المدونة

الرِّيمُونْتَادَا: دلالة حربيَّة دموية

تمهيد:

مِنْ أخطرِ الحُروبِ وأخبَثِها قَديمًا وحديثًا حربُ المُصطلحاتِ، حيثُ تُسَمَّى الأشياءُ بغيرِ أسمائِها تلبيسًا وتدليسًا، كما سمَّى المُرابُونَ أكلَهُمُ الرِّبَا أضْعافًا مُضَاعَفَةً بَيْعًا مشروعًا، قائلينَ: (إِنَّمَا البَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا)، وكما سمَّى إبليسُ الشَّجرةَ التي نُهِيَ آدمُ، عليه السَّلامُ، عن قُرْبِها بشجرةِ الخُلْدِ، قائلًا: (يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى ‌شَجَرَةِ ‌الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلى)، وقد سار على دَرْبِه جمهورُ المُتأبْلِسِينَ على مرِّ العصور، إذ عَمَدوا إلى تحسينِ عُرَرِ النَّقائصِ الفاضحةِ بِتسميَتِها بأسماءٍ برَّاقةٍ خدَّاعةٍ، فَسَمَّوا الرِّبا فائدةً، والزِّنا صداقةً ومُساكَنَةً، والتبرُّجَ حُريَّةً، والخُمورَ مَشروباتٍ رُوحيَّةً، والسِّحرَ والتنجيمَ علومًا روحانيَّةً، فلا جرمَ أن تقرأَ ضمنَ عناوينِ كُتبِ الهَرْطَقةِ: (الكِبريتُ الأحمر)، و(شمسُ المعارفِ الكُبْرى) و(خمائر السَّرائر الإلهيَّة). وفي المقابلِ عَمَدُوا إلى تقبيحِ غُرَرِ الخَصائصِ الواضحةِ بِتسميَتِها بأسماءٍ قبيحةٍ شائنةٍ، فسمَّوا الحجابَ خَيْمةً، والتمسُّكَ بالأصولِ رَجعيَّةً، والجهادَ المشروعَ إرهابًا، والالتزامَ الصادقَ تطرُّفًا، ورَسْمَ حدودٍ في العلاقةِ بينَ الرِّجالِ والنساءِ تخلُّفًا أو تمييزًا عُنْصُرِيًّا. ولكَ أنْ تطبِّقَ هذا القاعدةَ الإبليسيَّةَ بشأنِ ما ترى من تضخيمِ السَّاقطينَ التَّافهينِ، ووصفهم بأنَّهم نجومٌ ورموزٌ، ومنهنَّ أمَّهاتٌ مِثاليَّاتٌ، في مقابلِ التَّهوينِ من شأنِ العُلماءِ الرَّاسخينَ، والسُّخريةِ منهم في وسائلِ الإعلامِ ليلَ نهارَ.

ومن المفارقاتِ المُضحكاتِ المُبكياتِ أنَّ الغربَ يبذلُ ما في وُسْعِه -بمساعدةِ عُملائِهِ من المُستغربينَ- في سبيلِ تشويهِ مُصطلحِ الأصوليَّةِ (Fundamentalism)، الذي يعني لُغَةً: العودةَ إلى الأصولِ والالتزامَ بها، فجعلوه مُرادفًا للتطرُّفِ والتشدُّدِ والإرهابِ، ولكنَّهُ في الوقتِ نفسِهِ يلوذُ بتلكَ الأصوليَّةِ في ترويجِ بعضِ المُصطلحاتِ الملغومةِ، حتَّى تُردِّدَها الأجيالُ الناشئةُ دون وَعْيٍ بالخلفيَّةِ التَّاريخيَّةِ لها، وفي أحيانٍ كثيرةٍ تكونُ تلك المصطلحاتُ ذاتَ أبعادٍ صليبيَّةٍ خبيثةٍ.

وقبلَ الخوضِ في خلفيَّةِ مُصطلحِ (الرِّيمونتادا)، أذكرُ موقفًا حَدَثَ مَعِي منذُ أكثرَ من عشرينَ سنةً، حيثُ جاءني أحدُ عمَّالِ المسجدِ قائلًا: “يا مولانا، مشْ عاوز تليفون فيه بَلاتوس”، (هكذا نطقها بفتحِ الباءِ، والألفِ المَدِّيَّةِ بعد اللام، والسين)، فقلْتُ له: وما هذا البَلاتوس يا عمّ محمد؟! قال: واللهِ ما أعرف، هو الرجلُ بتاع “موتورولا” في المحلِّ المُقابلِ للمسجدِ، قال لي: التليفون ده فيه بَلاتوس! فقلتُ له: لا حاجةَ لي به، فقد كانَ معي يومَها صخرةُ نوكيا (3310)، وقد عُمَّر معي دهرًا، حتَّى عدلْتُ عنه -على سلامَتِه- إلى هاتفٍ ذكيٍّ، لكنِّني طَفِقْتُ أبحثُ عن ماهيَّةِ ذلك البَلاتوسِ المزعومِ، فوجدْتُهُ يقصدُ: الـ (Bluetooth)، وعرفْتُ يومَها أنَّها تقنيَّةٌ حديثةٌ لنقلِ البياناتِ بينَ الهواتفِ والأجهزةِ المتقاربةِ المسافاتِ، عن طريقِ مَوْجاتٍ ذاتِ تردُّدٍ عالٍ، ولكنَّني تساءلْتُ: ما علاقةُ تلك التقنيَّةِ بهذه الكلمةِ التي تعني (السِّنَّ الزَّرْقاء)؟ فجعلتُ أبحثُ حتَّى وقفتُ على أنَّ هذا هو اللقبُ الإسكندنافيُّ للملك “هارالد فير هير” (Harald Fair hair)، وهو أحدُ ملوكِ النَّرويجِ في القرنينِ التاسعِ والعاشرِ الميلاديَّيْنِ (850-932م)، والذي خاضَ عدَّةَ مَلاحِمَ ضدَّ خُصُومِه، حتى تمكَّنَ من توحيدِ النَّرويجِ في مملكةٍ واحدةٍ، بل قامَ بتوسيعِ سُلطانِه لِيَضُمَّ مناطقَ شاسعةً من شبهِ الجزيرةِ الإسكندنافيَّةِ، وقد كانتْ قُوَّاتُهُ هي العمادَ الأهمَّ لِمُحاربي الفايكنج (Vikings)، الذين كانوا يتَّسِمونَ بالهمجيَّةِ والوحشيَّةِ المُطلقةِ، وقد تحدثْتُ عنهم في خاطرةٍ سابقةٍ بعنوانِ: (سَوَادٌ من السُّوْيدِ)، وقد كانتْ لهذا الملكِ سنٌّ زَرْقاءُ، عُرِفَ بِها، وصارَتْ لَقبًا له، فلم يجدْ مُطَوِّرو هذه التقنيَّةِ بشركةِ إريكسون (Ericsson) السُّوَيْديَّةِ في معاجِمِهم إلَّا هذا اللَّقبَ، الذي وحَّدَ صاحِبُهُ مُعظمَ شبهِ الجزيرةِ الإسكندنافيَّةِ؛ لِيرمزَ الاسمُ إلى توحيدِ الأجهزةِ الإلكترونيَّةِ، على الرغمِ من انْبِتاتِ الصَّلةِ بين معنى الكلمةِ ودلالةِ هذهِ التقنيَّةِ الاتِّصاليَّة! أليستْ هذه صورةً من صُوَرِ الأصوليَّةِ أو الرجعيَّةِ، حسبَ وصفِهم لكثيرٍ من المصطلحاتِ الإسلاميَّةِ؟!

مصطلح الرِّيمُونْتَادَا

أمَّا المُصطلحُ الذي تدورُ حولَهُ هذه الخاطرةُ، فهو (الرِّيمُونْتَادَا)، والذي يتردَّدُ اليومَ على ألسنةِ الخاصَّةِ والعامَّةِ في التعليقِ على مُبارياتِ كُرةِ القدمِ، وَصْفًا لأيِّ فريقٍ حوَّلَ خسارَتَهُ إلى نصرٍ، سواءً في المباراةِ ذاتِها، أو في مجموعِ المُباراتَيْنِ، أو حوَّلَ تأخُّرَهُ في جدولِ الدَّوريِّ إلى تقدُّمٍ وتصدُّرٍ، فما قِصَّةُ ذلك المصطلحُ؟

تكادُ تتَّفقُ معاجمُ اللُّغاتِ الأوربيَّة على أنَّ كلمةَ (رِيمُونْتَادَا) ذاتُ أصلٍ إسبانيٍّ (Remontada)، وأنَّها تعني العودةَ إلى الواجهةِ بقوَّةٍ، أو الرُّجوعَ إلى التصدُّرِ بعد التأخُّرِ والتقهْقُرِ، وأنَّها كانَتْ ذاتَ دَلالةٍ حربيَّةٍ دمويَّةٍ، قبل أن ترفُلَ اليومَ في حُلَلِ أثوابِها الرِّياضيَّةِ.

وقد ظهرتِ الكلمةُ للمرَّةِ الأولى في أواخرِ القرنِ الخامسَ عشرَ الميلاديِّ، إبَّانَ الحربِ الضَّاريةِ التي شُنَّتْ لِطَرْدِ المسلمينَ من الأندلسِ، والتي يُسَمُّونَها بحربِ الاستردادِ، وقد انتهتْ بتسليمِ أبي عبد الله محمَّدِ بنِ عليٍّ، الملقَّبِ بالصَّغيرِ، مفاتيحَ (الحمراء) في يوم الاثنين 2 ربيع الأول سنة 897هـ، الموافق 2 يناير1492م، ويومَها أمَرَ البابا بدقِّ أجراسِ الكنائسِ في كلِّ أنحاءِ أوروبَّا؛ احتفالًا بخروجِ المسلمينَ من أوروبَّا، وتمجيدًا للانتصارِ في هذه الحربِ الصَّليبيَّةِ. وقد نصَّتْ مُعاهدةُ التَّسليمِ على احتفاظِ المُسلمينَ الأندلسيِّينَ بأملاكِهم، وتمتُّعِهِمْ بكاملِ حقوقِهِم الدِّينيَّةِ، لكنَّ نصارى إسبانيا ضربوا بكافَّةِ بُنودِها عرضَ الحائطِ، ونصبوا محاكمَ التفتيشِ، التي كانتْ ولا تزالُ وَصْمَةَ عارٍ في جبينِ الإنسانيَّةِ بأسْرِها، فاضطهدوا المسلمينَ اضطهادًا مُروِّعًا، وخيَّروا مَنْ بَقِي منهم بينَ التنصُّرِ أو الرَّحيلِ أو القتلِ، حتَّى أصدرَ الملكُ فيليبُّ الرَّابعُ قرارًا بإبعادِ كلِّ (المُوريسكيون) أو (المدجَّنين) قَسْرًا عن الأندلسِ عام 1117هـ/ 1609م، فلم يبقَ بها أحدٌ من المسلمينَ، الذينَ كانَ يُقَدَّرُ عَدَدُهُم آنذاكَ بثمانيةِ ملايينِ مُسلمٍ، وَتَحقَّقَ حَرفيًّا ما قاله أبو البقاءِ الرُّنْديُّ (ت684هـ) منذُ أكثرَ من قرنينِ قبل السُّقوطِ التامِّ:

دلالة حربيَّة دموية الرِّيمُونْتَادَا: دلالة حربيَّة دموية

تَبْكِي الحَنِيفِيَّةُ البَيْضَاءُ مِنْ أَسَفٍ

كَمَا بَكَى لِفِرَاقِ الإِلْفِ هَيْمَانُ 

عَلَى دِيَارٍ مِنَ الإِسْلَام ِخَالِيَةٍ 

قَدْ أَقْفَرَتْ، وَلَهَا بِالكُفْرِ عُمْرَانُ 

حَيْثُ المَسَاجِدُ قَدْ صَارَتْ كَنَائِسَ، مَا

فِيهِنُّ إِلَّا نَوَاقِيسٌ وَصُلْبَانُ

وقدِ ارتكبَ الإسبانُ في تلكَ الحربِ أفظعَ أساليبِ القهرِ والوحشيَّةِ ضدَّ المُسلمينَ، فتوجَّهتْ عُقولُهُمُ الشَّيطانيَّةُ إلى ابتكارِ وسائلَ للتعذيبِ، ما يزالُ بعضُها باقيًا إلى اليومِ في المتاحفِ؛ شَاهدًا على إجرامٍ لم تعرفِ البشريَّةُ له مَثيلًا؛ فهذهِ حلقاتٌ حديديَّةٌ تُوضعُ حول رقبةِ المُعذَّبِ وحولَ أصابِعِهِ، وتُسخَّنُ بِبُطءٍ، حتَّى يتآكلَ اللَّحمُ، وتلتصقَ الحلقاتُ بالعظامِ، وهذا الثَّورُ النُّحاسيُّ الذي يُوضعُ فيه المُعذَّبُ، ثُمَّ تُشعَلُ النَّارُ تحتَهُ، فيخرجُ صُراخُهُ من أنفِ الثَّورِ، وهم يتحلَّقونَ حولَه مُسْتَمْتِعينَ ضاحكينَ، وهذا حوضٌ يوضَعُ فيه المُعذَّبُ جالسًا القُرفصاءَ، ويُدْهَنُ بالعسلِ؛ حتَّى يتجمعَ عليه الذُّبابُ، ويبقي غارقًا في فَضَلاتِهِ حتَّى يَموتَ، وهذه مِخْلَعَةٌ، يُمَدَّدُ عليها المُعذَّبُ، ثُمَّ تُربطُ يداه ورِجْلاه بحبالٍ، ثُمَّ تُدارُ بواسطةِ بَكَرَاتِ ببطءٍ شديدٍ حتَّى يتمزَّقَ أرباعًا، وهذا طوقٌ يُوضَعُ حولَ رَقبةِ المُعذَّبِ، وبه شوكةٌ حديديَّةٌ مُوجَّهةٌ نحو الحَلْقِ، بحيثُ إذا تحرَّكَ انغرستْ في عنقِه، فيموتُ، وهذا كُرسيٌّ فيه أعدادٌ هائلةٌ من المساميرِ، يوضَعُ عليه المُعذَّبُ، ثمَّ يضعونَ فوقَهُ أثقالًا؛ حتَّى تخترقَ المساميرُ جسدَهُ، وهذا قفصٌ حديديٌّ مُعلَّقٌ في عمودٍ، يُوضعُ فيه المُعذَّبُ في وَهَجِ الشَّمسِ، دونَ طعامٍ أو ماءٍ، وفي أسفلِ القفصِ إبرٌ حادَّةٌ تنغرسُ في قدمَيْهِ؛ حتَّى يُفارِقَ الحياةَ، إلى غيرِها من الوسائلِ المُرعِبَةِ، التي تفنَّنَ في اختراعِها هؤلاءِ الشَّياطينُ الغلاظُ الأكبادِ، الذين لا يَعرفونَ للإنسانيَّةِ معنًى، وهذا الإجرامُ الدَّمويُّ هو الذي أُطْلِقَ عليهِ للمرَّةِ الأُولى (ريمونتادا)!!!

ثمَّ عادتِ الكلمةُ إلى الواجهةِ مرَّةً ثانيةً في القرنِ التاسعَ عشرَ، إبَّانَ حربِ استقلالِ إقليمِ كتالونيا (Catalonia)، الذي كانَ يُعرَفُ قَديمًا باسمِ (أَرَغُون/ أَرَجُون) وعاصِمَتُهُ (برشلونة)، وقد كانَ اتِّحادُهُ مع إقليمِ (قشتالة)، وزَواجُ حاكِمِه (فرديناندو) من (إيزابيلا) ملكةِ قشتالةِ واحدًا من أهمِّ عوامِلِ التَّوحُّدِ على طَرْدِ المسلمينَ من الأندلسِ، وبعد قرونٍ من الوَحْدةِ تولَّدَتْ نزعةٌ انفصاليَّةٌ لدى سُكَّانِ الإقليمِ، وتمَّ إحياءُ اللُّغةِ

الكتالونيَّةِ، ثمَّ أُعْلِنَ انفصالُ الإقليمِ، ولكنْ تكالبتْ عليه القوَّاتُ الإسبانيَّةِ، وعلى مدارِ سنواتٍ طويلةٍ من الصِّراعِ الدَّامِي سقطتْ برشلونةُ عام 1886م، وقد أُطْلقَ على استردادِ القواتِ الإسبانيَّةِ هذا الإقليمَ (ريمونتادا)! ولا تزالُ تلكَ النَّزعةُ الانفصاليَّةُ حاضرةً حتَّى السَّاعةِ، وهي تُلْقِي بِظِلالَها العدائيَّةِ في مبارياتِ “ريال مدريد” و”برشلونة” واضحةً تارةً، ومُستَتِرَةً تاراتٍ!

ثمَّ أُحْيِيَتِ الكلمةُ مرَّةً ثالثةً في القرنِ العشرينَ، إبَّانَ الحربِ الأهليَّةِ الإسبانيَّةِ، التي اشتعلتْ لِمدَّةِ ثلاثِ سنواتٍ (1936-1939م)، بعدما قام الجنرالُ فرانكو (Franco) مَدْعومًا من الفاشيِّينَ في إيطاليا، والنَّازيِّينَ في ألمانيا بانقلابٍ على حكومةِ الجُمهوريِّينَ، وقد ظنَّ الجيشُ أنَّ الجمهوريِّينَ سيستسلمونَ سريعًا، ولكنَّهم قاوموا الانقلابَ مَدعومينَ بعدَّةٍ ألويةٍ مُواليةٍ لهم من الجيشِ، ممَّا أدَّى إلى اشتعالِ تلك الحربِ الطَّاحنةِ، التي راح ضحيَّتَها قرابةُ مليونَيْ إنسانٍ ما بينَ قتيلٍ وجريحٍ وسجينٍ ومُشرَّدٍ، وقد انتشرتْ فيها ظاهرةُ الإعداماتِ الميدانيَّةِ، التي قُتِلَ فيها بدمٍ باردٍ عشراتُ الآلافِ من الطَّرفين، كما مُحِيتْ مُدُنٌ من الوجودِ مثل مدينة “غرنيكا” (Guernica)، الَّتي خلَّدَ مَأْساتَها الرَّسَّامُ الإسبانيُّ الأشهَرُ: بِيكاسُّو (Picasso) بلوحةٍ شهيرةٍ تتجاوزُ قيمَتُها اليومَ 200 مليون دولار، وقد كانتْ تلكَ الحَرْبُ وَصْمةَ عارٍ أخرى في جبينِ الإنسانيَّةِ عامَّةً، وأوروبَّا خاصَّةً، وإسبانيا بصفَّةٍ أخصَّ، وللأسفِ، انتهتِ الحربُ بانتصارِ الجنرالِ الدَّمويِّ فرانكو، وانتزاعِ كلِّ الأراضي التي كانتْ تحتَ سيطرةِ الجُمهوريِّينَ بما في ذلك إقليم كتالونيا، وأُطْلِقَ على هذا الاستردادِ (ريمونتادا)!

أمَّا الإحياءُ الرَّابِعُ للمُصطلحِ فقد كانَ في أواخرِ القرنِ العشرينَ، بتوجيهِهِ إلى عالمِ الرِّياضةِ عُمومًا، وعالمِ كُرةِ القدمِ خُصوصًا، وبعيدًا عن اختلافِ المؤرِّخينَ الرِّياضيِّينَ حولَ أوَّلِ مُباراةٍ أُعيدَ فيها استخدامُ ذلك المصطلحِ، فإنَّهُ قد حقَّقَ ذيوعًا وانتشارًا هائلًا في السنواتِ العشرِ الأخيرةِ، وبدلًا من انحصارِهِ في الصِّراعِ المُزْمِنَ بين النادِيَيْنِ الشَّهيرينِ في بلدِ المنشأ إسبانيا: “ريال مدريد”،  و”برشلونة” بخلفيَّاتِهِ السِّياسيَّةِ، أصبحَ شائعًا على ألسنةِ الناسِ كافَّة، ليس في مجالِ كرةِ القدمِ فحسبْ، بلْ في كلِّ الألعابِ التنافسيَّةِ تقريبًا، وللأسفِ، لَمْ تسلمْ منه ألسنةُ النُّقَّادِ والمُحلِّلينَ في البلادِ العربيَّةِ والإسلاميَّةِ. والأنكى أنَّهُ دخلَ بهذه الدَّلالةِ الرياضيَّةِ المعاجمَ اللغويَّةَ المعاصرةَ، فقدْ أضافَهُ معجم “لاروس” (Larousse) الفرنسيِّ، ووضعَ له تعريفًا رياضيًّا بَحْتًا، مُقترحًا الصِّيغةَ التاليةَ: عودةٌ غيرُ متوقَّعةٍ في النتيجةِ، تسمحُ للفريق الخاسرِ سابقًا بالفوز في المباراةِ، رغم أنَّ النتيجةَ أو فارقَ الأهدافِ بين الفريقَيْنِ كان كبيرًا!

وختامًا، فيا مَنْ تردِّدُ كلمةَ (ريمونتادا)، تذكَّرِ التاريخَ الأسودَ لِولادةِ هذا المُصطلحِ، واستحضِرْ صورةَ فرديناندو وإيزابيلا وهُما يَتَسلَّمانَ مفاتيحَ الحمراءِ، وعيونُهُما تمتلئُ بنشوةِ الانتصارِ، وتخيَّلْ مَشْهدَ إحراقِ مَلايينِ المخطوطاتِ العربيَّةِ التي أنارتْ أوروبَّا بأسْرِها في واحدةٍ من أبشعِ جرائمِ الإرهابِ الفكريِّ في التاريخِ، ولا تَغِيبَنَّ عن خاطرِكَ سِيماءُ أولئك المُعذَّبينَ الذين كانوا يُشْوَوْنَ على الجَمْرِ، ويُقْلَوْنَ في الزَّيتِ، ويُمَشَّطُونَ بأمشاطِ الحديدِ، وأوْلَى لكَ أنْ تبكِيَ على ضياعِ ذلكَ الفِردوسِ المفقودِ، وأنْ تتمثَّلَ مقالةَ الأمِّ عائشةَ الحُرَّةِ لولِدِها أبي عبدِ الله الصَّغيرِ، لمَّا رأتْهُ يبكيِ، وهو يُسَلِّم مفاتيحَ الحمراءِ:

ابْكِ مِثْلَ النِّسَاءِ مُلْكًا مُضَاعًا

لَمْ تُحَافِظْ عليْهِ مِثْلَ الرِّجَالِ

د. مصطفى السواحلي

د. مصطفى السواحلي أستاذ اللغة العربية وآدابها في جامعة السلطان الشريف علي الإسلامية، سلطنة بروناي دار السلام

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. لا إله إلا الله. من اروع المقالات التي قرأتها . شكر الله للكاتب على هذا الأسلوب الاخاذ والطرح الماتع الذي ياسر القلوب والالباب ويجعلك تتفاعل وتعيش وتتعايش .شكرا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى