المدونة

حائط المبكى: مكاشفة الحرف وتنهيدة العمر

في السَّنواتِ الأخيرة وجدتُني قد ابتعدتُ عن الكتابِ والقراءة دونَ إرادةٍ مني – وهي الملاذُ الذي كنتُ ملازمًا لها لسنواتٍ، عشقًا، وتصوفًا-، لا سيما في العامِ المنصرِم، فلا أذكرُ أني أنهيتُ كتابًا واحدًا منذ أكثر من عام، فما إن أستهلُّ بضع وريقات من كتاب يقع بين يدي حتى تنفر منه نفسي، ويتملكني الملل مهما كانت نوعية الكتاب، وصيته؛ لذا أصابني اليأس من القراءة تمامًا، وراودني شعور باستحالةِ عودتي لشغفي القديم مجددًا!

إلا أنَّ هناك كتابًا واحدًا حظيتُ به مؤخرًا، استطاعَ أن يسلب مني ذلك الشُّعور دفعة واحدة، حرَّكَ المياه الرَّاكدة في صدري، وأشعل جذوة الشَّغف بالقراءة، ومتعة المكوث بين الأسطر حدَّ الغياب، لقد أزاحَ جدار الملل والرَّتابة الذي ظلَّ لسنواتٍ بيني وبين الكتاب.

“حائط المبكى” للكاتبِ اليمني ابن تهامة خالد بريه، لِصيته الذي ذاعَ عاليًا، ولكثرةِ ما سمعتُ وقرأتُ آراء وانطباعات القرَّاء عنه، من مختلفِ أصقاع الوطن العربي الكبير، تملكانيَ الغبطة والتَّوق لقراءته، وحزَّ في نفسي أنني لم أوفق لحيازته بعد، وأنا الأحقُّ والأجدرُ بذلك، لاعتبارات الانتماء للمرجعيَّة المكانيَّة للنُّصوص، ولشخصِ الكاتب.. حصلتُ عليه بأخرةٍ فكانَ جديرًا بتوقي وتلهفي.. وأكثر.

“إذا رأيتَ الحديثَ مصدَّرًا بالأنا؛ فأنتَ المعنيَّ بذلك.. فأنا وأنتَ أركان المسرحِ الفسيح الذي تُقامُ فيه فصول الحكاية؛ فنحنُ قصَّة مكتملة تأخذ أشكالًا مختلفة، تطوَّعُ القلم بتدوينها، ليكون لسان الحال الذي يحكي قصَّة الوجع الدائم!”.

هكذا استهلَّ الكاتبُ كتابه، يحاول مخاطبة وعيك الدَّاخلي لتهيئته، ليبين له: إنَّ حرف الألم نُسج من حكاياك أنتَ لا غيرك، لا ترتبك أيها القارئ إن قرأتَ نفسكَ في نصٍّ أو أكثر، فأنا أعرفك جيدًا، وأكاد أسمع تنهداتك بين صفحةٍ وأخرى.

يأخذك الكتابُ منك حتى تجد نفسك أسيرًا هائمًا في جمال السَّرد وصدق المعنى، تغوص عميقًا وتمتزج مع روح النَّص لتكتشف أنكَ تقرأ نفسكَ متجسدًا أغلب التَّفاصيل بطريقةٍ أو بأخرى.. في محطاتٍ عديدة تشعر أنك المعني وأنَّ الكاتب يدرك خباياكَ وأراد مكاشفتك أمام الملأ، وكثيرًا ما تتمتمُ: ليتني كتبتُ هذا قبله!

أحيانًا يدفعك الفضول لإعادة قراءة السطور مرة تلو مرة حتى تتمكن من فكِّ شفرات النَّص وإدراك المعنى الذي يكمن في بطن الشَّاعر أو الكاتب، وتدعي ذلك، لكن…!

يتكثفُ دخان العمر في صدركَ وأنتَ تسترجع حكايات ضلالك القديم، وتطلق تنهيدة تكونت من حطام الذكرى مستهيمًا مع شجنِ الكاتب وحزنه..

يتحدث هنا عن الرَّحيل أو الرَّاحل: “رحيلك يجعلني أيمم بمشاعري حيثُ أنت، ففراقك تركَ أثرًا ممضًّا في نفسي، لا يزول إلا برؤيتك.. والحنين إليكَ استرجاعٌ للفصلِ الأجمل في الحكاية، فكم أحنُّ للقاء طيفٍ غادرني منذ سنوات دونَ وداع، كنت فصلًا جميلًا في حكايتي، لكنكَ قرَّرتَ الرحيل قبل تمامها!”

يسرد الكاتب حزنه بحرفٍ متدفقٍ شجيٍّ، وهذا ما جعل للنصوص مذاقًا سائغًا للشَّاربين.. فالآلام هي مداواة الكاتب التي لا تجف، وهو هنا يسخِّر آلامه وأوجاعه في نسج سطور حكاياه.. هذه المعادلة التي تربط الألم بالإبداع هي في يقين وقناعة الكاتب، وقد خصَّصَ لها أول نصوصه “الإبداع والألم”، ومنه ما كتب: ” لكنني أعتقد أنَّ الآلام هي الباعث على إخراج المكنون، هي اليد التي تهزُّ جذع الخواطر فتسقط حروفًا ملتهبة، هي الوقود الذي يشعل الإبداع المدفون في ركام النَّفس، وتحمل القلم على البوح”.

وقبل ذلك تظهر هذه القناعة في العنوان أو الاسم الذي اختاره الكاتب لكتابه “حائط المبكى”، ولسوف تدرك -وأنت تلتهم حروفه ثمَّ ما تلبث أن تلتهمك هي بوجْدها وحرقتها-ستدرك أنه أجاد وأحسن اختيار عنوان يختزل بوح أكثر من مائتين صفحة ببراعة وإبداع متناهيين، إنه يخلدُ بكائياته على حائطٍ أنيق حدَّ الوجع.

وكما ذكرتُ سابقًا، إنها ليست بكائياته وحده، هي أيضًا دموعك المستترة خلف تنهيدة وصمتٍ طويل نتاج (خيبات مُنِينا بها) وقصصٍ مشابهة، وأحلام تمَّ اغتيالها، بل إنها قصتكَ ذاتها، حتى حين يبث أحزانه عن الوطن، هو وطننا وهي أحزاننا…!

يقول في نصِّه ”لماذا يملكون رقابنا”:  “أفلت منهم، وصرخَ بأعلى صوته: (نحن قصةُ شعبٍ نشأَ في أحضانِ البؤس، وشبَّ تحت جنح الأسى، يتقلبُ في أحلكِ ألوانه.. ورضعَ لبان الظُّلم أشد ما يكون مرارة وقسوة.. في النهارِ تائهون، وفي الليل البهيم نتمتمُ بصراخٍ صامتٍ عن اللصوص، والموت، وأشياء أخرى!”

وهذه هي حكايتنا!

حكايتنا مع الوطن والغربة، حكاياتنا مع الصُّحبة، وذكريات الرفاق، حكاياتنا مع الحب والخيبات والرَّحيل، إنها مكاشفة الحرف وتنهيدة العمر!

لكن مع كل هذا الألم دائمًا ما تجد كوةً للنور يتعمَّد الكاتب إظهارها لك بصورة أو بأخرى، ليوصل لك رسالة الحياة ومفادُها: لا شيء يدوم، ومهما طال الليل، لابدَّ من الفجر.

صدر للدكتور الشَّاب خالد بريه -رغم صغر سنه- ثلاثة كتب كان آخرها “سطوة البيان الخالد” الذي لم أقرأه بعد، ولكن أتوقع، بل وأزعم أنه سيكون على مستوى هذا العنوان الكبير.

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى