محطات في حياة شيخ دعاة أهل اليمن الشيخ عبدالمجيد الزنداني
بداية الحديث لا أعلم داعية إلى الله ضحَّى وعلم وربّى وصدع بالحق وجاهد واحتسب في مقارعة الباطل وخرّج أجيالا من الدعاة في عصرنا الحاضر في بلدنا اليمن كالشيخ الزنداني بل ما مر على اليمن مصلح اجتماعي وداعية رباني وملهم سياسي، وحكيم عبقري، وخطيب جماهيري لوذعي منذ قرنين من الزمن وبالتحديد منذ وفاة الإمام الشوكاني إلى اليوم كالشيخ الزنداني فقد كان شيخ الدعاة، وسيف العلماء، وداعي الإيمان، ومرشد المفتين، وسراج العباد، ومنار البلاد، وقوام الأمة، وحارس الشريعة، ولسان الحق، وداعية الهدى، وكم أمات الله به كثيرا من البدع والضلالات والجهالات والخرافات، وكم أحيا الله به قلوب أهل الحق، وأمات به قلوب أهل الزيغ، فمثله في الأرض كمثل النجم في السماء، يهتدي به أهل الأرض، فهو بحق نعمة الله على أهل اليمن، وغيثُهُ عليهم بعد جور الزمن وفقده مصيبة عظيمة وداهية كبيرة، ودوره لا يقوم به العلماء الآن مجتمعين فلله كيف كان جهده وجهاده، ودعوته وإرشاده، وهو من يصدق عليه قول الشاعر :
هيهاتُ إن جادَ الزمان بمثلهِ
إن الزمان بمثله لبخيلُ
لقد كان الشيخ الزنداني أحد العباقرة الكبار الذين ولدتهم اليمن في العصر الحديث فهو رمز من رموزها وهامة سامقة من هاماتها وداعية ملهم من دعاتها فقد قضى الشيخ حياته مجاهدا في سبيل إعلاء كلمة الدين محاولا إصلاح المجتمع وتربيته التربية الإيمانية على منهاج النبوة فظهر كالشمس، وأنار كالبدر، وجرى كالسيل، وفاض كالبحر، وضرب كالسيف، وزأر كالليث، وشمخ كالطود، ونشر دعوة الله في السهل والجبل، والشمال والجنوب، ففضله على أهل اليمن جميعا لا يُنكر، ودعوته في الأقطار أشهر من أن تذكر، وكان عالما عاملا بعلمه لا يخشى في الله لومة لائم محبا للعلماء مُجِلا لمنزلتهم كثير النصائح والفوائد، جميل العطايا والعوائد، عظيم الهيبة، مقبول الكلمة، غذي بلبان العز والكرامة منذ أن كان وليدا، فنشأ يجابه الظلم أينما كان بقوة حجة وصلابة بأس، أمينا على الشريعة حارسا لحماها وقد كانت معركة الدستور التي خاضها سنة تسعين شاهدة على علو كعبه وعظيم همته وقدرته على تجييش الناس وحشدهم لمقارعة الباطل فقد انتفض انتفاضة الأسد إذا مسّ عرينه وخرج يجوب البلاد طولا وعرضا يؤلب الناس ويقف في وجه محاربة الشريعة وإزالتها من الحكم فوقف الناس خلفه من شرق البلاد لغربها ومن شمالها إلى جنوبها كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا يخطب فيهم كالموج الهادر ويحركهم لإسقاط الباطل فلم يكن بد من مجابهته، وقد كانت من أخطر المعارك التي خاضها بل لعلها الكبرى فلو لم تكن صولته تلك التي أيده الله فيها لذهبت الشريعة أدراج الرياح وكان مثلها مثل أي قانون وضعي يحتكم إليه الشعب فكان هو حامل لواء تلك المعركة وقائدها، والمخطط لها وموجهها ورائدها.
إشراقة البداية
سألتُ الشيخ ذات مرة وأنا معه كيف صرت عبدالمجيد الزنداني وما الشيء الذي غيّر حياتك وجعلك إنسانا ناجحا طموحا مؤثرا؟
فأجابني بعد إلحاح عليه: كنتُ بالفطرة من أول ما عرفت الحياة محبا لله ورسوله لكن قرّرتُ أن أفعل شيئا في هذه الحياة نُصرة لديني والله يعلم عجزي، فقلتُ أفتح المصحف وأول آية هي خطاب من الله لي، وكان هذا دون الثامنة عشر تقريبا، ففتحتُ المصحف وكًلي تحفّز ورغبة ورهبة لأول آية، فإذا أول آية تُشرق أمام عيني ” والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا ” فقرأتُها مرات ومرات وكُلي تأثر بها، ثم توجهت إلى الله رافعا يديّ إلى السماء أدعو: يا رب عليّ النصف وعليك الباقي” أي عليّ مجاهدة نفسي وعليك أن تهديني سبيلك الأقوم ..وما رأيت الشيخ يكثر من ذكر آية كما رأيته يكررها وكأنه يجاهد نفسه ويتذكر العهد الذي بينه وبين الله …
لقد بقي مجاهدا لنفسه مجاهدا أعداء أمته مجاهدا دنياه وزخارف الحياة ومناصبها وغرورها، مجاهدا بكتاب ربه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم حتى لحق بربه هذا ما نشهد به وله والشيخ مات واقفا مدافعا عن حياض الأمة إلى آخر نفس..بلغه الله منازل النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا..
الخطيب البليغ والحجة البالغة
آتى الله الشيخ الزنداني فصاحة في اللسان وقوة في الجَنان وبلاغة في البيان قلّ أن تجدها في خطيب مثله وكم دحض من خلال الإعجاز كثيرا من الشبه العقلية والعقائد الفلسفية فأزال شكوك الملحدين وشبهات المارقين، ولقد كان داعية فاضلا، عالما عاملا، متحريا للصواب في السؤال والجواب، عمدة علماء ودعاة اليمن، وشامة حسن وبهاء من شامات الزمن، ما زال مجدا مجتهدا باحثا داعيا في شبابه حتى طلع فجر مجده، وبرقت طوالع سعده، فنفع الله بعلمه العباد، وحسم بقواطع حججه شبهات أهل الأضداد، كان كثير البحث والمذاكرة، ملازما لدعاية الخلق إلى ما ينفعهم في الآخرة، لا يكاد أن يتكلم إلا في الإيمان بالله ورسوله وحجج الإيمان والرد على الملاحدة والزنادقة، وكان صاحب ذهن ثاقب وقريحة وقادة وسرعة فهم ونظر مستقيم، له في أحاديث الإعجاز باع ما أطولها، وحجج ما أجلها وأجملها، وما ناقش ملحدا إلا وأسلم أو ألجمه وله في ذلك حكايات عجيبة ونوادر غريبة، إذا ناظر فإنما يتكلم بنظر نقاد، وخاطر وقاد، له شمائل ناطقة بسمو فضله، ودلائل دالة على علوه ونبله، ما رقى منبرا إلا وأتى بحسن المعاني وجميل المباني، لا يمل حديثه وإن طال، ممدوح المجالسة لطيف المؤانسة، عاش حياته آمرا بالمعروف ناهٍ عن المنكر، يأخذ بالعزائم لا يخاف في الله لومة لائم، جسور في الجواب لا يخاف ولا يتردد ولا يهاب حاله:
من يطلب العزّ يتعب في مدارجهِ
فالعزُّ طودٌ وأرض الذلِّ ميدانُ
لولا المشقة ما فاق الورى بشرٌ
ولا سما في الدّنا بالمجدِ إنسانُ
له في الدعوة مقام راسخ، وفي العلم مقام شامخ، آتاه الله الحجة البالغة والمحجة النابغة فلا يقدر أحد على مجاراته إذ يسوق الشيخ إليه من الأدلة العقلية والنقلية ما يسكته بها وهو طويل المراس يمتلك نفسا طويلا في الحوار خبير بلغة العصر ورموز الكيمياء والفيزياء ومصطلحات الطبيعة والبيلوجيا ودلالات الفلك والفضاء ملم بعلوم العصر وأساتذتها وخبرائها ومراحل تطورها له خبرة واسعة في النقاش في علوم الكون والأرض والبحار يلجم كبار الملاحدة فيقفون أمامه مدهوشين من قوة حجته وبراعة منطقه، وإذا حضرت له محاضرة فإنما يأخذ بلبك إلى عالم الإيمان بالله واليوم الآخر فتشاهد ما تسمع كرأي العين.
شمائلُ ما للمسك في شمّ طيبها
بأنفاسها بردُ الشمال مضمخُ
له الكلم اللاتي بها السمع يزدهي
وتعنو لها شم العلى وهي شُمّخُ
وقد أصبح اسم الإيمان لصيقا بالشيخ حيث جعل عمره وقفا عليه فأسس جامعة الإيمان وكتب كتب الإيمان وشروحها وأسس مراكز الإيمان، ومسجد الإيمان، وسمَى مجموعة الإيمان- لقب أطلقه على ثلة من العلماء- ويرى أن المعجزات تبعث الإيمان وأن الغاية من إنزال القرآن الإيمان وأن مصطلح الإيمان هو بدل مصطلح العقيدة حيث لم يرد مصطلح العقيدة بنفس هذا الاسم فالأساس هو الإيمان فبذل جهده من أجله وجعل كل حديثه في كل مجلس حوله حتى أصبح مجدد علم الإيمان وهو ببعثه له يرقى أن يكون في مصاف عظماء اليمن أمثال المقبلي وابن الوزير والصنعاني والشوكاني والعمراني إذ هو باعث نهضة علمية ودعوية في اليمن بل أحد أقطاب التأثير العالمي بريادته الإعجاز العلمي..
الكرم الحاتمي
كَرم الشيخ ظاهر فمن عرفه عرف اليد التي لا ينقطع عطاؤها ولا يجف خيرها يعطي عطاء من لا يخشى الفقر فهو جواد يجري الجود في عروقه صاحب يد طولى ومن زاره وعرفه عرف الكرم الحاتمي الأصيل ، حسن الأوصاف، كثير الأضياف، صاحب نجدة ومروءة، علت رتبته، وتسامت مكانته، لين الجانب متواضع للناس، قدره سام بديع، وجاهه عال رفيع، وحق لبلد اليمن أن يتضوع بجمال مفاخره، وينشد جميل مآثره إذ فيه يصدق قول الشاعر:
طويلُ نجادٍ وافرُ الفضلِ كاملٌ
( جميلُ) الندَى قد فاقَ فهما ومنطِقا
وما هو إلا سيدٌ وابنُ سيّدٍ
له المحتدُ العالي من الدّرّ مُنتَقَى
وكنا سمعنا عن مآثر فضلهِ
فهُمنا على حبِّ السّماعِ تعشُّقا
فكانَ عيانا فوقَ ما وصفوا لنا
وشاهدتُ فَردا بالكمالِ تَخُلّقا
وقد فتح الله الدنيا عليه فسخرها في سبيل الله ولإعلاء كلمة الله وقد أخبرنا أن والده لما رأى انصرافه للعلم الشرعي وترك الجامعة أول حياته وملازمته مشايخ الأزهر ثم مرافقته للدعاة في اليمن كان يخشى عليه الفشل في حياته والفقر كونه لم يكمل دراسته أو يصنع له مشروعا تجاريا لكن كان يأبى إلا أن يواصل مسيره في الدعوة ويخبر أباه أن بركة الدعوة ونصرة الحق ستجعله هو من يعطي للناس ثم يبتسم الشيخ ويخبرنا عن فتحِ الله عليه وأنّ الداعية إلى الله لا يخذله الله ولا يُسلمه ..
العابد الأواه
مَنّ اللهُ عليّ بإمامة مسجد جامعة الإيمان صلاة المغرب والعشاء حين كنتُ طالبا في السنة الثالثة فصليتُ بهم سنة كاملة فرأيتُ من صلاة الشيخ قربي صلاة مختلفة عن كل أحد فكان يصلي السنة طويلا وأظن أنه لو انهدّ المسجد لا يتحرك لما أرى من انشغاله بها وتمكنه منها وخشوعه فيها وكان الطلاب يتعلمون من صلاته، وهو صاحب عبادة كما نحسبه _ ولا نزكيه على الله _وقد أيّده الله بكرامات ظاهرة وعجائب باهرة تراه في بعض أوقاته ينجذب انجذابا كاملا لمولاه وينقطع انقطاعا كاملا عما سوى الله، وقد رأيتُ من حالاته ما أذهلني وأدهشني فهو بحق عابد من العباد الذين ترى العبادة في وجوههم ويذكرك مرآهم بالله تعالى، وكم دعاني مرات إلى بيته فإذا كان وقت صلاة قدّمني فلا أكاد أتبين قراءتي من كثرة بكائه ونشيجه ألتفتُ بعد الصلاة فإذا هو مطرقٌ برأسه قابض على لحيته تجري دموعه غزيرة على وجنتيه، وقد تكون القراءة لآيات ليس فيها عذاب أو تخويف لكن الشيخ إذا وقف أمام الله يرتعد ويسري خوفه كالكهرباء إلى من حوله، وهو ممن لا يترك قيام الليل أبدا، وكم أرسلَ لي مرات لزيارته قبل صلاة الفجر وكنتُ طالبا تجري فيّ دماء العشرين نشيطا متحركا، فإذا وصلتُ بيته وفتحَ لي الحُراس ودخلتُ مجلسه أسأل عنه قالوا لي يصلي وهذا دأبه إلى أذان الفجر، ثم بعد الصلاة يجلس في مصلاه يذكر الله ويردد كلمة التوحيد – في ظني مائة مرة – ثم يقرأ ما تيسر من أذكار الصباح ويدخل معنا في الحديث مبتدأ بالكلام عن الإيمان وأثره على النفوس وعظمة الله وجلاله لا يترك الشيخ هذا البرنامج أبدا في حياته..
كان معظما لله في حياته فإذا ذكَر أحدٌ عظمة الله وجلاله ينتفض الشيخ كما ينتفض العصفور من بلل القطر، يعظم شعائر الله ويسعى في تعظيمها، مما أذكره أنه ذات مرة دخل المسجد ونحن ننتظر الصلاة فرأى حذاءا أمام الصف الأول في طرف المسجد – والحذاء جديد لامع وبعيد عن المصاحف- لكن أخذه ومضى يغُذّ السير، ومعروف مسجد الجامعة طويل فكان يمشي والحذاء في يده والحراس مستغربون من صنيعه فلما وصل المحراب تكلم بكلام لطيف أن الأحذية لها أمكنتها الخاصة بها، وقد أقام صناديق في الجامعة للأوراق المحترمة لئلا يطأ أحد اسم الله أو كلاما معظما، وتراه يطرق برأسه خاشعا إن تكلم أحد عن شعائر الله، كثير التفكير في آيات قُدرة الله حتى لقد قال مرات وأنا أسمعه هذه الآية مكثت أتدبرها عشرين سنة، وتلك الآية عشر سنوات، وتلك وتلك…فهمه كله وفكره مع آي القرآن دراسة وبحثا وتأملا وفكرا قد أوقف عمره وفكره وحياته عليه . .
روائعُ الإنجاز..في تأسيسِ هيئةِ الإعجاز
أثناء تواجد الشيخ الزنداني في السعودية سنة ١٩٨٤م قام بتأسيس هيئة الإعجاز العلمي والتي كان لها دور كبير في إسلام كثير من أكابر العلماء الغربيين وأساطينهم كما قام بإعداد جيل من العلماء والباحثين لدراسة المسائل العلمية والحقائق الكونية في ضوء ماجاء في القرآن والسنة.
وقد اجتهد الشيخ الزنداني في صبغ العلوم الكونية بالصبغة الإيمانية، وإدخال مضامين الأبحاث المعتمدة في مناهج التعليم ومؤسساته، وسعى في الكشف عن دقائق معاني الآيات القرآنية الكريمة والأحاديث النبوية الشريفة المتعلقة بالعلوم الكونية في ضوء الكشوف العلمية الحديثة، وشارك كثيرا من العلماء الكبار في وضع الإضافات الإسلامية في كتبهم، كما حدث في كتاب «أطوار خلق الإنسان» للبروفيسور الكندي كيث مور أكبر علماء الأجنة في العالم، وأقام أربعة عشر مؤتمرا عالميا للإعجاز في موسكو والقاهرة والباكستان وأندونيسيا والكويت والرياض والسنغال ودبي ومصر وجدة والسودان والجزائر وحضرها آلاف الباحثين الشرقيين والغربيين ومئات البرفسورات من المسلمين وغير المسلمين وأسلم كثير من الباحثين في الحوارات التي أقامها حتى لقد أسلم على يديه في محاضرة واحدة في موسكو سبعة آلاف شخص، ودخلت قرى بأكملها في الصين الإسلام بسبب كتب الإعجاز التي ألفها وترجمت للصينية كما أخبرني أحد الدعاة الصينيين، كما أنشأ الشيخ مكاتب خارجية لهيئة الإعجاز في : مصر – لبنان- تركيا – المغرب – تونس – السودان – الجزائر – ماليزيا – النمسا.
ومكاتب داخلية في : الرياض – جدة – المدينة المنورة – الطائف – جازان – القصيم – الشرقية – أبها، كما أقام مئات الدورات التدريبية لآلاف الدعاة الراغبين في المحاضرة والبحث في مجال الإعجاز العلمي.
وقام الشيخ بتتبع الشبهات التي يثيرها أعداء الإسلام ويلبسونها أثوابا علمية للردِّ عليها بأسلوب علمي مقنع.
في مجلس الرئاسة
لقد كان الشيخ الزنداني إماما من أئمة أهل الحق وداعيا من دعاة الإيمان، ومرشدا يقظا للأمة، فإذا ذُكر الحق فهو من ذويه والصادحين به ورافعي أعلامه، وقد بذل فيه جُهده وحياته ولقد كانت مواقفه شاهدة بذلك، ولقد أوصلته مسيراته وجهوده وحشوده وبياناته وتحركه إلى أرفع مجلس سياسي يحكم اليمن فكان عضوا في مجلس الرئاسة بعد الوحدة وقد أخبرنا بكثير من القصص والمواقف وهو يصارع السياسيين في هذا المجلس من أجل تقنين الشريعة إذ بعضهم كان أحيانا ينتقده لا لشيء إلا لتدينه وتمسكه بشريعة ربه فيفحمهم بالإعجاز إذ يلج لهم بابه فاتحا لهم مصراعيه فيسخرون ثم في الأخير يندهشون ويذهلون ويصمتون، وقد أخبرنا بمواقف كثيرة له مع الرئيس علي عبدالله صالح ونائبه حينها علي سالم البيض إذ يجلس أحدهم عن يمينه والآخر عن شماله ولا ينفكون يسألونه عن كل صغيرة وكبيرة في مسائل الشريعة والحياة ويدخلون في نقاش عميق وأحيانا يتفق المجلس كله على معارضته فلا ينفك يغالبهم ويغالبونه، وأحيانا يكون الأمر خطيرا حين لا يجد مناصرا ومدافعا فإن عجز نزل إلى الشارع وحشد الجماهير فينصدمون ويذعنون فكان شوكة في حلق كل معارض للشريعة، والشيخ منذ أن كان مدرسا لمادة الأحياء في معهد من معاهد عدن إلى مدير مكتب الإرشاد برتبة وزير إلى كرسي مجلس الرئاسة إلى تأسيس جامعة الإيمان كلّ همّه تجديد الإيمان في قلوب الناس وتحكيم الشريعة الغراء في حياتهم لا تهمه المناصب بقدر ما يهمه إعلاء كلمة الله في الأرض، وتربية جيل يحمل شعار الإيمان متسلّحا بالمعرفة والحق .
الشيخ ومغادرة كرسي الرئاسة
كان بإمكان الشيخ البقاء في مجلس قيادة الشعب أعلى سلطة تحكم البلد وكان يتمتع بكثير من النفوذ والجاه بحكم منصبه الرفيع لكنه فكر أنه لا بد من بناء صرح علمي عالمي يؤمه طلبة العلم من كل فج عميق ويكون هذا الصرح مخرجا لطلبة العلم الشرعي الجامِعِين بين العلم العميق والفهم الدقيق وكان هذا هو شغله الشاغل وَجُلّ تفكيره وهمه، فأشار عليه الرئيس علي عبدالله صالح حينها بترك مجلس الرئاسة إذا كان يريد تأسيس جامعة- وهذا ما حدثنا به الشيخ وسمعناه منه مباشرة- فنظر الشيخ وتأمل وفكر وتردد إذ من منصِبه ذلك يستطيع أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر مباشرة إذ هو في مجلس القيادة، ومن خلال الجامعة يستطيع أن يربي أجيالا ويخرج علماء يكون لهم الأثر الكبير من بعده وبعد تفكير عميق واستخارة قرر فتح الجامعة وترك كل منصب حكومي حتى يَعُدّ العدة لنصرة الأمة من خلال مشاريع العلماء المجددين والدعاة الملهمين وكان للشيخ ما أراد فإنك لا تنزل مديرية ولا قرية من قرى اليمن إلا ووجدت أثر الجامعة فيها بل انتشر طلاب الجامعة داعين إلى الله في الخليج وبلاد الشام والمغرب وأوربا والشرق والغرب فلا تنزل مدينة من مدن العالم اليوم إلا ووجدت طلاب جامعة الإيمان من أبرز مشايخ ودعاة تلك المدينة ولا أقول هذا مبالغة بل تَحدَّثََ به ولمسه الكثير ممن زار دولا كثيرة وحل في بلدان عديدة بل بعض خريجي الجامعة الأفارقة أصبحوا على رأس دوائر الإفتاء في دولهم ومجالس القضاء وكراسي العلم وهكذا آتت الجامعة أكلها الطيب المبارك.
أنوارُ الإيمان المنبعثة من صرحِ جامعة الإيمان
أسس الشيخ الزنداني جامعة الإيمان ودعا للتدريس فيها كبار علماء العالم الإسلامي وأئمة العلم من كبار علماء اليمن فأمّها علماء عباقرة من الشناقطة الأفذاذ ومصر والسودان وبلاد الشام والرافدين ودرّس فيها أكابر فقهاء اليمن بلا منازع كمفتي الديار والديلمي وحربة والأهدل رحمهم الله جميعا فكان لهم فيها دور بارز فيها ونثروا فيها علمهم الجم واستفاد منهم آلاف من طلبة العلم من شرق اليمن وغربها وشمالها وجنوبها وكانوا هم طليعة الدعاة وفرغ لها الشيخ كل وقته وجعل لها كل همّه وكان يُدرّس فيها مادة الإعجاز العلمي تأصيلا وتفصيلا بل جعل له بيتا داخلها حتى يقترب من متابعة سير التدريس فيها أولا بأول.
وقد أثمرت الجامعة طلابا نجباء ميامين بلغوا الدعوة والعلم كل الميادين كيف لا وقد فسر لهم كتاب العزيز الوهاب العلامة الديلمي عبدالوهاب، ونهلوا من علم أعلم علماء الأصول في زمننا عبد الكريم زيدان، وأخذوا من درر أعلم أهل عصرنا في اللغة أهل شنقيط الفرسان، وتفقهوا بفقه الأئمة الأخيار على العمراني مفتي الديار، ودرسوا الأحاديث وفقهها وأسانيدها ومصطلحها المحَبّر على المحدث حسن حيدر، والاجتهاد ورتبه على يد العلامة محمد يوسف حربة، فكانت جامعة الإيمان منارة خير وهدى لأهل اليمن كافة فطلابها يتعلمون ويعلمون يأخذون العلم ويبلغونه، وقد كانوا ينتشرون كل خميس وجمعة في كل أرجاء اليمن يسافرون إلى كل محافظة للخطابة والدعوة إلى الله فلو دخلت الجامعة ظهر الخميس لرأيت أمرا يدهشك فهاهم قد تحمل كلّ متاعه واتجهوا زرافات ووحدانا نحو حافلاتهم يتسابقون، هؤلاء ستتجه حافلتهم إلى أقصى حضرموت وتلك إلى أغوار حرض لا يتركون مديرية ولا منطقة إلا ونزلوا فيها يعلمون أهلها، وفي آخر السنة لابد أن يخرج الطالب أربعين يوما أيضا يبلغ ما تعلمه وينشر أنوار الإيمان..
وقد قامت جامعة الإيمان حاملة أهدافا سامية من أهمها:
إعداد وتخريج العلماء العاملين الأتقياء المؤهلين للاجتهاد في تخصصاتهم.
وتوفير التخصصات الشرعية العلمية والعملية بما يسهم في تلبية احتياجات المجتمع والأمة والعالم .
والاسهام في تنمية ونشر وحماية القيم الإسلامية في المجتمع والأمة .
وتعددت أقسامها بدأ من علوم القرآن والقراءات واللغة والشريعة والاقتصاد والإعجاز العلمي والإعلام وتصل أقسامها إلى ثلاثة عشر قسما، ودرس فيها ما لا يقل عن ثلاثين ألف طالب وطالبة في مقرها الرئيسي من غير فروعها في بعض المحافظات.
وكانت جامعة الإيمان مؤسسة تعليمية رائدة في مجال العلوم الإسلامية في اليمن، وحققت كثيرا من الإنجازات العلمية والبحثية في مختلف التخصصات، ونشرت العديد من الأبحاث العلمية في مجلات علمية محكمة، وشاركت في العديد من المؤتمرات العلمية الدولية. وحصلت على العديد من الجوائز العلمية، منها جائزة التميز العلمي من وزارة التعليم العالي والبحث العلمي في اليمن، وقد صنعت في قرابة عشرين سنة نهضة علمية ودعوية وتربوية لمسها أهل اليمن جميعا.
الثوب الأبهَى
كسَى الله الشيخ الزنداني ثوب هيبة ما رأيناه في أي عالم من علماء اليمن – وذاك فضل الله يؤتيه من يشاء- فالشيخ إذا دخَل مجلسا صمَت الكلّ وتوجّهت الأنظار إليه، وحفّ الجمع به، وحملقت العيون فيه، وأصبح هو الصدر في ذاك المجلس ولا يستطيع أحد كائنا من كان أن يتقدَّم هو أو يُقدم أحدا عليه فهو أميرُ الدعاة، وسلطانُ العلماء، وتاجُ العارفين، وشيخُ الفضلاء، وقائد ركب الميامين، وقد رأيتُ والتقيتُ بمئات العلماء في اليمن وخارجها فلم أرَ من أُلبس هذا اللباس كالشيخ الزنداني فتراه وقد ألبسه الله هذا اللباس الكل في حضرته بكامل وقارهم واحترامهم لا يقدر أحد على مجاراته أو التشغيب عليه حتى من معارضيه.
وهو يذكّرني بإمام عظيم يمني من الأئمة الأربعة وهو مالك بن أنس فقد كانوا يزدحمون على بابِه حتى يقتتلوا مِن الزِّحام، يقول أحد طلابه: وكنا إذا كنا عنده لا يلتفت ذا إلى ذا، قائلون برؤوسِهم هكذا، وكانت السلاطين تهابُه، وكان يقول: لا، ونعم، ولا يقال له: مِن أين قلت ذا؟؛ “
وفيه يصدق قول الشاعر:
يدَعُ الجوابَ فلا يُراجَع هيبةً
والسائلون نواكسُ الأذقانِ
نورُ الوقار وعِزُّ سلطان التُّقى
فهو المَهيبُ وليس ذا سلطانِ
فالشيخ الزنداني كان رأس علماء اليمن وتاجهم وهو محط أنظار الشعب جميعا موافقا ومخالفا، وكلمته التي يقولها يضرب لها الحاكم ألف حساب، تهابه الدولة وتتودد إليه وتخطب رضاه وتخشى صولته لِما أيّده الله به من هيبة ..
صفاء الأخلاق..وبدرُ الإشراق
كان الشيخ يمتاز بأخلاقه النقية التي تُمثّل روحَ الإسلام فكان بها بدرا مُنيرا ينثر ضياء أخلاقه على العاملين موافقا ومخالفا، حبيبا وعدوا، ومن هذه الأخلاق أن الشيخ ما كان يغضبُ إلا إنِ انتهكت حرمة من حرمات الله، وكان على كرمه وجوده بما في يده وسماحة نفسه لا يبالي بمن يمدح أو يقدح وتلك علامة من علامات الإخلاص وكم كُتبت مؤلفات سبّا وقذفا في الشيخ وكم هجاه شعراء بقصائد فما كان الشيخ تهتز له شعرة، وأذكر أني ذات مرة سنة ٢٠٠٨م تقريبا ذكرتُ له أنّ فلانا كتب فيه قصيدة هجاء طويلة لربما جاوزت خمسين بيتا واستأذنته في أن أرد وكنتُ متحمسا وظننتُ لما أخبرته أنه سيكون في غاية التشجيع لي والفرح بي فإذا بي أجده باردا فخارت حينها قواي وثبطني عن الرد بكلام لطيف فلله ما أسمى أخلاقه، وكان من أبرز صفاته الإنصاف فينصفك من كل أحد حتى من نفسه، والعفو فإنه يعفو عن كل من أساء إليه مهما كبرت الإساءة وكم جاء أناس إلى بيته يطلبون الإقالة في تهم اتهموه بها وإساءات فيرد الشيخ بالابتسامة ويسامح دون مراجعة أو استفسار، وكم سمعتُ قضايا عفو بين يديه لا يزيد على الابتسامة وقول سامحك الله لكن افعل كذا( يدله على باب من أبواب الخير)، ومن صفاته أنه لا يذكر أحدا بسوء في مجلسه ولا يسمح لأحد وأذكر موقفا على ذلك أنا كنا مرة عنده في بيته فتحدث عن قضية أُثيرت فسب أحدُ الحاضرين بجانبي داعيةً من المخالفين للشيخ واصفا له بالعبد، فغضب الشيخ وقال: لا يحق لك أن تتكلم بهذا لأن من تسبه غير موجود ليدافع عن نفسه، وامتقع وجه الشيخ وتغيّر على ذلك الأخ رغم أن الذي سُب هو على رأس المخالفين للشيخ في تلك القضية، وهذا لم يمنع الشيخ من أن يدافع عن خصمه وهذا من العدل مع المخالف وهي صفة من صفات العظماء، وكان من صفاته الحزم والعزم فإذا بدأ في عمل ما اشتدّ فيه حتى ينجزه ويغلب الشباب فيه، وكان في الجامعة وهو فوق الستين لا يكل ولا يمل من الاجتماعات بالمدرسين والإداريين حتى لقد قال لي في السودان البروفيسر عبدالله الزبير “كان الشيخ عبدالمجيد لا ينام ولا يدع أحدا ينام يتصل بنا في اجتماع إلى آخر الليل ثم يتصل بنا بعد الفجر لنجتمع طيلة اليوم وهكذا شأنه..” فالرجل أوتي طاقة عجيبة وقدرة هائلة من النشاط والحركة والحزم والعزم.
والشيخ رغم الهموم التي عنده والقضايا التي بين يديه فإنه لا يفتر عن الابتسامة هي شعاره ودثاره دوما لا تراه إلا مُبتسما يهشّ ويبشّ لكل أحد بابتسامته العريضة التي تصنع من وجه بدرا مستنيرا.
– هذه إشراقات سريعة ولوامع بديعة عن شيخ دعاة أهل اليمن كتبتُها عند سماع نبأ وفاته وقبل مواراته الثرَى، وإني لأكتب أحرفي ودموعي تسيل حزنا لفقده، فلله ماذا سيدفن المشيّعون !! سيدفنون غدا سلطانَ علماء أهل اليمن وتاجهم وشمسهم التي ملأت اليمن علما ودعوة وجهادا، ولله أيّ قبر سيضم عالِما هو عالَمٌ رحبٌ وسيعٌ، اللهم اخلف على اليمن والأمة بخير وبلغه منازل النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا.