لو تدبّرنا القرآن لوجدنا المعاني القرآنيّة تتواتر في تقرير وتأكيد نسب الدّين وإلغاء نسب الطّين، من ذلك مصطلح آل البيت فهو يردّ في القرآن بمعنى الأتباع من المؤمنين وليس بالمعنى السّلاليّ العنصريّ:-
– ففي سياق ادّعاء اليهود بأنّهم آل إبراهيم سلالة وعرقًا ناقش القرآن هذه الدّعوى، ونفى أنّهم آل إبراهيم، مع أنّهم من سلالته فعلاً، وقرّر أنّ أولى النّاس بإبراهيم هم أتباعه من المؤمنين على رأسهم محمد (صلّى الله عليه وسلّم)، بما يؤكّد بدليل قرآنيّ قطعيّ أنّ الآل هم الأتباع في قوله تعالى: (إِنَّ أَوْلَى النّاس بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَـذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَاللّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ). [آل عمران:68]، فقوله تعالى: (لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ) دليل قطعيّ قرآنيّ بأنّ آل إبراهيم وأولى النّاس به هم أتباعه من المؤمنين لا اليهود المنتسبون إليه دمًا وعرقًا، وصدق عالم اليمن الجليل نشوان بن سعيد الحميري عندما قال:
آل النّبيّ هم أتباع ملّته
من الأعاجم والسّودان والعربِ
لو لم يكنْ آله إلاّ قرابتَه
صلّى المصلي على الطّاغي أبي لهب
ويتعزّز هذا الفهم بأنّ الآل في القرآن تأتي بمعنى الأتباع بمنهجيّة تفسير القرآن بالقرآن بقوله تعالى: (كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا إِلَّا آلَ لُوطٍ نَّجَّيْنَاهُم بِسَحَرٍ).
فالآل هنا وردت بمعنى أتباع لوط من المؤمنين؛ لأنّ النّجاة في المعيار القرآنيّ لا تكون إلاّ للمؤمنين الأتقياء، ولأنّنا إذا تتبّعنا السّياق الموضوعيّ لمن يستحقّون النّجاة سنجد الآيات تتوالى وتؤكّد أنّ النّجاة لا تكون إلاّ للمؤمنين الأتقياء لقوله تعالى: (وَأَنجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ). [النمل:53]، وقوله تعالى: (وَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَنَجَّيْنَاهُم مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ). [هود:58]، وقوله تعالى: (فَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ). [هود:66].
و إذا كانت الآيات في قصّة نوح قد أثبتت أنّ الأهل هم أهل الإيمان والعمل الصّالح، وفي قصّة إبراهيم أنّ الآل هم أيضًا الأتباع من المؤمنين، فإنّ قصّة لوط قد جمعت بين المعنيين الآل
والأهل بمعنى المؤمنين ونسب الدّين لا نسب الطّين في قوله تعالى: (فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاّ أَن قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلاّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ). [النمل:56-57].
ففي هاتين الآيتين نجد دلالة قطعيّة بأنّ الآل هنا المقصود بها الأتباع من المؤمنين للوط، ثم نجد الآية التي تليها تستخدم مصطلح الأهل بمعنى الآل، وفي كلا المعنيين المقصود هم المؤمنون المتطهّرون.
ويتعزّز هذا الفهم باستثناء زوجة لوط، مع أنّها من أهله صهرًا؛ لأنّ عملها غير صالح.
فالقرآن الذي أكّد أنّ ابن نوح ليس من أهله (قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ)، أكّد أنّ زوجة لوط ليست من أهله؛ لأنّ عملها غير صالح (فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ). [الأعراف:83].
ويتعزّز هذا الفهم بأنّ زوجة لوط عملت عملاً غير صالح بمنهجيّة تفسير القرآن بالقرآن بقوله تعالى: (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ). [التحريم: 10].
ويتعزّز هذا الفهم بمنهجيّة تفسير القرآن بالقرآن، باستخدام القرآن لمصطلح الآل في سياق فرعون، فمن المعلوم أنّ فرعون لم ينجب، وزوجته كانت امرأة صالحة، ومع هذا استخدم القرآن مصطلح آل فرعون في سياق أتباعه من جنوده بأدلة قرآنيّة صريحة قطعيّة الدّلالة من ذلك قوله تعالى: (وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوَءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ وَفِي ذَلِكُم بَلاءٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ). [البقرة:49]، فصريح القرآن استخدم كلمة آل فرعون، مع أنّ فرعون ليس له أولاد وإنّما جنود وأتباع.
والذي يؤكّد أن المقصود بآل فرعون أتباعه وجنوده بمنهجية تفسير القرآن بالقرآن قوله تعالى: (وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ). [البقرة:50]، فهذه الآية أكّدت أنّ آل فرعون أغرقوا في البحر، والدّليل بأنّ الذين أغرقوا في البحر جنوده بمنهجيّة تفسير النّصّ بالنّصّ قوله تعالى: (فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُم مِّنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ). [طه:78]، فهذه دلالة قطعيّة بأنّ آل فرعون هم جنوده وأتباعه.
ويتعزّز هذا الفهم بحديث الرّسول (صلّى الله عليه وسلّم) عن أنس بن مالك: سُئل رسول الله (صلّى الله عليه وسلّم): من آل محمد؟ قال: (كلّ تقي) وتلا رسول الله (صلّى الله عليه وسلّم): (إِنْ أَوْلِيَآؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ)؛ فهذا الحديث وإن ضعف سنده، إلاّ أنه صحيح المتن؛ لأنّه تعزّز بقوّة النّص القرآنيّ، فإذا كان الحديث يتعزّز عند علماء الحديث بروايته من طرق أخرى، فيقولوا صحيح لغيره، أفلا يتعزّز متن الحديث بالنّص القرآنيّ، وكذلك حديث الرسول (صلّى الله عليه وسلّم) (سلمان منّا آل البيت)، مع أنّ سلمان -رضي الله عنه- فارسيّ الأصل، إلاّ أنّه انتسب لبيت النّبوّة دينًا لا طينًا، وهنا تبرز عظمة الإسلام الذي جمع بين صهيب الرّوميّ، وسلمان الفارسيّ، وبلال الحبشيّ، وأبو بكر الصّدّيق العربيّ على خيريّة القيم والدّين لا خيريّة النّسب والطّين.
وقد رجح هذا الرّأي بأنّ الآل هم الأتباع الإمام النوويّ في شرحه على صحيح مسلم حيث قال ما نصّه: (واختلف العلماء في آل النّبيّ (صلّى الله عليه وسلّم) على أقوال، أظهرها وهو اختيار الأزهريّ وغيره من المحقّقين أنّهم جميع الأمّة).
(5) ما المقصود بقولنا في التّشهد (اللّهم صلّ على محمد وعلى آل محمد كما صلّيت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم):
أقول: إنّ المتدبّر للقرآن سيجد أنّ معنى الآل الوارد في سياق الصّلاة على النّبيّ الذي نردّده في التّشهد الأوسط عند كلّ صلاة هم المؤمنون، وليس المقصود بآل محمد (صلّى الله عليه وسلّم) بني هاشم.
والدّليل القرآنيّ القاطع هو قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا). [الأحزاب:41-43]، فهذه الآية وجّهت الخطاب بدلالة صريحة قطعيّة للمؤمنين بقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا)، ولم يتوجّه الخطاب القرآنيّ يا بني هاشم، وفي سياق (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) جاء قوله تعالى: (هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ)، إذًا فالصلاة من الله والملائكة هي للمؤمنين وليست لبني هاشم، ويتعزّز هذا الفهم بقوله تعالى: (وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا)، ولم يرد في الآية، وكان الله ببني هاشم رحيمًا.
فهذه دلالة قطعيّة قرآنيّة أنّ قولنا (اللهمّ صلّ على محمد وعلى آل محمد كما صلّيت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم) أن المقصود بالآل هنا هم المؤمنون أيْ الأتباع من المؤمنين، وليس آل محمد نسبًا وعرقًا وعصبيّة.
وعلى الرّغم من أنّ الآية السّالفة كافية في بيان معنى الآل في التشهّد وقطعيّة الدّلالة، إلاّ أنّني سأؤكّد هذا المعنى من زاوية أخرى، وهي أنّنا لو افترضنا أنّ المقصود بالآل السّلالة والعرق فإنّ معنى التّشهّد عندئذ سيصبح على النحو التّالي (اللهمّ صلّ على محمد وعلى آل محمد). آل محمد بنو هاشم برّهم وفاجرهم، وقولنا: (كما صلّيت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم) فإنّ آل إبراهيم هنا هم اليهود، وبهذا التّفسير العنصريّ لمعنى الآل سيكون معنى التّشهد أنّ المؤمنين قد خرجوا من هذا الدّعاء، وأنّهم يلهجون بالدّعاء لبني هاشم برّهم وفاجرهم، ولبني إسرائيل المغضوب عليهم، ومثل هذا الفهم يصادم ثوابت القرآن والسّنة.
ويتعزّز هذا الفهم بأنّ المقصود بآل إبراهيم بني إسرائيل إذا فهمنا الآل بمعنًى عرقيّ ما ورد في القرآن من ردّ في سياق اليهود الزّاعمين أنّهم آل إبراهيم بقوله تعالى: (إِنَّ أَوْلَى النّاس بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَـذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَاللّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ). [آل عمران:68]، فقد نفت الآية ارتباط اليهود بإبراهيم مع أنّهم من نسله، وأثبتّ أنّ أولى النّاس به وآله هم أتباعه محمد (صلّى الله عليه وسلّم) والمؤمنين.