المدونة

أخدود غزة وإصلاح الميزان الأممي

في ظلِّ البُعْد عن المنهجِ الرَّبانيِّ والتنكر الظَّالم من قبلِ الإنسان للمهمَّةِ التي خلقه الله لها؛ تعيشُ البشريَّة في القرنِ الحادي والعشرين الميلادي زمانًا تقدم فيه أفضل النُّسخ التي وصلَ إليها في مجالاتِ التَّطور التقني والاتصال والمعلومات، لكنها تقدم في الوقت ذاته نسخًا لم يسبق لها مثيل من صور التَّوحش المادي العالمي الشَّاذ.

إنَّ هذا التَّوحش أصله الكبر والغرور والشعور بالاستغناء الذي وصفه الله في كتابه منبهًا ومحذِّرًا من الوقوع فيه: (كلا إنَّ الإنسانَ ليطغى أن رآهُ اِستغنى إنَّ إلى ربكَ الرُّجعى) العلق : 6_ 8 .

عزيزي القارئ:

إنَّ هذه النُّسخ الممسوخة المجرمة، تمثلُ اِنحرافًا غير مسبوق عنِ الفطرة الرِّبانية السَّوية، والعقل السَّليم، والأخلاق المعتدلة، وهي تمثِّلُ ذروة الطُّغيان والاستبداد البشري عندما يخلو القلب والعقل من الإيمان الحق والمبادئ الربانية. لقد شهدنا قبل نحو من عام، وبالتَّحديد قبيل نهاية العام 2022 م، أثناء تنظيم فعاليَّات كأسَ العالم لكرةِ القدم في دولة قطر حملة عالمية ماجنة ضدَّ الدولة المستضيفة وضدَّ كل من أيدها أفرادًا وحكومات ومنظمات.

شاركت في هذه الحملة الضَّارية نخب وصلت إلى مستويات رؤساء دول ووزراء وقادة دينيين غربيين وزعماء أحزاب وقادة منظمات أممية، ودولية، وشركات اتصالات، ومعلومات.

السؤال: لماذا كل هذا؟ 

الجواب: 

لأنَّ تلكَ الدولة أعلنت رفضها وتحفظها على الإعلان عن ممارسة الشُّذوذ الجنسي ونشر إعلامه وشعارات ألوانه أثناء الفعاليات الرياضية المقامة. لقد اِنتفضت دول أوروبية يقالُ عنها متقدِّمة -زعموا – وانتفضَ رئيس أكبر دولةٍ في العالم من أجلِ المناداة بمنحِ المثليين الشَّواذ حقوقهم في التَّعبير والممارسة، عياذًا بالله، القائل: (والله يريدُ أن يتوبَ عليكم ويريد الذين يتبعونَ الشَّهوات أن تميلوا ميلًا عظيمًا) النساء : 27 .

لقد قدَّمت تلكَ الحملة المسعورة نموذجًا غير مسبوق في الاِنتكاس العالمي، والتَّوحش، وتبني الشُّذوذ المدمِّر للأسرة، والمجتمع، والأخلاق. وتمثَّلَ ذلك بالدِّفاع عن أصحاب الفواحش والسَّعي والدَّعوة لتقنينها، بل وتعليمها للأطفال وجعلها حقًّا لكلِّ من يريدها دون قيْدٍ أو شرط.

وحاصل الأمر:

إنهم يريدونَ انتقالَ البشر من عالمِ الإنسان إلى عالمِ البهائم دونَ أيِّ حرج أو تحفظ، فالمسألة أصبحت في دينهم وعقيدتهم حرية شخصية! لقد صدقَ علماؤنا ومفكرونا عندما أطلقوا على العالم الغربي في القرن العشرين مسمى (الحظيرة الغربيَّة) بدلًا من (الحضارة الغربيَّة).

فيا ترى، ماذا كانوا سيُسمون هذا العالم وهذا النظام العالمي المنكوس في القرنِ الحادي والعشرين؟

عزيزي القارئ:

للأسف الشَّديد نشهد هذه الأيَّام والأسابيع -وربما الشُّهور القادمة- شذوذًا من نوعٍ آخر، ونسخة أخرى، أكبر همجيَّة وشذوذًا وبشاعة لذلك التَّوحش المنكوس!

أحدثك عما جرى -ولا يزال – يجري في فلسطين، وبالتَّحديد في قطاع غزة بعد عملية “طوفان الأقصى” في 7 / أكتوبر / 2023م. لقد حول الكيان الصُّهيوني الغاصِب المحتل قطاع غزة وخلال أيام معدودات إلى أخدودٍ للقتل، والتعذيب بالجوع، ومنع الدَّواء، والحصار، والإبادة الجماعيَّة مع سبق الإصرار والتَّخطيط زعمًا أنها عملية عسكرية للدِّفاع عن النَّفس.

إنها في حقيقتها عملية تهدف إلى التَّهجير لشعب غزة فإن لم يحصل ذلك فهي مقدمة لتحقيق ذلك بغض النظر عن مخالفة الجوانب الإنسانية أو الأخلاقية.

يقتل في هذا الأخدود العشرات، بل المئات، بل تجاوز الرقم حين كتابة هذا المقال بعد أربعين يومًا من بدءِ الحرب اليهودية على قطاع غزة أكثر من 12000 قتيل قرابة الثُّلثين منهم من الأطفال والنِّساء. وكل ذلكَ جرى ويجري أمامَ أعين العالم وتُبَثُّ الجرائم على الهواء مباشرة ليلَ نهار، وبدلًا من تحول هذه المشاهد الصَّادمة لتكون عنوانًا لليقظة العالمية نصرة للمظلوم وإعادة للحقِّ المسلوب إلى أهله إذا هي تصبح عنوانًا للسُّقوط القيمي للمجتمع العالمي بأسره.

40 يومًا تقصف فيها البيوت والمباني على السُّكان الآمنين وتقصف فيها المساجد والكنائس وتقصف سيارات الإسعاف والطواقم الطبية، بل وصل الأمر إلى استهداف المستشفيات بما فيها من المرضى والجرحى والمعاقين والأسر النَّازحة الباحثة عن الأمن والأمان والعالم يتفرج.

40 يومًا والجدل الفلسفي والقانوني والعاطفي بين الجلاد والضحية قائم على منابرِ الأمم المتحدة. والقوى العالمية الحامية للنِّظام والسِّلم الدولييْن زعموا حالها كالأفاعي الرقطاء تنفخ في الكير ولا تريد أن يصل النَّاس إلى قرار يخالف أهواءها ومصالحها ومصالح حلفائها المجرمين.

أي مجلس أمن هذا وأي منظمة إنسانية هذه؟

بل هو مجتمع زور وكذب وخداع ونفاق ومنظمة للدِّفاع عن رغبات السَّادة فقط.

نعم، لقد سقطَ المجتمع الدولي في الاختبار، بل هوي إلى قاعٍ سحيق لن يخرج منه إلا بعودة جماعية لتصحيح الميزان.

بالنسبة لنا فلا أعْدَل ولا أحْكَم من دينِ الله جلَّ وعلا كما قرَّرَ ذلك بقوله عزَّ وجل:

(ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزلَ الله بها من سلطان إن الحكم إلا لله أمر أن لا تعبدوا إلا إيَّاه ذلكَ الدِّين القيِّم، ولكن أكثر النَّاس لا يعلمون) يوسف : 40 .

ولذلك نؤمن أنَّ ذلك الميزان العالمي المختل لن يعتدل ولن يصحح معياره إلا بمرجعية الدِّين الحق في نهايةِ السِّجال. وإلى أن يتم ذلك فعلينا – نحن المسلمون – ما يأتي:

أولًا

إعلان موقفنا العَقَدي من قضيةِ فلسطين ومما جرى ويجري بكلِّ جلاء ووضوح ورفض كل ما يضاد ذلك ونكرره حتى يصبح حقيقة راسخة لدى شعوبنا ولدى الخصوم لا يتعاملون معنا إلا بموجبه. 

ثانيًّا

التَّواصي مع أحرار العالم لكسر منظومة صناعة القرار الأممي المختلة وإعادة تشكيلها بما يحقِّق العدل ورفض الاستمرار في هذا المسار الأعوج والأهوج أو استبدالها بخير منها وهو الأفضل . 

ثالثًا

إعادة تقييم وتقويم الهيئات الممثلة لبلاد المسلمين مثل جامعة الدول العربية ومنظمة المؤتمر الإسلامي وبحث وسائل إخراجها من رتابتها القاتلة وفشلها المخزي ولو بخطوات متدرجة مع إعادة النَّظر في الانتماء لعضوية منظمة الأمم المتحدة والالتزام بميثاقها الذي لا يطبق إلا بمنطقِ الأقوياء. 

رابعًا

كشف الاختلال بما يسمى الشرعية الدولية ودورها في نهب ثروات المسلمين وإبقاء دولنا وحكوماتنا خاصة العربية والمسلمة تحت ذل الوصاية والشركات الاستعمارية متعددة الجنسيات. 

خامسًا

كشف التوحش والشذوذ الأممي في الاتفاقيات الدولية والعنصرية في التعامل مع بعض الأديان، أو الأعراق، أو الأقليات، أو القضايا خاصة حقوق المرأة والطفل. 

سادسًا

كشف مواطن الاختلال العقدي والأخلاقي في برامج المنظمات الدولية العاملة في بلاد المسلمين والمدعومة من مافيا الفساد والفسق والكفر العالمي حتى تكون الأجيال الجديدة محصنة ضدها. هذه بعض المسارات الممكنة إذا توفرت الإرادة من النُّخب الحرة والصَّادقة، والأمر لن يتم في يوم وليلة، لكن لكل نتيجة مقدمات لابدَّ منها.

اللهم ارحم ضعفنا وتولَّ أمرنا وأمر إخواننا المستضعفين في كل مكانٍ، ولا حول ولا قوة إلا بك وحدك لا شريك لك.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى