المدونة

داخل الكتب.. خارج الحياة

كتب / كتاب

إن لم تخني ذاكرة المشاهدة، فإني كنتُ مرة قد سمعت الشَّيخ يوسف القرضاوي، في ندوةٍ تعرضت لتعدد الزَّوجات في الإسلام، يقول: إنَّ هذه الصورة التي غدا عليها واقع المسلمين المعاصر، بشأن التَّعدد، هي صورة متسربة إلى واقع أمَّة الإسلام من المسيحية، التي تحرم، كما استقر عليه حالها، تعدد الزوجات، بل تحرم الطَّلاق، حتى صارت كلمة “زواج كاثوليكي” تطلق على الشيء الذي لا يستطيع الإنسان الفكاك منه.

بالتَّأكيد، وتطمينا للسَّادة القرَّاء، فإني لا أريد الخوض في موضوع التَّعدد، في هذه التناولة، وإنما أردت جعل هذه القصة مدخلًا لموضوع بعيد/ قريب منها.. ذلكم هو موضوع (المناظرة/ النَّدوة) التي كان مقررًا لها أن تنعقد على مساحةِ “حكمة يمانية” بين الشَّيخ العلامة المجتهد، فضل مراد، والدكتور الطبيب الروائي، مروان الغفوري.. والشخصيتان غنيتان عن التَّعريف، في الفضاء الإلكتروني والواقعي على حدٍّ سواء.

تلك الفعالية التي كان ينتظرها الكثير من المثقفين التواقين لردم “الهوة” بين العالِم الشَّرعي، وبين “واقع النَّاس” الموار بكل ما هو بحاجة لقول الشريعة..  ذلك أنَّ الحياة بحاجةٍ لعالم الشريعة الرَّاسخ، حتى يكون بين النَّاس بمثابة المصباح الذي يضيء دروب الحياة، بما أوتي من نور كتاب الله، الذي يهدي للتي هي أقوم.

لكن يبدو أنَّ تلك “الهوة”، بفعل التآثر الذي حدث بين المسلمين وسواهم من الأمم، ولاسيما الأمم التي غلبتهم في العصور المتأخرة، قد نجحت في عزل العالم المسلم، عن واقع النَّاس، على غرار انعزال الأحبار والرهبان في الديانتيْن اليهودية والمسيحية.. ما جعل العالِم المسلم، في كثير من المناشط “يتحدثُ إلى نفسه”، حيث أحاط نفسه بأشباهه ونظائره من العلماء وطلاب العلم.. ثمَّ أنشأوا لأنفسهم بيئة مغلقة، تمتد مساحتها بين الكتاب وشرحه وتفسيره واختصاره، وتحشيته، ونقده، وتحقيقه! ثمَّ لا يكون بعد هذه المساحة إلا المجاهل التي لا يدرون ما خلفها، مما تعجُّ به الحياة من فتنٍ ومذاهب وتيارات تعصف بالمجتمع يمنة ويسرة.. يحركُ دفتها الأهواء والشَّهوات والنَّظريات التي لا خطام لها من شرع ولا زمام.

على أنك حين تريد البحث عن شرعية هذه “العزلة والانعزال” لن تجد لها سندًا حتى في الديانة الأكثر تأثيرًا علينا والتي وفدت إلينا منها معظم الشرور، بما فيها هذه الصورة التي تحنط رجل الدِّين في صومعةٍ منعزلة عن الحياة.. إذ يقول الحق سبحانه إنَّ هذه الصُّورة لم يكتبها عليهم، وإنما هم ابتدعوها: {ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَىٰ آثَارِهِم بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ} (الحديد:27).

بل إنَّ القرآن الكريم في غيرِ موضع، ينفي هذه الصورة المثالية للأنبياء والمرسلين.. ويؤكد أنهم، بشر طبيعيون مثل بقية البشر، يزاولون حياتهم بشكلٍ اعتيادي، بين النَّاس وفي أوساطهم، ويزاولونَ الأنشطة نفسها التي يزاولها البشر العاديون.. فمنهم الحدَّاد ومنهم النَّجار ومنهم راعي الأغنام… إلى غيرها من المناشط التي تقوم بعمارةِ الأرض؛ لأنَّ ذلك هو المدخل الوحيد لإصلاح المجتمعات، قال سبحانه: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ ۗ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ ۗ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا} (الفرقان:20).

بل إن القرآن ليشير إلى أنَّ التَّفاوت بين الدَّاعية والمدعو سيشكل عائقًا لانسياب قنوات الهداية بين الاثنين، قال سبحانه: {وَقَالُوا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ ۖ وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكًا لَّقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنظَرُونَ (8)وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ (9)} (الأنعام)

ولقد كان نبي الإسلام، محمَّد عليه الصلاة والسلام، أعظم مثال على هذا الحال من الاتصال المباشر بين الداعي والمدعوين؛ أيًّا كانت الحال التي هم عليها، من الصلاح والطلاح والإيمان، والكفر، والصدق، والنِّفاق.. بل لقد كان يكون بين أصحابه كواحد منهم، لا يكاد يعرف القادم الغريب من هو فيهم، يقول أنس بن مالك رضي الله عنه: “بيْنَما نَحْنُ جُلُوسٌ مع النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في المَسْجِدِ، دَخَلَ رَجُلٌ علَى جَمَلٍ، فأناخَهُ في المَسْجِدِ ثُمَّ عَقَلَهُ، ثُمَّ قالَ لهمْ: أيُّكُمْ مُحَمَّدٌ؟ والنبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مُتَّكِئٌ بيْنَ ظَهْرانَيْهِمْ، فَقُلْنا: هذا الرَّجُلُ الأبْيَضُ المُتَّكِئُ” (متفق عليه).

هذا وإنَّ المتأمل للقرآن الكريم، ليلحظ أنَّ معظم المشاهد التي دونها الذِّكر الحيكم للأنبياء والرسل، عليهم الصَّلاة والسَّلام، لم تكن مع أتباعهم وأنصارهم، بل كانت مع أقوامهم المكذبين.. وفي هذا الرهط الكريم، المنساب في شعاب مجتمعاته انسياب الماء في شعاب الأرض، حصر القرآن الكريم القدوة والأسوة، قال عزَّ من قائل:

{أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ} (الأنعام:90).

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. الشيخ الدكتور العلامة فضل مراد علامة مجتهد كما وصفه صاحب المقال . وهو من الموسوعية و الواقعية بمكان، يفتي الناس مراعاة واعرافهم واحوالهم ولا يتعصب لمذهب او راي معين، ومن رام معرفة فليتابع فتاويه عبر صفحته الفيسبوكية، ومن كان كذالك فيبعد ان نرميه بانعزاليته و قوقعته ورهبانيته
    فالامر يحتاج إلى روبو.خاصة وقد ذكر عذره في عدم تلبيته الدعوة وحضور الندوة .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى