يطرح العديد من الدعاة الشَّرعيين والمربين المتخصصين في التربية وعلم النِّفس الكثير من التَّفسيرات والتغريدات والمنشورات والمقاطع المصاحبة للحرب الصهيونية السَّافرة والموجهة ضد قطاع غزة في فلسطين المحتلة بعد عملية “طوفان الأقصى”، وهم يحاولون فيها اكتشاف المعادلة التربوية التي انتهجها أهل غزة الأباة فكانت سببًا بعد توفيق الله -عزَّ وجل- لإنتاج مثل هذه النَّماذج القوية الصَّامدة والمستبسلة في وجه عدوها والمستعدة لبذلِ الغالي والنَّفيس في الدفاع عن حقوقها لا يتخلف منها إلا خائن أو عميل؟
هذا الموضوع من الأهمية بمكان – خاصة لنا في العالم العربي- لأنه يعالج بشكل مباشر وغير مباشر الخلل والأزمة التي تعيشها مجتمعاتنا التي أصبحت موصوفة بالغثائية، والسلبية، والعجز. كما جاء في الحديث: “تتداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، قالوا أو من قلةٍ نحنُ يومئذٍ يا رسول الله؟ قال: لا ولكنكم غثاء كغثاء السيل….). أسأل الله أن يعافينا جميعًا من تلك الصفات، وما يقود لها. ونسأله -جلَّ في علاه- أن تلهمنا تجربة أهلنا في غزة معاني ومفاهيم تقودنا للخروج من النَّفق المظلم الذي نعيشه أفرادًا، وشعوبًا، وحكومات، ودولا.
أحاول في ثنايا هذه السُّطور المشاركة في الإجابة عن ذلك التساؤل الكبير من خلال تأملات ومتابعات شخصية لأحداث هذا القطاع وحروبه لأكثر من خمسة وعشرين عامًا ولله الحمد والمنَّة، وأساله السَّداد في القول والعمل.
عزيزي القارئ:
أحسب أن من يبحث عن الإجابة بكل جدية وتجرد من الفلسفة والتفريعات سيجد أنَّ الجواب يتلخص في ثلاثة محاور رئيسة تندرج ضمنها جميع الأسباب الأخرى وهي:
المحور الأول: التربية الإسلاميَّة والأخلاقية.
المحور الثاني: الالتفاف حول القيادة والتَّأهيل والإعداد.
المحور الثَّالث: وحدة الهدف والوجهة وترتيب الأولويات.
أتناول كل واحد من هذه المحاور على حدة ضمن هذه السلسلة _ إن شاء الله تعالى _ وأبدأ بالمحور الأول:
التَّربية والتزكية الإيمانية والأخلاقية:
عندما تقف متأمِّلًا في هذا الموضوع تجد أنَّ التربية الإيمانية الشَّرعية المبنية على الدين الحق -دين الإسلام الخاتم- تقف أمامك شامخة لتفسر لكَ ما قبل وما بعد.
فهذه التربية تشكل الأساس المتين الذي تتشكل من خلال المناهج والأخلاق وإطار الشخصية (المقاومة) في غزة – غالبًا- وحديثنا ابتداءً وانتهاء عن الفصائل والحركات الإسلامية السُّنية ثمَّ الحاضنة الشَّعبية لها من مختلف المكونات والفئات المجتمعية.
عزيزي القارئ:
من يدرك مرامي الخطاب القرآني في العهد المكي وبعده في العهد المدني والمساحة الكبيرة التي جعلها لتربية الإنسان وتهذيب أخلاقه وممارساته في جميع الميادين يدرك أنَّ هذا الجانب هو أس ورأس الفلاح والنَّجاح في بناء الشَّخصية الإسلامية بجميع مستوياتها.
وقد قرَّرَ الله – عزَّ وجل – ذلك في كتابه بآية تتلى إلى يوم الدِّين، فقال جلَّ وعلا: (ونفسٍ وما سواها فألهمها فجورها وتقواها قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها ) {الشمس : 7 _ 10} .
قال أهل العلم والتفسير:
زكَّاها: ربَّاها وهذبها بالعلمِ والإيمان، والطَّاعة، والبر، والإحسان.
ودسَّاها : ضيعها ومحقها بالكفر والفسوق والعصيان وسائر المخالفات.
وقد التزم أهل غزة – إلا ما شذ – بمقتضيات التربية والتزكية الإيمانية وأخلاقها أيما التزام.
وشواهد ذلك متكاثرة في خطاب الكتائب المقاتلة وهي أيضا متكاثرة في خطاب العلماء والدعاة والمفكرين، بل وحتى السياسيين، والأطباء، والمهندسين، والإعلاميين.
وخذ بعض المشاهد الدالة على ذلك:
أولًا:
مشهد الإيمان بالله واللجوء إليه وحب نبيه محمَّد – صلى الله عليه وسلم – والاقتداء به والشَّوق إلى لقائه.
فعندما تستمع لجميع هؤلاء تجد ذكر الله وحمده حاضرًا بشكلٍ مستمر. وتجد التَّوكل على الله حاضرًا في جميع المحطات.
وتجد الإيمان بالقضاء والقدر خيره وشره ظاهرًا تجاه المواقف والأحداث مهما كانت مؤلمة وقاصمة للظهر. وتجد الصَّلاة والسَّلام على رسوله الكريم حاضرًا في ثنايا الدعاء والاحتساب.
رأينا ذلك عند الكبار رجالًا ونساءً كما رأيناه عند الشَّباب، بل ورأيناه عند الأطفال الصغار، وهذا لم يأت من فراغ ولا في لحظة توافق فريدة، بل هو سلوك مطرد لدى الأغلب من النَّاس نتيجة منهج وتربية وغرس مستمرة منذ نعومة الأظافر.
ثانيًا:
مشهد التربية على مائدة القرآن التي هي مائدة الله كما قال صلى الله عليه وسلم: (إنَّ هذا القرآن مائدة الله فاقبلوا من الله مائدته). فماذا تتوقع ممن قبل مائدة الله، وانكبَّ عليها حفظًا، ومدارسة، وتعلمًا، وتطبيقًا؟ ماذا سيكون حاله وأين ستهفو نفسه؟ وأين ستحلق طموحاته؟
لقد رأينا وسمعنا العشرات من التقارير والمشاريع القرآنية التي قام بها أهلنا في غزة:
فمن تخريج عشرة آلاف حافظ في إجازة صيفية واحدة، إلى مدارسة القرآن وإجازته بختمةٍ واحدة في يومٍ واحد من بعد الفجر إلى بعد صلاة العشاء للمئات من الحفَّاظ والحافظات في مسجدٍ واحد، إلى حفظ متون السُّنة النَّبوية، إلى مدارسة وجرد كتب أهل العلم وأئمة الإسلام في القديم والحديث، إلى تخريج المئات، بل الآلاف من الخريجين في مختلف التخصصات كل عام من طلاب وطالبات المعاهد والجامعات والمراكز الشَّرعية وكأنهم في أمن واستقرار لا يكدره أي شائبة ولا يعكر صفوه أي كدر.
ثالثًا:
مشهد الحرص على التماسك الأسري والاجتماعي في الأسرة الفلسطينية فرغم الجهود المضنية التي بذلها العدو في التشريد والقتل والتنكيل والسِّجن للأفراد وفصلهم عن عوائلهم وبيوتهم إلا أنَّ الأمهات والآباء ما زالوا يضربون أروع الأمثلة في الصَّبر والمصابرة ومتابعة أحوال أبنائهم وأفراد أسرهم أينما كانوا، ومهما طال الوقت، وبعد المكان.
وما أجملها من مشاهد تثبت ذلك عندما يلتقي الأبناء بأبنائهم وبناتهم الأسرى وما أجملها من مشاعر عندما تخرج القرية أو المدينة لاستقبالهم أو لتشييع جنائز الشُّهداء ولو كان ذلك في يوم أو يومين لقلنا كان فلتة لم تتكرَّر، لكنه سلوك وممارسة يوميَّة مستمرة منذ عقود فهي نتاج تربية وإيمان وشعور بالمسؤولية وإحساس بالخطر وليست مجرد عاطفة جياشة في لحظةٍ محدَّدة.
رابعًا:
مشهد التربية على الوعي العالي للفرد الغزَّاوي بشكل خاص، والفلسطيني بشكلٍ عام، بقضيته وغرس قيم العدالة بحقه المشروع، وعدم الخضوع والقبول بالظلم أو المداهنة له أو الاستماع للمخذلين من داخل الصف أو خارجه، وهذه ميزة تفاضلية مهمَّة في ميادين الصِّراع الفكري والسِّياسي والعسكري.
فشعار (اِعرف عدوك) الذي كان منتشرًا في عالمنا العربي ذات حين لم تنته صلاحيته في غزة ولا فلسطين ولذلك ما تزال آثاره وثماره قائمة، ولعله أكبر محفزٍ للفلسطينيين لرفض كل مشاريع التَّطبيع والتهجير والصفقات المشبوهة للسَّلام المزعوم.
خامسًا:
مشاهد التَّربية الحيويَّة والمرنة للعيش بمعادلة ربَّانية إلهية ذكرها الله في كتابه العظيم فقال عزَّ وتقدَّس: (وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنسَ نصيبكَ من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين) القصص : 77 . فأهل غزة كما شاهدناهم صوتًا وصورة يجيدون العيش في سبيل الله وأخذ نصيبهم من الحياة كما يجيدون في الوقت نفسه بذل أنفسهم وأرواحهم والموت في سبيل الله.
بل، ويقدمون أبناءهم فداء لعقيدتهم ودينهم ومسرى نبيهم عليه أفضل الصَّلاة والسَّلام وكم رأينا من أب كبير أو أم مكلومة تصبر نفسها بأنها في أرض الرباط ومن أهل الرباط وما زالوا يوصون أبناءهم وبناتهم بذلك.
سادسًا:
مشهد التَّربية على فهم الشَّهادة في سبيل الله على أنها وسام للأسرة وفخر وليس نكبة ولا مصيبة وهذا الفهم العميق مرتبط بالتوجيه الرباني: (ولا تحسبنَّ الذين قتلوا في سبيل الله أمواتًا، بل أحياء عند ربهم يرزقون فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون يستبشرون بنعمةٍ من الله وفضل وأنَّ الله لا يضيع أجر المؤمنين) آل عمران {169_ 171}.
أقول:
هذا الفَهْم له دورٌ كبير في تفسير رباطة الجأش في تلقي أخبار مقتل الشُّهداء والثَّبات والصَّبر والتَّجلُّد عند السَّاعة والصَّدمة الأولى مع عظم المصيبة بالنسبة للفرد الواحد منهم. ولسان حال الكثير منهم بعد الاحتساب، ما وصفه القائل الأول:
وتجلدي للشَّامتين أريهم
أني لريب الدَّهر لا أتضعضع
هذه مشاهد محدودة من عشرات المشاهد، بل مئات المشاهد التربوية التي قدَّمها وما زال يقدمها أهل غزة تفسيرًا لثباتهم ومصابرتهم.
وأحسب أن هذه المشاهد ستكون مفتاحًا لبوابة كبيرة من التَّغيير التربوي في حالنا وسلوكنا وبالتالي طريقة تعاملنا مع قضايانا المصيرية. وهي طريقة سارها السَّابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والتابعين وتابعي التَّابعين ويسير عليها التَّابعون لهم بإحسان على مدار القرون.
وما أهل غزة إلا نموذج حي فريد في عصرنا يمكن له أن يتكرَّر في كل أرض أخذت بنفس النهج والأسباب وما ذلك على الله بعزيز .