المدونة

في مديح الصمت

في رحلة العمر الفانية، حيث تتشابك الأقدار وتتوالى اللحظات، نجد أنفسنا أحيانًا نقف على أعتاب الندم، نتأمل في زلات اللسان التي لا يمكن استردادها. “ليته سكت”، صدى يتردد في أعماق النفس، يعبر عن لوعة القلب حين تتحول الكلمات إلى جراح لا تندمل.

تلك الكلمات التي تفلت منا في لحظة غفلة أو طيش، قد تكون كفيلة بتغيير مسار علاقة أو حتى حياة بأكملها. نطلقها دون تروٍ، لا ندرك في تلك اللحظة أنها قد تحمل في طياتها الألم لمن نحب، والأسى لأنفسنا. نتحدث بلا تفكير، نتصرف بلا وعي، وما إن تهدأ عواصف العقل حتى ندرك الخطأ.

“ليته سكت”، تلك العبارة التي تحمل بين حروفها وزن الندم والأسف، تذكرنا بأن الكلمة قد تكون أقوى من السيف.

لحظات الصمت:

في عالمنا المعاصر، حيث تتسارع الأحداث وتتلاحق الأقوال، يصبح الصمت أحيانًا خيارًا حكيمًا، بل وردًا يفوق الكلام.

نعيش في زمن يسهل فيه البوح والتعبير، لكن الحكمة تكمن في معرفة متى نتكلم ومتى نختار الصمت، فالكلمات التي ننطق بها تترك أثرًا لا يمحى، ترسم صورًا في الأذهان وتحفر ذكريات في القلوب، وفي كل مرة نتحدث، يجب أن نتساءل: هل ستكون كلماتنا بمثابة بلسم أم سمًا؟ هل ستبني جسورًا أم تهدم أسوارًا؟

فلنتذكر دائمًا أن الكلمات لها قوتها وسحرها، وأن الصمت ليس دائمًا علامة على الضعف، بل قد يكون مظهرًا من مظاهر القوة والتعقل. وليته سكت، ليست مجرد عبارة، بل هي حكمة تدعونا للتأمل في قيمة الكلمات والصمت. ففي الصمت، أحيانًا، تكمن الإجابات التي لا تستطيع الكلمات أن تصفها. وفي الكلام، تكمن القدرة على التغيير والتأثير، لكن يجب أن يكون موزونًا ومدروسًا. فلنختر كلماتنا بحكمة، ولنجعل من الصمت صديقًا يرشدنا إلى الطريق الصحيح، وفي الحديث عنه صلى الله عليه والسلام: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت)(1).

صخب الأيام:

في زحمة الحياة وضجيجها، نتحدث أحيانًا دون تفكير، ننسى أن الكلمة مرة واحدة تُطلق لا يمكن استرجاعها، نتحدث بحرية، لكن دون وعي بأن الحرية تقترن بالمسؤولية، نقول ما لا يليق، ثم نقضي الأوقات في ندم وأسف، نتمنى لو أن الصمت كان خيارنا.

فــالكلمات لها قدرة على البناء والهدم، على الشفاء والأذى، قد تكون بمثابة مفتاح لقلب مغلق، أو سببًا لإغلاق قلب كان مفتوحًا، في لحظة غضب أو حماس، قد ننسى هذه الحقيقة، ونترك للساننا العنان، لنجد أنفسنا فيما بعد نتمنى لو أننا اخترنا الصمت.

تتدفق الألفاظ كالمياه من شقوق السد، بلا رادع أو تحكم، تغمر الأرض الجافة بالحياة أو تغرق الحقول الخضراء بالدمار. نتحدث بلا هوادة، نسجل أفكارنا ومشاعرنا في سجل الأيام دون توقف، ننسج من الحروف قصصًا وأقدارًا، نحيك من الكلام مصائر وأحلامًا.

أحيانًا، تكون الكلمات كالنسيم العليل، تلطف الأجواء وتهدئ النفوس، تبعث الأمل في القلوب المتعبة وتضيء الطريق أمام العيون الحائرة. وأحيانًا أخرى، تكون كالعاصفة الهوجاء، تقتلع الأشجار من جذورها وتحطم النوافذ الزجاجية، تترك الفوضى والخراب في أعقابها.

نتحدث لنعبر عن أنفسنا، لنشارك العالم أفراحنا وأحزاننا، لنقول “أنا هنا” بصوت مسموع. لكن في الحديث، نغفل أحيانًا عن الاستماع، ننسى أن الكلام له معنى والصمت له قيمة، نتحدث لأننا نستطيع، لكن هل نتحدث لأننا نفهم؟

الكلمات تمتلك القدرة على التأثير في الأرواح والعقول، تستطيع أن ترفع الإنسان إلى السماء أو تهوي به إلى الأعماق، في كل كلمة نقولها، نزرع بذرة قد تنمو لتصبح شجرة ظليلة أو تذبل لتصبح شوكًا يجرح.

نتحدث لأن الكلام جزء من طبيعتنا البشرية، وسيلة للتعبير عن الذات والتواصل مع الآخرين. لكن الكلمات ليست مجرد أصوات تتلاشى في الهواء، إنها تحمل في طياتها القوة والمعنى، الحب والكراهية، الحقيقة والزيف.

في كل مرة نتحدث، نختار مسارًا جديدًا، نفتح بابًا أو نغلق آخر، نتحدث لأننا نريد أن نكون جزءًا من العالم، لأننا نريد أن نترك بصمتنا على صفحات التاريخ. لكن يجب أن نتذكر أن الكلمات، مثل الأفعال، لها عواقب، وأن الصمت أحيانًا يكون الرد الأمثل، في سنن الترمذي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (‌إن ‌الرجل ‌ليتكلم بالكلمة لا يرى بها بأسا يهوي بها سبعين خريفا في النار)(2).

الحزين فضفضة عن الاكتئاب 4 في مديح الصمت

فن البيان والسكون:

في عالم تتداخل فيه أصوات البشر وهمسات الأرواح، يبرز فنانان عظيمان يحكمان مسرح الأيام: الكلام والصمت. كل منهما يمتلك قوة تأثيرية خاصة، وكل منهما يعزف لحنًا يمكن أن يغير مجرى الحياة. إذاً، فلنتعلم فن الكلام وفن الصمت، لنعرف متى نتحدث ومتى نسكت.

لنتذكر أن الكلمات يمكن أن تكون جسرًا للتفاهم أو حاجزًا للفرقة، وفي كل لحظة نختار الكلام، لنتأكد من أن كلماتنا ستكون بمثابة نور يضيء الطريق، لا ظلام يعمي البصيرة، وفي كل لحظة نختار الصمت، لنتأكد من أن صمتنا سيكون بمثابة سلام يحتضن الروح، لا صخب يزعج القلب.

مع تأملاتنا في قوة الكلمة وسلطان الصمت، نقف لنتأمل في الدروس المستفادة من تجاربنا وتجارب الآخرين، ندرك أن كل جملة ننطق بها تحمل في طياتها إمكانية التأثير العميق في حياة شخص ما، سواء بالإيجاب أو بالسلب. لذا، يجب أن نتحلى بالحكمة والتعقل في اختيار ألفاظنا، وأن نتبنى الصمت كفضيلة لا كنقيصة.

قوة الكلمة:

نعيش في عالم يتسم بالتسرع والتهور، حيث يمكن للكلمات أن تنتشر كالنار في الهشيم، تحرق وتدمر دون رحمة. لكن في الوقت نفسه، يمكن للكلمات أن تكون كالماء العذب الذي يروي القلوب الظمأى ويطفئ لهيب الغضب والكراهية، فلنختر كلماتنا بعناية، كما نختار الأحجار الكريمة من بين الحصى، لأنها قد تكون الهدية التي تغير حياة شخص إلى الأبد.

لنتذكر أن الكلمات ليست مجرد تراكيب لغوية، بل هي أدوات لبناء العلاقات وصياغة الأفكار وتشكيل الواقع، كل كلمة نقولها تحمل في طياتها جزءًا من روحنا، تعكس ما نحمله من قيم ومبادئ. لذا، يجب أن نكون واعين للبصمة التي نتركها من خلال حديثنا.

أثر الكلمة الرقمي:

في هذا العصر الرقمي، حيث تتيح لنا التكنولوجيا التواصل الفوري، يصبح من السهل أن ننسى قيمة التأني والتفكير قبل البوح بأفكارنا، لكن يجب أن نتذكر أن الكلمات التي ننشرها في الفضاء الإلكتروني قد تظل محفورة إلى الأبد، وقد تكون لها تداعيات لا يمكن التنبؤ بها.

لنجعل من كلماتنا بذورًا نزرعها في تربة الحياة، تنمو وتثمر محبة وتفاهمًا وتعاطفًا، لنكن كالبستاني الذي يعتني بحديقته، يختار البذور الطيبة ويمنحها العناية الكافية لتنمو وتزدهر، ولنتجنب أن نكون كالعاصفة التي تقتلع الزهور وتدمر الأشجار.

في نهاية المطاف، يجب أن ندرك أن الكلمات لها القدرة على ترك إرث يتجاوز حدود الزمان والمكان، لنختر كلماتنا بحكمة، لأنها قد تكون الأثر الذي نتركه وراءنا، الذكرى التي تعيش في الأذهان طويلًا بعد أن نغادر هذا العالم، فلنكن مصدر إلهام ونور للآخرين من خلال كلماتنا، ولنتذكر أن الصمت في بعض الأحيان يمكن أن يكون أبلغ من أي كلام.

فلنحتفظ في قلوبنا بذكرى الآية القرآنية العظيمة التي تذكرنا بأن كل كلمة ننطق بها مسجلة ومحسوبة، قال سبحانه وتعالى: { مَّا يَلۡفِظُ مِن قَوۡلٍ إِلَّا لَدَيۡهِ رَقِيبٌ عَتِيدٞﱡ} [سورة ق:18]، ولنتذكر دائمًا أن الإنسان الحصيف يعتني بكلماته، اختيارًا لما يعود عليه بالخير والنفع، وكما ورد في الحديث الشريف، عنه صلى الله عليه وسلم: (احرص على ما يَنْفَعُكَ)(3)، فلنسعى دومًا نحو ما يجلب الفائدة والصلاح.

وَمَعَ غُرُوبِ كُلِّ حَدِيثٍ، يَظَلُّ الصَّمْتُ فِي بَعْضِ الأَحْيَانِ أَبْلَغَ مِنَ الكَلَامِ، وَلَيْتَهُ سَكَتَ!

الهوامش:

  1. صحيح البخاري: (5/ 2240). 
  2. سنن الترمذي: (4/ 557). 
  3. صحيح مسلم: (4/ 2052).

سامي منصور

سامي منصور محمد سيف حاصل على شهادة الليسانس من جامعة تعز، كلية الحقوق عام 2009م. حاصل علىٰ شهاد الماجستير بتقدير «ممتاز» مع مرتبة الشرف الأولى، من قسم الدعوة والثقافة الإسلامية، كلية الدعوة وأصول الدين، بالجامعة الإسلامية. وعنوان رسالة الماجستير (جهود الدولة الرسولية في الدعوة إلىٰ الله في بلاد اليمن). باحث في مرحلة الدكتوراة، قسم الدعوة والثقافة الإسلامية، الجامعة الإسلامية. لديه بعض الأبحاث العلمية والمقالات في العديد من المواقع المتخصصة.

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى