أشتات

مشكل الآثار: قراءة علمية في الأحاديث المشكلة

استمر الفهم الإسلامي لإسلامية الخلافة وعدم حصرها في قريش، حتى جاءت الشعوبية الفارسية وأرادت أن تقتلع الإسلام من جذوره بدعوى نبذ العرب وكراهيتهم.
مشكل الآثار: قراءة علمية في الأحاديث المشكلة
د.كمال القطوي
كاتب وباحث في الفكر الإسلامي

منسق الحوار أ. عبد السلام الوادعي

مبتدأ:

يثور لغط هذه الأيام حول الأحاديث النبوية الشريفة، وترتفع الأصوات المنادية بطي صفحة الأحاديث النبوية، وإعادة النظر في السنة النبوية، وتجاوز منهج أهل العلم باعتباره منهجًا قديمًا ولا يراعي تطورات اللحظة الإنسانية، والمدخل لمثل هذه الدعوات دعوى تعارض الأحاديث النبوية مع القرآن الكريم، ومع مقاصد الدين ومتطلبات الحياة المعاصرة، ولبيان هذه الإشكالات وإزالة الشبهات المثارة حول السنة النبوية، يستضيف ملتقى رواد المعرفة، الدكتور: كمال القطوي، وهو باحث في الفكر الإسلامي، له عناية في الدفاع عن السُّنة النَّبوية، وقد أخذ إجازات في الفقه والحديث من العلماء الذين تتلمذ على أيديهم أمثال القاضي: محمد بن إسماعيل العمراني وغيره.

وقد نُشرت له أبحاث حول السُّنة النبوية منها: سلسلة: (رسول من عند الله أم ساعي بريد)، وهي سلسلة ترد على نظرية الاكتفاء بالقرآن الكريم والمتواتر العملي من السُّنة، كما صدر له بحث بعنوان: (السنة النبوية وشبهات الحوثيين) وهو بحث محكّم ضمن موسوعة شبهات الحوثي الصادرة عن وزارة الشؤون الإسلامية بالمملكة، وغيرها من المقالات المتصلة بشأن السُّنة النبوية والتراث الإسلامي.

مرحبًا فضيلة الدكتور:

1. في البدء: ما المقصود بالأحاديث المشكلة وما أسباب الإشكال؟

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، وبعد:

دلالة الحديث النبوي إما أن تسلم من المعارضة والتعارض بينها وبين نص آخر، وهذا يسمونه المحكم، وإما أن تعارض في ظاهرها نصوصًا أخرى، وتقبل الجمع بعد الاجتهاد والتأمل وهذه يسمونها مشكل الحديث أو مختلف الحديث، وهذا فحوى تعريف ابن حجر والنووي وغيرهما. وقد ألف العلماء في هذا المجال، وأشهر من كتب فيه الإمام الطحاوي في كتابه: (مُشكل الآثار)، وابن قتيبة في: (تأويل مختلف الحديث) وكذلك ابن خزيمة الذي كان يقول:(لا أعرف حديثين متضادين، فمن كان عنده فليأتني به لأؤلف بينهما).أما أسباب الإشكال فهي كثيرة، ومنها:

– طبيعة اللغة العربية: فالوعاء اللغوي يحمل دلالات عديدة، يفهم بعضها قوم ويجهلها آخرون، وينشأ عندهم الإشكال، كما أنَّ اللسان العربي واسع الدلالة، وأساليبه تخفى على الكثير، فيقعون في الإشكال، ولذلك فسر الإمام: الليث بن سعد، خلاف الأمة بسبب القصور اللغوي، وأوصى طلبة العلم بالتضلع في اللغة، فالتقط الشافعي الوصية وعكف في قبائل هذيل عشر سنوات يتعلم اللغة، حتى صار إماماً فيها، ومن هنا انفتحت أمامه مدارك الفقه في الدين، فبز أقرانه.

– اختلاف الحال والأشخاص يقتضي خطابات متنوعة تعالج الحالات المختلفة، فينشأ الإشكال، ومن أمثلة ذلك: أحاديث أفضل الأعمال، فقد جاء أناس كثر إلى النبي صلى لله عليه وسلم كلهم يسأل النبي عن أفضل الأعمال، فاختلفت إجابات النبي فقال لأحدهم: ( الصَّلاةُ لِوَقْتِها) وقال لآخر: ( إدخالُ السُّرورِ على المؤمنِ) وقال لثالث: ( الحُبُّ في اللهِ). ولا تعارض البتة، وإنما هي وصايا متعلقة بشخوصها، وعندنا الميزان الشرعي لوزن الأعمال، وقد خرج ابن القيم بمعادلة رياضية تجمع كل هذه الآثار، خلاصتها أن أفضل الأعمال ما كان في وقته أولوياً، فإذا حضرت الصلاة فأفضل عمل الصلاة، وإذا حضر الجهاد فأفضل عمل هو الجهاد، وإذا حضرت الصدقة فهو وقتها، وهكذا.

– ومن الأسباب: اختلاف المقامات، فقد ندب النبي إلى صيام يوم عرفة كما في حديث مسلم (سُئِلَ عن صَوْمِ يَومِ عَرَفَةَ، فَقالَ: يُكَفِّرُ السَّنَةَ الماضِيَةَ والْباقِيَةَ)، ويعارضه حديث: (نَهَى عَنْ صِيَامِ يَوْمِ عَرَفَةَ بِعَرَفَةَ) ففهم الفقهاء أن النهي متعلق بالحاج فقط حتى لا يضعف عن أعمال الحج في يوم عرفة، بينما استحب صيام يوم عرفة لغير الحاج.

Books old مشكل الآثار: قراءة علمية في الأحاديث المشكلة

2. ما صحة حديث: (إذا سمعتم عني حديثا فاعرضوه على كتاب الله فإن وافقه فاقبلوه وإلا فردوه) وهل من الضروري أن نعرض السنة على الكتاب؟

– لا يصح حديث العرض هذا الذي يستند إليه القائلون بعرض السنة على الكتاب (فما أتاكم عني فاعرضوه على كتاب الله)، فقد حكم علماء الحديث على الحديث بأنه موضوع، وأكد بعضهم أنه من وضع الزنادقة، كما ذكر ذلك علي بن المديني ويحيى بن معين والخطابي وابن عبد البر والشوكاني وغيرهم. ومثل هكذا حديث لا ينهض للاحتجاج به في الفروع فضلاً عن أصل من أصول الاستدلال، وركن في منهج التلقي، وهو التَّعامل مع السُّنة النبوية.

– هذا من جهة السَّند، وأما من جهة المتن، فلو عرضنا هذا الحديث على القرآن لوجدناه يخالف القرآن الذي يأمرنا بطاعة النبي مطلقاً، فيسقط الحديث كما ذكر ذلك ابن عبد البر وغير واحد من العلماء.

– والحديث يفترض التناقض بين القرآن والسنة!  وهذا محض وهم، فإن العلاقة تكاملية، وقد استقرأ الشاطبي تلك العلاقة فخرج بنتيجة قال عنها في كتابه الموافقات: (تَعْرِيفُ الْقُرْآنِ بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ أَكْثَرُهُ كُلِّيٌّ لَا جُزْئِيٌّ.  وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى بَعْدَ الِاسْتِقْرَاءِ الْمُعْتَبَرِ أَنَّهُ مُحْتَاجٌ إِلَى كَثِيرٍ مِنَ الْبَيَانِ؛ وإِنَّ السُّنَّةَ إِنَّمَا هِيَ بَيَانٌ لِلْكِتَابِ).

– ثم لو عملنا بهذا الحديث فسنجد في السنة أحكاماً لا وجود لها في القرآن، كالأذان وحد شارب الخمر مثلاً، فهل نترك هذه الأحكام لأن لا وجود لها في القرآن؟!

3. ألا ترى أن التوغل في المجاز وترك حقيقة النصوص وظاهرها هو أحد أسباب الاختلاف؟ فلماذا لم يأخذ العلماء بالحقيقة ويتركون المجاز؟

– لأنَّ الشارع الحكيم خاطبنا بهذه اللغة العربية، وهي محكومة بقوانينها التي رُكّبت عليها، ففيها الحقيقة والمجاز، ومن هنا تفاوتت قدرات النَّاس في فهم واستنباط النَّص الشرعي، وهو تفاوت ابتدأ من لدن الصَّحابة فمن بعدهم، وأقرهم الشَّارع على الاختلاف، لتحدث حالة الثراء في الفقه والاجتهاد الإسلامي، بعد أن اطمئن الشَّارع إلى وضوح المحكمات والقواطع من الدين، إذ هي مسيجة بنصوص قاطعة الدلالة، وبفهم إجماعي لم يشذ عنه أحد من المعتبرين، فصارت معالم الدين وأركانه جلية واضحة كالنهار، وبقيت مساحة الفروع محل اجتهاد ونظر، تتغير وتتكيف وفق ظروف الناس واحتياجاتهم، فجمعت شريعتنا بين الثبات والمرونة. إذ المجاز إحدى ركائز هذا الاختلاف والإثراء.

– ومن أمثلة المجاز المشهورة قوله تعالى: ( وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا ۖ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ)يوسف:82. فذكر القرية وأراد أهلها، أي واسأل أهل القرية، وذكر العير وهي الإبل، وأراد أصحابها. وفي حديث البخاري قال صلى الله عليه وسلم لزوجاته: (أسرعُكُنَّ لِحاقًا بِي أطْولُكُنَّ يدًا)، ففهمنه طول اليد الحقيقية، فلما توفيت زينب رضي الله عنها، عرفن أن المغزى أكثركن صدقة، لأنها كانت تعمل بيدها وتتصدق، والنبي كنى عن الصدقة بطول اليد، وهذا استعمال في اللغة معهود.

– فانظر كيف أخذن بالحقيقة وأهملن المجاز ففاتهن مقصود الشارع، ولم يتعرفن عليه إلا بعد ظهور الإشارة بموت زينب.  وانظر معي كيف اختلف الصحابة حول أمر النبي صلى الله عليه وسلم في الأحزاب، فقد أخرج البخاري في صحيحه عن ابن عمر، أن النبي قال لهم: ( لا يُصَلِّيَنَّ أحَدٌ العَصْرَ إلَّا في بَنِي قُرَيْظَةَ. فأدْرَكَ بَعْضُهُمُ العَصْرَ في الطَّرِيقِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لا نُصَلِّي حتَّى نَأْتِيَهَا، وقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ نُصَلِّي، لَمْ يُرِدْ مِنَّا ذلكَ، فَذُكِرَ ذلكَ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فَلَمْ يُعَنِّفْ واحِدًا منهمْ). فبعضهم أخذ بظاهر الحديث فلم يصلِّ إلا في بني قريظة بعد فوات وقت الصلاة، والآخرون أدركوا أن المقصد الإسراع إلى بني قريظة، ثم تأمل سكوت النبي وإقراره للاختلاف في فهم النص، إذ هو يؤسس لتنوع الاجتهاد في فهم النص الشرعي.

– ولو كان الخطاب الشرعي قطعي الدلالة كله، لانتفت المرونة من الشريعة السمحاء، ولصار الفقه مجموعة معادلات رياضية، ولأشكل على الناس الخلاف في المستجدات والنوازل، إذ لا عهد لهم بإدارة الخلاف، ولجر ذلك إلى النزاع والافتتان في دين الله، ولكن رحمة الله بهذه الأمة أن فتح باب التنوع والاجتهاد من لدن الشارع وفي عصر التشريع، وبقي الباب مفتوحاً لكل أهلٍ للاجتهاد، للتعامل مع متغيرات الحياة، وقد فطن الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز إلى شيء من أسرار هذا التنوع فقال: ( ما يسرني أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يختلفوا، لأنهم لو لم يختلفوا لم يكن لنا رخصة).

3 1 مشكل الآثار: قراءة علمية في الأحاديث المشكلة

4. أكدت في حديثك السَّابق أنه لا إشكال بينَ النَّصوص الشَّرعية في الكتاب والسُّنة ولا تعارض، وبين أيدينا مجموعة من النصوص التي ظاهرها التناقض، فما هو حل الإشكال لها؟ وهي كالتالي:

4.1. حد الردة القتل في السنة والقرآن الكريم يقول: (لا إكراه في الدين)!

– لا تناقض بين حدِّ الردة وبين آية “لا إكراه في الدين”، لأن للإكراه مساق تأسيسي، فلا يُكره إنسان على اعتناق الإسلام، فإذا ما دخل الإسلام فلا يحق له التشويش على المجتمع المسلم، واللعب في دين الله.

– وهناك اجتهاد معاصر قوي بأنَّ حدَّ الردة خاص بمن خرج على الأمة بالسِّيف، وهو منطوق حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي أخرجه مسلم في صحيحه عن ابن مسعود : ( لا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ، يَشْهَدُ أنْ لا إلَهَ إلّا اللَّهُ وأَنِّي رَسولُ اللهِ، إلّا بإحْدى ثَلاثٍ: الثَّيِّبُ الزّانِي، والنَّفْسُ بالنَّفْسِ، والتّارِكُ لِدِينِهِ المُفارِقُ لِلْجَماعَةِ) فلا بد من ترك الدين ومفارقة الجماعة بالسيف، حتى يستحق الإنسان العقوبة، وأما من تبدلت قناعته ولم يجد شفاء لما في صدره من الشك والشرك، وانطوى غير داعيًا إلى كفره، فلا حدَّ عليه.

– وكلا الاجتهادين السَّائد القديم، أو القوي المعاصر، يصب في مهيع واحد، وهو خلو الحديث من التناقض مع آية الإكراه؛ لأنَّ الآية تتحدث عن الإكراه التَّأسيسي، بدرجة أساسية.

– وذلك مفاد التطبيق الإسلامي، فلم يُسجل على الجيوش الإسلامية أنها أكرهت أهل بلد على اعتناق الإسلام، وأما حوادث إقامة حد الردة فقد كانت حوادث قليلة ويشوبها الجانب السياسي، وإلا فقد ظهر زنادقة ومجدفون في تاريخ الإسلام وعاشوا وكتبوا دون أن يُمسوا بأذى.

– وعلينا أن نقرأ تطبيقات حكم الردة في تاريخنا الإسلامي مقارنة مع الأمم الأخرى كالنصارى مثلاً، فسنجد أن الفاتحين المسلمين لم يتورطوا بإجبار شعب ولا أمة على اعتناق الإسلام، بل عاشت كل الأديان والملل تحت راية الدولة الإسلامية من دون خوف ولا اعتساف، وبحسبك كتاب المستشرق توماس أرنولد : (الدعوة إلى الإسلام) الذي تتبع فيه حركة الفتوحات الإسلامية وكيف أنها كسرت الطواغيت ولم تجبر أحداً على اعتناق الإسلام. أما المؤرخ الفرنسي(غوستاف لوبون) فقد صرح في كتابه (حضارة العرب) بأن العالم لم يعرف فاتحين أرحم من المسلمين. ولا أدل على ذلك من أن المسلمين فتحوا مصر وبقيت نسبة المسلمين فيها 2% طيلة القرن الهجري الأول، ولم ترتفع نسبتهم إلى 50% إلا في سنة 330هـ، فما حاجة العابث للدخول في الإسلام ومن ثم الخروج منه وإقلاق سكينة المجتمع! إلا أن تكون إثارة الفتنة كما حاول قوم أول الإسلام: ( وَقَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) آل عمران:72. وهذا لون من الفتنة يستلزم عقوبة صارمة لإيقاف العبث في الدين.

– وفي المقابل: أقام النصارى المذابح المهولة لإجبار أمم كاملة على اعتناق المسيحية، فإن قبائل السكسون (التي تنحدر منها بريطانيا وأمريكا) أُدخلت النصرانية بحد السيف، وشعب روسيا دخل إلى المسيحية بحد السيف، وقد ذكر المؤرخ بريفولت: (إن عدد من قتلتهم المسيحية في انتشارها في أوربا يتراوح بين 7-15 مليوناً) وهو عدد مهول مقارنة بسكان أوروبا آنذاك.

– ثم انظر في تطبيقات أحكام الردة في أوروبا، فقد حكم الكاثوليك على البروتستانت بالزندقة والكفر، فاشتعلت الحروب الدينية وكان أشهرها حرب الثلاثين عاما (1618م-1648م) التي راح ضحيتها 40% من سكان ألمانيا، فضلاً عن الضحايا في الدول الأخرى. وفي مذبحة (سان بارتيليمى) بفرنسا قام الكاثوليك بقتل 30 ألفاً من جيرانهم البروتستانت في الشوارع والبيوت بحجة الردة. وأما تنفيذ أحكام الردة على النساء في أوروبا ومن ثم حرقهن، فالصفحات بذلك مقززة، فقد تم حرق 60 ألف امرأة بتهمة السحر والهرطقة في واحدة من أبشع قصص العنف والتكفير والاضطهاد، قارن ذلك مع تسامح المذهب الحنفي إزاء المرأة، ونفيه حد الردة عنها، إذ لا يرون إقامة حد الردة على المرأة لأنها لا تحمل السلاح ولا تشكل خطراً.

– ثم يأتي بعض الغربيين وذيولهم من بلهاء العرب، لينعقوا صباح مساء ويشنعوا علينا قتل مجموعة أفراد بحكم الردة، كالحلاج وبشار بن برد ويصنعون منهم ضحايا حكم الردة المتوحش! ودورانهم حول مجموعة شخصيات محدودة دلالة فاقعة على محدودية تطبيق حكم الردة في تاريخنا الإسلامي، وفق الميزان الشرعي الصحيح.

22 مشكل الآثار: قراءة علمية في الأحاديث المشكلة

4.2. ألا ترى أن ثمة تعارضاً بين حديث (الأئمة من قريش) وقوله تعالى: (وأمرهم شورى بينهم)؟

– حديث (الأئمَّةُ من قريشٍ) لم يخرجه الشيخان في صحيحيهما، وأخرجه أحمد وغيره وثمة نزاع حول صحة هذا الحديث، وقد بالغ بعض المحدثين بأن جعله متواترًا، وهذا خطأ؛ لأنه حمل معاني الأحاديث الصحيحة على معنى هذا الحديث ومن ثمَّ منحه رتبة التواتر المعنوي، وهذا غريب من قائله، لأنَّ الدلالة المعنوية للأحاديث الصحيحة تختلف عن هذا الحديث، منها حديث البخاري ( لا يَزالُ هذا الأمْرُ في قُرَيْشٍ ما بَقِيَ منهمُ اثْنانِ) والأمر هنا مقصوده الدِّين وليس الحكم، ولذلك أشكل على ابن حجر تأويل هذا الحديث وهو الذي عاش في حقبة ما بعد العباسيين، فبالغ في التكلّف وفسر ذلك بأن حكم الأئمة الزيدية في اليمن امتداد لقريش، ومصداق للحديث، وهذه من التأويلات البعيدة، إذ محل النزاع الخلافة العظمى، وحكم الزيدية لم يتجاوز جبال اليمن.

– وأما من حيث دلالة الحديث على انحصار الحكم في قريش، فهذا فهم متأخر لم يقل به الصحابة ولا التابعون، وإنما تبلور هذا الفهم في حقبة الدولة العباسية، ولا أدلَّ على ذلك من أنَّ أبي بكر الصديق في السقيفة لم يستدل على الأنصار بحديثٍ واحد من هذه الأحاديث، وإنما قال لهم كما في رواية البخاري: ( ولَنْ يُعْرَفَ هذا الأمْرُ إلَّا لِهذا الحَيِّ مِن قُرَيْشٍ؛ هُمْ أوْسَطُ العَرَبِ نَسَبًا ودَارًا)، فأبي بكر الصديق انطلق من رؤية سياسية تحدث عنها النبي صلى الله عليه وسلم، مفادها أن عرب الشمال (العرب العدنانية)،تتبع قريش في الكفر والإسلام، وتدين لحكم قريش، لأن قريش سدنة البيت، كما في الحديث الذي أخرجه البخاري ومسلم في صحيحهما عن أبي هريرة: ( النّاسُ تَبَعٌ لِقُرَيْشٍ في هذا الشَّأْنِ، مُسْلِمُهُمْ تَبَعٌ لِمُسْلِمِهِمْ، وكافِرُهُمْ تَبَعٌ لِكافِرِهِمْ) والناس هنا ليسوا كل البشرية، وإنما عرب الشمال، ولذلك ألمح أبو بكر لهذا المغزى السياسي والجغرافي وهو يحاور الأنصار، مؤكداً لهم أن المدينة المنورة كونها عاصمة الدولة الإسلامية تعيش وسط جغرافيا عرب الشمال، وبين قبائلها، فليس من الحكمة تعيين رجلاً من عرب الجنوب فتنفر الناس، وقد تفهّم الأنصار ذلك وانعطفوا نحو بيعة أبي بكر.

– ومما يؤكد الفهم الإسلامي الشوري لإسلامية الخلافة ما رواه أحمد في مسنده وصححه الحافظ ابن حجر عن عمر بن الخطاب قوله: ( إِنْ أَدْرَكَنِي أَجَلِي، وَقَدْ تُوُفِّيَ أَبُو عُبَيْدَةَ، اسْتَخْلَفْتُ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ)، ومعاذ بن جبل أنصاري يماني وليس من قريش، وقد بقي التابعون على هذا الفهم الإسلامي لشوروية الخلافة، فحين خرج جمهور التابعين على عبد الملك بن مروان الأموي القرشي، وفيهم  الإمام الشعبي والإمام سعيد بن جبير، والإمام عبد الرحمن بن أبي ليلى، ومسلم بن يسار، وأبو إسحاق السبيعي، وَعبد اللَّه بْن شَدَّاد، وَعقبَة بْن عَبْد الغافر، وغيرهم من أجلة التابعين،  بايعوا بالخلافة عبد الرحمن بن الأشعث الكندي اليماني، في دير الجماجم وهي وقعة مشهورة أطبق عليها كل المؤرخون، وهكذا استمر الفهم الإسلامي لإسلامية الخلافة وعدم حصرها في قريش، حتى جاءت الشعوبية الفارسية وأرادت أن تقتلع الإسلام من جذوره بدعوى نبذ العرب وكراهيتهم، فانعطف الفقهاء نحو القرشية، حفاظًا على الرمز الإسلامي القرشي في بني العباس، وهو انعطاف تاريخي، وستعقبه انعطافة أخرى ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي صححه الألباني (كان هذا الأمرُ في حِمْيَرَ فنزعَه اللهُ منهم وصيَّرَه في قريشٍ وسيعودُ إليهم).

–  وعليه فلا تعارض البتة بين الحديث وآية الشورى، فأحاديث القبائل تخبر عما هو كائن، بينما الآيات والأحاديث الصحيحة ترشدنا إلى ما ينبغي أن يكون. وقد عرضت هذه المسألة بشيء من التفصيل في بحث لي بعنوان: (إسلامية الخلافة أم قرشيتها) منشور في الشبكة، فليرجع إليه من أراد الاستزادة.

مشكل الآثار: قراءة علمية في الأحاديث المشكلة

4.3. انتفاع الأموات بسعي الأحياء والتعارض الحادث بين قوله تعالى: (وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى) [النجم:39]، وحديث أبي هريرة الذي أخرجه مسلم في صحيحه، قال صلى الله عليه وسلم: (إِذا ماتَ الإنْسانُ انْقَطَعَ عنْه عَمَلُهُ إِلّا مِن ثَلاثَةٍ: إِلّا مِن صَدَقَةٍ جارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صالِحٍ يَدْعُو له)؟

– التعارض ناشئ في فهم المتلقي وعدم إدراكه لحدود العموم في قوله تعالى ( وأن ليس للإنسان إلا ما سعى) فهذا أصل يتفرع عنه ما تسبب فيه الإنسان مباشرة، وما أهداه له غيره، فدعاء الولد له متفرع من أعماله، فهو سبب هذا الولد، وتربيته الصالحة أثمرت ذلك الغراس الطيب، وكذلك علمه الذي ينتفع به بعد موته، فهو من سعيه. وكذلك الوصية يوصيها من بعده فتنفعه بعد موته.

– والوجود هبة الله للعبد، وبه يتلقى ما اكتسب ومالم يكتسب، فدعاء المؤمنين للميت هبة من المؤمنين لأخيهم، وشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم هبة قد تكون مسببة لسابق عمل صالح، وقد تكون لدخول العبد في أمة التوحيد وهي أمة الشفاعة، وكذلك شفاعة الشهيد لسبعين من أهله، وقد تنال أحدهم دونما سابق إحسان ولا سبب إلا القرابة وهي ليست كسبية، وكذلك شفاعة الله لمن في قلبه مثقال ذرة من إيمان، وكذلك قضاء الدين عن الميت تبرعاً من إخوانه يسقط عنه الدين اتفاقاً، ويرفع عنه الحرج، وكذلك شتيمة الميت والطعن فيه بالباطل، حسنات تؤخذ من الطاعن وتوضع في ميزان الميت يوم القيامة، فللإنسان حرمة وعرض مصان في حياته وبعد موته.

– وقد وردت نصوص عديدة تؤكد هذا المعنى الذي ذهب إليه أهل العلم، منها قوله تعالى: (وَالَّذِينَ جَاءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ)الحشر:10.. وقوله تعالى: ( الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ)غافر:7. وقوله تعالى: (مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أو دين) النساء: 11. ومنها الحديث الذي أخرجه مسلم في صحيحه عن جرير بن عبد الله، قال صلى الله عليه وسلم: ( مَن سَنَّ في الإسْلامِ سُنَّةً حَسَنَةً، فَعُمِلَ بها بَعْدَهُ، كُتِبَ له مِثْلُ أَجْرِ مَن عَمِلَ بها، وَلا يَنْقُصُ مِن أُجُورِهِمْ شيءٌ). ومنها حديث ابن عباس الذي أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما: ( جاءَ رَجُلٌ إلى النبيِّ صَلّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ، فَقالَ: يا رَسولَ اللهِ، إنَّ أُمِّي ماتَتْ وَعَلَيْها صَوْمُ شَهْرٍ، أَفَأَقْضِيهِ عَنْها؟ فَقالَ: لو كانَ على أُمِّكَ دَيْنٌ، أَكُنْتَ قاضِيَهُ عَنْها؟ قالَ: نَعَمْ، قالَ: فَدَيْنُ اللهِ أَحَقُّ أَنْ يُقْضى). وحديث عائشة في البخاري ومسلم، قال صلى الله عليه وسلم: (مَن ماتَ وعليه صِيامٌ صامَ عنْه ولِيُّهُ). وحديث عبد الله بن عباس الذي أخرجه البخاري ومسلم: (جاءَتِ امْرَأَةٌ مِن خَثْعَمَ، فَقالَتْ: إنَّ فَرِيضَةَ اللَّهِ أدْرَكَتْ أبِي شيخًا كَبِيرًا لا يَثْبُتُ على الرّاحِلَةِ، أفَأَحُجُّ عنْه؟ قالَ صلى الله عليه وسلم : نَعَمْ). وحديث عبد الله بن عمر الذي أخرجه أبو داوود وحسنه الألباني: (لو كان مسلمًا فأعتقتُم عنه أو تصدَّقتُم عنه، أو حججتُم عنه بلغه ذلك).

– وإنما اختلف العلماء حول حدود الأعمال التي تصل الميت، فأجمعوا على انتفاع الميت بالدعاء والصدقة، وذهب جمهورهم إلى عدم انتفاعه بالصلاة كونها فريضة ذاتية، وانتفاعه بالحج وصيام الفريضة.

– والنتيجة لا تعارض البتة بين استقلالية العبد بعمله، وانتفاعه بعمل الغير له سواء كان بسبب منه أو بدون سبب، في الحدود التي بينتها النصوص الشرعية.

4.4. هل الحدود كفارة ؟

– هناك خلاف بين الفقهاء حول فهم حديث عبادة بن الصامت الذي أخرجه البخاري ومسلم: (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ ، وَحَوْلَهُ عِصَابَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ : ( بَايِعُونِي عَلَى أَنْ لَا تُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا تَسْرِقُوا وَلَا تَزْنُوا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ وَلَا تَأْتُوا بِبُهْتَانٍ تَفْتَرُونَهُ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَأَرْجُلِكُمْ وَلَا تَعْصُوا فِي مَعْرُوفٍ ، فَمَنْ وَفَى مِنْكُمْ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ، وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا ، فَعُوقِبَ فِي الدُّنْيَا ، فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ . وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا، ثُمَّ سَتَرَهُ اللَّهُ، فَهُوَ إِلَى اللَّهِ، إِنْ شَاءَ عَفَا عَنْهُ ، وَإِنْ شَاءَ عَاقَبَهُ). فذهب جمهور العلماء إلى أن الحدود كفارات، بينما اختار الأحناف أنها تكون كفارات إذا ما صاحبتها نية التوبة، واستدلوا بقوله تعالى في حد الحرابة: (ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ)المائدة:44. وأتصور أن الحد يسقط كثيراً من الذنوب، وهو كفارة كبيرة، وليست كفارة نهائية لكل الإثم، مالم ينكسر القلب بتوبة، فإنّا إذا تصورنا سارقاً أقيم عليه الحد ولم يتب، ولا يزال يتربص الفرص لسرقة أموال الناس، فإن نيته هذه تبقيه في دائرة الإثم، ويكفر عنه الحد شيئاً كبيراً من الإثم لا كله. ولو تأملنا في قصة الغامدية، فإن النبي امتدح صدق توبتها، وقال: (لقَدْ تابَتْ تَوْبَةً لو قُسِمَتْ بيْنَ سَبْعِينَ مِن أَهْلِ المَدِينَةِ لَوَسِعَتْهُمْ) صحيح مسلم.

4.5. رجم المحصن (هل هناك تعارض بين آيات جلد الزاني، وأحاديث رجم الزاني المحصن)؟!

– أحاديث رجم الزاني المحصن تبلغ حد التواتر المعنوي، وقد أخرجها البخاري ومسلم في صحيحيهما، واعتمدها أصحاب المذاهب الفقهية ولم ينازع فيها أحد من الصحابة ولا التابعين ولا تابعي التابعين ولا فقهاء سلف الأمة المتبوعين، وأكد النووي وابن قدامة وغيرهما من المحققين إجماع العلماء على رجم الزاني المحصن.

– وبعد هذه القرون الطويلة ظهرت اجتهادات لعدد يسير من الفقهاء المعتبرين كالعلامة شلتوت وأبي زهرة والعلواني، ولكنه اجتهاد شاذ، لم يقدم دليلاً معتبراً به ثلج الصدر.

– ومن الاجتهادات المعاصرة في التطبيق ما ذكره العلامة محمد الحسن الدد، من الرمي بالرصاص، وهو اجتهاد له محل من النظر.

– وليس بين آية النور وأحاديث النبي أي تعارض، لأن آية النور تتحدث عن العازب، والأحاديث الصحيحة تتحدث عن المحصن.

– وجريمة الإحصان جريمة مركبة، إذ هي تشتمل على المجاهرة بالإثم، فلا يمكن لأربعة أشخاص أن يروا شخصين وفقاً للشروط الشرعية، إلا أن يكونا مجاهرين قصدهم إشاعة الحيوانية في المجتمع، وهؤلاء قد خرجوا من جريمة الزنا إلى جريمة مناكدة الفطرة، وإشاعة المنكر بين الناس.

– ولذلك لم يطبق حد الرجم في تاريخ الأمة إلا على من اعترف فقط، وهذا الذي جاء معترفاً، إنما هو استشهادي ضحى بنفسه ليتطهر من الذنب بأقصى درجة ممكنة، ولذلك علق النبي  على توبة ماعز بعد رجمه بقوله  : ( لقَدْ تابَ تَوْبَةً لو قُسِمَتْ بيْنَ أُمَّةٍ لَوَسِعَتْهُمْ.) صحيح مسلم.

4.6. وكيف نزيل التعارض بين قوله تعالى : ( وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) وحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (ولدُ الزِّنا شرُّ الثلاثةِ).

– لا تعارض البتة بين الحديث والآية الكريمة، فقد خرج العلماء ذلك الحديث على ولد الزنا إذا سار على طريقة أبويه في الفاحشة، واقتدى بهما في ارتكاب الحرام.

– وأما السيدة عائشة فقد عتبت على أبي هريرة رواية هذا الحديث من دون إظهار سياقه، فقالت: ( يَرحَمُ اللهُ أبا هُريرةَ! أساءَ سَمعًا فأساءَ إجابةً، وذَكَرَت: إنَّما كان رجلٌ يُؤْذي رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ علَيْه وسلَّم، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ علَيْه وسلَّم: “أمَا إنَّه معَ ما به ولَدُ زِنًا”، وقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ علَيْه وسلَّم: “هو شرُّ الثَّلاثةِ”، فبيَّنَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ علَيْه وسلَّم أنَّه بأَذيَّتِه هذه صار شرًّا مِن أمِّه ومِن الزَّاني بها.

الإلغازية 7 01 مشكل الآثار: قراءة علمية في الأحاديث المشكلة

4.7. وبالنسبة لظهور تعارض بين أحاديث فضل آل البيت واصطفاء بني هاشم. مع آية: (إنَّ أكرمكم عند الله أتقاكم).

– وردت أحاديث كثيرة في الفضائل، صح منها في فضائل أبي بكر وعمر وعثمان وعلي والأنصار وغيرهم، وهي مخصوصة بأعيانها، بما قدموا من تضحية جليلة في سبيل هذا الدين العظيم، وخلافنا القديم الجديد مع طغمة التفسير العائلي للإسلام أنهم يريدون أن يسحبوا تلك الفضائل من أعيانها، ويبسطوها على سلالتهم إلى يوم الدين، وهذا لم يقل به القرآن ولا السنة، لعدة اعتبارات شرعية:

– أولاً: الفضيلة كسبية لا وراثية، وميزان التفاضل كسبي لا وراثي؛ حيث يقرر القرآن الكريم أن الفضيلة كسبية، فالله يجازي الناس على ما عملوا ،قال تعالى : ﴿ وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا ﴾ [الأحقاف :19]؛ ولفظة “عمل” ومشتقاتها في القران الكريم تكررت قرابة (359) مرة ، كي تحفر في ذهن المؤمن أن العمل هو معقد النجاح.

– ثانياً: الفضيلة لا تنتقل عبر الجينات الوراثية ، قال تعالى : (وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِن ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ مُبِينٌ) [ الصافات : 113].

– ثالثاً: ليس للأنبياء أي مصلحة مادية من تبليغ الرسالة، فليسوا ملوكاً يؤسسون إمبراطوريات لتجني أرباحها سلالاتهم من بعدهم، وإنما هم رسل من عند الله مبلغون ، وحسبهم ثواب الله لهم. وقد وردت هذه التأكيدات في 14 موضعاً في القرآن الكريم منها قوله تعالى: (قُل لا أَسأَلُكُم عَلَيهِ أَجرًا إِن هُوَ إِلّا ذِكرى لِلعالَمينَ) [ الأنعام : 90].

– رابعاً: يضع القرآن القاعدة الذهبية في العدالة الإلهية فيقول تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) [الحجرات:13]. وهو ما تقرره الأحاديث الصحيحة، منها قوله صلى الله عليه وسلم : (( لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى). صححه الألباني. وقوله صلى الله عليه وسلم: (يَا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَلِينِي مَا شِئْتِ مِنْ مَالِي لاَ أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا ) صحيح البخاري.

– خامساً: أصح ما في فضائل أهل البيت، حديث زيد بن أرقم في مسلم : ( أُذكِّرُكمُ اللهَ في أهلِ بَيْتي) صحيح مسلم، وهي وصية نبوية لأصحابه في أخريات حياته أن يرعى الصحابة أهل بيته من نسائه ونحوهن، فهن أمهات المؤمنين، وقد حظين برعاية عالية من الصحابة رضوان الله عليهم، كما احترم الصحابة فاطمة وأبناءها وأجلوهما أيما إجلال، ونصحوا لهما. وبوفاة أهل بيته، انتهت الوصية النبوية. أما أن يأتي من يزعم أن مسلسل الأهل إلى يوم القيامة فهو امتياز ينسحب على الأنصار الذين أوصى النبي بهم، وامتياز ينسحب على أهل مصر الذين أوصى النبي بهم لأن لهم قرابة ورحماً، وهكذا سندخل في متاهة لا يقول بها شرع ولا يدل عليها عقل. وفي الجملة لو قلنا بأن أهل بيته هم العلويون إلى قيام الساعة، فالوصية لا تعني التفضيل، وإنما الرعاية، والكبير يرعى الصغير، والقوي يرعى الضعيف، فمن أين جاءت أوهام التفضيل؟!

– سادساً: وآخر حديث يتعلق به أصحاب التفسير العائلي للإسلام، قوله صلى الله عليه وسلم: (واصطفى من قريش بنى هاشم واصطفاني من بنى هاشم) صحيح مسلم. فيعطي لبني هاشم ميزة على سائر الناس، مع أن الحديث يتحدث عن سلسلة الاختيار التي جاء منها المصطفى صلى الله عليه وسلم، فالاصطفاء خاص به لحمل الرسالة، إذ كيف يستقيم الاصطفاء لقريش وهي التي ناوأت دعوته بشراسة، وكيف يستقيم الاصطفاء لبني هاشم ومنهم العتاة والكفرة؟! وفسره بعضهم بأنه صلى الله عليه وسلم جاء من سلسلة نكاح ليس فيها سفاح كما ورد في حديث آخر. وليس في الحديث اصطفاء لسلالة بني هاشم كما يزعم الزاعمون. ولو تأملنا في مسار التاريخ الإسلامي وقرأنا آثار الاصطفاء الموهوم، فسنجد أن العشرة المبشرين بالجنة ليسوا من بني هاشم، باستثناء علي رضي الله عنه، وأن قادة الفتح الإسلامي في عهد الراشدين ليس بينهم هاشمي واحد، وأن أئمة الفقه الأربعة وأئمة الحديث التسعة، ليس فيهم هاشمي واحد! فأين الاصطفاء الموهوم، وما هو إلا اصطفاء لمحمد صلى الله عليه وسلم.

وكلامنا هذا لا يعني غمط بني هاشم، ففيهم العلماء والصالحون والمجاهدون، ولكننا بصدد تفنيد الخرافة الشيعية التي تزعم أن لهم امتيازات ما أنزل الله بها من سلطان، وبحسبهم وبحسب كل مسلم موحد، أن ينتسب إلى الإسلام وأن يفاخر بالتوحيد، وأن يجعل التقوى معياره الوحيد في الفضل، والله المستعان.

003 01 2 مشكل الآثار: قراءة علمية في الأحاديث المشكلة

4.8. وظهور تعارض أحاديث التمسك بالكتاب واقترانه بالسنة مره، والعترة، والخلفاء الراشدين؟

– لا يصح حديث التمسك بالقرآن والعترة، وهذا ما قاله المحققون كالمقدسي وغيره، وإنما صح الوصية بأهله كما في صحيح مسلم. وأما سنة الخلفاء الراشدين، فالراشدون ليسوا مشرعين، وإنما قدموا تجربة فريدة في تطبيق الإسلام، والحقيقة أن الراشدين فيهم خصوص وعموم، فالخصوص يقصد به الشيخين (الصديق والفاروق) لحديث (اقتدوا باللّذينَ من بعْدِي أبي بكرٍ وعمرَ) صححه الألباني. والعموم الخلفاء الأربعة.

– وسنة الراشدين اجتهاد منهم في فهم النص، وهو اجتهاد له وزنه الثقيل في ميراثنا الشرعي، فهم سدنة الوحي، ورفاق النبوة، وأفضل من قدم تجربة تطبيقية للوحي بعد النبي صلى الله عليه وسلم، وان اتفقوا كلهم مع الصحابة على أمر وأجمعوا عليه صار هو الفهم الأوحد للنص، وإن اختلفوا صار سعة، وإن فعلوا فعلاً رأوه الأقرب للصواب، كان لنا أصلاً للنسج على منواله، والاستفادة منه. فهم منارة الاقتداء، ومعلم التأسي في العدل وتطبيق الشريعة.

– والحديث لا يرفعهم إلى منصة التشريع النهائي، فالتشريع النهائي لله وحده، ولا إلى مرتبة مزاحمة النص الشرعي، ولذلك غضب ابن عباس على هذا الفهم الخاطئ عند البعض فقال يوماً: ( يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء، أقول: قال رسول الله، وتقولون: قال أبو بكر وعمر!!).

4.9. الحديث الذي أخرجه مسلم في صحيحه: (تَسْمَعُ وَتُطِيعُ لِلأَمِيرِ، وإنْ ضُرِبَ ظَهْرُكَ، وَأُخِذَ مالُكَ، فاسْمَعْ وَأَطِعْ). ألا يعد تكريساً للطغيان، وخدمة للاستبداد؟!

– أولاً: زيادة رواية مسلم (تَسْمَعُ وَتُطِيعُ لِلأَمِيرِ، وإنْ ضُرِبَ ظَهْرُكَ، وَأُخِذَ مالُكَ)، ضعيفة ضعفها الحفاظ، وعلى رأسهم الإمام الدارقطني في كتابه (الإلزامات والتتبع)، ومن المحدثين المتأخرين الشيخ مقبل الوادعي رحمه الله.

– ثانياً: من حيث الدراية، لو افترضنا صحة هذه الزيادة، فهي لا تعدو أن تكون توجيهاً نبوياً للمسلم بالسمع والطاعة للإمام إذا تولى ذلك بعدل، كما ذكر ذلك ابن حزم. وبدون هذا التخريج، وبالفهم الأعوج للحديث، سنجد الحديث يتعارض مع نصوص القرآن والسنة التي أمرت بالدفاع عن النفس والمال ومنها الحديث المتفق عليه: ( من قتل دون ماله فهو شهيد)، فلنفهم أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم في ضوء الخريطة المفاهيمية للشريعة، وإلا سنضرب بعض الشريعة ببعض.

– وللأسف الشديد، وجدت من بعض تلاميذ الشيخ مقبل رحمه الله من يدندن حول هذا الحديث دهراً طويلاً، ويتجاهل تضعيف الش- وللأسف الشديد، وجدت من بعض تلاميذ الشيخ مقبل رحمه الله من يدندن حول هذا الحديث دهراً طويلاً، ويتجاهل تضعيف الشيخ مقبل لهذه الزيادة من وقت مبكر، إذ هي من المسائل التي قررها في أطروحته للماجستير، ضمن تحقيقه لكتاب الدارقطني المذكور آنفاً.يخ مقبل لهذه الزيادة من وقت مبكر، إذ هي من المسائل التي قررها في أطروحته للماجستير، ضمن تحقيقه لكتاب الدارقطني المذكور آنفاً.

الآثار 3 مشكل الآثار: قراءة علمية في الأحاديث المشكلة

5. هل كل السنة التي بين أيدينا وحي ؟ هل ينزل الوحي على النبي صلوات ربي وسلامه عليه في كل لحظات حياته وبالتالي كل ما ينطقه النبي هو وحي أم هناك تفريق بين الوحي وبين حياته البشرية ؟! هل تدخل اقراراته لأفعال الصحابة في الوحي ولو لم ينزل بها حكم من الله.. أم تعتبر نصائح وارشادات من النبي مبنية في جزء منها على الدين وجزء منها على بيئة ذاك الزمن؟

– هذه الأسئلة تنبعث من قصور في فهم دور النبي صلى الله عليه وسلم، وعلاقته بالوحي، فالنبي له دور رئيس وهو تبليغ وحي السماء إلى الأرض.  والوحي له صورتان: (القرآن والسنة)، ثم تمثله في حياته الشخصية ليكون التطبيق الأمثل للوحي، وكل ذلك تحت عناية العصمة الإلهية له، وهي عصمة تقتضي ألا يزيد حرفًا من وحي الله ولا ينقص حرفًا، كما أنها عصمة تقتضي أن تصوّب تطبيقه للوحي إذا أخطأ، ومن هنا ندرك حيوية دور العصمة في حماية التبليغ والتطبيق.

– هذه الأسئلة تنبعث من قصور في فهم دور النبي صلى الله عليه وسلم، وعلاقته بالوحي، فالنبي له دور رئيس وهو تبليغ وحي السماء إلى الأرض.  والوحي له صورتان: (القرآن والسنة)، ثم تمثله في حياته الشخصية ليكون التطبيق الأمثل للوحي، وكل ذلك تحت عناية العصمة الإلهية له، وهي عصمة تقتضي ألا يزيد حرفًا من وحي الله ولا ينقص حرفًا، كما أنها عصمة تقتضي أن تصوّب تطبيقه للوحي إذا أخطأ، ومن هنا ندرك حيوية دور العصمة في حماية التبليغ والتطبيق.

– وتعريف أهل الحديث للسنة النبوية بأنه ما صدر عن النبي صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير، فالقول وحي بالبلاغ، والفعل وحي بالإقرار الإلهي، وتقرير النبي لعمل الصحابة إقرار إلهي كذلك، وكل تلك الأفعال الثلاثة خاضعة لهيمنة العصمة الإلهية لنبيه. ولتقريب الصورة، دعنا نفترض أن أحد الصحابة قبل امرأة أجنبية فرآه النبي ولم ينهه عن فعلته، لكان تشريعاً بجواز تقبيل النسوة الأجانب؛ لأن إقرار النبي لفعل الصحابي خاضع لرقابة الوحي واقع تحت هيمنة العصمة. وأوضح من ذلك عمله، فلو صلى الظهر ثلاث ركعات في السفر، ولم ينهه الوحي، لكان ذلك تشريعاً للأمة، وأوضح منهما (أي من الإقرار والفعل النبوي) القول، فلو نهى عن أكل الشعير، لصار حراماً، لأن قوله مسيج بهيمنة الوحي، فخلص الصحابة والعلماء إلى أن حركته وحي، ثم انطلقوا بعد ذلك لبيان درجة الإلزام فيها، فاستنتجوا التالي:

– ما صدر عنه بأمر لم تصرفه قرينة دل على الوجوب، وما صدر عنه من نهي لم تصرفه قرينة دل على التحريم، وأما تقريره وأفعاله فتدل ابتداء على الاستحباب أو الجواز في الحد الأدنى، وللعلماء في ذلك تفاصيل وتقعيدات، من أحدثها ما كتبه العلامة محمد الأشقر في أطروحته ( أفعال الرسول ودلالتها على الأحكام).

– فإذا ما تبين لك مدخل المعصومية للحركة النبوية، وأثرها المترتب من وجوب وندب وإباحة ونهي، فقد استقامت لك طريق التعامل مع الهدي النبوي. ولك أن تفهم ذلك في ضوء نصوص القرآن التي أكدت معصوميته صلى الله عليه وسلم، ومنها قوله تعالى : (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ ۖ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ ۚ وَاللَّـهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) المائدة:67. وقوله تعالى: (وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّـهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ أَن يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ ۖ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَيْءٍ ۚ وَأَنزَلَ اللَّـهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ ۚ وَكَانَ فَضْلُ اللَّـهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا) النساء:113. وقوله تعالى: (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ ﴿٤٤﴾ لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ﴿٤٥﴾ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ) الحاقة: 44-46. وقوله تعالى: (وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَىٰ ﴿١﴾ مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَىٰ ﴿٢﴾ وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ ﴿٣﴾ إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ) النجم:1-4.

– وأما أفعال الرسول الغريزية والطبيعية، من مثل أنه كان يأكل أو يشرب أو ينام، فلم ينقل لنا الصحابة منها إلا ما يتعلق بأحكام أو فضائل تلك العادات، من مثل البسملة والأكل باليمين، والنوم على جنبه الأيمن ونحوها.

– ولك أن تتأمل أن حجم السنة النبوية التي نُقلت إلينا لا تتجاوز 4000 حديث صحّت عن النبي بعد حذف المكرر، ذكر ذلك الحافظ الذهبي، وقد اجتهد العلامة صالح الشامي بجمعها في كتابه (معالم السنة النبوية) وبلغت (3,921) حديثاً. وهي محاولة مباركة لا تغني عن المدونات الحديثية، ولكنها تقرب هذا المعنى الذي ألمحنا إليه، فلو كانت كل حركات النبي الطبيعية وكل كلامه الطبيعي محل تسجيل عند الصحابة لبلغت الأحاديث عشرات الآلاف، ولكن الصحابة استووا على قاعدة التمييز التي ذكرناها، وحين سُئلت عائشة عن خلق النبي، اختصرت لنا المسافة فقالت: (كان خلقه القرآن).

– ولا تنسى أن بعثة محمد صلى الله عليه وسلم، وحركة التاريخ التي جرت في عهده جرت بتقدير إلهي، وبتدبير علوي، وبرعاية ربانية، حفظت لنا الوحي قرآنه وسنته، وسيبقى الوحي (قرآناً وسنة) محفوظاً حتى تطوى البسيطة، وقد انتبه الإمام ابن حزم إلى محفوظية السنة، وبين أنها من مقتضيات حفظ الكتاب، لأنها البيان له، وبدون البيان يسقط من الدين ما يستلزم بعث نبي جديد، ولا نبي بعد محمد صلى الله عليه وسلم.

– وأما إرشادات النبي لأصحابه فقد كانوا يميزونها، كما ميزت بريرة شفاعة النبي لزوجها القديم فقالت له يا رسول الله (تَأْمُرُنِي؟ قالَ: إنَّما أنَا أشْفَعُ، قالَتْ: لا حَاجَةَ لي فِيهِ). وهذا حقل صالت فيه عقول الفقهاء، وحشدوا من القرائن ما رجح وجهات نظرهم المختلفة، فدور الفقيه ألا يفتئت على كلام النبي، وإنما يفهمه في ضوء شبكة المفاهيم الدينية التي رسخها القرآن والسنة، والأمثلة لهذا كثيرة من القرآن والسنة، ومنها قوله تعالى : (وإِنْ كُنْتُمْ عَلى‏ سَفَرٍ ولَمْ تَجِدُوا كاتِباً فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ) البقرة:283.  فإنَّ‏ الإجماع حاصل على عدم وجوب الرهن ولا الكتابة في الدين، فإنّ الآية الكريمة المراد منها الإرشاد إلى حفظ المال. ومثل هذا في السنة وافر، ولكن أهل العلم لا يتعاملون مع النصوص بالهوى والاعتباط، وإنما وفق منهجية أصولية وفقهية وحديثية صارمة.

001 01 1 مشكل الآثار: قراءة علمية في الأحاديث المشكلة

6. بني علم التجريح على أساس أن الصحابي عدل وقد خاض بعض الصحابة في معارك الفتنة فهل تم استبعاد الأحاديث التي تصب لصالح أي طرف من الفتنة إذا رويت ممن له صلة بالفتنة أم اعتبروا معصومين؟!

– علينا أن نميز أولاً ما بين العدالة والعصمة، فالعدالة صفة تمنع صاحبها من الكذب على رسول الله صلى الله عليه سلم، والعصمة صفة تمنع صاحبها من اقتراف الأخطاء صغيرها وكبيرها، وهذه لم تحدث لأحد قط، حتى للأنبياء، فمدار عصمتهم هو إتيان شيء يخل بالبلاغ، وأما الأداء فهم محفوظين بالتوجيه والتسديد والتصويب الإلهي حال اعتراهم النسيان أو الخطأ. وما يهمنا أن الصحابة كلهم عدول لأنهم كانوا يعتبرون الكذب على الرسول بمثابة الكفر، لأن حديثه تشريع، ولأن الله زكاهم من فوق سبع سماوات وكذلك النبي صلى الله عليه وسلم.

– وقد حاولت بعض الفرق الإسلامية كالخوارج والشيعة والزيدية وغيرهم، أن يجرحوا في الصحابة الذين اقترفوا الأخطاء اجتهاداً أو عمداً، كما في حوادث الفتن وغيرها من الأخطاء الشخصية، ومرد ذلك لرؤية مثالية تتجاوز الطبيعة الإنسانية، فإذا كانت العصمة المطلقة لم ينلها الأنبياء، فكيف بالصحابة، وإذا اعتمدنا رؤية الفرق هذه في موضوع العدالة، فكيف سنتعامل مع بقية الرواة من بعد جيل الصحابة، وفيهم من اعترته الأخطاء كبشر؟!

– ومن أجمل الردود المنطقية على هذه الشبهة، ما قام به الإمام ابن الوزير في العواصم والقواصم وهو يرد على الزيدية طعنهم في معاوية بن أبي سفيان، فقد قام بجرد كل الأحاديث التي رواها معاوية بن أبي سفيان، فوجدها قد بلغت 60 حديثاً، ثم حللها كلها، فلم يجد حديثاً واحداً يوجب التهمة والريب في معاوية، فهي إما أحاديث في الحلال والحرام شاركه فيها غيره أو أحاديث فضائل رويت عن غيره، ومنها حديث في فضل  الحسن بن علي بن أي طالب الذي أخرجه أحمد في مسنده عن معاوية قال: ( رأيتُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَمُصُّ لسانَه، أو قال: شفته -يعني الحسن بن علي- صلوات الله عليه، وإنه لن يُعَذَّبَ لسانٌ أو شفتان مصَّهما رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم).فثبت لنا قطعاً أن معاوية لم يكذب على النبي صلى الله عليه وسلم حديثاً واحداً، ولو أسقطنا كل أحاديث معاوية فلن نخسرها لأنها رويت عن غيره من الصحابة.

– ومن أوضح الأمثلة التي لفتت انتباهي، ما أخرجه أهل السنن عن بسر بن أرطأة، وهو أحد قادة معاوية في الفتنة، وتنسب إليه فضائع أغلبها لا يصح، وقد اختلفوا في صحبته، وقال عنه الدَّارَقُطْنِيّ: بسر بن أرطاة، له صحبة، ولم يكن له استقامة بعد النبي – صلى الله عليه وسلم ، وقال عنه الذهبي: روي له (عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَدِيْثُ: “لاَ تقطع الأيدي في الغزو”. وحديث: “اللَّهُمَّ أَحْسِنْ عَاقِبَتَنَا” )، ولكن جمهور أهل العلم أخذوا بحديثه الذي رواه أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي عن جنادة بن أبي أمية قال: (كنا مع بسر بن أبي أرطأة في البحر، فأتي بسارق -يقال له: مصدر- قد سرق بختية، فقال: لولا أني سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – نهى عن القطع في الغزو لقطعتك)صححه الألباني. فانظر كيف تعامل أهل السنة مع هذا الرجل، حيث قبلوا حديثه، وعملوا به، من جهتي الرواية، ومن جهتي الدراية حيث عللوا إيقاف الحد سداً لذريعة الفتنة في الجيش لصاحبها أو لعشيرته.

– فهذا الجرد الرياضي المنطقي لأحاديث شخصيتين شاركتا في الفتنة، أثبت لنا أن أحاديثهما لم تخرج عن دائرة العدالة، وليس فيهما نفَس سياسي مخترع، ولا حديث اختلقوه يخدم أهواءهم ومصالحهم، فبان لكل ذي لُبٍّ أن نظرية أهل السنة والجماعة في عدالة الصحابة، أحكم وأسلم وأعدل، ممن تخبطوا في الأهواء.

– ومن أكثر الصحابة الذين شغبوا على عدالته، حافظ السنة أبو هريرة رضي الله عنه، وبالتتبع الرياضي فإن عدد الأحاديث التي رواها بعد حذف المكرر تبلغ ( 1475  ) حديثاً، تفرد منها برواية ( 111) حديثاً لم يشاركه فيها أحد من الصحابة، ولو فحصنا الأحاديث التي تفرد في روايتها، لوجدناها كلها تدور حول الفضائل، والنتيجة: أن أبا هريرة لو قرر – وحاشاه- أن يكذب على النبي ﷺ ، أو أن يخفي شيئاً، فلن يستطيع لأن 93% من مروياته قد شاركه فيها غيره من الصحابة، وما تفرد فيه لا يخرج عن الفضائل، ولم يستقل برواية شريعة مُلزمة. فتأمل ذلك لتدرك عمق وسلامة نظرية أهل السنة في عدالة الصحابة رضوان الله عليهم.

– وتفريق أهل السنة لمسألتي عدالة الصحابي عن عصمته اتساق مع المنظور النبوي للصحابة، فقد جيء له بصحابي قد شرب الخمر، فجلده ( فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ القَوْمِ: اللَّهُمَّ العنْه، ما أكْثَرَ ما يُؤْتَى بهِ؟ فَقَالَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: لا تَلْعَنُوهُ، فَوَاللَّهِ ما عَلِمْتُ إنَّه يُحِبُّ اللَّهَ ورَسولَهُ)صحيح البخاري. فالمنظور النبوي لم يسقط فضائل الرجل لأنه ضعف أمام شهوة الخمر، وهكذا هي الطبيعة البشرية يمتزج فيها الضعف والقوة، والخطأ والصواب، ولذلك تابع أهل السنة المنظور النبوي، وعملوا بتزكية الله ورسوله لذلك الجيل الفريد، فحملوهم على العدالة، ونفوا عنهم العصمة.

– ولك أن تتأمل تطبيق الفرق الأخرى لنظريتها، فهل بقيت لها سنة؟! فهل لدى الزيدية سنة أو مدونة حديثية يمكن الاعتماد عليها في نقل سنة النبي؟ وهل استطاعوا أن يطبقوا نظريتهم في عدالة الصحابة؟ وما ثم إلا مسند “زيد بن علي” لديهم وهو كتاب لفّقه كذاب في العراق اسمه (عمرو بن خالد الواسطي) على لسان زيد بن علي، ولا تصح نسبته لزيد.  فلجأ فقهاء المذهب الزيدي للاعتماد على مدونات أهل السنة وبعضهم أخذ منها دونما إشارة للمصدر، زاعماً أنه يغرف من مرويات آل البيت! وقد بين ذلك ابن الوزير وتتبع تلك الغرائب العلمية عند القوم.

– كذلك الشيعة الذين تحفل كتبهم الحديثية بخرافات صنعت لنا ديناً لا علاقة له بدين الإسلام! ولك أن تتأمل في رواة الشيعة: كشيطان الطاق الزنديق، وزرارة بن أعين، الذي تعتمد عليه الكتب الشيعية في نقل مرويات جعفر الصادق، ولك أن تتأمل كتاب (الكافي للكليني) وهو أصح كتاب عند الشيعة، ويعتبرونه بمثابة صحيح البخاري عندهم، وقد أسقط منه المجلسي ثلث الكتاب، ثم جاء المحقق البهبودي المعاصر، فقام بتصحيح مرويات الكتاب وهي ( 11693) حديثاً، فلم يصح منها إلا ( 3328) حديثاً، أي ما نسبته (21%) من كتاب الكافي للكليني! وكتاب الكافي هذا يشتمل على روايات هي كفر بإجماع أهل القبلة، منها روايات تحريف القرآن الكريم.

– تأمل في ذلك، ثم ارجع البصر كرتين هل ترى من فطور فيما شيده البخاري رحمه الله في صحيحه؟ وقف أمام القواعد التي أسسها أهل السنة وحفظت لنا الشريعة، وستخرج بنتيجة مفادها: أن النظريات التي طرحها أهل الأهواء من الزيدية والخوارج والشيعة، لم تبرح دائرة التشويش اللامنهجي على منهج أهل السنة، وهو تشويش لم نر له أي أثر علمي ولا تطبيق منهجي، وما ثم إلا الاعتراض الأجوف.

يا ناطح الجبل الاشم بقرنه

رفقا بقرنك لا رفقا على الجبل.

الآثار 4 مشكل الآثار: قراءة علمية في الأحاديث المشكلة

7. ألم يكن الصحابة يتدخلون في حديث النبي صلى الله عليه وسلم، بل ويمتنعون عن كتابة بعض أحاديثه كما في البخاري من منع عمر كتابة وصية النبي؟

– الحديث أخرجه البخاري وغيره، ونصه عن ابن عباس أنه قال: (يَوْمُ الخَمِيسِ وما يَوْمُ الخَمِيسِ، ثُمَّ بَكى حتّى، بَلَّ دَمْعُهُ الحَصى، قُلتُ يا أبا عَبّاسٍ: ما يَوْمُ الخَمِيسِ؟ قالَ: اشْتَدَّ برَسولِ اللَّهِ ﷺ وجَعُهُ، فَقالَ: ائْتُونِي بكَتِفٍ أكْتُبْ لَكُمْ كِتابًا لا تَضِلُّوا بَعْدَهُ أبَدًا، فَتَنازَعُوا، ولا يَنْبَغِي عِنْدَ نَبِيٍّ تَنازُعٌ، فَقالوا: ما له أهَجَرَ اسْتَفْهِمُوهُ؟ فَقالَ: ذَرُونِي، فالَّذِي أنا فيه خَيْرٌ ممّا تَدْعُونَنِي إلَيْهِ، فأمَرَهُمْ بثَلاثٍ، قالَ: أخْرِجُوا المُشْرِكِينَ مِن جَزِيرَةِ العَرَبِ، وأَجِيزُوا الوَفْدَ بنَحْوِ ما كُنْتُ أُجِيزُهُمْ والثّالِثَةُ خَيْرٌ، إمّا أنْ سَكَتَ عَنْها، وإمّا أنْ قالَها فَنَسِيتُها).

– هذا الحديث مما أطنب فيه الشيعة ونسجوا حوله الكثير من الخيالات، وزعموا أن الوصية التي أراد النبي أن يكتبها هي وصيته بالخلافة لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه، ولكن عمر ونفراً من الصحابة منعوا النبي من كتابة الوصية بخلافة علي! وغيرها من الخرافات. وخلاصة القصة أن النبي عندما اشتد به المرض دعا بكتاب ليكتب لهم بعض الوصايا في القضايا التي وردت في الحديث، فاختلفوا حول ذلك، فمنهم من أشفق على النبي من مرضه وكره أن يثقل عليه، ثم آل الأمر إلى أن أوصاهم بثلاث وصايا وردت في الحديث.  وقد فند أهل العلم شبهات الشيعة  بعشرات الوجوه، ونكتفي هنا بطرح أسئلة منطقية وعقلية لمن كان له عقل:

– أولاً: ألم يأتنا في كتاب الله أن الدين اكتمل فقال تعالى: ( اليوم أكملت لكم دينكم) فهل يمنع عمر -أو غيره من الصحابة – من اكتمال الدين، ويحجر على النبي البلاغ المبين؟ هذا لا يقوله إلا من سفه نفسه، خاصة إذا استحضرنا عصمة الله لنبيه في البلاغ، قال تعالى: ( والله يعصمك من الناس)، فلا يستطيع أحد أن يمنع النبي من بلاغ الرسالة كما أرادها الله، ولا أن يسقط منها حرفاً واحداً.

– ثانياً: ألم يزعم الشيعة أن الوصية بإمامة علي بن أبي طالب كانت في “غدير خم” بحضور الآلاف من الصحابة، فما الداعي لكتابة الوصية إذاً، وإذا فرضنا وقوف عمر ومن معه حاجزاً أمام كتابة الوصية المزعومة، ألم يكن بوسع آلاف الصحابة أن يذكروا وصية غدير خم؟!

– وأما حقيقة ما أراده النبي صلى الله عليه وسلم فقد بينه النبي صلى الله وهي حزمة من الوصايا المتعلقة بترتيب الوضع السياسي للجزيرة العربية.

– ونحن نتفهم انزعاج ابن عباس وهو بحر العلم الحريص على كل حرف يخرج من فم النبي صلى الله عليه وسلم، وقد عبر عن أسفه لذلك، ولكن اجتهاد غيره من الصحابة كان في موضعه، إذ لاحظوا مرض النبي، فكرهوا أن يثقلوا عليه في مرضه، فالدين واضح وسيرته حاضرة وكتاب الله يوجه المسيرة.

8. ما هي الشروط التي وضعها علماء الحديث لاعتبار حديث ما صحيحًا؟ وهل هذه الشروط تبعث على الثقة الكاملة بكونه ثابتا عن رسول الله؟

وضع العلماء أربعة شروط لقبول حديث المحدث وهي : اثنين متعلقة بالراوي، واثنين متعلقة بالمتن:

8.1. أما يتعلق بالراوي فهي العدالة، وهي صفة ظاهرة تحجب صاحبها عن الكذب وتجنب ما يخرم المروءة.

8.2. والثانية الضبط: ولنا مع الضبط وقفة، وهي ألا يعرف ضبط الراوي إلا من خلال استقراء حديثه، فإذا وجد النقاد حديث الرجل يتوافق مع الأحاديث الصحيحة عندهم بنسبة غالبة على حديثه فهو ثقة، وإن اختلط حديثه بشيء من الأحاديث الضعيفة فهو صدوق وهي رتبة أدنى من رتبة الثقة، وإذا تفرد صاحبها بحديث فهو حسن، أما إذا اختلطت أحاديثه بمناكير وضعيف، فإنهم يتركونه. وهذا الشرط، لا يمكن تطبيقه إلا من قبل النقاد الذين استوعبوا الصحيح، ثم قاموا بإجراء مسح شامل لحديث الرجل. ولك أن تتأمل قصة ابن أبي حاتم الرازي مع أبيه، فقد كان يسأله عن الراوي فيقول أبو حاتم لا أعرفه، ما حديثه؟ فيسرد عليه الابن حديث الراوي، فيقول الأب: هذا ثقة. لأن أحاديثه كلها صحاح. ويسرد عليه أحاديث آخر فيقول الأب: هذا ضعيف. لكثرة الضعاف في حديثه. 

8.3. ومعيار الضبط معيار دقيق وخطير، فهو يقيس الراوي من خلال منتجاته، وهنا لن يصل الراوي إلى درجة الموثوقية مالم يتفنن في انتقاء أحاديثه، وغربلتها، فلا يروي إلا الصحاح، وإن تورط في أحاديث يسيرة انتقدوها عليه، ثم أجازوه.

8.4. وكنت أتعجب من الهيبة التي في نفوس المحدثين للإمام مالك، وأقصد المحدثين الذين برزوا بعد موته كالإمام أحمد، حتى عرفت أنهم يصفون مالك بالتنقية الشديدة، فقد أخرج في كتابه الموطأ قرابة 4000 ألف حديث في أول الأمر، ولا يزال يصفي أحاديثه وينتقي منها حتى وصل الموطأ إلى 800 حديث هي جملة ما روى مالك في كتابه، ولذلك قال عنه المحدثون: كان مالك شديد الانتقاء. ومن هنا صار مالكاً كالنجم، وأُعطيت له ريادة السلسلة الذهبية: مالك عن نافع عن ابن عمر.

8.5. ولك أن تتأمل أخي المبارك، صعوبة وخطورة هذا الشرط، فإنه لا يعبر هذه القنطرة، إلا من كان عالماً بالحديث، يميز صحيحه عن ضعيفة، ويروي من أصح ما يجد في كتبه.

8.6. وهنا تثور أسئلة المشاغبين، كيف للبخاري وغيره أن يرووا عن أهل البدع كالخوارج والنواصب ومن فيه تشيع خفيف، فيرد علينا أهل الصنعة، بأن الرواة الذين تم توثيقهم قد عبروا قنطرة الضبط، فصاروا أهلاً لأن يقبل حديثهم. ومن أطرف القصص ما ذكره الذهبي في السير عن الإمام عبد الرزاق الصنعاني الشيعي، فهو من أصحاب التشيع الخفيف الذين يفضلون علياً، ولا يتورط في لعن الصحابة، ويترضى على الشيخين، فقد عاتب أناس يحيى بن معين، وقالوا له: كيف تروي عن الشيعي عبد الرزاق، فقال لهم: لو ارتد عبد الرزاق عن الإسلام ما تركنا حديثه. وتفسير كلام ابن معين، يعود لقوة الضبط الذي تحلى به الإمام عبد الرزاق، وتنقيته لحديثه. في حين ضعّف المحدثون الإمام الأعظم أبي حنيفة، وهو الصادق المصدق، غير أن ضبطه لحديثه كان ضعيفاً، فأهملوا حديثه.

8.7. أما الشرط الثالث وهو خلو الحديث من علة، والعلة لا توجد إلا في أحاديث الثقات في الأعم الأغلب، لأن أحاديث غيرهم من الضعاف لا يهتم بعللها لظاهر الضعف. وهنا تصفية ثالثة، لا يكاد يعبر منها حديث إلا بعد تدقيق شديد، وميدان العلل حكر على جهابذة الحفاظ، أمثال علي بن المديني “شيخ البخاري” الملقب ب(حية الوادي)، لشدة براعته في استخراج العلل، وعنه قال البخاري: ما تصاغرت أمام أحد مثل ابن المديني. ومن جهابذة العلل البخاري، وكتابه التاريخ الكبير مجموعة معادلات رياضية عالية التعقيد والتفنن، وقد انطوى على تعليل واسع للكثير من الأحاديث،  بل كتابه الصحيح، ينطوي على إشارات ذكية للعلل الموجودة في الأحاديث الموجودة خارج الصحيح، وهي إشارات  لا يعرفها إلا الصيارفة الكبار من أهل الصنعة.

8.8. وإليكم نموذجاً حديث أبي هارون العبدي عن أبي سعيد الخدري: (مرحباً بوصية رسول الله)، وهو حديث أخرجه الحاكم في المستدرك وصححه الألباني في حين أعلّه الإمام أحمد بن حنبل وقال: ( ما خلق اللَّه من ذا شيئًا، هذا حديث أبي هارون عن أبي سعيد) وأعله الترمذي بقوله: ( هذا حديث لا نعرفه إلا من حديث أبي هارون، عن أبي سعيد) وأبو هارون متروك الحديث. (ثم لا يلبث أن يظهر لهذا الحديث إسناد آخر في منتصف المئة الرابعة من طريق سعيد بن سليمان، عن عباد بن العوام، عن سعيد بن إياس الجريري، عن أبي نضرة العبدي، عن أبي سعيد، عند الرامهرمزي “ت 405هـ”، و”فوائد” تمام الرازي الدمشقي “ت 414هت” ومن معاصرهم، ويقول الحاكم بعد أن يسوقه من هذا الوجه: “هذا حديث صحيح ثابت لاتفاق الشيخين على الاحتجاج بسعيد ابن سليمان وعباد بن العوام بن الجريري، ثم احتجاج مسلم بحديث أبي نضرة فقد عددت له في المسند الصحيح أحد عشر أصلاً للجريري)  وهنا يحتار الألباني ثم يتابع الحاكم في التصحيح، لأن السند متصل برجال ثقاة! ويتجاهل تعليل الأوائل له كأحمد والترمذي ، وهذه من عيوب منهج الألباني أنه يتجاوز تعليل الحفاظ، وقد انتقده الشيخ مقبل الوادعي في ذلك، وقال: سيتجرأ الناس عليه بعد موته. ( وقد غفل الشيخ العلامة – غفر الله له– عن علة هذا الحديث الحقيقية وهي اختلاط الجريري، إذ كان الجريري قد اختلط قبل موته بثلاث سنين).فقام الجريري ورواه عن أبي نضرة العبدي، والحقيقة أنه من رواية أبي هارون العبدي، وكلاهما بصريان وكلاهما عبدي[1] . فلم يفطن لهذه العلة إلا كبار الحفاظ المحققين، أمثال الإمام أحمد والترمذي، ولذلك لم يرد الحديث في الكتب الأصلية مصححاً، لإدراك كبار النقاد لعلته فأعرضوا عنه. وقصة هذه الحديث مبسوطة في بحث للعلامة بشار عواد معروف.

8.9. ومن أطرف القصص قصة الإمام مسلم مع شيخه البخاري، حيث كشف البخاري لمسلم علة حديث ظاهره الصحة، فقام مسلم وقبل رأس البخاري وقال له: («دَعْنِي حَتَّى أُقَبِّلَ رِجْلَيْكَ يَا أُسْتَاذَ الْأُسْتَاذِينَ، وَسَيِّدَ الْمُحَدِّثِينَ، وَطَبِيبَ الْحَدِيثِ فِي عِلَلِهِ». وهي قصة مشهورة تغني عن ذكرها.

8.10. فإذا ما جاوزنا الحديث عن الشرط الثالث، بقي لدينا الشرط الرابع وهو خلو الحديث من الشذوذ، وهو رواية الثقة لما يخالف غيره من الثقات، وهنا يردون الحديث.

8.11. مثال الشاذ: ما روِي ابن ماجه في سننه؛ قال: حدثنا عثمان بن أبي شيبة، قال حدثنا معاوية بن هشام: حدثنا سفيان عن أسامة بن زيد عن عثمان بن عمرو عن عروة عن عائشة، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله وملائكته يصلون على ميامن الصفوف…). فإسناده رجاله ثقات، وظاهره الصحة، لكن أخطأ في متنه أسامة بن زيد، فرواه بلفظ: “… على ميامن الصفوف”، بينما خالفه جماعة الثقات، فرووه بلفظ: “… على الذين يصلون الصفوف”.

8.12. وفي حديث أبي هريرة في الصحيح قال صلى الله عليه وسلم: (لا تقدموا رمضان بصيام يوم أو يومين إلا أن يكون عادة)، وهناك حديث آخر في السنن يقول: (إذا انتصف شعبان فلا تصوموا).فحديث السنن شاذ؛ لأنه خالف ما هو أرجح، وهو حديث البخاري، فتقدم حديث البخاري؛ لأن ما في البخاري أرجح، وقد خالف الثقة من هو أوثق، فتقدم الأوثق. ولذلك قال الإمام أحمد بن حنبل: إن حديث (إذا انتصف شعبان فلا تصوموا) حديث شاذ. يعني: ضعيف.

8.12 وأما الشرط الرابع لقبول الحديث فهو الاتصال، أي اتصال السند من أوله إلى منتهاه ، بحيث يكون كل راوٍ قد سمع الحديث ممن فوقه .

old books with white background copy space مشكل الآثار: قراءة علمية في الأحاديث المشكلة

9. الحكم بالعدالة والضبط على رواة الحديث خاضعة لحكم علماء الجرح والتعديل. فهل أحكام علماء الجرح والتعديل ملزمة للأمة؟ وهل يسري عليها ما يسري على الفتاوى الفقهية من حيث إلزامية الإجماع على تجريح راو وتعديله واتباع العامي للفقيه المجتهد وغيره؟

في حكمنا على علماء الجرح والتعديل نحتاج أن نميز بين شيئين: المنهج، والأحكام.

9.1. المنهج:

فأما المنهج الذي اختطوه وساروا عليه، فهو منهج عقلي وعلمي صارم وعادل، تقبله نظرية المعرفة، ويسلم له كل عاقل، ويفتخر به كل باحث عن الحقيقة مسلماً كان أو غير مسلم. ودعونا نضرب مثلاً لذلك المنهج: اشتراط الاتصال في السند، ورفض الأحاديث المرسلة والمنقطعة والمعضلة، أليس شرطاً عقلياً وعلمياً يقبل به أي عاقل في الدنيا؟! أليس الاتصال أوثق بألف مرة من الإرسال، بل لا مقارنة. فمن هذا الذي يريد أن يجاحد هذا الشرط في تصحيح الحديث، مسلماً كان أو غير مسلم، فإذا ما توفر للشخص شيء من العلم وقليل من المنطق العلمي، فسيقول: إن شرط الاتصال معيار عقلي ومنطقي وسليم.

وخذ شرطاً من شروطهم العقلية، لا يقبل حديث المبتدع، إذا كان في الحديث نصرة لمذهبه، وهذا شرط عقلي وعلمي مجرد، فإن النفوس البشرية تميل لنصرة قناعاتها، ولذلك أبطل الشارع شهادة من له مصلحة في الشهادة، كشهادة القريب لقريبه، أو شهادة الرجل لنفسه، لأن ذلك مظنة التحيز. ولو سبرنا شروط منهج المحدثين، فإننا سنكتشف أنها تنقسم إلى قسمين، شروط محل اتفاقهم وإجماعهم، بل ومحل إجماع العقلاء من البشر، وهذه تكون محل تسليم أي عاقل، وجحدها انتحار عقلي، ونسف للمعرفة الإنسانية. وهذه لا اجتهاد في ردها، وما على كل عاقل إلا التسليم بها، وشروط ثانوية يغلب على الظن صوابها، ودورها ثانوي.

9.2. التطبيق:

 أما التطبيق لذلك المنهج العقلي المنطقي العلمي الصارم، فله وجهين: ما أجمعوا عليه أو ذهب إليه أغلبهم، فهذا ملزم لكل ذي عقل، من مثل إطباقهم على تجريح راو معين، فلا يسع أحد جاء بعدهم أن يعدل الراوي ويقبل حديثه، فإن إطباقهم على جرحه، وتفسيرهم لذلك الجرح، يجعل كلام من بعدهم لا قيمة علمية له. وهذا من العلم المقطوع الذي يجاوز الاجتهاد، ويخرج من دائرة الرد، فإن جحد إجماعهم في تطبيق المنهج، جحد للمعرفة، وإنكار للحقيقة.  ومن الأمثلة على ذلك كسند الإمام زيد الذي تفرد به عمرو بن خالد الواسطي: (غير أن أهل الجرح والتعديل قد أطبقوا على ترك حديثه، فقد قال وكيع:( كَانَ عَمْرو بْن خالد فِي جوارنا يضع الحديث فلما فطن به تحول إِلَى واسط. وقال يحيى بن معين: عَمْرو بْن خالد كوفي كذاب غير ثقة. وقال الإمام أحمد: عَمْرو بْن خالد الواسطي كذاب. وقال ابن عدي:(عامة ما يرويه موضوعات) . وقال الأثرم عن أحمد:( كذاب يروي عن زيد بن علي عن آبائه أحاديث موضوعة يكذب. وَقَال إسحاق بْن راهويه، وأبو زُرْعَة: كَانَ يضع الحديث. وقال أبو داوود: كذاب، ليس بشيء. وقال النسائي: ليس بثقة ولا يكتب حديثه) ،  وقال البخاري: (منكر الحديث. وقال الدارقطني متروك). وقال الحاكم:(يروي عن زيد بن علي الموضوعات)  . وهذه طائفة من أحكام أهل الحديث الذين تطابقت كلمتهم على ترك حديث الرجل، وختمناها بما ذكره الحاكم من أن عمرو خالد يروي عن زيد الموضوعات، ولذلك لا يستبعد أن يكون واضع المسند المزعوم على لسان زيد، ولذكائه دبج المسند بمجموعة من الأحاديث الصحيحة، حتى تروج بضاعته. وقد حاولت الزيدية الدفاع عنه، وآخرهم مجد الدين المؤيدي، ولكنه كما قال الشيخ مقبل الوادعي: المذهب الزيدي مبني على الهُيام.

والنتيجة:

ما اتفقوا عليه في المنهج والتطبيق، فهو ملزم لنا ولكل عاقل يحترم قواعد المنطق العقلي والعلمي، وما اختلفوا فيه فهو محل اجتهاد الفحول من أهل التخصص والبراعة.

10. افتراض وقوع التوهم أو النسيان في رواية الحديث أثناء انتقاله من رجل لرجل في سند الحديث.. هل هذا الافتراض قادح في صحة الحديث المصحح عند علماء الحديث؟

الوهم خلل في ضبط الراوي للأخبار، وقد يقع في المتن أو السند، وللعلماء عناية ودراية بهذا النوع من الأحاديث، ولذلك يحكمون على المتن بالشذوذ بسبب وهم الراوي، والأمثلة على ذلك عديدة منها ما أخرجه أبو داود في سننه: (أنَّ امرأةً حذفتِ امرأةً فأسقطتْ فرُفِعَ ذلك إلى رسولِ اللهِ ﷺ فجعل في ولدِها خمسَ مائةِ شاةٍ ونهى يومئذٍ عن الحذفِ) قال أبو داود: (كذا الحديث خمسمائة شاة والصواب مائة شاة). ولذلك كان الصحابة يتأكدون ويصحح بعضهم لبعض، وأما من جاء بعدهم، فإن المحدثين اعتمدوا الموافقة من بقية الثقات لنفس النص، فإذا ما خالف أحدهم رموه بالشذوذ. وإذا جاء المتن من طريق واحدة رواها الثقة ولم يشاركه فيه أحد، ومتنه لا يخالف قواطع الدين، ولا مقتضيات العقل، نقلوه وأطلقوا عليه الغريب، مثل حديث (إنما الأعمال بالنيات)، فهي منهجية علمية متماسكة.

11. هل صحة سند ما دليل على صحة المتن؟ وكاف لقبول متن الحديث دون تمحيص؟ وما هي أساليب تمحيص متن الحديث عند علماء الحديث؟

الشرط الثالث والرابع من شروط تصحيح الحديث متعلقة بدرجة كبيرة بالمتن، فلا يعبر متن إلى كتب الصحاح، ولا يصححون متناً إلا بعد فحص المتن، مهما كان الراوي ثقة، ولذلك حكموا بالشذوذ وأعلوا أحاديث سلستها صحيحة، ولكن متونها غير ذلك، ولذلك قال الإمام ابن أبي حاتم: ( ويقاس صحة الحديث بعدالة ناقليه، وأن يكون كلاماً يصلح أن يكون من كلام النبوة). وقال الخليلي : ( وإذا أسند لك الحديث عن الزهري وعن غيره من الأئمة فلا تحكم بصحته بمجرد الإسناد فقد يخطئ الثقة) ومن أمثلة الحكم على المتن، وبراعة علماء الحديث في نقد المتون:

11.1. حديث منكر ( {قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ}؟ قال: بلى، قال: رُبُع القُرآنِ) قال عنه الإمام مسلم: هذا خبر يخالف الثابت المشهور “قل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن”.

11.2. حديث معلول: مثل حديث (صلاةُ اللَّيلِ والنَّهارِ مَثنى مَثنى، والوترُ رَكْعةٌ مِن آخرِ اللَّيلِ) قال الحاكم: “ليس في إسناده إلا ثقة ثبت ، وذكر النهار فيه وهم . فالحاكم حكم على السند بالصحة، وعلى المتن بالوهم، وهي علة قادحة.

11.3. حديث مصحّف، مثل حديث : (أنَّ رسولَ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ احتجمَ في المسجدِ) قال الإمام مسلم: (هذا راوية فاسدة في المتن والإسناد، وإنما الحديث احتجر الرسول في المسجد).

11.4.حديث صحيح متنه ضعيف سنده، مثل حديث : ( نهى رسو الله عن النميمة) صحيح المتن، ضعيف الإسناد. وثمة أنواع أخرى يجمعها الشذوذ أو العلة، فرع عليها المحدثون وردوا الحديث من جهة المتن، أمثال الحديث المقلوب والمضطرب ونحوها، وقد جمع زبدة من كلامهم الدكتور معتز الخطيب في أطروحته(رد الحديث من جهة المتن) فيستفاد منه.

BOOKS مشكل الآثار: قراءة علمية في الأحاديث المشكلة

12. هل مقولة (أحاديث الآحاد ظنية الثبوت) ذات أثر في قبول الحديث واتساع مستوى الشك فيه؟ وإن لم يكن كذلك.. فما الفارق بين مستوى القبول لحديث آحاد والحديث المتواتر؟

الظن المستعمل من قبل علماء الحديث اصطلاحاً ليس بمعنى الظن الشائع، وهو غلبة الشك، وإنما يعنون بالظن درجة أقل رتبة من القطعي المتيقن، وهي بحسبهم الظن الراجح أو ما غلب على الظن، والظن يوجب العمل بمقتضاه اتفاقاً بين العلماء، لأن 99% من معلوماتنا في الحياة التي نسير عليها هي من قبيل هذا الظن العلمي الراجح، وليست من قبيل المتواتر القطعي.

والحديث الآحاد له رتبتان من حيث أرجحية الظن، فمنه ما تلقته الأمة بالقبول، وكثرت شواهده، وتجاوز قنطرة الصحيحين، من مثل ما اتفق عليه الشيخان، وهذا حديث ظني بمعنى أقل رتبة من المتواتر المقطوع سنداً، ولكنه قطعي المعنى لكثرة الشواهد، وتلقّي الأمة له بالقبول، وخلو سلسلته في الغالب من نقد موضوعي. ولهذا يذهب بعضهم إلى إفادته للعلم والعلم، أي أنه بمنزلة القطعي، وهذا رأي ابن الصلاح وابن تيمية وغيرهما. والرتبة الثانية: الظني وروداً، ولكنه صحيح ولم يبلغ رتبة الأول في كثرة شواهده، فيجب العمل به دون العلم.

وللأحناف هنا تقسيم ثلاثي قريب من هذا التقسيم، فهم يقولون: متواتر ومشهور وآحاد، ولهذا التقسيم الثلاثي عندهم تطبيقات عديدة.

قال الشوكاني: (وعلى الجملة، فلم يأتِ من خالف في العمل بخبر الواحد بشيء يصلح للتمسك به، ومن تتبع عمل الصحابة من الخلفاء وغيرهم وعمل التابعين وتابعيهم بأخبار الآحاد، وجد ذلك في غاية الكثرة، بحيث لا يتسع له إلا مصنف بسيط).

والعلم هنا مقصود به تفرده بأصول الدين وقواطع العقائد، وينبني عليه تكفير منكره. وجمهور الفقهاء أنه لا يفيد العلم، لأن الظني لا يرتقي إلى رتبة القطعي في العلم، ولكنه يوازيه في العمل. وينبني على هذا التفريق: تكفير منكر القطعي، وتبديع منكر الظني في العقائد، وتكفير منكر القطعي في العمل، وتفسيق وتبديع منكر الظني في العمل. مع تسليمهم أن الحديث الظني الصحيح يعمل به في فروع العقيدة، وإنما يستثنون أصول الإسلام، لأنها مقررة بمتواتر الوحي.

وخالفهم أهل الحديث كأحمد، وزعم أنه يفيد القطع، وذهب فريق ثالث كابن تيمية إلى التقسيم الثلاثي، وقد علق القرضاوي بقوله: (“والذي أراه بعد البحث والتأمل أن محل النزاع بين الفريقين لم يحرر جيدا، ولو حرر جيدا لوجدنا الطرفين متفقين إلا من كابر وحاد عن الإنصاف، خصوصا بعد أن رجحنا طلب اليقين في أمور العقيدة، وأن حديث الآحاد بغير قرينة لا يفيد اليقين).ومن أمثلة ذلك : حديث شفاعة النبي ﷺ العظمى في المحشر، وأفضليته على بقية الأنبياء والبشر، وتفاصيل اليوم الآخر ونحوها.

13. اختلاف ألفاظ حديث ما في موضع واحد بين راو وآخر.. هل يطعن في صحة الحديث أو ينزله من مرتبة الصحيح إلى الضعيف المشكوك فيه؟ ولماذا لا؟

اختلاف اللفظ له وجهان:

13.1. إما أن يؤدي المعنى بلفظ مرادف، فهذا لا إشكال فيه، وهذا مخرج على جواز رواية الحديث بالمعنى، لمن فقه اللغة. وله صور متعددة ذكرها ابن الأمير الصنعاني في رسالة طريفة، خلاصتها: أن تتعدد الألفاظ والمعنى واحد وهذا لا إشكال فيه، وأن تتعدد المعاني دون أن تتصادم من مثل حديث تربيع التكبير في الآذان، فهذه كلها واردة من عند النبي وجاءت متنوعة للتخيير، ونوع آخر زيادة أو نقص في الرواية لا يلغي المعنى الأول وإنما يضيف عليه، وهذا لا إشكال فيه، لأن زيادة العلم فائدة أدركها بعض الرواة ولم يدركها آخر.

13.2. وإما أن يؤدي إلى تغيير المعنى، وهنا يستخدم فيه علماء الحديث قواعد الحكم على الشذوذ، فيتبعون كلام جماهير الثقات، ويرفضون انفراد الثقة.

14. افتراض عدم جمع كل أخبار النبي وأقواله وأفعاله في دواوين السنة يفتح الباب لافتراض وجود نصوص مفقودة كان يمكن أن تنسخ نصوصًا حديثية مصححة عند علماء الحديث أو تفصل مجملًا أو تستثني حالات من نصوص عامة...ما هي إيضاحاتكم على هذا الافتراض الوارد؟

14.1. هنالك إشكالية لدى القائلين بعدم محفوظية السنة في فهم طبيعة الخاتمية لهذا الدين، فإن من مقتضيات الخاتمية وعدم إرسال الرسل بعد محمد صلى الله عليه وسلم، أن يتولى الله بحفظ حجته على البشر، وهذا لا يتم إلا من خلال ثلاثة أشياء ضرورية، الأولى: حفظ أصول الدين “الكتاب والسنة”. الثانية: حفظ أمَّة الدِّين “أمة محمد صلى الله عليه وسلم”. الثالثة: حفظ الفهم الصحيح لهذا الدين” عصمة الأمة وعدم اجتماعها على الضلال. فلو سقطَ أحد أركان هذا الحفظ، لارتفعت حجة الله على البشرية، ولأحتاج الناس إلى رسالة ورسول جديد.

وبعض الناس يظنون أنَّ حفظ الكتاب هو العناية واللطف الإلهي الوحيد، بينما لا يدركون أن حفظ الوحي الموجود في السنة قد تداركته عناية الله، وأصحاب نظرية ساعي البريد يقرون لنا بذلك ولو جزئيًا، فهم يقرون أن السنة العملية حُفظت بتواتر الأمة عليها، مثل هيئات الصلاة والحج، فهذه مساحة متفقة على أن ثمة محفوظية للوحي الإلهي المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، الخارج عن القرآن، ومن ينكر أنَّ هيئات الصلاة وحي خارج القرآن فلا حظ له في الإسلام، فبان لنا ولهم أن ثمة وحي من خارج القرآن قد تداركه لطف الله فحُفظ، فبقي أن ننزل معهم درجة أخرى، ونناقشهم حول حفظ الوحي المفسر الوارد في السنة، فإن سلموا لنا بأنها وحي من الله فقد شملتها العناية الإلهية، بما قيض الله لها من جهابذة الحفاظ الثقات الذين نقلوها للأمة، وإن رفضوا التسليم بأنها وحي عدنا وإياهم إلى المربع الأول وهي أنَّ محمدًا يقدح من رأسه فسقطت عصمته وسقطت رسالته بالجملة، وإن سلموا لنا بأنها وحي في أصلها، ولكن نقل الآحاد لا يورث اليقين، عندها سينتقل النقاش إلى نقطة أخرى تماماً وهي حجية خبر الآحاد، وهي قضية أخرى.

وقد نبهنا ابن حزم إلى هذه الرؤية المتماسكة في فهم محفوظية الله لهذا الدين فقال: (فصح أن كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم كله في الدين وحي من عند الله عز وجل لا شك في ذلك ولا خلاف بين أحد من أهل اللغة والشريعة في أن كل وحي نزل من عند الله تعالى فهو ذكر منزل فالوحي كله محفوظ بحفظ الله تعالى له بيقين وكل ما تكفل الله بحفظه فمضمون ألا يضيع منه وألا يحرف منه شيء أبدا تحريفا لا يأتي البيان ببطلانه إذ لو جاز غير ذلك لكان كلام الله تعالى كذبا وضمانه خائسا وهذا لا يخطر ببال ذي مسكة عقل فوجب أن الذي أتانا به محمد صلى الله عليه وسلم محفوظ بتولي الله تعالى حفظه مبلغ كما هو إلى كل ما طلبه مما يأتي أبدا إلى انقضاء الدنيا قال تعالى {قل أي شيء أكبر شهادة قل لله شهيد بيني وبينكم وأوحي إلي هذا لقرآن لأنذركم به ومن بلغ أئنكم لتشهدون أن مع لله آلهة أخرى قل لا أشهد قل إنما هو إله واحد وإنني بريء مما تشركون} فإذ ذلك كذلك فبالضروري ندري أنه لا سبيل البتة إلى ضياع شيء قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدين ولا سبيل البتة إلى أن يختلط به باطل موضوع اختلاطا لا يتميز عن أحد من الناس) .

14.2. وما يقال حول السنة يمكن أن يقال حول القرآن، فلولم تشتكي خولة بنت ثعلبة زوجها للنبي هل كانت ستنزل سورة المجادلة؟ أم أن المسيرة النبوية محفوفة بتحريك قدري، أوجد الأسباب ثم أنزل النصوص منجمة على تلك الحوادث، وكذلك السنة،  فلو لم يسأل الصحابة، هل كان النبي سيسكت ومن ثم تغيب أحكام كثيرة، أم المسألة مرتبطة بسياق قدري لحفظ الرسالة الخاتمة؟ وكانوا إذا خفيت سنة عن صحابي أظهرها آخرون، وقد رأيناهم شاركوا أكبر حافظ (أبو هريرة) كل مروياته المتعلقة بالفرائض. وأما التابعون فقد انتشرت السنة انتشاراً يستحيل خفاؤها على مجموعهم.

الآثار 6 01 مشكل الآثار: قراءة علمية في الأحاديث المشكلة

15. هل توفر الإجماع فعلا على صحيح البخاري وصحيح مسلم؟ وما مستوى القبول بهما؟

– سأل أحدهم الشيخ الألباني قائلاً: أنت تقول إن الأمة أجمعت على البخاري، وأنت بنفسك ضعفت أحاديث في البخاري، فكيف نفهم هذا التناقض؟ فرد عليه الشيخ قائلًا: الإجماع قائم على منهج البخاري، وعلى كل مالم ينتقد فيه، وهو يسير، والذين قالوا بالإجماع انتقدوا أحرفًا يسيرة من البخاري، ولكنهم لم يتنازلوا عن حكم الإجماع، ولذلك ليس كل رجال البخاري محل اتفاق ولا كل أحاديثه، وإنما الأصل الصحة، وثمة أحاديث يسيرة انتقدها الحفاظ، عن اجتهاد منهم

– وقال ابن تيمية:( جمهور ما في البخاري ومسلم مما يقطع بأن النبي صلى الله عليه وسلم قاله؛ لأن غالبه من هذا النحو، ولأنه قد تلقاه أهل العلم بالقبول والتصديق، والأمة لا تجتمع على خطأ، فلو كان الحديث كذبًا في نفس الأمر، والأمة مصدقة له قابلة له لكانوا قد أجمعوا على تصديق ما هو في نفس الأمر كذب، وهذا إجماع على الخطأ، وذلك ممتنع).

– وقد نقل الإجماع أبو أسحاق الإسفراييني والسرخسي وابن القيسراني ابن الصلاح وابن القيم وابن كثير وأبو طاهر السِلفي، والجويني والسجزي، والحافظ العلائي والبُلقيني وأبو الفيض الفارسي والسيوطي وابن حجر العسقلاني وولي الله الدهلوي والشوكاني وغيرهم، واستثنى ابن الصلاح ما انتقده الحفاظ من أحاديث البخاري، واستحسن ابن حجر هذا التحرز من ابن الصلاح وقال:( فإن هذه المواضع [يعني: التي انتقدوها] متنازع في صحتها، فلم يحصل لها من التلقي ما حصل لمعظم الكتاب).

– وليس اتفاق الأمة مجرد مصادفة أو مؤامرة أو تواطؤ، بل ذلك خلاصة النظر العلمي لأجيال من المحدثين والعلماء والنقاد، وقد أبدع الدكتور حمزة البكري في بحث قدمه قبل سنوات في مؤتمر صحيح البخاري بتركيا بعنوان : ( موقف محدثي القرنين الرابع والخامس من صحيح البخاري وأثره في تلقيه بالقبول) سرد فيه كيف تلقى حفاظ القرنين التاليين لقرن البخاري كتابه بالتمحيص والنقد العلمي ثم القبول والتطامن.

– دعونا نفترض أن 1% من صحيح البخاري فيها إشكالات وضعف، فهل هذا يلغي صحة 99% من كتابه، ويسقط الإجماع حول مقبولية حديث البخاري؟! لا يقول بذلك إلا من قرر الانتحار العقلي. مع أن نسبة الأحاديث المنتقدة على البخاري لا تتجاوز 0.5% وقد دافع عنها الحفاظ والعلماء بدفاع علمي مبين. وثمة ملحظ حيوي وهو أن انتقاد العلماء على البخاري لم يبارح دائرة النقد الفني، إلى رمي المتون بالضعف فالثاني نادر جداً.

16. ماذا يمثل اختلاف علماء الحديث في رجل من رجال سند حديث ما ورد في البخاري أو مسلم؟ هل يعتبر هذا الاختلاف مدخلا للشك في صحة الحديث؟

اختلافهم إما أن يدور حول السند، أو حول المتن:

16.1. أما حول السند فهذا لا إشكال فيه بالجملة، لأن حاصل ذلك الاختلاف ملاحظات فنية لا تؤثر على متن الحديث، فقد أخرج البخاري لضعفاء أمثال: إسماعيل بن أبي أويس الأصبحي (ابن أخت الإمام مالك) أخرج له البخاري 16 حديثاً، لم ينفرد منها إلا باثنين، معانيها موجودة في كتب السنة، وقد تتبعها ابن حجر ، ومن المعاصرين الباحث العراقي “ياسين الدليمي”. ومثل هذه الأحاديث محل انتقاد العلماء للبخاري، وهو نقد فني لا يضعف متن الحديث، فإن البخاري اشتغل وفق نظرية الانتقاء، بحيث ينتقي من حديث الضعيف ما صح، كما فعل مع أحاديث إسماعيل بن أبي أويس.

16.2. وأما انتقاد المتن، فهذا نادر وقليل في الصحيين، مثل انتقاد البخاري لحديث مسلم: (خلق الله التربة يوم السبت) إذ جزم البخاري أنه من رواية أبي هريرة عن كعب الأحبار، وليس مرفوعا إلى النبي-صلى الله عليه وسلم-، وإنما وهم بعض الرواة في رفعه إلى النبي ﷺ.

وأقوى من تصدى لانتقاد البخاري ممن جاء بعده الإمام الدارقطني، حيث انتقد قرابة ( 210) حديثاً، تفرد منها البخاري بـ (87) حديثاً، وقد علق ابن تيمية قائلاً: (غالب ما انتقد على البخاري كان الحق مع البخاري وغالب ما انتقد على مسلم كان الحق فيه مع مخاصميه). وقد دافع ابن حجر والنووي والدمشقي وغيرهم على البخاري، ورجحوا تصحيحه على تعليل الدارقطني.

والنتيجة: اختلافهم في الاجتهاد حول التصحيح والتضعيف، يحتاج إلى سبر لتحديد محل النزاع أولاً، ثم إلى إعمال قواعد الترجيح، ولكن إجماعهم متحقق بقبول الصحيح، وان انتقدوا حروفاً يسيرة، لا تبلغ 1% من صحيح البخاري، وهذا إتقان أيما إتقان.

وقد قال العَلَّامَةُ الْمَقبلي فِي “العَلَمِ الشَّامخ” « ولذا ترى الناظرين مُطْبقينَ عَلى اعْتِبَارِ تَصحيح أئمة الحديث وتضعيفهم ، وقد يكون في بعض الموارد التي اعتورتها الأنظار لا تكاد تطمع من نظرك التفصيلي بزيادة على ما حصلت عليه من أنظارهم، ولو حصل لك ذلك أغناك عن البحث، إذ هو غاية مثله مع الاختيار كيف لو شابه اضطرار كبحثنا المفروض» ومعنى كلامه، إذا تبحرت في العلم فلن تتجاوز نظر واجتهاد العمالقة في القرون السابقة.

05 1 مشكل الآثار: قراءة علمية في الأحاديث المشكلة

17. هل عدم اهتمام الصحابة بتدوين الحديث دليل على اقتناع الصحابة بالاكتفاء بالقرآن؟

هذا كلام غير صحيح، فإن الصحابة اهتموا بتدوين الحديث، فقد جمع العلامة محمد مصطفى الأعظمي أسماء 52 صحابياً كتبوا حديث النبي ﷺ، على رأسهم الخلفاء الراشدون الأربعة، ومن المكثرين في التدوين الصحابي الجليل عبد الله بن عمرو بن العاص فقد كان له صحيفة أسماها الصادقة تحتوي على 400 حديث نبوي، وكان يقول: ( ما يُرَغِّبُني في الحَياةِ إِلا خَصْلَتانِ: الصّادِقَةُ والوَهْطَةُ ، فَأَمّا الصّادِقَةُ: فَصَحيفَةٌ كَتَبْتُها عَنْ رَسولِ اللهِ ﷺ).  وقد أذن له الرسول بالكتابة وكذلك ( صحيفة “أبي هريرة” التي نقلها عنه تلميذه همام بن منبه المتوفى سنة إحدى ومائة، وقد نقلت إلينا هذه الصحيفة كاملة واشتملت على مائة واثنين وثلاثين حديثا). (وكان لسعد بن عباده صحيفة ولجابر بن عبد الله ولسمرة بن جندب صحائف، ولأنس بن مالك صحيفة كان يبرزها إذا اجتمع الناس) فهذه الآثار وغيرها عشرات جمعها الأعظمي في كتابه، تدل على أن الصحابة كانوا يكتبون الحديث النبوي.

وإذا تجاوزنا قصة التدوين، فإن الصحابة كانوا يتوقفون في الحكم الشرعي، فإذا جاءهم حديث عن النبي عملوا به، كما عمل أبو بكر بحديث ميراث الجدة الذي رواه له المغيرة بن شعبة. وكذلك عمر الفاروق حيث أحتار في أمر المجوس، فجاءه عبد الرحمن بن عوف بحديث: (سنوا بهم سنة أهل الكتاب) فعمل به عمر، والشواهد في هذا الباب كثيرة.

18. انتقدت عائشة (رضي الله عنها) بعض أحاديث رواها الصحابة محتجة عليهم بما يعارض تلك الأحاديث من القرآن ظاهريا. فهل هذه منهجية مقبولة لدى علماء الحديث؟ وإن كان ذلك خطأ فهل يطعن تخطئة هذا النهج في فقه أم المؤمنين؟

أهل العلم من المحدثين والفقهاء عملوا بمنهج أم المؤمنين عائشة وهو رد الحديث إذا خالف قطعي القرآن، أو قطعي السنة، أو إجماع الأمة، ولهم في هذا نماذج عديدة، بل كانوا يضعفون الحديث لهذا السبب، ومن أواخر من كتب حول هذا العلامة الشهيد العراقي (عزيز الدايني) في كتابه (أسس الحكم على الرجال) ففيه زبدة جامعة حول هذا المنهج الأصيل لدى القرون الثلاثة.

19. _ في كتب الحديث نجد روايات تنسب الى أمهات المؤمنين أو صحابي معين ،فهل تعتبر أيضا من الوحي؟!

– أن رفعه الصحابي إلى النبي فهو من كلام النبي، وأن لم يرفعه فهو اجتهاد من الصحابي مثله مثل أي اجتهاد لصحابي يخالفه، واستثنى العلماء أخبار الغيب، وما لامجال للرأي فيه، وغيرها من الشروط الفنية التي بينها العلماء لقبول حديث الصحابي أو اعتباره اجتهادا خاصا به. ومثل ذلك حديث أبي هريرة الذي جاء فيه: (نساء كاسيات عاريات مائلات مميلات، لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها، وريحها يوجد من مسيرة خمسمائة سنة) وقد قال ابن عبد البر: (ومعلوم أن هذا لا يمكن أن يكون من رأي أبي هريرة لأن مثل هذا لا يدرك بالرأي، ومحال أن يقول أبو هريرة من رأيه لا يدخلنَ الجنة).

 

20. أخيرا عندما يأت حديث يناقض ظاهره مقصد ديني او آية وسنده بحسب علماء الحديث أنه صحيح هل يأول بما يناسب الآيات والمقصد الديني العام ، أم يقال إن الحديث نسخ الآية أو قيدها ؟! .

دور المقاصد أنها بوصلة لضبط النصوص وليست بديلاً عن النص، ولما رأيت الدكتور مسفر القحطاني مولع بالحديث عن المقاصد، قلت له هل المقصد بديلاً عن النص؟ فقال لي: دون ذلك خرط القتاد. ولعله تنبه لمغزى سؤالي عن تضخم الحديث عن المقاصد، وفي الحقيقة المقاصد معيار أصولي عالي المستوى، لا يناوشه إلا من تشرب قلبه أسرار الشريعة ونصوصها وأحكامها، أما القفز على الحديث بحجة المقصد، فهو لعبة أهواء ومزلق أقدام لا قرار لها. فباسم المقاصد نستطيع أن نطوح بالشريعة، ولا نبقي حراماً إلا وتجاوزناه باسم المقاصد.

تمت المقابلة في قروب (رواد المعرفة) بتاريخ 25/08/2022م

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. ليتكم تنشرون هذا الحوار على شكل مقاطع فيديو، لأن الكثير لا يقرأون، رغم نوعية المادة المقدمة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى