هذه جملةٌ من التَّعليقاتِ والقناعات حول ثورة ١١ فبراير كنتُ قد ذكرتُ جزءًا منها في المقابلات التي استُضِفْتُ فيها تلكَ الأيام في صحيفةِ إيلاف وموقع مأرب برس ومجلة البيان، وفي المقالاتِ التي نُشِرَت خلال تلكَ الفترة في صحيفةِ الجمهورية وفي عددٍ من المواقعِ الإلكترونية.
ربما أكونُ قد عدَّلتُ بعضَ القناعات بعد ثماني سنوات بناءً على ما ظهَرَ لي من الحقائقِ التي لم أكن أعلمُ بها أو كانت مخفية عن أمثالي وأسال المولى جلَّ وعلا أن يرزق الكاتب والقارئ السَّداد في القولِ والعمل، وكلمة الحق في الرِّضا والغضب.
أولًا:
ثورة 11 فبراير كانت لحظةً من اللحظاتِ التَّاريخية التي حلَّت بالأمَّةِ العربيَّة من الغربِ إلى الشَّرق وما زالت موجاتها وتداعياتها وارتداداتها مستمرَّةً وكانت تحتاجُ إلى قياداتٍ راشدة على مستوى جميع البلدان التي حلت بها هذه الثورات لتقتنصها وتغتنمها فرصة لتوجيه الشُّعوب، واستثمار حنقهم وغضبهم، للضغط على الحكام، لمزيدٍ من خطوات الإصلاح الشَّرعي، والسِّياسي والاقتصادي والاجتماعي.
لكن ذلكَ لم يحصل بالشَّكل المنشود، بل كان جَلَد الفاجر أعلى ظهورًا من جُهْد التَّقي. ونسبة الثورات إلى أحزاب أو مكونات أو جماعات بعينها ومن ثم تحميلها تبعات ذلك هو نوع من التضليل والتزوير للتَّاريخ والشهادة بما يخالف الواقع ويعرف كل من عاش تلك المرحلة حقائق ذلك.
ثانيًا:
الأنظمة الحاكمة كان لديها من الإدراك والمعرفة لأسباب الثورات الشيء الكثير والكبير مما يمكنها من خلال معالجته وإصلاحه تلافي الكثير والكثير من التداعيات والمآلات الوخيمة التي كانت تحذِّر منها القريب والبعيد وما خطابات الرئيس السَّابق إلا نموذج على ذلك .
لكن الحقيقة أنَّ هذه الأنظمة ومنها النِّظام اليمني الحاكم لم يكن صادقًا مع شعبه بسببِ الأنا وتسلط طبائع وأخلاق الاستبداد واحتكار الفهم والوصاية على الشَّعب بحجة أنه جاهل لا يفهم مصلحته فضلًا عن أمراضِ العنصرية والاستئثار بالثروة التي كانت متوافرة لدى السلطة الحاكمة وشركائها من جميع الأحزاب وإن ادعت خلافَ ذلك.
ثالثًا:
النِّظام الدولي بقيادة الولايات المتحدة كانت لديه حربًا مؤجلة مع اليمنِ، وشعب اليمن، وأقول مؤجلة؛ لأنَّ بوادر تلك الحرب قد ظهرت تلميحًا وتصريحًا في عددٍ من المواقف من وزيرِ الدِّفاع الأمريكي دونالد رامسفيلد حيث عدَّ اليمن من السبع الدول المارقة بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001م ثمَّ زادت وتيرة التصريحات بعد حادثة محاولة تفجير طيران بان أمريكان التي اتهم فيها أحد الأفارقة، ثمَّ جاء تهديد المعسكر الغربي بالتدخل المباشر الذي رفضه المجتمع اليمني بجميع مكوناته ومنهم علماء اليمن في مؤتمرهم الشهير في جامع المشهد في أمانة العاصمة صنعاء الذي بثت خبره القنوات العالمية في نشرات أخبارها الرئيسية.
ومن اللافت حينها أن يخرج وزير الدولة البريطاني لشؤون الشَّرق الأوسط بعد المؤتمر على قناةِ المستقلة ليقول بما نصه “نحن نُطَمْئِن جميع الشيوخ ورجال الدِّين أننا لن نتدخل في اليمن”، ويبدو أنَّ تكملة الرسالة كانت: لن نتدخل مباشرة لكننا سنتدخل بطريقتنا وفي اللحظةِ المناسبة!!
رابعًا:
بعد التَّأكد من الشعبية الكبيرة لمطالب الثورة لدى جماهير كبيرة من القطاعات اليمنية (أعني المطالب الحقوقية والاجتماعية والاقتصادية)، عملت ما يسمى بالدول العشر على توجيه المسار والدفع بالسفينة لتلاطم الأمواج، ولمزيد من التِّيه، وحرف البوصلة، كانت السفارات تشتغل مع الجميع وتستقبل الجميع وترسل رسائل الطمأنة للجميع وفي حقيقتها هي تعد العدة لتلك الحرب التي قررها أسيادها سابقًا.
وما السيناريوهات التي نشرها مركز “تشات هوم” التابع للخارجية البريطانية لتوقعات مسار الثورة وتداعياتها والذي نشرت ملخص ترجمته صحيفة أخبار اليوم بعد ذلك إلا أحد المؤشرات لما كان يعد للبلد، وهناك دلائل وشواهد يعرفها المقربون من الرئيس السَّابق ومنهم الرئيس التنفيذي اللواء على محسن الأحمر تشير إلى أنه كان يدرك التهديدات الغربية وأهدافها ويفهم دواعيها، لكن طبع العناد كان هو المسيطر على قرارات اللحظة حينئذ.
خامسًا:
دول الخليج كانت كذلك تدرك وبكل وضوح خطورة نجاح التغيير الثوري في اليمن على أنظمتها الملكية الحاكمة من جهة، وعلى تشكيل الأنظمة في المنطقة برمتها من جهة أخرى، فساهمت في تقديم ما يسمى بالمبادرة الخليجية التي لم تكن خارجة عن توجهات المنظومة الدولية، بل هناك إشارات بأنها شاركت في صياغتها وفرضها، لكن هدف الخليج هو الأمن من العدوى والتَّأثير السَّلبي الدَّاخلي للثورات على الأنظمة الملكية المستقرة وهدف القوى الدولية الانتقام المبطَّن من الشَّعب اليمني نتيجة عدم مسايرته لمتطلبات التَّحديث والتَّحول الديمقراطي بالنَّمط الغربي الذي وجد ممانعة مستمرة من كثير من المكونات المحافظة حتى في الحزب الحاكم وكذلك اتهامها اليمن بأنها بؤرة لتصدير الإرهاب للعالم كما يزعمون.
سادسًا :
الرئيس السَّابق كان لديه من الذكاء والخبرة والدهاء ما يكفيه لامتصاص الصَّدمة كما كان يفعل طوال الوقت، لكنه أدرك أنَّ هذه الثورة لا يمكن السيطرة عليها بنفس الأساليب المتبعة من شراء الذِّمم والدَّفع المسبق ولم يكن أمامه إلا الرضوخ للمطالبات الشعبية التي تحولت كذلك إلى مطالبات حزبية ومجتمعية، لكن جنون العظمة كان هو الغالب، فقال عبارته التي كررها في أكثر من مكان وملتقى مع النُّخَب اليمنية:
” لن يحصلوا شيء حتى ولو سالت الدماء إلى الركب”.
وشهد بذلك اللواء على محسن والمستشار عبد الكريم الإرياني وجمع من علماء اليمن ومشايخ القبائل الكبرى .
وبهذا فوت الرئيس السَّابق على نفسه وعلى الحزب الحاكم فرصة ذهبية لتقديم تسوية داخلية يخرج فيها رئيسًا وطنيًّا للشعب كله، ويبدو أنَّ الناصحين في المؤتمر لم يكونوا قادرين على التفكير بشكل متوازن في ظل الدور الذي كان يلعبه السفراء في التأجيج ونفخ الكير خلف الكواليس ومن تحت الطاولات.
سابعًا:
الأحزاب السِّياسية اليمنية المعارضة بمختلفِ مسمياتها لم يكن لديها مشروع دولة متكامل، بمعنى لم يكن لديها مشروع نظام حاكم جديد؛ لأنها في الحقيقة جزء من النِّظام القائم آنذاك، بل شريكة له في عددٍ من المحطَّات والاستحقاقات السِّياسية .
هذا من جهة، ومن جهة أخرى: العلاقة مع الدولة العميقة في اليمن كانت مبنية على تقاسمات ومحاصصات لا علاقة لها بالعدل بين مكونات الشَّعب، بل كان العدل لديها يعني كم حصلت من المناصب والمكاسب لأصحابي؟ وليس لأصحاب الكفاءة والخبرة إلا ما رحِمَ ربك.
صحيح كان لديها مطالبات جزئية تعمل على المطالبة بالتغيير فيها، لكن لم تكن من النَّزاهة والشفافية بحيث تكون مستحقَّة للقيادة الغالبة دون شراكة السَّابقين مما شكل إرباكًا وزاد الطِّين بِلَّة كما يقال.
ثامنًا:
المكونات اليمنية الأخرى كانت تعيشُ أزمة نضج مختلفة المستويات خاصة النُّضْج السِّياسي. مكون العلماء ومع ثقتنا وقناعتنا الكبيرة بحرصه والجهد الكبير الذي بذله طِوال تلك المرحلة إلا أنه كان أسيرًا لاجتهادات فردية للشخصيات العلمائية التَّاريخية، ولم تكن الرؤية المستقلة للعلماء متوافرة بشكلٍ واضحٍ أمام الشَّعب، خاصة في بداياتِ الثورة، وكان مطلب نشر تلك الرؤية متوافرًا متزايدًا، لكن للأسف كان الرَّأي السياسي يتدخل من خلف الكواليس ليلمح أنَّ خروج تلك الرؤية سيزيد الأمر فسادًا والحقيقة أنه جعل العلماء في زاوية ضيقة واستأثر السياسيون وأصحاب الأجندة المشبوهة بتقديم رؤاهم واطروحاتهم وظهر مكون العلماء أنه تابع وليس متبوع إلا من المحبين والأنصار كما ظهر هذا المكون بشكلٍ غير موحد تجاه الثورة من جهة، وردود أفعال النظام من جهة أخرى، وما يزال هذا التوصيف صحيحًا حتى اليوم.
تاسعًا:
بالنسبةِ لمكون القبيلة فلم يكن لها موقفٌ مستقلٌّ طوال الوقت، فالمصالح الذَّاتية للقبيلة ورموزها تأتي في المرتبة الأولى بغض النَّظر عن المصلحةِ العامة لأبناء البلاد إلا في بعض المشاهد التي تقتضي ذلك من باب المعاملة بالمثل أو العرف القبلي وليس مقتضيات الدستور والعدل.
وأزمة القبيلة في اليمن لها تأثير لا يُنكَر وإن كانت هناك محاولات لتجاوزها، لكنها لا تلبث أن تعود بالفشل على أربابها لأنَّ القبيلة في اليمن مفتاح من مفاتيح الحل.
عاشرًا:
المكون الشَّبابي كان هو المكون الذي يطلبُ الجميع ودَّه ويدعي الجميع الحرص عليه وعلى مستقبله ومن يتأمل بتفحص لما جرى يجد الآتي:
كان الحرص على الشباب شماعة لتمرير أهداف الأحزاب المعارضة (أهداف ذاتية ظاهرها خدمة الوطن)، وكان الحرص على الشباب شمَّاعة لتمسك النظام بسياساته العقيمة في إدارة الدولة والاستئثار بها.
وفي الأول والأخير لم يكن الشباب سوى قلوب شجاعة طموحة بمستقبل ويمن مختلف سياسيًّا واقتصاديًّا واجتماعيًّا، لكن لم يكن لديهم الوعي الكافي بما يدور ورائهم من قِبَل المتنفذين والسَّاسة وتجار الأزمات والحروب مما جعلهم ضحية للجميع دون استثناء، إلا ما رحمَ ربك.
ولعلَّ الوصول إلى قراءة صحيحة لما حصل يعيننا على دحر أعدائنا وفي مقدمتهم الانقلابيين ومن ساندهم؛ لأنَّ التوجه إلى الأمام دومًا دون مراجعة ليسَ صحيحًا دومًا، بل ربما يكون تنصُّلًا عن المسؤولية.
ختامًا:
لعل بعض الإخوة الذين نزلوا للساحات أو شاركوا في صناعةِ القرار الحاكم في البلاد يقدمون شهادتهم مع الوقت أو يكتبونها لتنشر في وقتٍ ما، لله ثمَّ للتاريخ.
وليسَ هناك تقييد “ضد مجهول” كما فَهِمَ بعض الإخوة لمسوَّدَة هذا المقال؛ لأنني أفرِّقُ بينَ أهداف الثورة في بداياتها الأصلية، وما حصل بعد ذلك من حرفِها عن وجهتها لأسبابٍ كثيرة: منها القوى الإقليمية والدولية التي اعتبرها المخرج الرئيس للمشهد، وبعد ذلك تبعا لها الأحزاب الكبرى المتصارعة في البلاد.
فثورة 11 فبراير التي هي امتداد لثورات الرَّبيع العربي التي ابتدأت في تونس، ثمَّ مصر، ثمَّ اليمن ومن خرج للسَّاحات في بداية الأمر كان لديه مطالب حقوقية مشروعة ومشتركة بين جميع فئات المجتمع صغارًا وكبارًا، شبابًا وشيوخًا، رجالًا ونساءً، علماء ومثقفين، وعوام وإعلاميين، وأدباء، إلخ …
مسألة دخول الأحزاب والجماعات وما سمي بركوب الموجة وتوجيهها لمصالحه هذه مراحل لاحقة يختلف توصيفها بحسب تداعياتها التي جرت وما زالت تجري .
والله من وراء القصد وهو يهدي السبيل .