المدونة

غربة الخطاب السياسي العربي

بسبب التَّماهي مع منظومة النِّظام الدولي وما يسمى بالشَّرعية الدولية والإغراق في استخدام مصطلحاتها ومفاهيمها لدى الجهات والأفراد السياسيين الممثلين للعالم العربي، لا سيما مصطلحات مثل:

القانون الدولي، ميثاق الأمم المتحدة، قانون حقوق الإنسان والطفل والمرأة، جرائم الحرب، قواعد الاشتباك، اتفاقيات التِّجارة الدولية …إلخ. وغيرها كثير من قائمة غير منتهية من المصطلحات ذات المفاهيم والدلالات غير الثَّابتة والمتقلبة بحسب أهواء مصدريها أو مزاج مستخدميها والمروجين لها عمدًا أو بحسن نية ومجاراة للموجود كما يبرر بعضهم.

بسبب ذلك كله أصبحَ الخطاب السِّياسي العربي والإسلامي يعاني أمراضًا لها أول وليس لها آخر كما يقال.

فمن أمراض التشتت والتيه والذهول وعدم القدرة على التركيز وتقديم الحلول مرورًا بالإحباط والتضجر والرفض غير العقلاني للواقع وانتهاء بأمراض الكذب والتبعية للعدو ثمَّ ممارسة الخذلان. ولعلَّ من أعظم أمراض هذه المرحلة _ المقدور على علاجه بإذن الله _ الغربة عن مفاهيم ومصطلحات الخطاب الشَّرعي المستمد من الكتاب والسُّنة ابتداءً، ثمَّ من أحداث التاريخ والتراث الإسلامي الزاخر بكلِّ مقوِّمات وشواهد القاموس السِّياسي الأصيل المبني على وضوح العقيدة، وفقه تنزيل النُّصوص على الواقع المعيش، فضلًا عن قوة اختيار الكلمات والتَّعبير عن المعاني والمواقف تجاه الأحداث بكل جلاء وشجاعة وحماسة ودقة مهما كان حجمها وأهميتها وخطرها.

إنَّ أعظم صور الغربة الحاصلة اليوم لهذا الخطاب هو البعد وربما الحذر من استخدام نصوص الآيات القرآنية والأحاديث النَّبوية الصَّحيحة عند صياغة البيانات والتصريحات أو تحليل الأحداث وتفسيرها إلا في خطاب علماء الشَّريعة والدعوة وخطبائها ومن تبعهم.

ربما يقول بعضهم:

إنَّ هذا لا يجيده كل أحد ولا يستطيعه كل أحد وهذا قولٌ صحيحٌ لا غبار عليه. لكننا نتحدث في هذا السياق عمن يتشدَّقُ بالعبارات والصيغ ويقلبها يمنة ويسرة من السياسيين الفصحاء الذين ربما ذرفت من خطاباته وقصصه العيون وربما كلت من التَّصفيق لخطبه الأيدي وشحبت من الهتاف له الحناجر ثمَّ يعجز عن الاستشهاد بآية قرآنية أو حديث نبوي يظهر من خلاله تعظيمه لدينه وشريعته وارتباطه بها واتخاذها مرجعية حاكمة لأطروحاته بدلًا من خطاب الخضوع والخنوع والذل لما يسمى قوانين الشرعية الدولية التي يكررها في صحوه ومنامه؟!.

ما السبب وراء ذلك يا ترى؟

إنه العجز والكسل ابتداءً.

ثمَّ الخوف من التصنيف والاتهام بالتطرف والإرهاب والرجعية والأصولية الإسلامية ثانيًا.

ثمَّ في دركات أعمق الانسلاخ من الدين والهوية وتبني مفاهيم الفكر العلماني والليبرالي وأطروحات الحداثة الغربية المصادمة للدين والمحرضة عليه كجزء من تركيبتها البشرية الوضعية الفاسدة .

وأمَّا في القاع السحيق فتجد خطاب أهل الإرجاف والنِّفاق من يعلنون عقيدة الإسلام ولغته وأهدافه ظاهرًا ويضمرون في باطنهم _ والعياذ بالله _ من العداوة والخذلان ما لا يتصوره مسلم إلا من يدرك معنى قول الله عزَّ وجل:

(يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا ودوا ما عنتم قد بدأت البغضاء من أفواههم وما تخفى صدورهم أكبر قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون) {آل عمران : 118} .

أخي القارئ الكريم:

إنَّ الخطاب من القيادات السياسية والعسكرية والممثلين الرسمين في كل أمة معبر عن هويتها، وحضارتها، وقيمها، وأخلاقها. وشواهد الخطاب من النُّصوص الدينية والأقوال والحكم وذكر الأحداث والملاحم التَّاريخية والاستشهاد بأقوال رموزها وقادتها _ في ثنايا تلك الخطابات _ كل ذلك يحمل رسائل غير مباشرة لفئات متعددة:

الرسالة الأولى:

الجيل الجديد الذي يتعلَّم من خلال سماع هذا الخطاب امتداده وارتباطه بمن قبله ومن لم يكن له ماض فليس له حاضر ومن ليس له حاضر فليس له مستقبل.

الرسالة الثانية:

الجيل الحالي الذي يمتلئ قلبه ويتشبَّع بما في هذه المفاهيم والمصطلحات من قوة وسلطة ربانية في النُّصوص الإلهيَّة وعزيمة وهمَّة بشرية في تلك الشَّواهد التَّاريخية والمقالات.

الرسالة الثالثة:

للمتابع والمراقب من الأعداء فهذا (الخطاب المتصل بالنَّص الشَّرعي والتاريخ والتراث) يجعله في هم وغم وشعور بصعوبة المعركة مع الخصم لكونه غير مستسلم لأدوات غسل الأدمغة والمستخدمة في الحرب النفسية تجاه الخصوم.

إنني لا أدعو بتاتًا ولا ينبغي أن يفهم من هذه السُّطور أن يتحول المتحدث السياسي إلى خطيبِ جمعة أو محاضر في الأحكام العقدية والفقهية فهذا له رجاله.

لكنني أتحدث عن روح الخطاب العربي والإسلامي الذي لا يمكن أن يوجد إلا من الارتباط بالإسلام ونصوصه فهو الذي أعزَّ الله به العرب بعد جاهليتهم الجهلاء ورفع شأنهم بينَ الأمم ولن يعود للعرب شأن ومنزلة إلا بالعودةِ إليه.

ألم يخاطب ربنا جلَّ وعلا رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم _ والخطاب له ولأمته من بعده _ فقال تعالى: (وإنه لذكرٌ لك ولقومك فسوف تسألون).  قال أهل التفسير: ذِكرٌ لك: أي فخرٌ لك ولقومك. وهو حقًّا وصدقًا فخر لكلِّ من آمن به وعمل ودعا إليه وعظم شعائره.

ربما فرحنا يومًا ما باستشهاد الأمين العام للأمم المتحدة في خطابه _ وهو على ملة غير الإسلام _ بالآية الكريمة:

(وإن أحدٌ من المشركين استجاركَ فأجره حتى يسمع كلام الله ثمَّ أبلغه مأمنه ذلك بأنهم قومٌ لا يعلمون) {التوبة : 6}.

وإنها أول آية ونص ديني يقدِّسُ حقوق اللاجئين ويحترم حقوقهم ويدعو للمحافظة عليها. لكننا بلا شك وريب سنكون أكثر فخرًا واعتزازًا عندما يصدر مثل هذا الاستشهاد من السياسيين الممثلين لدولنا وحكوماتنا ووزاراتنا.

حتى يدرك كل من يسمع أنَّ كتاب ربنا وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم هي مرجعية حاكمة لعقولنا وقلوبنا وليست مجرد ديكور نضعه في المجالس أو نستعرض به في الاحتفالات بشكل رتيب ومكرر.

ختامًا:

مما يجدر لفت النَّظر إليه في هذا السياق أن تكون الفرق المنحرفة كالرافضة الاثني عشرية مثلًا بجميع مسمياتها وقنواتها وتكويناتها الإعلامية والعسكرية ومنابرها الثَّقافية ومؤسساتها الاجتماعية أكثر حرصا على اقتناص المسميات واستخدام الشواهد والنُّصوص الشرعية في خطابها بشكلٍ مطرد بحيث تظهر للنَّاس وخاصة عوام المسلمين أنها هي الممثل للدِّين والشَّرع وأن معمميها _ الخبثاء والمزورين للدين والتَّاريخ _ هم الأجدر بكونهم المرجعية للأمة في جميع مواقفها وفتواها وملماتها.

إنَّ هذه الغربة التي سيطرت – ولا تزال – بوعي أو دون وعي على عقول أرباب السِّياسة في دولنا العربية تحتاج إلى مراجعة صادقة وعاجلة من المعنيين في الحكومات والدول وعلى رأسهم الحكام ثمَّ وزراء الإعلام والثقافة، والأوقاف، والأمن الفكري، والسيبراني.

ومن جوانب ذلك أولويات الخطاب السِّياسي ومصادره ولغة الصياغة المطلوبة لمزيد من إظهار الانتماء الحقيقي للهوية وقيادة الشعوب بكل ثقة وجدارة.

وأول خيط يقودنا إلى ذلك هو الاهتمام باللغة العربية وضرورة الإلزام بالتَّعامل بها في مختلف المنابر ذات التأثير السياسي المباشر داخليًّا وخارجيًّا بحيث لا يتكلم مسؤول عربي مسلم في أي خطاب إلا بها

ويصبح ذلك قانونًا ملزمًا _ إلا عند الضرورة _ ثم ينتقل بعد ذلك إلى استخدام شواهد القرآن والسُّنَّة والتراث والتاريخ الإسلامي التي ستكون سهلة إن شاء الله تعالى على من استقام لسانه ومخارج حروفه.

والله من وراء القصد وهو يهدي السبيل .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى