الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعد؛ أما بعد:
يحسُن في بداية هذا المقال التنبيه على أنه نقاش لبعض التوجهات والمبادئ في عالم الأفكار الذي يتعرض له من يمكن أن تسميهم بـ”الجيل الصاعد، وأن إجابة السؤال الذي تمت عنونة المقال به هي = الإيجاب المطلق؛ فسقف الممكن هو هِمَّة العاملين ومنتهى طاقاتهم العملية وآمالهم الشرعية، ومتى كانت انطلاقتهم منها = هم على خير ما يمكن أن يعتدّوا به لخوض معامع مختلف ثغور العمل الإصلاحي، أما مادة المقال الرئيسة فهي مناقشة بعض السؤالات التي تطرح في الساحة والتي تعبر عن فهم مُشكل لبعض الرؤى الإصلاحية، ولبعض الحقائق المهملة في الإطار العمليّاتي لمهام الإصلاح المختلفة وبيان أهميتها وِفق ضوء الأحداث.
هل الاستضعاف حجة للركون عن طريق العمل الإصلاحي؟ وهل يكون الحل بانتظار الفرج؟
الاستضعاف هو أدعى أسباب العمل؛ تشتركُ في أصله النيّات، وتتعدَّد فيه الثغور، والأصل العام في التعامل معه = الاستمرار في محاولة دفعه وبذل الجهود العملية والفكرية في التخلص منه؛ فتطبُّع الاستضعاف يقود لهدم الهوية وتضييع إرث الحضارة، والفطرة البشرية السليمة ترفضه وتلفظه؛ والمتلقّون له بالقَبول تتقاطع غايات العيش لهم مع حِياض غير البشر من المخلوقات. وفي القدوات الإصلاحية من الأنبياء والصحابة والأئمة الربّانيين والعلماء -على اختلاف مراتب الإصلاح الذي قدموه- أحرى إجابة تُلخِّص لنا أولويات إعادة تعريف الأشياء، وضبط المعايير، والعمل على الأرض؛ للوصول إلى التغيير المنشود الذي يحمل الخير للدعوة والإنسان، ولقد عَظُمَ شأن وأجر صدقة عثمان بن عفان = لأنها كانت في ساعة العسرة (الاستضعاف والضيق الشديد)، فبذلك يكون جزاء العاملين في وقت الاستضعاف أعظم من العاملين في وقت السَّعة والراحة.
أما في عقلية انتظار الفرج فالمنطق الشرعي يقول بأن الزمن خلق من مخلوقات الله، وتجري بمُضِيّ فتراته سُننٌ كونيّةٌ شتّى، لكن التعامل معه على أن مجرد انقضاء فترات منه كفيل بحل الأزمات = هذا تكتيك يحتاج إلى كثير من الترشيد؛ لأنه -أي الزمن- يمكن أن يكون كذلك خصمًا في ذات الأزمة؛ حينما يمثل فرصةً محدودة لإنجاز العملية الإصلاحية. إذا، نستفيد من هذا النظر أن الزمن قضيةٌ مركّبة؛ قد تحمل في طياتها الخير أو الشر، والاستثمار الأمثل فيه يكون بالتعامل معه بمقتضى حاله العام -مع الأخذ بعين الاعتبار الهدايات الشرعية للابتلاء والأزمة-؛ فالنّاظر لأزمات الأمة وتفاصيلها على مدار التاريخ الإسلامي يرى أنّ سِرَّ النجاة في أكثر أزمنة الاستضعاف = الصبر واليقين الحاضران في فكرة مقاومة الاستضعاف وأسبابه، وهما الزّاد المترقّب من جهود عمليات التأسيس والبناء (اتخاذ الأسباب العملية) والتي لابد أن يرافقها أيضًا اتخاذ لأسباب شرعية -نعني بها: المعاني الشرعية التي من مقتضاها التّصبير على مختلف الابتلاءات والتبشير بالعاقبة الحسنة (في الدنيا والآخرة)- عند الصبر واليقين على الأزمات- المصاحبة لعمليتيّ التأسيس والبناء.
لعلّ الإجابة على السؤالين السابقين كانت مجملة -وهذا فعلٌ مقصودٌ في ذاته-، وتقصدت في ذلك التأكيد على العمل وضرورته الوقتية ومشروعيّته -شرعًا ومنطقًا- في عملية الإصلاح المطلوب، أما في سؤال التفاصيل فهذا ممّا قد يحارُ المرء في تحرير جواب له، ولكنّي وجدتُ من بديعِ البيان إجابةً أوليةً في بيتٍ شعريِّ لأبي القاسم السُهيليّ يقول فيه:
تقولُ: لا حيلةٌ في الوصلِ أعرفها
لو صحَّ منكَ الهوى أُرشدتَ للحيَلِ
وشاهِدُ ذلك؛ أن يُقصد -من بابِ أولى ما يجبُ أن يُقصد- صِحة المنطلقات والقناعات والغايات من الرغبة في خوض تجربة الإصلاح؛ وذلك لأهمية هذه الأصول في الحفاظ على استقرار واستمرارية العمل من الأساس، وإهمال هذه القضية في مرحلة ما قبل الإصلاح أو خلاله قد يؤدي -وبشكلٍ كبير- لإشكالات تُعَقِّد العملية أو تؤخر الجدوى المتوقعة. وأما زعزعةُ هذه المعاني والأصول يُحتِّم إشكالات عديدة في المسير الإصلاحي -تتراوح من أبعاض تحمل خلل جزئي إلى مشاكل جوهرية تُعطل المسير-، ومن شواهد ذلك قول الله تعالى في كتابهِ العزيز -في تأكيدٍ لملمح مُهم في هضم مثل هذه المعاني- عن يوم معركة أحد: (وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (121) إِذْ هَمَّت طَّائِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُون)؛ يعلِّقُ أهلُ التفسير على الفشل المعنيّ بالآية بأنه هو الرغبة بالتولّي والفِرار عن مشروع مقاومة ومجاهدة العدوّ، وكان المخاطبون هُنا هم أهلُ الإيمان -وهم بطبيعة الحال المعنيين بتكاليف العمل الإصلاحي- المعرَّضون -بطبيعة الحال- الخطاب التخذيل الذي يشتغلُ بهِ أهل النفاق في ميادين أهل الإسلام، والذي يُعتبر أحدُ التحديّات الدائمة للعاملين في ميادين الإصلاح، وشاهِدُنا هنا أن إشكالات التأسيس والبناء قد تقود لإحباطات يكون المصلحون في غُنية عنها لو أخذوا مهمات تصحيح المنطلقات والقناعات والغايات بحقّها واعتنوا بها في بدايات التأسيس والبناء للانطلاق في مختلف التكليفات الإصلاحية.
- الاستهانة بالإمكانات وتقزيم الأثر وقدرات العطاء:
يحدث كثيرًا بأن يتورَّع كثير من طلبة العلم والمشتغلين بتعلم أمور الثقافة الشرعية والفكر الإسلامي عن خوض غِمار تجربة الإصلاح، وعادةً ما يكون ذلك بحُججٍ تتباين ما بين معقولة -مثل ترسيخ قناعات المنهج الإصلاحي وترسيخ العلم والثقافة والفكر المطلوب للمرحلة- وحجج تعزز تحول المعرفة والعلم -الذي يمكن استخدامهما في الإصلاح- إلى ترفٍ فائض، واستحداث -غير مقصود- لساحات المِراء والتفاخر بالمعرفة، ويجدر معالجتها أيًا كانت؛ من خلال تسليط الضوء على ضرورة وأهمية تصريف المعرفة القابلة للعطاء -القادرة على التأسيس والبناء- في المساحات المحتاجة لها، بحيث لا تختزل في حيو تعدم الأمة الفائدة منها، أو أن تذهب أدراج الرياح بعد مُضِيّ الأعمار أو في حين ينغمس الفرد منا بمُشغلاتِ الحياة الحديثة، وكما أنّ إيمان المؤمن يبدأ في السراء ويتجلى في الضراء = فحريٌّ أن يتجلّى العمل الإصلاحي في فترة الاستضعاف التي نمرّ بها ونشهدها حاليًا. ويحدث كذلك بأن تُصاب صفوف العاملين في الإصلاح بأشكال من الركود والعجز والوهن لطبيعة الحال العام في مجتمعات هذه الأمة، يلزمُ نفضُها باستشعار معاني التوكل على الله، واستحضارِ معنى أن المؤمن القوي خير وأحبُّ إلى الله من المؤمن الضعيف، والإقدام في فعل ما تستلزمه المرحلة من الإصلاح، واتخاذ هذا السبيل سببًا للتقرب إلى الله بالصبر والتذلُّلِ إليه بالعبودية، والاعترافِ له بالشكر على فرصة العمل التي يعظمُ جزاؤها الأخرويّ في مرحلة الاستضعاف.
- أهمية اجتماع الكلمة في المسير الإصلاحي:
لابُدَّ لنا من أن نعلم أن كل تجربةٍ إصلاحيةٍ ممكنة لها لسانُ حال ينبي عن الأحاجيّ والألغاز المعترضة لمسيرها الإصلاحيّ، وأنَّ العاملين في إطار تجربة إصلاحية معيّنة هم ما بين أن تُصقل تجاربهم وخبراتهم في إناءٍ واحدٍ حتّى تكاد تتداخل، وتتحد ثوابتهم، وطبائعهم، وسماتهم، ومصطلحاتهم؛ فيتقارب الأفراد حتى يكون منطوقهم ومفعولهم على قلب رجل واحد؛ لا يتكلَّفون ذلك.. وبين أن تتشتَّت تجاربهُم وخبراتهم، وتتعدّد محاضنهم، وتكثر أحوالهم، وتسيلُ مصطلحاتهم؛ فتراهم وظاهر مجالسهم لغةٌ واحدةٌ تجمعهم، ثمّ لا يكاد أحدهم يفقه كلام جليسه، ولا مرماه، ولا حاجته، وكلما اجتمعوا على أمر انشغلوا بما يُفرِّقهم ، وكُلّما عزموا إلى غايةٍ أطالوا الوقوف في مفترقات السبل.. وزِمامُ الأمر أن يُعقد أساسه على أصولٍ واضحةٍ ومنطلقاتٍ بيّنة، ومن ثُمَّ يكون تجسيد التجربة الإصلاحية بأيدي العاملين فيها؛ من خلال الفهم العام للواقع المراد تغييره، والفقه بإدارة الثغور والمهام وتقييمات الجدوى والمراجعات الداخلية.
- هل الإصلاح يحتاج إلى مشروع مخطط له من الألف إلى الياء؟
حريٌّ بنا أن ندرك أن نتيجة المسير الإصلاحي التي تخاض تختلف حسب فهمنا للإصلاح بكلية مراتبه ومستوياته؛ فحينما نتفهَّم أن الإصلاح أحرى واجبات الوقت، وأنه من مفضولُ الأعمال التي يمكن أن تقودنا للخيرِ فيما دونِه من الأعمال الفاضلة، ونفهم أنه وظيفة لعبوديةٍ تُقام معذرةً إلى المولى سبحانه = يتقرّر لنا أن العمل به هو الأولوية المطلوبة بالضرورة، وأن الهيئات التي تظلِّل المسير الإصلاحي لا تغدو عن كونها وسيلة، وأن الغاية أسمى من كلّ الأرضيّات، وأن الممكن لا يحتاج بالضرورة مثاليةً بالوسائل بقدرِ ما يطلبُ الهمّةَ والإرادةَ على التغيير بالمتاحِ الذي يتعرض للانحسار في ظلِّ هيمنة المجرمين.
- ما هو دور النخب في عملية الإصلاح؟
معلومٌ في أي مسير للإصلاح ضرورة وأهمية تواجد نُخب من المصلحين تقود السير لعملية التغيير المطلوبة، فالجموع التي تتطلب التغيير تحتاج لقُوَادٍ ودعاة إصلاح عاملين، أصحاب “إرادةٍ قوية لا يتطرق إليها ضعف، ووفاءٍ ثابت لا يعدو عليه تلوّن ولا غدر، وتضحيةٍ عزيزةٍ لا يحولُ دونها طمعٌ ولا بُخل، ومعرفةٍ بالمبدأ وإيمانٍ به وتقديرِ له، يعصم من الخطأ فيه والانحراف عنه والمساومة عليه والخديعة بغيره”(1) يُصنعون على نار الأزمات؛ ليَسوسوا قدرات الجموع في تجربة يصنعونها هم بقدر ما تحمل من الوعي بالسنن والمنهج الإصلاحي والإدارة لحيثيات المسير يقودون الركب على بصيرةٍ وهدى. ولا يسع المقام التفصيل بخصائص النُّخب بقدر ما هو إضاءة للحال العام من طريقة إصلاحاتهم، فعادة الإصلاح القِيَمَيّ يكون أصعب من الإصلاح الذي يتعلّق بالأمور المادية، وخلاصة الأمر فيه أن النخب تلعب الدور الأكبر والأعظم؛ بكونهم القيادة التي تلجأُ إليها الجماهير عند إدراك أزماتها، فتتجمع حولها وتتحرك بإرشادها.
كنت قد سعيتُ لمناقشة بعض التوجهات والأسئلة التي تتراود لدى شرائح المهتمين بالإصلاح، وتبيان بعض الحقائق وتسليط الضوء على تركيبية الأزمة في الفهم؛ قاصدًا في ذلك التنبيه على تركيبية الحلّ الذي ننتظره، مؤكدًا على ضرورة العمل بكافة أشكاله لشغل مختلف الثغور، والحديث في قضية الإصلاح يطولُ حينما نتقصَّدُ “الجيل الصاعد” كفئة مستهدفة بالخطاب، يسَّرَ الله مقالاتٍ أخرى تُعنى بهذا الموضوع وتحدياته.
الهوامش:
- الإمام البنّا، رسالة المؤتمر السادس.
رائع