أرادَ الله أن يخلقنا مختلفين وتلك سنة إلهية, وأن يجملنا بذلكَ التَّنوع المتميز الذي يضيفُ ولا يفرِّق, ويبني ولا يهدم, ولعلَّ ذلك مما يضيف للحياة قيمة ومعنى, ولكَ أن تتخيل الحياة بطابع واحد رتيب, ومكرر, سيكون ذلك في غاية الصعوبة والملل, لأنَّ ذلك سيكون ضد فطرتنا السَّليمة ومتطلبات حياتنا التي يزينها ويديرها الاختلاف.
“ولو شاءَ ربكَ لجعل النَّاس أمة واحدة ولايزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين”.
إنَّ الإنسان الطبيعي يأنس بالاختلاف والتنوع, ويرى منه بذرة طبيعية للارتقاء والتقدم, وقد لا يكون من المبالغة أن نقول: إنَّ أزمتنا الحقيقية تكمن في الاستنساخ الحاصل في الأفكار والبرامج والمرجعيات, بل والتعاطي مع متغيرات العصر وثوابتنا العظيمة التي صنعت جيلًا عظيمًا يغذيه الاختلاف والتنوع.
والسؤال هنا: هل الاختلاف سببٌ للخلاف؟
الحقيقة أنَّ الاختلاف قد يكون سببًا للخلاف في البيئات التي تعاني من الجهل, والفقر, والبطالة, والظلم السياسي, والجمود الثقافي, وكلها للأسف موجودة في مجتمعاتنا المسلمة والعربية, ففي هذه الأجواء يتحول النَّاس إلى أكوام متراكمة من المشاعر السلبية و الاتهامات المتبادلة والإنتاج الضعيف, والتقزم الثقافي, وتكثر عملية استنساخ تجارب مستوردة قد لا تكون صالحة بالمرة لمجتمعاتهم, بل ربما متعارضة تمامًا مع ثوابتهم ومعتقداتهم، والسبب في ذلك، الضعف والجمود الحاصل لديهم والذي يجعل منهم بيئة مستنسخة بامتياز للغثِّ والسَّمين والمفيد والغير مفيد.
تراهم يستخدمون اختلافهم وتمايزهم عن بعضهم استخدامًا سيئًا يدمر أي وسيلة للالتقاء أو التطوير, بل تعتليهم العنصرية ويغدو الاختلاف شريانها الرئيسي الذي يمدها بالطاقة, ونظرة غير متفرسة لليمن والعراق تغنيك عن مئات الأمثلة.
وعلى النقيض تمامًا يعتبر الاختلاف سبيل التطوير الأمثل لدى المجتمعات المتحضرة والمنتجة, ويتم استثماره وتوظيفه لخدمة تلك المجتمعات حيث يصبح مضمارًا واسعًا لتنافس الخدمات وايصالها للمواطنين, بل والتنافس في الجودة التي تُقدم بها .
حيث لا يمكن اطلاقًا أن يكون الإختلاف سببًا للخلاف والفرقة إذا وُحِدت الغايات وكانت الوجهة واحدة في أعظم البيئات وأبسطها على الإطلاق .
ولقد شهدنا عبر التاريخ الإسلامي والحضاري الإنساني تنوعًا وتعددًا أسهمَ في بناء المجتمعات, وكان سببًا في رقيها وصمودها وقوتها ولحمتها حيث يعد المجتمع الإسلامي الأول خير مثال على التنوع المنتج .
مجتمع كانت وجهته الله, وعمله لله, ووسيلته أفراده بتنوعهم واختلافهم، يستخدمون الشورى ويوثقونها ويحترمونها ويستثمرون ويوظفون القدرات ويعظمون شأنها.
ما الذي يصنع الاختلاف المنتج ؟
عدة عوامل من أهمها:
- العلم ونبذ الجهل والتعصب
- الانفتاح ودراسة التجارب الجديدة ومحاولة استثمارها
- إحياء مبادئ الحوار على كافة الأصعدة التربوية والسياسية والاجتماعية والدينية وعمل منتديات ثقافية تغذي ذلك وتسهم فيه، للكبار والصغار ولكافة أنواع التخصصات .
- الحرية في طرح الأفكار ومناقشتها وإخراجها في صيغة تناسب مجتمعاتنا وهويتنا الإسلامية .
- عمل مؤسسات توعوية بأصول ديننا الحنيف والسمت الإسلامي العام لصد التمييع ومحاربة الأفكار الشاذة التي لا طائل منها ولا مردود علمي أو أخلاقي أو ثقافي أو تعارض أصولنا وهويتنا المسلمة.
- خلق بيئة علمية جدية فاعلة همها الإنتاج الهادف ورفع المستوى المعيشي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي .
والاختلاف ليس غاية بقدر ما هو وسيلة من وسائل تحقيق الاستقرار والإنجاز المجتمعي تلبية لنداء الفطرة والخلْق . ولقد هالني ما تحدثه أجيالنا الناشئة من تجاوزات سعيًا وراء إثبات الذات وإشباع للرغبات والأهواء وما يصاحبه من تقليعات صاخبة وأفكار عشوائية تُظهِر تمامًا حقيقة التقليد والاستنساخ الأعمى الذي تعاني منه مجتمعاتنا العربية, وأنا هنا بالطبع لا أقصد رفض تجارب الآخرين بالمطلق ولكني أيضًا ضد التمييع المطلق والذي لا يحمل فكرًا ولا يضع بين أيدينا قضية هادفة غير التحدي لكل موروث والرفض للماضي بالمطلق.
وإلى الآن لم يبرز لنا الواقع ظواهر فكرية ومعرفية وثقافية الا الندر اليسير وعادة ما يكون مُحارب من أصحاب الأفكار التقليدية والمتحجرة والأصولية المتطرفة!
كل ما برز للآن إلا ما رحم ربي, نماذج مختلفة متمردة غير مطلوبة أساسًا، ناقمين على الدِّين والتدين والسَّمت العام, والعادات والتقاليد, وفي الغالب لا يقدمون مشروعًا معينًا يسهمُ في الأداء الحضاري المنتج, لكنهم جادين جدًا في تقديم شيء مختلف وغير مألوف دون النظر هل يقدم شيئًا مفيدًا أو مصححًا أو مضيفًا لأرض الواقع بكل نواحيه أم لا؟.
ولقد أحزنني كثيرًا أن الكثير من هؤلاء قد يكونون من مخرجات الريادين والمثقفين وربما من ينعتون أنفسهم بالمصلحين، إن لم يكونوا أنفسهم، والسبب قد يكون اطلاعهم على الجوانب المعتمة من حياة مربيهم وروادهم إن كانوا بالقرب منهم، أو أنَّ التردي الحادث داخل المجتمعات المسلمة قد أضرّبهم بطريقة ما إن كانوا غير ذلك، هذا إذا تجاوزنا الأيدولوجيات المضادة ودورها المدروس في إيصال مجتمعاتنا إلى ما آلت اليه.
نحن للأسف بين مطرقة المتغيرات الخارجية والتقليد الأعمى وسنديان التزمت الديني المطلق القائم على فقه المختلَف, والجهل المشاع, والعلم والفكر العاجزين، وتُعد الأسرة البذرة الأولى لرعاية الاختلاف وتقبله كما تُعد المجتمعات والدول هي الراعي الفعلي الذي يقوم بإبراز هذا الاختلاف واستثماره وإخراجه في صورة إنتاجية خادمة لتوجهات هذه المجتمعات والدول..
لماذا تحب المجتمعات المتخلفة الاستنساخ والتقليد وتبتعد عن الاختلاف والتجديد ؟
السبب في ذلك, إذا نشأت المجتمعات على طابعٍ تقليدي ولفترة زمنية معينة متسمة بالجمود والضعف الفكري والسياسي والاقتصادي والثقافي, كما هو الحادث في مجتمعاتنا الإسلامية, كان من الصعوبة بمكان إحداث نهضة شاملة لتلك المجتمعات, وقد قيّدها ماضيها بقيود وهمية وأدى ضعفها الاقتصادي والسياسي والثقافي إلى شعور تلك المجتمعات بالدونية والتبعية للدول الأكثر قوة في تلك المجالات، وتظهر الاستنساخات المطلقة ويزيد التردي النفسي للأفراد ويقل الإنتاج في تلك المجالات ويتولد لدى الفرد مظلومية الضعف الناقمة السلبية وتقل الإيجابية مما يؤدي إلى مزيد من الانحطاط وإلى مزيد من الاستنساخ والتمييع لهوية تلك المجتمعات وقمع الأفكار التجديدية والتنوعات المنتجة..
أخيرًا: بماذا نبدأ إذا أردنا رعاية الاختلاف وتوجيه دفته توجيهًا صحيحًا لخدمة مجتمعاتنا وثقافاتنا؟
أثبتت التجربة الإسلامية الأولى التي أنتجت هذا الامتداد الجغرافي والسياسي والاقتصادي والثقافي المترامي الأطراف أنّ الفكر والعقيدة أول عوامل التغيير المطلق..
حتى وإن اتسمت المرحلة الحالية بالضعف والجمود فإن عودتنا لتصحيح الأفكار وتجديد الخطاب الديني والانفتاح الثقافي وتصحيح الموروثات الخاطئة ونشر العلم سيختصر الكثير من الجهد وسيحقق كثيرًا من الإنجازات في فترة زمنية قياسية، حيث يُعد البناء الفكري الصحيح للإنسان هو أول خطوات البناء الحقيقي للمجتمعات المتميزة التي تجعل من اختلاف أفرادها وبيئاتها مصدر قوة لا بؤرة عنصرية مميتة بل تنجح تمامًا في استثمارها ووضْعها في أُطرها الصحيحة المنتجة .
ثم يأتي وضع الرؤية العامة للمجتمع وفق المقتضيات الشرعية الصحيحة ووفق مبادئ فقهية متزنة بما يوافق العصر ولا يميع الشرع والذي يترتب عليه فيما بعد خطوات عملية مدروسة لإدارة المخرجات وتنقيحها وتعديلها واستخدام ذلك كله في خدمة تلك المجتمعات وتطويرها …
الموضوع يحمل تفريعات جميلة وأفكار متعددة أتمنى أكون وُفقت في الإلماح لبعضها والله من وراء القصد.
بارك الله فيك استاذه بشرى دمتِ حديثاً طيباً بيننا، فخراً نعتز به، قدوة نقتدي بها، دعوة لانكف عنها