أشتات

هل هي حرب دينية؟

للأسف بدأ ينتشر مصطلح: “حرب دينية” كثيرًا. وهو انتشار خاطئ ومقصود في الوقت نفسه.

حيث يقوم اليهود اليوم، والخطاب الغربي، بالتسويق لهذه الحرب على أنها حربٌ دينية، وهو تسويقٌ باطل؛ يهدفون منه إلى تشويه صورة الإسلام، واتهام المسلمين بالسَّعي في إبادة دينية ويرمونهم بعدم التَّعايش ويلوحون بملف الأقليات؛ وليبرروا أفعالهم المسعورة والانتقامية في الإبادة التي يمارسونها وكأنما هي ردة فعل! وفي الوقت ذاته يسعون لاستعطاف الرأي العام الغربي، وإحياء صورة الحروب الصليبية في ذاكرته.

❃❃❃

والرد على هذا الزيف:

أولًا:

في الإسلام لم يوجد أبدًا أبدًا أبدًا أي صراعٍ ديني. والقرآن الكريم من أول آية حتى آخر آية لا يوجد فيه دعوة لأيِّ صراعٍ ديني.

صراع الرسول صلى الله عليه وسلم مع مشركي العرب لم يكن لأنهم غير مسلمين، بل لأنهم مارسوا الظُّلم والعدوان على المسلمين. قال تعالى: (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا). بل إن القرآن نهى المسلمين أن يتجاوزوا في رد عدوان المشركين: (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا)، ويقول لهم: (وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ).

والله يقول للمسلمين إن عليهم بر آبائهم وأمهاتهم وصلة أرحامهم من المشركين: (لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ).

لذلك لا يوجد في الإسلام دعوة للصِّراع مع المختلف دينيًّا، بل أقر القرآن الكريم مبدأ: (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ).

ومثل ما يقال هذا الكلام عن الأديان الأخرى، يقال عن الطوائف داخل الدين الواحد.

❃❃❃

إذن فالقرآن الكريم حين دعا المسلمين إلى القتال إنما حصر ذلك بردِّ العدوان والظلم، وأكد لهم أنه ليسَ عليهم هداية النَّاس، وأنَّ لكل إنسان اختيار دينه، وأن يعيش بدينه وممارسات دينه.

والقرآن حين يخبرنا بما أنزل الله من عقوبات بالأمم السابقة إنما يخبرنا بأن ذلك حل بسبب ظلمهم وبغيهم وعدوانهم، وليس بسبب عدم إيمانهم أو كفرهم.

❃❃❃

ثانيًّا: تاريخيًّا:

حين دخل الرسول المدينة وفيها اليهود ولم يحاربهم أبدًا. وحين نقض بعضهم العهد وغدروا حارب أولئك الناكثين فقط، وترك الباقين بسلامٍ في المدينة. 

– عاش اليهود والنَّصارى في ظلِّ الخلافة الإسلاميَّة لقرون طويلة، ولم يتعرضوا لأي ظلمٍ أو اضطهاد أو تصفية عرقية. بل إنَّ اليهود كانوا يتعرَّضون لتصفياتٍ عرقية في أوروبا فكانوا يفرون إلى بلادِ المسلمين للالتجاء إليهم. كما في عام 1490 حدثت مذابح جماعية لليهود في إسبانيا والبرتغال، فهرب اليهود إلى القسطنطينية، حيث وجدوا ترحيبًا من الإمبراطورية العثمانية. 

– عمل اليهود في مختلف وظائف الدولة الإسلامية، كما كانوا يشتغلون بالتجارة، والعلوم، والطب، والفلسفة. 

– في القرن السادس الهجري كان في بغداد 40.000 يهودي يعيشون في أمان، ويمارسون عبادتهم في 28 مجمعًا. 

– وحين اجتاح التتار الشام وأسروا كثيرا من أهلها.. فذهب ابن تيمية للمطالبة بفك الأسرى جميعا. وقال كلمته الشهيرة: (لا نرضىَ إلا بافتِكاك جَميع الأسرى من اليهود والنصارى فهُم أهل ذمَّتنا، ولا نَدع أسيرا من أهل الذمّة ولا من أهل المِلَّه). والأمثلة أكثر من أن تحصى.

ثالثا: حرب حقوق

الحرب التي تدور اليوم في فلسطين، هي حرب بين احتلال غاشم ظالم يمارس كل أنواع العدوان، ووجوده أصلا قائم على سلب الحقوق واغتصابها. وبين قوم مظلومين، سلبت أرضهم، وحقوقهم، وتعرضوا لأبشع أنواع الظلم والتنكيل أمام أعين العالم وأسماعهم!!

قد يقول قائل: وماذا عما أخبر به القرآن الكريم والسنة عن القتال بين المسلمين واليهود؟!

والجواب إن إخبار القرآن عن هذا القتال مرتبط ببغي اليهود وعدوانهم على المسلمين، كما قال تعالى: (وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا). فهم يمارسون الإفساد والظلم والبغي في الأرض. ولذلك أخبر القرآن أن المسلمين ستكون حربهم ردا على عدوان اليهود وبغيهم وصلفهم، فقال مبينا أن العاقبة تكون لهم بسبب بغي اليهود: (فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا).

تأمل قوله (وليتبروا ما علوا تتبيرا). أي: سيواجه المسلمون ما استعلى به اليهود في الأرض بسبب عدوانهم وظلمهم، ويدمروه تدميرا.

وحين نستخدم لفظ اليهود، فالمقصود به: اليهود المعتدون الذين احتلوا أرض المسلمين في فلسطين. واليوم أصبح اللفظ الشائع هو: الصهيونية. تمييزا لهم عن غيرهم من اليهود الذين لم يمارسوا هذا الظلم والعدوان، بل إن بعض اليهود اليوم يقفون في وجه العصابة الصهيونية رافضين لما تمارسه من الظلم والعدوان.

رابعًا: التعايش

يتهم صهاينة الغرب المسلمين بعدم التعايش، وهي تهمة باطلة فندها المنصفون من الغربيين أنفسهم. ولست بصدد نقل شهاداتهم. ولكن دعونا نرى من هم الذين لم يتعايشوا فعلًا.

أمريكا البلد المتحضر، جاء الأوروبيون وأبادوا أهل الأرض الذين عاشوا فيها منذ آلاف السنين، واستوطنوه ليصبح بلدًا أوروبيًّا!!

أستراليا جاء الأوربيون فأبادوا سكانها الأصليين، الذين عاشوا في أرضهم منذ آلاف السنين، واستوطنوا الأرض ليصبح بلدا أوروبيا.

فرنسا حاولت استيطان الجزائر وقد أبادوا ملايين من سكانها الأصليين، ومكثوا نحو قرن ونصف، ولكن أبطال الجزائر ردوهم صاغرين.

والأمثلة على ذلك كثيرة، ويكفي مثالا حيا هذه العصابة الصهيونية التي جاءت إلى فلسطين برعاية الأوروبيين وحمايتهم وقامت بتهجير السكان الأصليين مرة تلو المرة، وكل ذلك يتم بتعميد القانون الدولي!! وهو في حقيقة الأمر: القانون الأوروبي لا الدولي.

وبدلا من أن يسموا الأمور بأسمائها يعمدون إلى تلميع وجههم البشع، فيسمون الإبادة: التهجير. ثم يقولون: التهجير الاختياري!! وهم ضد التهجير القسري!! على من يضحكون؟ وممن يسخرون؟! وهل هناك تهجير غير قسري؟!

وفي الوقت نفسه ها هم الأوروبيون يستخدمون خطابا استعماريًّا بغيضًا، يذكرنا بالخطاب الاستعماري في القرن الثامن عشر… يجعل لآلتهم المتوحشة الحق في إبادة السكان وقتل النساء والأطفال والمدنيين، وتدمير المستشفيات بمن فيها، وتدمير كل حياة على الأرض.. ويبررون لذلك تبريرات أخلاقية وعنصرية بغيضة..

لقد انكشفت معاييرهم المزدوجة، أمام العالم، بطريقة فجة، فالدم المصون هو الدم الأوروبي فقط.. فقط انظر خطابهم تجاه ما يحدث في أوكرانيا ووازنه مع خطابهم تجاه فلسطين…

ففي أوكرانيا القتل بشع وغير مبرر.. أما في فلسطين فالقتل ضرورة وهو مجرد ضرر جانبي لا بد منه.

هي حرب دينية؟1 هل هي حرب دينية؟

خامسًا: استعمار مغلف

لم تكن نشأة ما يسمى “دولة إسرائيل” نشأة دينية، وإن غلفوها بالخطاب الديني. بل هي نشأة امبريالية أنشأتها أوروبا كامتداد لاستعمارها للعالم العربي والإسلامي، وحتى تكون نقطة ارتكازهم وحجتهم للقضاء على أي روح عربية أو إسلامية يمكنها أن تحيا، ومن خلال “إسرائيل” يستطيعون الحفاظ على هيمنتهم الإمبراطورية، وردع عدوهم التاريخي.

فهي نشأة استعمارية، وفرض لمسمار أوروبا في البلاد العربية، يحول دون تحقيق أي نهضة أو تقدم.

ولذلك نفهم هذا الاستفزاز الأوروبي السريع والقوي في حماية ميليشياتهم الصهيونية، والتعهد بدفع الثمن لحمايتها؛ لأنهم يعتقدون أن سقوط إسرائيل يعني سقوط “الحضارة الأوروبية الوحشية”.

إذن لم يرحل الاستعمار الأوروبي من العالم الإسلامي، بل هو باق حتى الآن. وهو الآن يحمي نفسه ويحمي وجوده، ولا يحمي عصابة لقيطة متطفلة.

سادسًا:

يخلط بعضهم بين كون هذه الحرب ليست حربا دينية وتأكيدنا على ذلك، وبين دعوتنا إلى استخدام الخطاب الديني.

أوضحنا أنها حرب مشروعة ضد محتل احتل الأرض، وتنبغي مواجهته حتى يخرجوا من فلسطين صاغرين.

وفي الوقت نفسه نستخدم الخطاب الديني الذي يؤكد دعوة المسلمين إلى عدم الرضوخ للظلم والهوان، وأن جهاد الظالمين عبادة مقدسة، سيكون لها أعظم الأجر والثواب عند الله تعالى، وأن المسلم يجاهد الظلمة حتى لا يزداد فسادهم وبغيهم في الأرض، فإن رزق الشهادة في سبيل الله فله الجنة بإذن الله تعالى، فلا يحزن ولا يبتئس، ولا يخاف من بعدهم، بل عليهم أن يدركوا أن الآجال بيد الله، ولن يقدم القتال أجلا ولن يؤخره.

والخطاب الديني يمنح المسلمين قوة في مواجهة أعدائهم مهما كثروا وتحالفوا واستقووا؛ فالمسلم يستمد قوته وعزته من الله تعالى، وهو يواجه جنود الشيطان في معركته المقدسة ضد الظلم والعدوان.

أخيرًا:

اللجوء إلى الخطابِ الديني لا يلغي الخطاب الأخلاقي؛ فالخطاب الأخلاقي خطاب إنساني عام، يلتف حوله الناس جميعًا، والنَّاس الأسوياء يتعاطفون مع الضحية أيًّا كان دينه، ويقفون ضد الظالم أيًّا كان دينه. ومن المهم تفعيل الواجب الأخلاقي في مخاطبة العالم.

وإضافة على ذلك؛ فإنَّ مهمة الخطاب الديني أنه يفعل الواجب الديني لدى المسلم؛ فوقوفك ضد الظالم ومع المظلوم ليس مجرد واجب أخلاقي فحسب، بل هو أيضا واجب ديني، يجب عليك أن تؤديه، وسوف يحاسبك الله إن قصرت فيه، فنصرة المظلوم ليس اختيارًا أخلاقيًّا، بل واجب ديني تثاب بفعله، وتؤثم بتركه.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى