أشتات

قراءة في حكم سعد بن معاذ

منذُ أيَّامٍ شاهدْتُ فيديو لِسيِّدةٍ أمريكيَّةٍ في الثالثةِ والخمسينَ من عُمرِها، تقرأُ تَرجمةً لقولِهِ تعالى في سورةِ النَّساءِ: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا ‌كُلَّمَا ‌نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا العَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا)، وجعلتْ تقولُ: هذه الآيةُ قد أذهلَتْنِي لِقُوَّتِها، وإنَّكمْ لو طلبتُمْ مِنِّي رَأْيِي حولَ هذهِ الآيةِ مُنذُ سِتَّةٍ أشهُرٍ، لقلْتُ شيئًا مُختلفًا تَمامًا، كنتُ سَأقولُ إنَّهُ عِقابٌ قَاسٍ جِدًّا، وإنَّهُ لا يُمكنُ لإلهٍ أنْ يَفعلَ ذلكَ بالبَشرِ الَّذينَ خَلَقَهُمْ، ولكنْ عِندما رأيْتُ ما يَحدثُ لِلفلسطينيِّينَ على يَدِ إسرائيلَ، وعلى يَدِ حُكومَتِي التي تُزوِّدُهمْ بالقنابلِ الفتَّاكةِ، وتدفعُ لهمْ مِلياراتِ الدُّولاراتِ، أدركْتُ أنَّ هذهِ العُقوبةَ مُناسبةٌ لِهؤلاءِ الَّذينَ يُمارِسونَ الإبادةَ الجَماعيَّةَ ضِدَّ الفِلسطينيِّينَ. وأضافتْ: أنا أعتقدُ أنَّ كلَّ إنسانٍ يَحملُ الخيرَ في أعماقِهِ، وأنَّ جميعَ النَّاسِ يَستحقُّونَ المَغفرةَ والعفوَ عن سالفِ ذُنوبِهمْ، ولكنْ في هذهِ المرحلةِ (لا)، لقد أصبحْتُ أفهمُ العُقوبةَ في هذهِ الآيةِ الآنَ، وآنا آسفةٌ لِمَا تفعَلُهُ حُكومَتِي في حقِّ الشَّعبِ الفلسطينيِّ بِتَواطُئِها معَ الاحتلالِ الصُّهيونيِّ.

هذه سيِّدةٌ أمريكيَّةٌ غيرُ مُسلمةٍ، وحكومَةُ بلادِها تَدعَمُ الكِيانَ الصُّهيونيَّ بالمالِ والسَّلاحِ منذُ نشأتِهِ حتَّى الآنَ، بل تَعدُّهُ الولايةَ الحاديةَ والخمسينَ؛ لأنَّهُ رأسُ حربتِها لاستمرارِ نفوذِها في المنطقةِ، ولكنَّ هذه السيِّدةَ قد اهتدتْ بالفطرةِ إلى أنَّ بعضَ المُجرمينَ يَستحقُّونَ عقوبةً قد تَبدو قاسيةً بادِيَ الرَّأيِ، ولكنَّها عَينُ العَدالةِ؛ جَزاءً وِفاقًا لِجرائمهِمُ الشَّنيعةِ، التي تَهوِي بالبشريَّةِ إلى الدَّركِ الأسفلِ من الحيوانيَّةِ، مع كاملِ الاعتذارِ للحيواناتِ التي لا عقلَ لها، والتي لم تصلْ إلى هذا الدَّركِ من الهمجيَّةِ والانحطاطِ.

وهنا يَحلُو لِنفرٍ مِنْ ذَوي الأبصارِ الكَليلةِ، والبَصائرِ الضَّئيلةِ، أنْ يتَّهِمَ الصَّحابيَّ الجليلَ سعدَ بنَ مُعاذٍ، رضي اللهُ عنه، بالقَسوةِ المُفرِطَةِ في حكمِهِ على يهودِ بني قُريظةَ؛ فالمستشرقُ الفرنسيُّ إميل درمنجهم (1892-1971م)، يزعمُ في كتابِهِ (حياةُ محمَّدٍ) أنَّ سعدًا حكمَ بذلكِ الحُكمِ؛ لأنَّه قد أُصِيبَ في تلكَ الغزوةِ بِجُرحٍ بالغٍ، أودَى بِحياتِهِ لاحقًا، وقد قدَّرَ في نفسِهِ أنَّ بني قُريظةَ كانوا سببًا فيه. والكاتبُ السُّوريُّ اللِّيبراليُّ أحمد الرُّمحُ، يقولُ: إنْ صَحَّتْ تلك الرِّواياتُ عن الإبادةِ الجَماعيَّةِ لِيهودِ بَني قُريظةَ، فهو فِعلٌ يَندرِجُ تحتَ مُسمَّى: (جَرائمُ ضِدُّ الإنسانيَّةِ)، وَفقًا لِلقانونِ الدَّوليِّ. وثمَّةَ مَنْ يُنكرونَ القِصَّةَ بِرُمَّتِها قَائِلينَ: نبيُّنا كانَ على خُلُقٍ عظيمٍ، وقد بُعثَ رَحمةً للعالمينَ، ولم يكنْ سَفَّاحًا، فأنَّى يفعلُ ذلك؟ ومنهم مَنْ يزعمُ أنَّ مُحمَّدَ بنَ إسحاقَ (ت151هـ) صاحبَ السِّيرةِ قد وَضَعَ هذه القصَّةَ إِرضاءً لِلعبَّاسِيِّينَ، بعدَ تلقِّيهِ رِشْوَةً من أبي جعفرٍ المنصورِ(ت158هـ)؛ لِتسويغِ تَنْكِيلِهمْ بِالأُمويِّينَ. والأنكى ما يقولُهُ المُلْحِدُ سلَّام صادق بلُّو في مقالِهِ المَنشورِ على (شَبكةِ المُلحدينَ العربِ): “انظرْ رَسولَ الرَّحمةِ والإنسانيَّةِ، المبعوثَ من إلهِ الإسلامِ، يُصَدِّقُ على حُكمِ مُعاذٍ الإرهابيِّ، ويقتلُ بالسَّيفِ كلَّ رِجالِ قَبيلَةِ بَني قُريظةَ، ويبيعُ النِّساءَ والأطفالَ كَعبيدٍ، ويُقسِّمُ كُلَّ مُمْتَلَكَاتِهمْ بينَ المُسلمينَ، أينَ العَفْوُ عندَ المَقدرَةِ الَّذي تَغنَّى به مُحمَّدٌ في القرآنِ؟ أينَ رَحمةُ رسولِ الرَّحمةِ؟” إلى غيرِها من الافتراءاتِ الكاذبَةِ، التي لا تَستَنِدُ إلى الوقائعِ المُوثَّقَةِ، فالذي يَنظرُ إلى قسوةِ حُكمِ الإعدامِ مُجَرَّدًا قد يَسْتَفْظِعُهُ، ولكنَّ الذي يَرى مُلابساتِهِ، سَيراهُ جَزاءً عادلًا، لخَّصَهُ الحكيمُ العليمُ في أوجزِ وأبلغِ عَبارةٍ، حيثُ قالَ: (وَلَكُمْ فِي القِصَاصِ حَيَاةٌ).

وسبيلي أنْ أعرضَ في نقاطٍ موجزةٍ قصَّةَ خِيانَةِ اليَهودِ؛ ومُلابساتِ الحُكمِ عليهم، لِنقرأَهُ في سِياقِهِ التَّاريخيِّ الصَّحيحِ:

• في شهرِ شعبانَ عامِ 5هـ تحرَّكَ مُشركُو مكَّةَ وأحلافُهُمْ من قبيلةِ غَطفانَ وبَنِي سُلَيْمٍ في نحوِ عشرةِ آلافِ مُقاتِلٍ صوبَ المدينةِ المنوَّرةِ؛ لاستئصالِ المُسلمينَ، والقضاءِ على دَوْلَتِهم التي يروْنَها تَزدادُ قُوَّةً يومًا بعدَ يومٍ، وهذا العددُ يزيدُ على ثلاثةِ أضعافِ القُوَّةِ المُقاتِلَةِ لدى المُسلمينَ.

• أشارَ الصحابيُّ سَلْمانُ الفَارسيُّ، رَضِي الله عنهُ، على الرَّسولِ، صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، بحفرِ خَندقٍ حولَ المدينةِ، قائلًا: “يا رسولَ اللهِ! إنَّا كُنَّا بِأرضِ فَارسَ، إذا حُوصِرْنَا خَنْدَقْنَا عَلينَا”، فشرعَ المسلمونَ في تنفيذِ الفكرةِ سَريعًا، وأبْدَوْا هِمَّةً عاليةً في الحفرِ، يتقدَّمُهمُ الرَّسولُ، صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، حتَّى أنجزوا ذلكَ الخندقَ في أيامٍ مَعدودةٍ.

• فُوجِئَ المشركونَ بذلكَ الخندقِ، وحاولُوا اقتحامَهُ دُونَ جَدْوى، وعلى مدارِ نحوِ شهرٍ منْ تَصَافِّ الفريقينِ، كانَ ثمَّةَ تَرَامٍ بالسِّهامِ، وقدْ أُصيبَ فيهِ سَعدُ بنُ مُعاذٍ، رَضي اللهُ عنه، بجراحٍ بالغةٍ في أكْحَلِهِ، فكانَ يقولُ: «اللَّهُمَّ، لا تُمِتْنِي حتَّى أشتفِيَ من بني قُريظةَ»، كَما وقعتْ مُنازلاتٌ ميدانيَّةٌ مَعَ مَنْ حاولوا الاقتحامَ، لكنَّها انتهتْ جَميعًا بالفشلِ الذَّريعِ.

• كانَ مع المشركينَ حُيَيُّ بنُ أخطبَ اليَهوديُّ، فخطرَ ببالِهِ أنْ يُقنِعَ يهودَ بني قُريْظَةَ بنقضِ عَهْدِهمْ مع الرَّسولِ، صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فذهبَ إلى زعيمِهِمْ كعبِ بنِ أسدٍ، وقالَ له: “إنِّي قدْ جِئتُكَ، يا كعبُ، بِعِزِّ الدَّهرِ، جئتُكَ بِقريشٍ على قادَتِها وسَادَتِها، وبِغَطفانَ على سادَتِها وقادَتِها، قد عاهَدُوني وعاقدُونِي على ألَّا يبرحُوا، حتَّى نستأصِلَ مُحمَّدًا ومَنْ معه”، وبعد مُفاوضاتٍ وافقَ بنو قريظةَ على تلكَ الخِيانةِ العُظْمَى.

• وقعَ المُسلمونَ بينَ شِقَّيِ الرَّحَى، كما يقولُ القُدماءُ، أو بينَ فَكَّيِ الكمَّاشَةِ، كما يقولُ المعاصرونَ، وصارَ مُستقبَلُ الإسلامِ على المَحكِّ، فالأحزابُ من أمامِهم، واليهودُ من خلفِهم، ممَّا زلزلَ المسلمينَ زِلزالًا شَدِيدًا، حتَّى سوَّلَتْ لِبعضِ ضِعافِ الإيمانِ نُفوسُهم الفرارَ، مُتعلِّلينَ بِأعذارٍ واهيةٍ، وقد صوَّرَ القرآنُ الكريمُ ذلكَ الموقفَ أبلغَ تَصويرٍ، في قولِهِ تعالَى: (إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ ‌وَمِنْ ‌أَسْفَلَ ‌مِنْكُمْ وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالاً شَدِيدًا * وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَاّ غُرُورًا * وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ يا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَاّ فِرارًا)

• نَجحَ الصَّحابيُّ الجليلُ نعيمٌ بن مَسعودٍ الغطفانيُّ -الذي لمْ تكنْ قبيلتُهُ المُتحالِفَةُ مَعَ قُريشٍ قد عرفتْ أمرَ إسلامِهِ بعدُ- في شقِّ التَّحالُفِ بينَ قبيلَتِهِ وقريشٍ، إذ أوقعَ بينَهم بحيلةٍ ذكيَّةٍ شَكَّكَتْ كلَّ فريقٍ في الآخرِ، حيثُ قامَ ببراعةٍ بتلبيةِ نِداءِ الرَّسُولِ، صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم، إذْ قالَ لهُ: «خَذِّلْ عنَّا ما استطعْتَ؛ فإنَّ الحَرْبَ خَدْعَةٌ».

• أرسلَ اللهُ رِيحًا عاتيةً اقتلعتْ خِيامَ المشركينَ، فعزمُوا على الرَّحيلِ، بعدما تسرَّبَ الشَّكُّ واليأسُ إلى قلوبِهمْ، حيثُ يقول اللهُ تعالَى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا).

• بعد رحيلِ المُشركينَ مَذمومينَ مَدْحُورينَ، أَمَرَ الرَّسولُ، صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، المسلمينَ بالتوجُّهِ مُباشرةً نحوَ مَنازلِ بَني قريظةَ، قائلًا: (لُا يُصَلِّيَنَّ أَحَدُكُمُ العَصْرَ إِلَّا فِي بَنِي قُرَيْظَةَ)، فَحاصَرُوهمْ قُرابةَ خمسةٍ وعشرينَ يَومًا.

• جاءَ أشرافُ الأوسِ إلى الرَّسولِ، صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، لِيَشفعُوا في بَني قُريظَةَ، قَائلينَ: يَا رَسولَ اللهِ، قد فَعَلْتَ في بَنِي قَينُقاعَ ما قد علمْتَ، وهُمْ حُلفاءُ إخوانِنا الخَزرجِ، وهؤلاءُ بنو قريظةَ مَوالِينا، فَأَحْسِنْ فِيهمْ، فقالَ لَهمْ: ألَا تَرْضَونَ أنْ يحكمَ فيهمْ رجلٌ مِنْكُمْ؟ قالوا: بلى، قال: فذاكَ إلى سَعْدِ بنِ مُعاذٍ، قالوا: قَدْ رَضينا.

• حُمِلَ الصَّحابيُّ الجليلُ سعدُ بنُ مُعاذٍ وهو مُصابٌ؛ لِيحكمْ فيهمْ، فلمَّا رآه الأوسُ التفُّوا حَوْلَهُ، وجعلُوا يَقولونَ له: أَجْمِلْ في مَواليكَ، فأحسِنْ فِيهمْ، لكنَّ الرَّجلَ قال: قدْ آنَ لِسَعْدٍ ألَّا تَأخُذَهُ في اللهِ لَوْمَةُ لائمٍ، ثمَّ حَكَمَ عليهمْ بقوله: فإنِّي أحكمُ فيهمْ أنْ يُقتَلَ الرِّجالُ، وتُسبَى الذُّرِّيَّةُ، وتُقَسَّمَ الأموالُ، فقالَ الرَّسولُ، صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «لَقَدْ حَكَمْتَ فِيهمْ بِحُكْمِ اللهِ مِنْ فوقِ سَبْعِ سَماواتٍ».

• أمرَ الرَّسولُ، صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، بالأخاديدِ، فَخُدَّتْ في الأرضِ، وجِيءَ بِهمْ مُكَتَّفِينَ، فَضُربَتْ أعناقُ الرِّجالِ، وسُبِيَتِ النِّساءُ والأطفالُ، كما قال تعالَى: (وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا * ‌وَأَوْرَثَكُمْ ‌أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَؤُها وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا)، فالقصَّةُ ثَابِتَةٌ بنصِّ القرآنِ الكريمِ، وليستْ من اختلاقِ ابنِ إسحاقَ كما زَعمَ بعضُ السُّفهاءِ، وقدْ تضاربَتِ الرِّواياتِ حولِ أعدادِ مَنْ قُتِلُوا من بني قُريْظَةَ، ولكنَّهمْ كانُوا بِضْعَ مِئاتٍ على الرَّاجِحِ.

• بعدَ تنفيذِ الحُكْمِ فاضتْ روحُ سعدِ بنِ مُعاذٍ إلى بَارئِها، وهو في السَّابِعةِ والثلاثينَ من عُمُرِهِ، لِيلقَى ربَّهُ رَاضيًا مَرْضِيًّا، مُشَيَّعًا بأعظمِ شَهادةٍ في حقِّ صَحابيٍّ، حيثُ قالَ الرَّسولُ، صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، في حَقِّهِ: (اهْتَزَّ عَرْشُ الرَّحْمَنِ لِمَوْتِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ)، بلْ ظَلَّ يَذكُرُهُ دومًا، حتَّى إنَّهُ لمَّا أُهْدِيَتْ إليهِ حُلَّةٌ مِنْ سُنْدُسٍ، فَجَعَلَ أَصْحَابُهُ يَعْجَبُونَ مِنْهَا، فَقَالَ لهمْ: «مَا يُعْجِبُكُمْ مِنْهَا؟ فَوَاللَّهِ ‌لَمَنَادِيلُ ‌سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ فِي الجَنَّةِ أَحْسَنُ مِنْهَا».

• في عام (1397هـ/ 1977م) كتبَ أستاذُنا الدُّكتورُ محمَّد رجب البيوميُّ (1923-2011م) رَحِمَه الله، مَقالًا عن القضيَّةِ بِعنوانِ: (افتراءٌ مُغرضٌ حَوْلَ سَعْدِ بنِ مُعاذٍ)، وقدْ رَدَّ فيه على أولئكَ الببَّغاواتِ الَّذينَ يَتَّهمونَهُ بالقَسوةِ والغدرِ، وممَّا قالَ فيه: «وقدْ كانتْ صَرامةُ هذهِ العقوبةِ مَدْعَاةً للتقوُّلِ على الإسلامِ دُونَ عَدالةٍ وإنصافٍ؛ فالمسلمونَ لمْ يَتَجَنَّوْا على بَني قُريظةَ بِاستئصالِهِمُ المُبيدِ؛ لأنَّهم مُتَّهَمونَ بالخيانةِ العُظمَى، وقد ثبتتْ تُهْمَتُهُم ثُبوتًا قامتْ دَلائِلُه، وَفَدَحَتْ نتائِجُه، وهذه الخيانةُ الخطيرةُ ليسَ لَها في جميعِ الشَّرائعِ غيرُ الإعدامِ السَّريعِ، ولم يكنِ اليهودُ أسْرَى حَرْبٍ، فَيميلَ بهمْ إلى الشَّفَقَةِ، ولكنَّهمْ شرٌّ من الأعداءِ؛ إذْ بيَّتُوا الغَدرَ لأُناسٍ يأمنونَهمْ، ويَخصُّونَهمْ بِحُقوقِ الجارِ، وَواجباتِ الذِّمامِ… والَّذينَ يَسْتَهْوِلُونَ حُكْمَ سعدٍ على حُلَفائِهِ يَجهلونَ أنَّ التَّوراةَ التي يَدينُ بها هؤلاءِ اليهودُ تُوجِبُهُ وتَفْرِضُهُ، فهو حكمٌ يَعلمونَهُ مِنْ نُصُوصِهِمْ، ويُشِيدونَ بِعدالَتِهِ في أطْوائِهمْ، وما على المسلمينَ مَلامةٌ إذا قَضَوْا بِحُكْمٍ يَعترِفُ بِهِ أعداؤُهمْ، دونَ أنْ يَجِدُوا وجهًا لِلنقضِ والاستئنافِ، فقد جاءَ بالإصحاحِ العشرينَ في سِفْرِ التَّثنيةِ: (وَإِنْ لَمْ تُسَالِمْكَ أيُّ قَريةٍ، بَلْ حَارَبَتْكَ، فَحَاصِرْهَا، وَإذا دَفَعَها الرَّبُّ إِلَهُكَ إِلَى يَديْكِ، فاضْرِبْ جَميعَ ذُكُورِها بِحَدِّ السَّيْفِ)».

وختامًا، فَما أمرُ اليَهودِ بينَ الأمسِ واليومِ إلَّا كأمرِ طَرَفَةِ بنِ العَبْدِ، لمَّا خانَهُ قومُهُ وتخلَّوا عنه، فقالَ:

أَسْلَمَنِي قَوْمِي، وَلَمْ يَغْضَبُوا   

 لِسَوْأَةٍ، حَلَّتْ بِهِمْ، فَادِحَةْ

كُلُّهُمُ أَرْوَغُ مِنْ ثَعْلَبٍ

مَا أَشْبَهَ ‌اللَّيْلَةَ ‌بِالبَارِحَةْ

فالخيانةُ هي ديدنُ اليهودِ ودَيْدَنُهم على مَرِّ السِّنينَ، وقد نقضوا العُهودَ مع ربِّ العالمينَ، فكيفَ بِعهودِهِم مَعَ الآدميِّينَ، الذينَ يَنْبزُونَهمْ عادةً بالأُمِّيِّينَ؟ وكلُّ مَراحلِ حَياتِهمْ تُؤكِّدُ أنَّهمْ أخبثُ وأخونُ وأحقرُ مَنْ عَرفَتِ البشريَّةُ بلا مثنويَّةٍ، وأنَّ الدَّمَ القانِيَ هو الصِّبغُ السَّائِدُ على سِيرَتِهم الخبيثةِ في الغابرِ، ومَسيرَتِهم الوَضيعةِ في الحاضرِ. وإنِّي لأسألُ اللهَ العظيمَ، ربَّ العرشِ العظيمِ، أنْ يُمَكِّنَ المُجاهدينَ الأبطالَ مِنْ رِقابِهمْ، وَأَنْ يُقضَى فيهم بقضاءِ سعدِ بنِ مُعاذٍ مُجددًا؛ لِتتطهَّرَ الدُّنيا من رِجْسِهِمْ، وتستريحَ البشريَّةُ من شُرورِهمْ، وتُشفَى صُدورُ قومٍ مُؤمنينَ بِهلاكِهم، وسَنَظلُّ نُردِّدُ ما بَقِيَ فينا رَمَقٌ مُخاطِبينَ ذلكَ البَطلَ المُنتظَرَ بِما خاطبَ به الشَّاعرُ ابنُ مليكٍ الحمويُّ (ت917هـ) الأميرَ يَشبكَ الدَّوادار (ت885هـ) قائلًا:

الثَّأْرَ دُونَكَ، يَا لَيْثَ الوَغَى، الثَّارَا 

فَلَيْسَ غَيْرُكَ عَنَّا يَكْشِفُ العَارَا

جَرِّدْ سُيُوفَكَ مِنْ أَغْمَادِهَا، فَلَقَدْ 

 آنَ انْتِضَاءٌ، عَلَى الجَارِ الَّذِي جَارَا

وَانْظِمْ سُيُوفَهُمُ، وَانْثُرْ جَمَاجِمَهُمْ 

إِنَّا عَــــهِدْنَاكَ نَــــظَّامًا وَنَـــثَّـــارَا

وَرَوِّ مِنْ دَمِهِمْ بِيضًا وَسُمْرَ قَنًا 

وَمِنْ لُحُومِهِمُ وَحْشًا وَأَطْيَارَا

وَاتْرُكْ دِيَارَهُمُ، تَشْكُو الأَنِيسَ بِهَا 

وَلَا تَدَعْ مِنْهُمُ فِي الدَّارِ دَيَّارَا

وَاعْجَلْ بِقَتْلِهِمُ، مِنْ قَبْلِ أَنْ يَلِدُوا

لِكُفْرِهِمْ، فَاجِرًا فِي الأَرْضِ، كَفَّارَا

د. مصطفى السواحلي

د. مصطفى السواحلي أستاذ اللغة العربية وآدابها في جامعة السلطان الشريف علي الإسلامية، سلطنة بروناي دار السلام

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى