المدونة

الجابري والأخلاقية العربية

أضرَّ الجابري (ت: 2010) بالتُّراث، سواءً في سلسلة “نقد العقل العربي” أو في “فهمه للقرآن الكريم”. في الدراسة النَّقديَّة نهج نهج المستشرقين في جعل التراث خارجًا واللهو على سطحه، فأخذ يقشّره، بصورة أجرأ من الاِستشراق وأحدّ، ثمَّ يجمِّع هذه القُشارة ويشيعها فتحًا جديدًا في معرفة الثَّقافة العربيَّة. وفي فهمه للقرآن الكريم سار على خطى نولْدكه (ت: 1930) في كتابه (تاريخ القرآن): تجزيء النَّص الإلهي وبعثرته وإفراغه من غناه البياني والوجودي معًا.

ثمَّة فرح ساذج لدى المثقفين بكتب الجابري، لأنها:

أولًا: أعفتهم من قراءةِ التراث ذاته، أعني وفَّرت لهم ثرثرةً حول ذاكرتنا العميقة دون تأنيب للنَّفس تأنيبًا معرفيًّا: الكف عن ترجيع آراء الآخرين وكأنها آراؤنا، والبدء بقراءة هذه الأصول لنبني رأينا الخاص. 

وثانيًا: الإيهام الخَطِر بأنَّ ما كتبه الجابري هو التَّفلسف بعينه، وإذن من طمح ليكون فيلسوفًا فعليه بنقد التراث وتمزيقه نُتَفًا. إذ يرى أنَّ تقسيمات التُّراث إلى حقول هو بالضَّبط ما عناه دولوز (ت: 1995) بأنَّ “الفلسفة هي إبداع المفاهيم”. وقد قالها الجابري مرةً أنَّ تقسيمه للتُّراث (بيان-عرفان-برهان) عملٌ فلسفي. في حين أنَّ الشَّهرستاني سبقه إلى هذا التَّصنيف ولم يحشُ حشوه. 

وثالثًا: لأنَّ الجابري أشبع لدى هذه الزمرة، ما تجده في صدورها من ضغينةٍ تجاه جوانب خاصَّة من تراثنا الكبير والعظيم.

اِستطردتُ ومرادي الحديث عن بخْس الجابري للأخلاقية العربية:

في نقد العقل الأخلاقي العربي قدم الجابري نقدًا شديدًا لـ(أخلاق الطَّاعة) كما سمَّاها، ويعني بذلك أنَّ الثَّقافة العربية، لاسيما الحقل البياني، قد كرست في نفوس النَّاس أخلاقية الخضوع للسُّلطان، وأنَّ الخليفة “رب على الأرض” ويجبُ التَّسليم له في كل آن، الأمر الذي أنتج ثقافةً ترى الخنوع من فضائلها؛ لهذا نالَ كتاب “عيون الأخبار” لابن قتيبة (ت: 286) نصيبًا مجحفًا من الثَّلب، والذي أعدُّه من مفاخرِ تراثنا الأدبيِّ ومن الكتب التي نقدمها للعالَم باعتزازٍ وتفضّل.

نَقَده الجابري لأنه يبدأ بكتاب السُّلطان (يجب التذكير بإغضاء الجابري عن كتاب العِقد الفريد، على أنه يبدأ كذلك بكتاب اللؤلؤة في السلطان، ولعلَّ بن عبد ربه ألفه دون الاطلاع على عيون الأخبار، لكن ابن قتيبة مشرقي وصاحب العِقد أندلسي، وغني عن التَّبيين إشادة الجابري بالمدرسة الأندلسية، ومن يقرأ العِقد يجد ابن عبد ربه قد رقَّقَ فصاحة العرب وليّنها وجعلها سهلة المأخذ حتى أفقدها جلالتها في كثير من المواضع).

تجاهل الجابري أنَّ السُّلطان نفسه محمّل بأخلاق امتثالية تجاه الرَّعية. إنَّ القائد مقود. لم تتغافل الآداب السُّلطانية عمّا يجب على الوالي من تحرزات، إلى الحد الذي نشفقُ عليه من تبعات الإمارة. إن الخليفة، في تراثنا، مُطوَّق.

على أنَّ نقد العقل الأخلاقي العربي يضربُ صفحًا عن دراسة البنى العميقة التي كانت تقود حركات التمرد والخروج على الولاة. إنَّ الجابري يأخذ التراث قبليًّا كما لو يُملى عليه.

بما أنَّ عملَ الجابري عمل “فلسفي” و”غير مسبوق” كما يزعم؛ فإنَّ عليه أن يكشف لنا لماذا وجدت أخلاق الطَّاعة بالضَّبط؟ يقول: إنَّ الثَّقافة العربية استعارت “أردشير” ونصبته “أبًا” لذا، فهو يتساءل متى سنقتل أبانا أردشير لنفتتح عالمًا لا امتثال فيه. لكن لماذا أخذنا الخضوع من الفرس؟  ولماذا تقبلنا؟ وهل هي حقًّا أخلاق خضوع؟ ثم هل مشكلة السلطة تتركّز عند السلطان الخليفة حصرًا؟ الجابري يُضلّنا ويزرع الاضطغان.

أمَّا أخلاق المروءة فقد أهملها الجابري واعتبرها بقية من الجاهلية ولا أهمية لها في تأسيس الأخلاقية العربية. وبالنسبة له فهو لا يعوِّل عليها ولا ينقدها نقده لأخلاق الطاعة وأخلاق الفَناء، لكنه يهون من عِظَمها ولا تصلح، في رأيه، للتمثل اليوم.

إنَّ فلسفة الجابري تَقْصُر عن إدراك العمق الوجودي لهذه البنية التي مدار الفرد العربي عليها.

قال أكثم بن صيفي: “ما أنتم إلا أخبار فحسّنوا أخباركم”.

إنَّ فيلسوفًا يقظًا سيتوقف كثيرًا عند أخلاق المروءة. ليست سلوكًا عرضيًّا، إنما التحام عميق بالكينونة؛ تعمقها وتوسعها وتجعلها منيفة.

ثمَّ تأتي أخلاق السَّعادة، حيث الفضيلة هي الحالة الوسط، فيهملها الجابري ولا يبخسها. لكنه ينسى الهاجس البنيوي ليصبح جينيالوجيَّا متتبعًا الأصل الأرسطي لهذه الأخلاق، ولم يسعفه ذهنه ليفصل بين المشرق والمغرب.

وبالنسبة لأخلاق التصوف، أخلاق الفَناء؛ فالجابري يواصل تهديمه لهذا الجانب الخلَّاق من تراثنا منذ كتابه “تكوين العقل العربي”، ويهاجم بشدة الشيخ الأكبر محي الدين بن عربي (ت: 683) رغم أنه أندلسي. حين يتعلق الأمر بالتَّصوف فلا هوادة، فالجابري هو العقلاني الجاف، حتى لا أقول الغليظ البارد.

إن وضعانية الجابري تعجز عن تفهم المكاسب الروحية الثَّمينة التي خلفها لنا التراث الصُّوفي.

ولأنه ينطلق من وضعية براجماتية فسوف يعلي من (أخلاق المصلحة)كما ثبّتها، ويجعلها الأخلاق الأجدر بتداولها اليوم. فهي أخلاق قائمة على “عقلانية” محبوبة لديه، وعلى ترتيبات واضحة، أخلاق وظيفية، وسيأخذ العز بن عبد السلام رائدًا.

والحق أنَّ الإمام بن عبد السَّلام يجهل هذا المفهوم، وإنما يتحدث عن الالتزام بالفضيلة وَفْق الشَّرع لينال المرء ثوابًا في الدنيا والآخرة. والفضيلة عند علمائنا القدامى جامعة للمروءة وطاعة السُّلطان (ارتضاءً) والتزهد وتوخي الحالة الوسط.

لا يوجد في التراث من انتهج مفهومًا من مفاهيم الجابري وأهمل المفاهيم الأخرى إهمالًا كاملًا؛ فهم لا يعرفون هذا التقسيم. إنَّ البنيوية المزعومة في عمل الجابري لا نكاد نلمسها، ولو اشتغل اشتغالًا بنيويًّا لأبرز لنا عظمة الموروث، ولقدّم فلسفةً كونية، تثري الذات، وليس عليها، بالضرورة، أن تكرس نمطًا جديدًا من الامتثال.

ثقافتنا القديمة عظيمة لأنها خلت من سلطانها. هي جذر عميق، وسخاء.

إنَّ الفلسفة، لاسيما الظاهراتية بفروعها، تجد سبلًا رائعة لفهم موروثنا بصورة أرحب. تجعلنا نحب آباءنا.

التراث لا يعطي كنوزه لمن في صدورهم غلٌّ وجفاء.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى