قطعت البشريَّة شوطًا طويلًا منذ قديم الزَّمن في ميادينِ الفكر والمعرفة، وكانت ثمرة سعيها تتلخصُ في أهميَّة الوعي أهمية الطَّعام والشَّراب والهواء، وخلصت أنه لا سبيل إلى الوصول للوعي إلا بالمنهجيَّة والاستدلال الصَّحيح لا النَّتائج والمضامين الصَّحيحة، فماهي المحطات المفصليَّة التي تخللت هذه الرحلة؟ وما هي أهم الأحداث الجوهرية التي حرفت وعدلت مسارها؟
إني جاعل في الأرض خليفة:
قد أتى على هذه الأرض حينٌ من الدهر لم يكن ابن ادم فيها شيئًا مذكورًا، كانت خالية من أكرم جنسٍ من جنس المخلوقات، جنس أفزع الملائكة نبأ استخلافه على هذه الأرض، وكأنها كانت تعلم شيئًا ما من وراء قولها (أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء)، ولكن الله أعلم حيث يجعل رسالته، فراهن الملائكة على هذا المخلوق الجديد قائلًا: (إني أعلمُ ما لا تعلمون).
يا ادم أنبئهم بأسمائهم:
خلق آدم أخيرًا ، وسجدت الملائكة لهذا المخلوق الجديد الذي كسبَ الرهان، وربح المناظرة الأولى بين جنسين من المخلوقات: الملائكة والبشر، لقد ربح آدم جولته الأولى بالصفة التي ميزته على باقي جنس المخلوقات، وهي المعرفة (وعلم آدم الأسماء كلها)، هنا تراجعت الملائكة أمام هذا الجنس الجديد الذي سيبدأ رحلة جديدة من الاستخلاف والاستعمار على هذه الأرض.
يابني آدم لا يفتننكم الشيطان:
ستبدأ جولة جديدة لهذا الجنس الجديد، ولكن هذه المرة مقابل جنس آخر خُلِقَ من نار، والذي سيتضح فيما بعد أنه العدو الذي سيكرس حياته لينتقم من هذا الجنس الجديد، جنس آدم الذي ميز دونًا عن غيره من جنس المخلوقات بالوعي، يرفض إبليس السُّجود، فيطرد من ملكوتِ الله، فتكون له أمنية أخيرة عادلة، أن يُنظر حتى ينتقم، فيبدأ اختبار آدم الحقيقي بشجرة مقابل الجنة، ويظهر مع هذا الاختبار طبيعته، حيث سيكون التلاعب بالمصطلحات وتزيين الأشياء على غير حقيقتها هي سر لعبة الشيطان (يا آدم هل أدلكَ على شجرة الخلد وملك لا يبلى).
قلنا اهبطوا منها جميعًا:
خسر آدم الجولة الثانية من الاختبار، ولكنه تعلم شيئًا جديدًا نتيجة لطبيعة تكوينه الواعية؛ تعلم من خطأه وأدرك زلته، ولم يكابر كإبليس، بل تاب وأناب واستغفر؛ فتاب الله عليه، وكتب لذريته من بعده التوبة، فبعد أن توعد إبليس أن ينتقم في أول حوار بين الخير والشر: وعزَّتِك لا أبرحُ أُغوي عبادَك ما دامت أرواحُهم في أجسادِهم . فقال: وعزَّتي وجلالي لا أزالُ أغفرُ لهم ما استغفَرُوني . وهكذا سيدخل آدم إلى مرحلة جديدة أبرز سماتها الزمان والمكان، بل بتعبير آخر سيكون عالقًا بداخلهما ويبدأ بذلك الاختبار.
اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينًا:
ستقسم هذه الرحلة إلى مرحلتين، المرحلة الأولى عصر النُّبوة والرسالات، المرحلة التي تنضجُ فيها البشرية عبر آلاف السنين إلى أن تصبح مهيئة لأن تتحمَّل مسؤولية نفسها، فتبدأ المرحلة الثانية عصر الاجتهاد البشري الذي نضج، فلم يعد مصدر المعرفة عنده التبعية والتقليد(ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين)، بل سيكون مصدر المعرفة هو البرهان (قل هاتوا برهانكم ان كنتم صادقين)، فتختم النبوات ويحفظ الوحي وتبدأ جولة جديدة تتطلب وعيًا مختلفًا تمام الاختلاف عن سابقه بعد أن انقطع الوعي، وحفظ فيه خلاصة تجربة المرحلة الأولى وما يلزم الإنسان منها في المرحلة الثانية، (ما فرطنا في الكتاب من شيء)، حفظت أصول التَّجرِبة الأولى؛ تجربة الرسل والأنبياء وأصول الظواهر المبثوثة من حولنا، كيف ظهرت اللغة؟ كيف ومن أين جئنا وإلى أين المسير؟ وما الغاية؟ وماذا جرى في الأزمنة الغابرة؟ وكيف وصلنا إلى هنا؟ وما المطلوب منا لإكمال المسير؟
يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم:
انتقل القرآن بعد الحديث عن تفاصيل اللحظات الأولى من الخلق إلى الحديث مباشرة إلى بني إسرائيل بصيغة المضارع متجاوزًا عشرات القرون ليبين سنة كونية متصلة بطبيعة تكوين جنس الإنسان الواعية، وهي أنَّ المتحكم بالمعرفة متحكم بالبشر بالضرورة، وهنا ينازع القرآن السلطة المعرفية لبني إسرائيل في مواضع كثيرة ليهيمن على تصوراتهم بتصوراته الجديدة التي تنزع سلطتهم الزمانية التي شكلت ولا تزال تشكل وعي البشرية منذ القدم، وليست معظم الأفكار المعاصرة التي تشكل الواقع سوى ردة فعل عن تلك المعرفة.
كنتم خير أمة أخرجت للناس :
ولأنَّ جنس آدم ميز بالمعرفة، فكان لزامًا أن يكون الوحي الخاتم محاطًا بها، نزلَ رسول السَّماء جبريل بالوحي لرسول الأرض محمَّد بن عبدالله بـ(اقرأ باسم ربك) حتى يكون المنهج الجديد الذي سيتوحد تحته البشرية بعد أن تجرعت ويلات التَّخبط والتشتت والاختلاف لاختلاف المناهج والتفسيرات التي تتطلب الإحاطة بمعرفة غيبية غير حسية خارج هذا الزمان والمكان، ولا سبيل إليها سوى الوحي، ولأنَّ البشرية قد نضجت وبلغت رشدها، أتى الوحي بقالبٍ سردٍ جديد مختلف عن ما ألفته البشرية، يزود الإنسان بما يحتاجه من معرفة ليكمل الرَّحلة ويتجاوز الاختبار، ويحرره من ما يأسره من أساطير وخرافات، فتتصل الأرض بالسماء ويصبح البرهان هو المنهج مستبدلًا مناهج الجمود والتقليد. ومع انتهاء مهمة الرسول الخاتم محمد ﷺ الذي بلغ الوحي وطبق منهجه وقيمه، فاتسقت هوية الوحي في سلوكه (وكان قرآنًا يمشي على الأرض) ستبدأ مهمَّة هذه الأمة في أن تكون رائدة على باقي الأمم بدورها الحضاري وثقافتها وقيمها الثَّورية، (لقد ابتعثنا اللهُ لنخرجَ العباد من عبادةِ العباد إلى عبادة ربِّ العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة)، مقولة تعكس طبيعة هذا الوحي الخاتم الذي زود الإنسان بمعرفة تأسيسية عن طبيعة الإله والكون والحياة والانسان، فانعكست هذه التَّصورات الجديدة على الواقع وحكمت الأمَّة العالم وسادت قيمها ونضجت معارفها وازدانت حضارتها وتولعت الأمم المغلوبة برونق هذه الأمة الجديدة الغالبة.
إنَّ الله لا يغير ما بقومٍ حتى يغيروا ما بأنفسهم:
إنَّ الله ينصر الدولة الكافرة العادلة ولا ينصر الدولة الظالمة وإن كانت مسلمة، هكذا تسقط الأمم، ولم تكن خيرية هذه الأمة بالجمود والتقليد، بل بالمعرفة والوعي والبرهان، بوعيها بذاته وبدورها الحضاري الذي اغتاله المستعمر في القرنين السابقين وفكك هويتها الثقافية والحضارية، فوقفت موقف الانبهار بالغير والإحساس بالضعف وفقدان الوعي بالذات، فسقطت وتخبطت وعادت الى المرحلة الأولى، مرحلة تشتت المناهج وتخبط الرؤى واتباع الأصنام الجديدة التي يزخرفها الشيطان ويزينها على غير حقيقتها، فسقطت هذه الأمَّة من الخارج بعد أن تحقق هذا السقوط أولًا في الداخل، فلم يعد البرهان هو المنهج الذي يشكل وعيها ويحرر طاقتها، بل أصبح الجمود والتَّقليد والتبعية هو الغالب، فلم يعد يتسق السُّلوك مع هوية الأمَّة ولا عادت منتجات الحضارة تتسق مع قيم الثقافة، حدث الصراع والتفكك، وفرغ وعي هذه الأمَّة من مضامينها، ولا سبيل لعودتها إلا إذا تحققت فيها: الأصالة والإبداع والجمال، دون هذه المكونات لن تستطيع الأمَّة أن تنافس من جديد وتستعيد دورها الحضاري ورسالتها العالمية، فأنت ترى صنفين في هذه الأمة: صنف يعيش في الماضي ويتنكر للحاضر، وصنف يتنكر للماضي ويعيش في الحاضر، والأمَّة تحتاج إلى قادة هويتهم أصيلة وثقافتهم معاصرة ، بهكذا رؤية وهكذا منهجية ستتحرر الأمَّة والأوطان من جديد، فإن لم يكن الشباب فمن؟ وإن لم يكن الآن فمتى؟