أشتات

نظرية التمييز بين الدعوي والسياسي.. منطلقات التأصيل وإشكاليات التفعيل (1)

منطلقات التأصيل

مقدمة:

ظهرت في الآونة الأخيرة دعوات لتمييز الدعوي عن السياسي ـــ في سياقٍ تمييزيٍ أعم  هو تمييز الديني عن السياسي ـــ تمهيداً لتنظيم العلاقة بين المجالين وضبطها على نحو يمنع التماهي والوصل التام بينهما، وعند التأمل في كل ما قيل حول تمييز الدعوي عن السياسي سنجد الواقع حاضراً بمعطياته وإشكالاته وضغوطاته، وليس ذلك مما يعيب الفكرة؛ بل هي ميزة أن ينشغل الفكر بمعالجة واقعه، وأن يبدع حلولاً لإشكالياته، ومن أبجديات علم اجتماع المعرفة أن المعرفة الحقيقية لا تكون معزولة عن احتياجات الناس وهمومهم وقضاياهم.

ومع ذلك لا يمكن الاستناد إلى ضغوطات الواقع لوحدها في البناء التنظيري؛ فالواقع تتعدد قراءاته، وتتغير معطياته باستمرار؛ ولذلك لابد من بناء فكري وفلسفي يستلهم الواقع، وفي ذات الوقت يخرج الفكرة من حيز الضرورة الواقعية إلى رحاب القناعة الفكرية، فتستعلي الفكرة بنفسها، وبقوة بنائها الداخلي، ولا تبدو كاستجابة ضرورية، أو اتجاه إجباري تحدد مساره بوصلة ضغوط الواقع فحسب، وهذا يقتضي إحكام البناء الداخلي للنظرية ليكون بناءً متماسكاً، ومفتاح ذلك العناية بتحرير المفاهيم التأسيسية التي يقوم عليها البناء التنظيري تحريراً دقيقاً يرفع اللبس، ويزيل الغموض، وينفي تعدد الاحتمالات المتضاربة.

وهنالك سؤال كثيراً ما يتردد: هل “التمييز” أو ” الفصل” بين الدعوي والسياسي عمل تكتيكي أم خيار استراتيجي؟

ويمكننا أن نستشف الإجابة عن هذا السؤال من خلال التأمل في البناء التنظيري الذي يقدمه أصحاب النظرية؛ فإذا كان اتجاه التنظير يغلب عليه الاتكاء على ضغوطات وإكراهات الواقع الملجئة فذلك قد يعطي انطباعاً أولياً أن الخيار تكتيكي أملته ضرورات الواقع, وأما إن كان البناء التنظيري يتجه نحو التقعيد والتأصيل القيمي والأخلاقي فذلك مؤشر على أن الخيار مبدئي واستراتيجي.

وإذا تأملنا في الدواعي والمبررات التي تقال لتسويغ فكرة تمييز الدعوي عن السياسي وإعادة ترتيب العلاقة بينهما سنجد مبررات على قدر عال من الموضوعية والاعتبارية، وأيضاً سنجد إشكالات تتردد على ألسنة المعارضين للنظرية تتجاوز معطيات الواقع ومسوغاته بتقديم قراءة مختلفة للواقع، أو بالدعوة إلى الاستعلاء على الواقع وعدم الرضوخ لضغوطاته.

والفكرة الأساسية التي ينطلق منها دعاة التمييز بين الدعوي والسياسي هي (فقه المصلحة الشرعية)؛ فالتمييز ــــ من وجهة نظرهم ـــــ لا يستهدف (الدعوي) بل يحفظ له مكانته ودوره، ويحميه من غوائل التقلبات السياسية؛ فهم يرون أن الوصل التام بين الدعوي والسياسي يفقد الخطاب الدعوي مصداقيته وجامعيته التي يجب أن يتحلى بها، وكذلك يرون أن حالة التماهي بين الدعوي والسياسي تجعل ارتدادات الخلاف السياسي تعصف بالدعوي، فلا يقف الاستهداف عند حدود ما هو سياسي بل يتغول ليشمل الدعوة ومؤسساتها كافة.

ويفترض دعاة التمييز أنه في حال تمييز الدعوي عن السياسي سينجو الدعوي من الاستهداف، وتلك فرضية لازالت بحاجة إلى المزيد من الوقت لاختبار صحتها.

ومنذ أن انطلقت الدعوة إلى تمييز الدعوي عن السياسي شهدت سجالاً فكريا محتدمًا، وأثيرت العديد من الإشكاليات والاعتراضات حولها، ومع أن الدكتور سعد الدين العثماني ـــــ صاحب نظرية التمييز بين الدعوي والسياسي ــــ كان حريصاً على إزالة سوء الفهم؛ فأكد أن ما يدعون إليه هو (التمييز) لا (الفصل)، وجعل عنوان كتابه الذي شرح فيه النظرية: ((الدين والسياسة تمييز لا فصل))، إلا أن ذلك لم يكن كافياً في نظر المعارضين للنظرية، وبحسب تعبير أحدهم فإن ((استبدال كلمة (فصل) بكلمة (تمييز) هو تلاعب بالألفاظ وحسب، والحقيقة أن التمييز بين الدعوي والسياسي أو الحزبي هو في جوهره ومضمونه ومآله فصل بين الدين والدولة، وهذا ما لا يمكن أن يقبله فكر ينسب نفسه للإسلام)) [1].

والسياسة تمييز لا فصل نظرية التمييز بين الدعوي والسياسي.. منطلقات التأصيل وإشكاليات التفعيل (1)

والذي يبدو أن الالتباس لازال حاصلاً بين مفهومين مختلفين هما: (التمييز) و (الفصل التام)، وهذا الالتباس يمكن أن نجده لدى البعض من مؤيدي النظرية، كما نجده لدى كثيرين من معارضيها، وهو من ضمن عوائق التفعيل وسيأتي معنا بيانه.

منطلقات التأصيل

مصطلح” التمييز” استخدمه الإمام القرافي (ت684هـ) وجعله عنواناً لكتابه الشهير: “الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام وتصرفات القاضي والإمام”، وقد ميز فيه الإمام القرافي بين تصرفات الرسول عليه الصلاة والسلام بالفتيا والتبليغ وبين تصرفه بالقضاء وتصرفه بالإمامة.

وعن تصرفات النبي عليه الصلاة والسلام التي قام بها بوصف الإمامة (= السياسة) يقول الإمام القرافي: ((وأما تصرفه صلى الله عليه وسلم بالإمامة فهو وصف زائد على النبوة والرسالة والفتيا والقضاء؛ لأن الإمام هو الذي فوضت إليه السياسة العامة في الخلائق، وضبط معاقد المصالح، ودرء المفاسد، وقمع الجناة، وقتل الطغاة، وتوطين العباد في البلاد، إلى غير ذلك مما هو من هذا الجنس. وهذا ليس داخلاً في مفهوم الفتيا ولا الحكم ولا الرسالة ولا النبوة…))[2].

وما يطرحه الفقيه الأصولي الكبير الإمام القرافي هنا تتضافر عليه الكثير من الشواهد والأدلة في السنة والسيرة النبوية، وقد كان هذا التمييز مُدركاً لدى الصحابة رضوان الله عليهم بشكل واضح كما تدل على ذلك عدد من الوقائع الصحيحة المحفوظة، بل كان النبي عليه الصلاة والسلام ينبه الصحابة إلى تمييز ما يصدر عنه بصفة البلاغ والوحي عما يصدر عنه بصفة الرأي والاجتهاد؛ حتى لا يقع  منهم الخلط بين المجالين، وفي هذا روايات صحيحة معلومة.

ومن المنطلقات التي بنى عليها الدكتور سعد الدين العثماني تنظيره للتمييز بين السياسي والديني ما شهدت به النصوص ودرج عليه الفقهاء وأئمة الإسلام من التمييز بين الديني والدنيوي، أو بين العبادات والعادات[3].

كذلك ينطلق التأصيل للتمييز بين الدعوي والسياسي من منطلق “المصلحة الشرعية” وتلك المصلحة هي جعل الدعوي بمنأى عن صراعات وتجاذبات العمل السياسي، وبالتالي النأي به عن الاستهداف، ونقطة ضعف الانطلاق من هذا الطرح والتركيز عليه في التبرير للفكرة أنه يعطي انطباعاً أن المحرض الأساس على الفكرة هو الجانب “النفعي” و “المصلحي” و “إكراهات الواقع”، مما قد يوحي بالانتقاص من القيمة الذاتية للفكرة؛ أي من الإيمان بها كفكرة صائبة وسامية ونبيلة في ذاتها.

ويبقى هنالك منطلق تأصيلي غائب ــــ ولعل حذر الإسلاميين من التماهي مع الحجاج العلماني هو سبب غيابه ــــ وأعني به منطلق تنزيه المقدس عن استغلاله وتوظيفه لأجندات سياسية وحزبية، ولا شك أن هذا المقصد التنزيهي مقصد هام، ولا تقف أهميته عند حماية المقدس من الابتذال، بل هو أيضاً يحمي الأفراد والمجتمعات من الطغيان والاستبداد باسم الدين.

وهذا البعد في التأصيل للتمييز بين الدعوي والسياسي يمكن التنظير له من داخل التجربة والخبرة الإسلامية لا سيما في العهدين: النبوي والراشدي؛ وهو ما يعني إعادة البناء التنظيري للفكرة لينطلق من قيمة فكرة التمييز بين الدعوي والسياسي في ميزان القيم والمبادئ الإسلامية والحضارية، ثم لابأس بعد ذلك من التعريج على المنافع والمصالح التي تنتج عن تطبيق الفكرة في الواقع، كشواهد تعزز ما تمثله الفكرة من حق وصواب في ذاتها.

والقيمة المبدئية هنا هي تجريد الممارسة السياسية من القداسة الدينية، والمنع من نسبة الاجتهاد البشري إلى الله، ورفض الانسياق وراء أي مطالب ديماغوجية تصب في اتجاه تأليه الاجتهاد البشري أو إضفاء القداسة عليه.

ولقد رأينا وخبرنا عن تجربة كيف أدى انغماس “الدعوي” في قضايا التنافس الانتخابي والحزبي إلى هز الثقة بمصداقيته وتجرده؛ لاسيما حين التحدث باسم الله في قضايا الخلاف السياسي والحزبي، وقد أرشد النبي عليه الصلاة والسلام إلى تنزيه اسم الله وعدم اقحامه فيما هو اجتهادي، وإن كان ذلك الاجتهاد يدور في إطار أحكام الشريعة، فروى مسلم في صحيحه عن بريدة عن أبيه قال: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمّر أميراً على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيراً، ثم قال: (…) وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تنزلهم على حكم الله فلا تنزلهم على حكم الله، ولكن أنزلهم على حكمك فإنك لا تدري أتصيب حكم الله فيهم أم لا))[4].

فمع أن الأمير المسلم هنا لن يخرج عن أحكام الشريعة في التعامل مع أهل الحرب، لكن الشريعة ذاتها أعطته عدداً من الخيارات، وهو عليه أن يختار الحكم الذي يراه يحقق المصلحة أكثر من غيره، وبالتالي ليس له أن يجزم بنسبة ما أداه إليه اجتهاده إلى الله على أنه حكمه ومراده على وجه القطع واليقين، وقد أخذ الإمام ابن تيمية (ت728ه) من هذا الحديث: ((أن لله حكماً معيناً فيما يكون ولي الأمر مخيراً فيه تخيير مصلحة))[5]، ولما كان هذا الحكم المعين قد يصل إليه صاحب الولاية باجتهاده وقد لا يصل؛ أرشد النبي أمير الجيش أن لا يقبل طلب المحاربين إنزالهم على حكم الله، أي توقيع الحكم عليهم باسم الله، وأمره أن يخبرهم أنه سينفذ فيهم حكمه هو لا حكم الله؛ لأنه لا يدري هل يصيب حكم الله فيهم أم لا؟ وفي هذا غاية التنزيه والإجلال لاسم الله وعدم اقحام اسمه العظيم في قضايا اجتهادية معيارها تحقيق المصالح ودرء المفاسد، حتى وإن كان ذلك الاجتهاد لا يخرج عن دائرة تنزيل الحكم الشرعي، فكيف بالاجتهاد الذي لا نص فيه أصلاً؟

وإذن فما مورده الاجتهاد لا ينسب إلى الله على أنه حكمه ومراده، ولا تضفى عليه صفة القداسة الدينية، وهذه أهم ثمرة من منظور قيمي للتمييز بين الدعوي والسياسي.

يتبع..

الهوامش:

  1. عطية عدلان: الفصل بين الدعوي والسياسي .. ما حقيقته؟ عربي21: {https://arb.im/1144101#.Yxd2aH0a-yU.gmail}

  2. الإمام شهاب الدين القرافي: الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام وتصرفات القاضي والإمام. تحقيق: الشيخ عبدالفتاح أبو غدة. ط 2، دار البشائر الإسلامية للطباعة والنشر والتوزيع ــ بيروت 1416هـ  ـــ 1990م، ص105.

  3. انظر: د. سعد الدين العثماني: الدين والسياسة تمييز لا فصل. ط6، دار الكلمة للنشر والتوزيع ـــ مصر 2015م، ص 75 ـــــ 103.

  4. رواه مسلم في باب تأمير الإمام الأمراء على البعوث ووصيته إياهم بآداب الغزو وغيره. ح: (4619).

  5. شيخ الإسلام أبو العباس تقي الدين أحمد بن تيمية: منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة والقدرية. تحقيق: عبدالله محمود محمد عمر. ط1، دار الكتب العلمية ـــ بيروت 1420هـــ ــــ 1999م (2/306).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى