المدونة

تضاعيفُ الجمال: في المسطور والمنظور

من عادتي عند تلاوةِ القرآن أني أتقصدُ الوقوف في بعضِ المواطن التي أجد فيها معنىً عزيزًا أو موضوعًا مدهشًا يقعدني عنده، فلا أفارقه حتى أدرك ما خفي من معناه وأطلع على ما قيل فيه من الباحثين والمهتمين بالاشتغالِ التَّأويلي. وقد استوقفتني اليوم الآية السَّادسة من سورة النَّحل, في قول الحق جلَّ وعلا:﴿وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ﴾. (النحل:6)، فوجدتُ في تضاعيفها ما أطمعني بكتابةِ مقالٍ فيها, واشتد العزم لدي بسبب تشجيع القائم على موقع حكمة يمانية الأستاذ الصَّديق خالد بريه, فكان هذا النَّصُّ الذي بين بيديك.

استوقفني في الآية ذكر “الجَمال” إذ تؤكد الآية ووجوهها ونظائرها في القرآن أنَّ موضوع ومعنى الجمال مسألة تشكل أحد اهتمامات النَّفس الإنسانية, بل هي خصيصة ركبت فيها, وفطرت, وطبعت عليها,  وهي إحدى ميزات الإنسان عن سائر المخلوقات إذ يدرك بهذه الفطرة المعاني الرَّفيعة ويتذوق بها ما يتمثل أمامه من الصور الحسنة فيعتني بها ويتأثر بالجمال غاية التَّأثر، وهو ما لا يكون في من دونه من المخلوقات.

و كأنَّ الله في الآيةِ جعل هذا المشهد الجمالي للأنعام في إيابها وذهابها وأشباهه، نعمة من نعمه على الإنسان الذي ينبغي عليه شكرها, إذ ذكرت في سياق تعداد النّعم والعطايا الإلهية للإنسان! وفي الصفحة الثانية من نفس السورة أعيد تأكيد مسألة الجَمال في سياق تعداد النّعم المتمثلة في تسخير الخيل والبغال والحَمير, إذ من أغراض خلقها مع الركوب اتخاذها زينة! وهي غير الأنعام التي يقصد بها المواشي من الإبل والأبقار والأغنام.

فلك أن تتخيل أنَّ الحمير والبغال في القرآن مما يُتجمَّلُ به ويُتزيَّن، وأنَّ ذاك من المقاصد التي تواطئ النَّاس عليه، مما استدعى القرآن للإفصاح عنه والتَّأكيد عليه وتثبيت هذا المعنى الذي لا يتغير بتغير المركوب مع اختلافِ الأزمان. فالزينة بقصد التجمل وإظهار ما يحسن عرضه حتى وإن كان حمارًا أو بغلًا هو مما يستحق الذكر والإشارة، وقد أشار القرآن الى التذوق الحاصل لجمال منظر الأبقار الحسنة حين ذكر بقرة بني إسرائيل,  فأشار إليها بأنها ﴿تَسُرُّ النَّاظِرِينَ﴾. (البقرة:69), فالنتيجة الحاصلة من النَّظر في جمال بقرة عابرة, مثل النتيجة الحاصلة من النَّظر الى النُّجوم والكواكب, فكليهما يحصل به السرور لذاته “والسرور أثرٌ من آثارِ رؤية الجمال”(1).

ومن اللافت في نفس الصَّفحة إعادة تكرار هذه المسألة, إذ ذُكرت “الحلْية” التي يُتزيَّنُ بها لغرض التجمل في سياق ذكر  نعمة البحر في قوله ﴿وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا﴾. (النحل:14)، وعلاقة البحر بالزينة حاضرة في القرآن فقد ذكرت أيضًا في سورة فاطر في الآيةِ الثَّانية عشرة.

والحلية هي ما كل ما يُتزين به من مصانع الذهب والفضة ونحوهما من المعادن والأحجار الكريمة (2)، بينما الزينة اسمٌ جامع لكل ما يتزين به سواء كان ظاهرًا أو باطنًا، فالزينة لفظٌ عام, فيقال: تزينت الأرض بالنَّبات, وتزيين القراءة, وزينة المرأة, وتزينت السَّماء بالكواكب، كما يقصد بها أيضًا الزينة الباطنة التي تدركها العقول وتتذوقها الأنفس الرفيعة، وهو ما تختلف عنه الحلية التي يراد بها غالبًا الزينة الخارجية الظاهرة, كما في قوله تعالى ﴿فَخَرَجَ عَلَىٰ قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ﴾. (القصص:79)

ولهذا, فكلمة “الزِّينة” ذكرت في القرآن إحدى عشر موضعًا(3) ، كما ذكرت بصيغة الفعل سبعة وعشرون مرة(4) ،  ومما يثير الدهشة ذكر تزيين السَّماء بالكواكب, فكأنَّ أحد الأغراض الكبرى لخلق الكواكب هو تزيين السَّماء للنَّاظرين! فقد ورد في ذلك ﴿وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ﴾.(الملك:5) , وورد ﴿إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ﴾.(الصافات:6)، ﴿وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ﴾.(الحجر:16) , والبروج  هو الظهور والبروز، ولهذا يقال: تبرجت المرأة ويقال للمباني العالية بروجًا، فكأنَّ كل ما علا وتبرج قد قُصِد به التجمل والتزين بصورةٍ من الصور.

nebula تضاعيفُ الجمال: في المسطور والمنظور

حتى النَّار حين ذكرت في القرآن ذكر من أغراضها أو مما تُستخدم له صياغة الحلي وصناعتها, والتي يستخدمها الإنسان للزينة والتجمل ﴿وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ﴾. (الرعد:17)، وكل هذا يعكس تأكيد القرآن على أهمية قيمة الجمال ومدى تأثيرها في النفس الإنسانية  وسعة مساحته لدى الإنسان, ومكانته لديه. ولهذا تكرر ذكر الجمال بألفاظٍ متنوعة, وتكرَّر وروده في سياقات مختلفة في القرآن، حتى حين ذكر التَّسريح والهجْر رغم ما يصحب ذلك من ألمٍ ومشقَّة وكره يتمكن من قلبِ صاحبه, وما يحصل في صدْره من رغبةٍ ملحةٍ في الانتقام أو الإيذاء، أقول حتى في هذا الموطن يذكر الله ويوصي بالجمال، فيقول ﴿وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلً﴾. (المزمل:10), ﴿وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلً﴾. (الأحزاب:49)

ومما يؤكد مكانة الجمال ومنزلته في فكر الشعوب والمجتمعات الإنسانية, أن خصَّص الإنسان له أيامًا وأعيادًا يُظهر فيها المجتمع أجمل اللباس وأعلى درجات الزينة وقد أشير لهذا في قوله تعالى: ﴿قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ ٱلزِّينَةِ﴾.(طه:59)، فالجمال قيمة حضارية فكلما صعد المجتمع في سلَّم الحضارة والرفاه الاجتماعي, اعتنى بالزِّينة والتجمُّل غاية الاعتناء, وأنفق في ذلك نفائس الأموال والأوقات، وقد بلغت العناية بالجمال في زمننا هذا ما لا يمكن وصفه أو الإحاطة به! بل قد جاوز النَّاس فيه حدَّ الاقتصاد الى السَّرف, فتجمَّل الشباب حتى تأنثوا! وبالغت المرأة في الزِّينة والحلي حتى أهلكت مالها ومال زوجها فيه.

ولأنَّ هذا من جهالة الإنسان وتطرفه في الطباع فقد لفت نظري بعد الآية التي ذكرت فيها الزينة ومن قبلها الجمال أي بعد الآية السادسة والثامنة من نفس السورة قوله تعالى﴿وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ﴾. (النحل:9) (5) , وفي طرائق النَّاس الميْل عن الحق والتَّطرف والمبالغة فيه أو العكس فهم يحيدون عن الاستقامة ويميلونَ عنها، والسَّبيل التي ينبغي سلوكها هي ما رسمه الله ودعا إليه، ومنه موضوع الزينة والجمال فقصد السَّبيل فيه يعرف بميزان الشرع وما تعارف عليه ذوو الفطر السَّليمة والأذواق الرَّفيعة.

وقادني هذا التوقف مع الآية إلى الوقوع على مختصرٍ لبحثِ “معايير الجمال في الرؤيتين الإسلامية والغربية” للدكتور عبدالله العمرو, وفيه عرضٌ لجوانب هذه المسألة, يحسن الاطلاع عليه، إذ يمكن قراءته في جلسةٍ واحدة، وتكمنُ أهميته في تناوله لمعايير الجمال, وعرضه لصور الاختلاف في هذه المعايير بين الرؤيتين الإسلامية والغربية.

ومما يحسن ذكره هنا, أنَّ بعضهم لا يفرق بين اللذة الحاصلة من تذوق الجمال لذاته, وبين اللذة الحاصلة من مباشرته, ولهذا المعنى يشير الغزالي رحمه الله بقوله: “ولا تظن أنَّ حب الصور الجميلة لا يكون إلا لأجل قضاء الشهوة فإنَّ قضاء الشهوة لذة أخرى قد تحب الصور الجميلة لأجلها، وإدراك نفس الجمال أيضًا لذيذ، فيجوز أن يكون محبوبًا لذاته”, ثم يعلق على من ينكر ذلك, فيقول: “وكيف يُنكر ذلك والخضرة والماء الجاري محبوب لا ليشرب الماء وتؤكل الخضرة أو ينال منها حظ سوى الرؤية […] حتى أنَّ الإنسان لتنفرجُ عنه الهموم بالنَّظرِ إليها لا لطلبِ حظٍّ وراء النَّظر”(6) .

ولا غرابة في كل ما ذكر عن الجمال ومكانته وأثره في المجتمع الإنساني (7) ، فقد صحَّ عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قوله “إنَّ الله جميلٌ يحبُّ الجمال”(8) , فلا يصدر عنه إلا كلّ جميل وحسَن، “فالأخذ بأسباب الجمال وإعطاء النَّفس حظها منه وتدبر غاياته ومقاصده هو ثمرة الإيمان ومقتضى الالتزام بأمر الله وهدي نبيه صلى الله عليه وسلم”(9)  .

هذه كلمة وقعت في نفسي في هذه الآية، قادتني للقراءة السريعة في هذا الأمر, وقد وجدتُ فيما كتب ونشر- في علمِ الجمال – ما يستحق أن يقضى في بحثه وتأمله أعمارًا للرَّاغب بالتَّخصص فيه، ولا عتب لمن فعل ذلك وأفنى عمره فيه، فـ”الجمال سمة بارزة في الصنعة الإلهية وإن وجوده فيها مقصود لا عرضي وإن من خصائصه العموم والشمول وهو الذروة دائمًا إذ به تستكمل القضايا والأشياء”(10) .

الهوامش:

  1. صالح الشامي، الظاهرة الجمالية في الإسلام, ص 115.
  2. ينظر: كتب الصِّحاح.
  3. تطبيق البحث الاحصائي .
  4. مقالٌ على الشبكة, بعنوان: ” لفظ زيْن في القرآن” موقع إسلام ويب.
  5. حتى تدرك حجم الميل في موضوع التزين والتجمل في واقعنا اليوم, يمكنك الرجوع لمقال الباحث  فيصل العشاري على موقع حكمة يمانية, والمعنون بـ: “تضخم التزين بين الاضطراب والاغتراب”, على هذا الرابط: https://hekmahyemanya.com/?p=5627
  6. إحياء علوم الدين (4 /298).
  7. وفي القرون المتأخرة وجد علم يختص به سمي بـ “علم الجمال” أو ما يعرف  “بالاستطيقا”.
  8. رواه مسلم
  9. معايير الجمال في الرؤيتين الإسلامية والغربية” للدكتور عبدالله العمرو.
  10.  صالح الشامي،  ميادين الجمال في الظاهرة الجمالية في الإسلام, ص 7

حمير الحوري

مدير المركز المدني للدراسات والبحوث

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى