حينئذ – العزم على ألا أبكي مرة أخرى عندما ينهال علي والدي بالسوط. وبعد ذلك بأيام سنحت لي الفرصة كي أضع إرادتي موضع الاختبار. أما والدتي فقد وقفت في رعب تحتمي وراء الباب. أما أنا فأخذت أحصي في صمت عدد الضربات التي كانت تنهال على مؤخرتي”(9) هذا الذي كان رسّاماً واسع الخيال، -يستمد ألقابه في شاعرية مرهفة! من معنى اسمه الألماني- انقلب دكتاتورياً مِن أعنف شخصيات التاريخ الحديث.

حَفلةِ التَّيْس جَولةٌ حَولَ الطُغاةِ 2 في حفلة التيس : جَولةٌ حَولَ الطغاة

كذلك تروخييو، السارق الصغير والطفل المضطرب، الذي استمد لنفسه -لاحقاً- طابعاً شخصياً من شخصية البطل في روايةٍ ما، في دلالة على النقص -ومحاولةٍ لإكماله! – الذي ما زال يشعر به منذ لحظات الطفولة الأولى، وحتى الشيخوخة التي لحقت هذا الدكتاتور!

والذي أريد أن أصل إليه من خلال ذلك، الشخصية الشاعرية التي تعكس طموحات الطغاة الخيالية، والتي كانت ثمرةً للطفولة التي عاشوها، والظروف التي واتتهم بعد ذلك، تجلّيهم بمكانة مرموقة بين مرضى الفصام النفسي الذي يجعلهم أبداً بين الطبيعة الرزينة الهادئة التي يحاولون الظهور بها، والسادية التي تثبتها أعمالهم، والتي لا يتورّعون عن ردّها ولو شهد عليهم سمعهم وأبصارهم!

بل وعلّ ممارساتهم للطغيان طفولة متأخرة بشعة التجلي، أو كأنهم طوال حياتهم كالسُّكارى لا يأخذ أحدهم أفعاله على محمل الجد، في مزيج عجيب من التهكم والتشفي، فملايين الجثث ومثلهم من الأيتام والأرامل، ليسوا عند الطغاة إلا كالذباب الواقع على الأنف.. تهشّه فيطير!

والطاغيةُ الذي يرسّخ طوال حكمه في أذهان الشعب، أنّه لا يجب أن يكون فوق رؤوسهم وحسب، وإنما بداخلها أيضاً(10)، ليختاروه -على علّاته- راغبين، ليظهرَ للعقلِ الجَمعي -إن سقط الحاكم وتشابكت الخيوط- أن يوماً واحداً من حكم الطاغية كان خيراً لهم من ألف يوم بعده، وكلٌ آنذاكَ يقول “حنانيك بعض الشرِّ أهونُ مِن بعضِ”!

لأنه السدُّ الأبديُّ الدائم في وجه المصائب المحدقة بالدين والدولة والشعب، لا يوقف الفيضان إلاه، ولا يفيض بالخير غيره، ولسان الحال الذي يفرضه على الشعب ” الخير في يديك والشر ليس إليك! “. ففي حرب ثلاثة وسبعين بعد أن سلّم حافظ الأسد الجولان وأعلن عن سقوطها قبل دخول الجيش الإسرائيلي إليها؛ رجع إلى الشعب والمحطات الإذاعية تهتف باسمه، كانوا يذيعون: انتصارنا هو بقاء حزبنا حزب البعث سالماً. فسلامة الحزب إنما هي ثمرة جهود الرئيس، وخسارة 684 كم2 من أراضي الجولان، حافظ منها بريء! فالشرُّ ليس إليه…!

وفي مثال ثانٍ مثّلته خنازير جورج أورويل في مزرعة الحيوان، ترى أن الحيوانات بعد طردها مستر جونز المسيء لها، وبعد تولي الخنازير السُّلطة في المزعة، بدأت الخنازير تمارسُ طغيانها على الرعايا حتى ما استبقت لهم حقاً إلا أكلته، فإن طالب العقلُ الجمعي بشيءٍ من حقوقه، صرخت أبواق الخنازير تردع هذا العقل بتذكيره ذُلَّ مستر جونز، مُحاوِلةً إقناعه بأن هذا الحِرمان ثمن الحرية، وأن الخنازير قائمة ليلَ نهار تمنع عودة المستبد الطاغية: مستر جونز، وبقليلٍ من التفكير والعودة للتاريخ الذي بدأت الخنازير طمسه، نكتشفُ أن حقبة المستر جونز كانت رحمانية مقارنة بحقبة الخنازير.

وفي آخر، نرى أن تروخييو استعمل الأسلوب ذاته مع الشعب، ففي كلِّ مناسبةٍ كان يخوّفهم عودة الاحتلال الأمريكي، ويذكّرهم ذلَّ تلك الحقبة التي تجرع فيها الدومينكاني ما تجرعه من الاحتلال، وما غفل عنه الشعب أنهم انتقلوا مِن ذُلٍ لآخر، وتحوّلوا من حضن طاغيةٍ لآخر… على أن نفس الحُجة استفاد منها بالاغير في الحفاظ على الدولة من عودة بطش بقايا تروخييو بعد اغتياله(11).

❃❃❃

وفي ذات الطاغية مطالب أشبه ما تكون بمطالب الإنسان العادي، عدى أنه يحرمُ منها فلا يكلّ عنها لعلو طموحه، فبلوغه السلطة وسدة الحكم، ليس أسهل من المطالب الإنسانية العامة، كالحب، والأمان، والاستقرار، وبعيداً عن الإنسان قليلاً: ظهور السطوة؛ وفي سبيل تحصيل هذه المطالب أو الحاجات الإنسانية، تراه يخلقُ المستحيل.. ومن ثُم يقنع نفسه أنّه حصل على مطلبه بعفوية أو كنتيجة محتومة لحُسنه وبياض أياديه! وعلى سبيل المثال: بعد فوزه الكاسح بانتخابات 2007، يسأله “ديفيد ليش” عن رأيه بإعادة انتخابه وفوزه، فيجيب الهُمام سيادة الرئيس بشار الأسد: بالطبع! لأن الناس يحبونني! يقول ديفيد: كان الأسد مقتنعاً تماماً. وأُدللُ أنا أيضاً على حُبِّ الشعب لسيادته بحدثٍ لطيف، إذ كنت دائماً ما ترى الشعب في أيام الاحتفالات الجمهورية يغلقون الشوارع والمحال ويتركون أعمالهم ويتجمهرون في الميادين ويسيرون من كُبرى الطُرق إلى الساحات التي يشمخ فيها تمثاله ليحيوه ويهتفوا باسمه، وما هذا إلا للحب العميق الذي يُكنه الشعب لسيادته، ليس -أبداً- لأن الأمن يُعاقب ويسائِل مَن لا يكون مع الناس في الأيام المشؤومة تلك…! يشبه ذلك ما كان تروخييو يحادِث نفسه فيه أنّه أب الوطن، فكأن الوطن والشعب كلهم مدينون له بالحب وأسباب الوجود! في ظاهرة من ظواهر التقديس المستَحق للدكتاتور!

أيضاً، ولتحقيق المطلب الإنساني الثاني.. الاستقرار، أي: لنفي الاضطراب عن ذاته، ترى الطاغية يحاول الاتقاء بكل الوسائل المتاحة، لذلك كانت المرافقات المسلّحة، والاحترازات المشددة قبل خروجه أو دخوله، ويتجلى هذا في توسيع استخدام القمع كآلةٍ مُتعددةِ المهام، تستعملها الدولة على كافة الأصعدة: كالسياسي والعسكري والإعلامي والتعليمي والأدبي… وهذا ما يحقق للطاغية شيئاً من الأمان المزعوم والاستقرار النفسي الذي يحاول إبداءه، والذي دفع بشار الأسد ليقول -ضاحكاً- حين سُئل عن أوضاعه الشخصية بعد الحرب: ههه أنام، أنام وآكل جيداً وأمارس رياضتي وعملي بشكل معتاد!(12)

ومن ثُم المطلب الأخير.. ظهور السطوة، وقد تراها تجلّت خير تجلٍ بعد قيام الثورة، إذ كُنت ترى المتظاهرين والمُعتقلين يُرغمون على السجود لسيادة الرئيس، ويُسألون: مَن ربك؟ فيقولون: بشار بشار، أبوس ايدك يا سيدي…! وهكذا، تجلّت سطوة التيس.

والسطوة التي يحاول الطاغية فرضها، على أنها عادةً ما تكون مخالفة للدستور- تلمس فيها الرغبة الجامحة للخروج عن الأُطر والسيادات القانونية التي قد تحد من سيادته، ولأن الطاغية يصير مجرّد كائن عادي، فرداً من الأفراد إن أُلزِم بالدستور، أو التزمَ به(13)؛ لا يستطيع أن يُلزِم نفسه به! لأنه أكبر من ذلك، فتراه يُظهر السطوة أفحشَ ما تكون.

لترى بعد ذلك أن التحليل المبسط لشخصية الطاغية هو أنه النرجسي المُتأله المُختار المستحقُ للسلطة بضرورة يُلزمها الكون للكون، وهو المنفعل المضطرب، الذي تسبح في خياله تصوراتُ ما ينبغي أن يكون عليه، فيكون الواقع الذي يعيشه صورة مصغرة يحاول فيها قدر ما يستطيع تركيع الواقع لخياله وحاجاته، في إشارة عميقة لنقصٍ حادٍ في طباعه الأصلية، وفي دلالة واضحة لعدم اكتمال نضوجه بعد، ترى ذلك حتى في هيئاتهم الخارجية ونظراتهم والملامح التي تشعر أنها مفروضة عليهم ليست بأصلية، وفي عمق تلك الهيئات التي تكاد أن تكون موحدةً على مر الزمان، تلمس العزلة البعيدة التي يعيشها الطاغية في نفسه، فليس له من واقعه إلا اللهو والعبث.. كأن يكون في لعبة ثُم يرجع لعالمه الحقيقي الذي في داخله، فيعيشون بذلك عدميةً مُغرِقةً بالكُفر، لا أثر للإيمان فيها، تُنقّلهم من سراب لآخر، تبقى بعد ذلك القوة التي يفرضها عليهم المحيط السيادي، والتي لربما نبعت من ذواتهم، كالتي واجه بها هتلر ضربات والده بأنه لم يصرخ، إنما اكتفى بالعد!؛ بالإضافةِ لطموحٍ جمرتُه النرجسيةُ راقٍ للسماء، مفرِطٌ كأنه دلالة اليقين بالاستحقاق والمقدِرة الحتمية…!

حَفلةِ التَّيْس جَولةٌ حَولَ الطُغاةِ في حفلة التيس : جَولةٌ حَولَ الطغاة

❃❃❃

وقد  أطلت، ولا أحبُّ أن أستطرد في آلاتِ الطاغية، عدى أني لا أجدُّ بدّاً من الكلام في الطاغية والدين، ولا شكَّ ترى من الطغاةِ تديّناً ما: إذ النفاق في شريعته أسهل ألفَ مرة من مواجهة غضب متديني الشعب، وتوظيف الدين لصالحه عن طريق أئمة الضلال ودعاة السوء، أو عن توظيف سلطة الكنيسة، كلُّ ذلك حاصل في التاريخ، وفي البلدان العربية يستطيع الباحث أن يلمس الأطماع السياسية والأهداف تحتَ الطعنِ بالأئمةِ والطرائِق أو المذاهِب، ولا يشكُّ البصيرُ في اشتغالِ بعضِ الدول بتسيس الدين لمصالحها الحاضرة، وإن لاحقاً اختلفت عليها تلك المصالح، هزّت الدين فأسقطت منه ما تريد، وأثبتت ما تريده لحين آخر؛ كذلك الحال مع حضارة البلاد أو ثقافتها، فلن يتورع المستبدُّ عن تحويلِ ثقافة بلدٍ كامل لصالحه، كأن يكون أبرز معالم البلد تمثال من تماثيله، أو كأن تُغيّر أسماء القُرى والمحافظات والشوارع لصالح نعوت التيس أو أسماء بارزي أهله..

❃❃❃

بعيداً عن بهرجة البروباغندا الهزلية المصاحبة لكل تيسٍ مُفدّى، أي: لنتجاوز دعاويهم عن ثباتهم في السلطة لصالح البلاد والعباد، ولنخض في بحر نياتهم، على تفاوتها من رجلٍ لآخر، إلا أنه من الممكن حصرها في جُملة من المحركات الأساسية للإنسان، ففي أول طبقات الدولة أو في بذرة المجتمع الأصغر نرى الرجلَ إن أحبَّ: أرادَ التسلّطَ على المرأة وحيازتها، “وغار عليها من أبيها وأمها”! وليست المرأة إن أحبّت هي الأخرى بأفضل حالاً منه، فهي الأخرى تجاهِدُ لتحوزَ الرجل دافعةً إياه عن كُلِّ أُنثى سِواها، فلا زوجةَ إياها، ولربما استبدّت فأرادت دفعه عن أمه ومحارِمه، فهذه أولى درجات السلّم الإنساني.. وتتبع حُبّ السلطة في هذا السلم، لن تستغرب آنذاك تمسّك الطُغاة بكراسيهم، يحملونها على رؤوسهم إلى القبر، فلا شكّ أن أول نياتِ الطاغية الحفاظ على الكرسي الذي يُتيح له أن يتسلّط على الرجل في امرأته، والمرأة في رجلها، والأب في أولاده، والسيد في مسوديه، وما فوق هؤلاء إلى كُلِّ ما تحت التيس: سيادة الرئيس.

وتتبع آفاتِ الإنسان خلف الطاغية تجد أن المصلحة الشخصية والتسهيلات الخرافية التي يحظى بها سببٌ وجيه لبقائه في السلطة، وهو أشبه ما يكون بالطفل، لا يرى الطفل أباه ولا أمه ولو جثيا أمامه إن حُرِم لعبةً يُحبها، وهذا سِرُّ الحفلة التي يُحب الطغاة استمرارها، فكُلُّ المذابح والمصائب التي تسقط على رؤوس الشعب السوري -مثلاً- طوال خمسٍ وخمسين سنة ليست سوى حفلة طويلة الأمد تلهى بها التيس حافظ، ومن ثُم سلّم شخصَ التيس لسيادة الرئيس: التيس بشار.

وبعيداً عن مهرجي الجمهورية العربية السورية، أي بالرجوع لعاقلٍ من الطغاة، نكمِل: قد يكون بعض الطغاة على استعداد لترك الكرسي إذا ما حققوا أهدافاً مالية شخصيةً لهم، وأهدافاً سياسية إيديولوجيةً لانتمائهم.. وعلى سبيل المثال، تخيّل طاغيةً توصّل لحكمِ بلدٍ مليء بالأقليات الذي هو فرد منها، ماذا سيكون همه الأول…؟

❃❃❃

أحسنَ يوسا في روايته أخذ القارئ لعالمٍ مظلم في منتصف القرنِ المنسلخ، وباقتدار مدهش، وسرد باهر، وعبقرية نادرة، استطاع يوسا احتواء القارئ لآخر لحظة في عبقريته “حفلة التيس”

احتفلتُ مع التيس تروخييو طوال أربعمئة وأربعين صفحة، حتى ما انتهيت لقتله وانهيار نظامه لاحقاً إلا وقد تركَ في نفسي شيئاً مما استطاع تركه في أولاد ذاك البلد، فما وجدتُ بدّاً من الاغتسال في بحرٍ من الكلمات لاعناً إياه ومن تبعه إلى يوم الدين بكل كلمة. راجياً من الله أن نرى انهيار القطيع الذي توزّعته الدول العربية.

الهوامش:

  1. [1] الجنراليسمو رتبة في النظام السياسي الذي يجري فيه اتخاذ القرارات والسيطرة على الحكم بواسطة جنرال أو ضابط عسكري بارز، دون مشاركة الحكومة المدنية أو الهيئات الحكومية الأخرى. بإمكاننا القول إنها الرتبة التي تتيح للجنرال أن يكون الزعيم الفعلي للبلاد.
  2.  هو دكتاتور جمهورية الدومينيكان الذي تولى الحكم عام 1930 إلى أن تم اغتياله عام 1961؛ عُرفت السنوات الثلاثون التي قضاها في السلطة بعصر تروخييو؛ وتشير التقديرات أن الحكم السلطوي الذي حكم به تروخييو قد تسبب في مقتل ما بزيد عن 50000 شخص. 
  3.  إذ كان متزعماً للشرطة والجيش، ترشّح للرئاسة وسلّط جيشه على بقية المرشحين إلى أن زهدوا في المنصبِ مجبرين، وفاز تروخييو بعدد مصوتين أكبر من عدد سكان الدومينكان آنذاك.
  4.  راجع: حفلة التيس- ماريو يوسا
  5.  العقد الاجتماعي- جاك روسو 
  6.  التأثير النفسي للسلطة- جاكوز لاكان؛ بتصرف. 
  7.  وُلد مزدك في بلاد فارس في القرن السادس الميلادي، وقادَ حَركةً اشتراكيّة مناهضة للزَّرادشتية السائدة في عهده، واتسمت ديانته التي ابتدعها بالإباحية، قال أبو الفتح الشهرستاني، صاحب الملل والنحل: أحل النساء وأباح الأموال وجعل الناس شركة فيه كاشتراكهم في الماء والنار والكلأ. انتهى كلامه رحمه الله. وطغى أتباعه حتى انتهكوا أعراض الشرفاء فشاركوهم في نسائهم واغتصبوا أموالهم. وفيما بعد أُعِدمَ مزدك وشُرّد أتباعه من بعده. 
  8.  بخيطٍ من حبر؛ الطبعة الأولى: الاختيار الموهوم وفلسفة التأله. خالد بريه. 
  9. انظر: “أدولف هتلر: السيرة الذاتية النهائية” ” Adolf Hitler: The Definitive Biography” 
  10.  ماريو يوسا- بتصرف. 
  11. انظر: حفلة التيس: الفصل 23 
  12.  انظر: الجزيرة: بشار الأسد.. ما هو سر العقدة النفسية التي حولته إلى قاتل وحارق للجثث؟ – بتصرف. 
  13.  العقد الاجتماعي: جاك روسو- بتصرف. 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى