أشتات

هل نُزع السحر حقًّا؟

د. معتز أبو قاسم

لما كان السحر حدثا لاعقلانيا كان لابد بحسب ماكس فيبر “نزعه عن العالم” حتى تتجلى القوانين المحركة له بما يسمح بضبطها وترتيبها وتحديد هوياتها وإمكانياتها بعيدا عن أي تهويل أو أسرار تُخفي وراءها ما لا يجب إخفاؤه ، وكان من آثار إزالة السحر عن العالم أن امتد هذا الرفع ليشمل كل ما له نسبة صحيحة أو مكذوبة إلى السحر فتم الإطاحة بالدين لأنه يمتلك تلك المخلوقات المفارقة والخطابات المتعالية (الوحي) فضلا عن إشارته الدائمة إلى الإله المتعالي واضع القوانين وضابط الإرادات وموجهها ومانح الإنسان نهجه الأخلاقي الذي لابد أن يخضع له متى أراد السعادة في الدارين.

ولقد اتُّهم الدين بأنه لاعقلاني لسببين:

الأول: أنه أُخذ بجريرة غيره من رجال الدين الذين ارتكبوا جريمتين: إحداهما: تحريف نص أصلي واستبدال مكانه أخبارا استقوها من واقعهم وأحلامهم وأفهامهم ثم منحوها صكَّ القدسية والتعالي، وثانيهما: أنهم قاموا بتأويل هذه النصوص -سواء ما بقي منها سليمًا من التحريف أو حتى التي حرفوها ابتداءً- بما أخرجها عن قوانين الفطرة والتعقل المقبول، فانتهت إلى اللاعقلانية و اللاتسامح.

الثاني: أن الرؤية الحداثية التي أخذت بضع مئات من السنين حتى تتبلور في شكلها الحالي قد أخذت منحنى ماديا بحتا في تقرير الحقائق والنظريات قبولا واستبعادا، وقد انتهت إلى عقل مجرد أداتي احتسابي ضيق الأفق لا يطيق أن يتعامل مع هذا التنويع الواسع من الموجودات المادية بوجهها الآياتي الملكوتي والمعنوية والروحية والتي تمتد وتتوزع بين عالمي الشهود والغيب، ما أفضى إلى إدانة أي ممارسة عقلية ليست على شرط العقل المجرد واعتبارها لاعقلانية وداخلة في عُرف السحر والأسطورة واللامنطق والشعوذة بوجه من الوجوه.

فهل انتهت القصة بنزع السحر عن العالم وتجريده من الأساطير وجعل العالم ظاهرة ممكنة الرصد والضبط والاحتساب والتنبؤ بدون أن يحول دون ذلك أي دلالة أو معنى أو تصور ديني أو متعالي.

بالطبع لا لم يتم الإطاحة بالدين عن عرشه ثم تكسير هذا العرش، بل الذي حصل هو إزاحة الدين عن التعالي لا غير، أما التعالي فقد تهيأ ليشغله موجود آخر هو “الدولة” بمؤسساتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية وغيرها، وكما قيل في المثل الشعبي: ” المكان المقدس لا يكون فارغًا”،

ولقد تربعت الدولة الحديثة على عرش التعالي والمفارقة، وليس هذا فقط بل إنها قد تزينت وتجلّت بكل تلك الأوهام التي كانت تُنسب إلى الدين زورا وتلفيقا وبسوء تأويل كالأسطورة واللاعقلانية واللامنطقية، ثم زادت اللاإنسانية واللاهدفية واللايقين ثم العدمية.

وبدل أن تكون الدولة هي الراعي الحقيقي لوجود الإنسان وحفظ ذاته وأحواله المادية والمعنوية قامت بشطر الذات الإنسانية المركبة والمعقدة، والتي تمتد في عوالم متعددة ما أفضى إلى خلل واضطرابات عميقة في النفس الإنسانية أخذت تتمزق بين عالم بلا روح هو عالم السياسة والاقتصاد واللذان أصبحان يتمتعان بحساسية شديدة ضد القطاع الأخلاقي للإنسان، وعالم آخر هو عالم القيم والأخلاق والخير.

 ولقد انتهت التحويرات والتأثيرات التي مارستها السياسة والاقتصاد إلى إنتاج كائن جديد اسمه المواطن الحديث يرزح تحت القليل من الحرية التي يمارسها ساعةً كل أربع أو خمس سنوات مختارا نائبا أو وكيلا أو متحدثا باسمه، ليترك السياسة والساحة العامة أجمعها بعد ذلك مستمعا ومنصتا ثم خاضعا لكل ما ينتج عن قرارات سوف تقررها السلطات المالكة للقوة حقيقةً من لوبيات أيدلوجية ورأسمال وسياسيين.

وبعد أن كان الناس متساويين أمام التعالي الإلهي، حيث الكل يمتلك المساواة في فرص التقرب إلى الله بشرط المعايير والضوابط الموضوعة منه سبحانه، ثم بمقدار الالتزام بالأوامر والنواهي الموجِّهة لسلوك الفرد، بات التعالي باسم الدولة لا يتيح التقرب إليها على معايير إنسانية مرجعها القوى المالكة والحاكمة من سياسيين ورأسماليين وعسكريين، ينتابهم من حظوظ النفس وحب التملك والسيطرة ما يمتلك الإنسان، ولكنهم يفتقرون إلى تلك المعايير والقيم الأخلاقية التي تكبح جماح الذات نحو التفرد بكل شيء.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى