المدونة

كيف نوطن السَّلام في بيئتنا؟

مثَّلت الحرب الأهلية الأخيرة على عدن بالنِّسبةِ لي تجربة شخصية حافلة بالخوفِ والتَّرقب الذي شعرتُ به لأولِ مرَّة، لقد كنَّا نقرأ عن الحروبِ في العالمِ ونشاهدُ الوثائقيات حولها، ولم نعشها في واقعنا بشكلٍ مباشر إلا في 2015، هذا بالرَّغم أننا عاصرنا حروبًا سابقة ونحنُ في مرحلةِ الطُّفولة ولكننا لم نكن بعد في مستوى الإدراك الشعوري والوعي الكامل بما يدور في الواقع.

واليوم بعد أن كبرنا آن الأوان لنحمل هم وطننا ومجتمعنا ونسهم في هذا الحراك الإصلاحي المشتعل في العالمِ الإسلامي، ممتثلينَ مقولة شيخ العراق أمجد الزهاوي رحمه الله: ” إنَّ العالم الإسلامي يحترق، وعلى كلٍ منَّا أن يصب ولو قليلًا من الماء ليطفئ ما يستطيع أن يطفئه دون أن ينتظر غيره”.

 وهذا المقال خصصته للحديثِ عن موضوع السَّلام في شقه الأول وهو البيت على أن نناقش في الشق الثاني السَّلام في المجتمع.

كما نعلم جميعا أنَّ ديننا هو دين السَّلام، وتحيتنا هي السَّلام، ونبينا صلى الله عليه وسلم نبي الرحمة والسَّلام، ومن المؤسف أن نعيش حياة مليئة بالعنفِ ونحن نملك دينًا يحمل كل قيم السَّلام والإنسانية والتَّعايش.

لقد أصبح من بدهيات العلوم الاجتماعية أننا إذا أردنا تحقيق شيء ما من الإصلاح الاجتماعي فعلينا أن نبدأ أولًا من البيتِ والأسرة والتربية الوالدية، لأنَّ الأسرة لا الفرد هي وحدة بناء المجتمع، وعليه فالاهتمام بالأسرة بدءًا بالأم إكرامها وتعلميها وترقيتها إلى الأب ليعرف دوره ومسؤولياته إلى الأطفال تربيتهم وتعليمهم وتوفير البيئة الصحية لنشأتهم.. كل ذلك يساعد على خلق بيئةٍ اجتماعيةٍ صالحة وسالمة من أمراضِ المجتمعات.

ومما يلاحظ عند علماء التَّربية والاجتماع أنَّ هناك علاقة تفاعلية بين الآداب المنزلية والوضع الاجتماعي في المجتمع، فإذا كان البيت يشيع فيه العنف الأسري ولغة القوة والاستئساد والاستقواء والكبت والحرمان والظلم فإن ذلك ينعكس على المجتمع بنفس الصورة مع تغير مواقع الضحايا فقط، ولنقرأ هذا النَّص البديع لقاسم أمين الذي صوّر هذه الحالة بشكل دقيق حيث يقول: “هناك تلازمٌ بين الحالة السِّياسية والحالة العائلية في كل بلد، ففي كل مكان حطَّ الرجل من منزلة المرأة وعاملها معاملة الرقيق حط نفسه وأفقدها وجدان الحرية، وبالعكس في البلاد التي تتمتع فيها النساء بحريتهن الشخصية يتمتع الرجال بحريتهم السياسية، فالحالتان مرتبطتان ارتباطا كليًا. وإنَّ لسائل أن يسأل: أي الحالتين أثرت في الأخرى؟ نقول: إنهما متفاعلتان، وإن لكل منهما تأثيرًا في مقابلتها. وبعبارة أخرى: إنَّ شكل الحكومة يؤثر في الآداب المنزلية، والآداب المنزلية تؤثر في الهيئة الاجتماعية. أنظر إلى البلاد الشرقية، تجد أنَّ المرأة في رق الرجل، والرجل في رق الحاكم، فهو ظالم في بيته مظلوم إذا خرج منه”[i]. فالعلاقة إذن علاقة تفاعلية وتأثر وتأثير، ولذلك نجد العنف والتهميش  يشيع في المجتمع بدءًا من العنف الأسري إلى العنف السياسي والعسكري.

AdobeStock 212769423 كيف نوطن السَّلام في بيئتنا؟

ولتحقيق السَّلام في بيئاتنا الأسرية والعائلية رصدتُ عشر نقاط مهمة  إن أخذنا بها تمتعنا بحياة أسريةٍ سالمة من العنف، وهي على النَّحو الآتي:

1/ تكريم المرأة وتوعيتها بدورها الأسري: 

لا أتصور بيتًا سعيدًا صالحًا بدون أم رؤوم تتمتع بحقوقها وشخصيتها المستقلة, وتمارس دورها بشكلٍ ذاتي بعيدًا عن فرض الإملاءات والضغوطات التي تحدُّ من حركتها وتطفئ نشاطها. إنَّ وجود المرأة في الأسرة يجب أن يكون وجودًا فعّالًا لا وجودًا صنميًا ليس لها من الأمر شيء، فتمتع المرأة بمكانتها اللائقة واللازمة لها في الأسرة سوف يساعد ذلك في حل كثير من المشكلات ومنها مشكلة العنف، فهي بطبيعتها الأنثوية ونظرتها العاطفية تميل للسَّلام والحكمة وتحقيق الدفء الأسري.

 2/ إقامة العدل: إنَّ من الضروري لإشاعة روح السَّلام في الأسرة نفي الظُّلم بكل أشكاله ومستوياته، وتحقيق العدل بين الزوجين وبين الأبناء بعضهم البعض وبين الأبناء والآباء، ومما يجب أن نعلمه أنَّ مفهوم العدل ينبثقُ منه مفهوم المساواة فما يكون لي يكون لغيري، وما كان عليّ -إن انحرفت- كان على غيري، وقد قيل (بروا آباءكم يبركم أبناءكم) فجزاء العدل هو العدل، وجزاء الظلم هو الظلم. وكذلك بالعدل نحقق الحب والوئام بين الأبناء و ينتهي التمايز الذي يثير التحاسد والتباغض والمكايدة والشقاق والنفاق والكذب في الأسرة ويمتد إلى المجتمع.. إنَّ قيمة العدل من أهم القيم التي تساهم في توطين السلام في بيوتنا وتجنبها مشكلات القوة والعنف.

السلام في البيوت

 3/ تحقيق الإحسان: وهو مفهوم مقابل لمفهوم الحب والعاطفة في الأسرة، فلا يكفي أن نعدلَ بين أبناءنا ونربيهم وفق الواجب فقط، بل أن نزيد على ذلك إحسانًا بالإغداق عليهم من مشاعر الحبِّ والحنان والتقدير والتشجيع والتأييد, فيصل الأبناء بذلك إلى درجة الإشباع العاطفي وهم بعد ذلك لن يحتاجوا إلى التمرد على الأسرة والمجتمع ليبحثوا عن التقدير والعاطفة.

ومن باب التلطيف تحضرني هنا أبيات جميلة لأحمد شوقي تحمل مفهومي العدل والاحسان، عنوانها (الأسد والضَّفدع):

قالوا: استوى الليث على عرشه ** فجيء في المجلس بالضفدع

وقيـل للسلطــان: هذي التي **  بالأمـس آذت عالي المسمع

تنقنق الــــدهـــر بلا علـةٍ   **  وتــدعي في الماء مــا تدّعي

فانظر، إليك الأمر، في ذنبها   **   ومر نُعلقـها مـن الأربـــع

فنهــض الفيلُ وزيـر العُلا   **   وقال: يــا ذا الشرف الأرفع

لا خير في الملك وفي عـــزه  **   إن ضاق جاه الليث بالضفدع

فكتب الليــث أمــانًا لها   **   وزاد أن جـــاد بمسـتـنـقـعِ

4/ احتواء المخطئ: الإسلام علمنا أنه بالإمكان أن تُبدل السيئات إلى حسنات، وأن المخطئ ليس مكتوبًا عليه الشَّقاء طول حياته جراء خطيئته، ولهذا في الأسرة إذا وقع أحد الزوجين أو أحد الأبناء في الخطأ بقصد أو بغير قصد علينا ألا ننبذ المخطئ أو ننهال عليه بالتعنيف والتوبيخ إذ لا يوجد بشرا في هذه الدنيا لا يقع في الخطأ، واستغل الفرصة هنا لأنوّه على شكل من أشكال العنف الأسري الذي – مع الأسف- مازال يقع في المجتمعات العربية رغم أنه مخالف لشريعة الإسلام، وهو ما يسمى بـ(جرائم الشرف) والتسمية هذه خاطئة من الأساس، إذ ليس من الشرف أبداً أن يقتل الأب ابنته أو الأخ أخته لسبب ربما تكون هي بريئة منه أو ضحية له من حيث لا تعلم. لقد تعلمنا في سورة النور حرمة الأعراض من حديث السوء فكيف بالاتهام المباشر والتورط في القتل بغير دليل وبغير شهود ! هذه جريمة لا يجب أن تمر دون عقاب من القضاء القانون.

5/ اتخاذ أسلوب الحوار والنِّقاش وأساليب الإقناع نمط تربوي دائم في الأسرة: فلا ينبغي للأب أو الأم أن يتعاملوا مع أبناءهم صغارًا وكبارًا بأسلوب الأوامر والنَّواهي، بل يتركوا لهم مساحة للحوار الهادئ وإبداء وجهات النَّظر وتقديرها وأخذها بعين الاعتبار ولو كانوا صغارًا في السن، فإن هذا الأسلوب من أنجح أساليب التربية الوالدية وينتج لنا فردًا يتمتع بالثقة بالنفس والتفكير الحر والسَّلامة من الأمراض السلوكية. ومما يلاحظ في الأسر اليمنية أنها في الرأي السياسي تنقسم إلى عدة آراء لأبناء البيت الواحد، فهذا مع الشمال وذاك مع الجنوب، وهذا مع الدولة وذاك مع الانقلاب، وهكذا يتوزعون في آراءهم إلى وجهات نظر مختلفة، والمحافظة على الحوار واحترام الآخر في رأيه هو حق من حقوق جميع أفراد الأسرة وهو ضمان للمحافظة على السلام الداخلي.

6/ اتخاذ النقد وسيلة للبناء لا للتحطيم والتعنيف: فعلماء التربية[i] يفسرون السلوك العدواني لدى الطفل بالاستخدام الخاطئ للأساليب التربوية أثناء التعامل معه، فالمغالاة في اللوم ونقده نقدا شديدا في الوقت الذي يحتاج فيه إلى التشجيع والتقدير يؤدي ذلك إلى إكساب الطفل سلوك عدواني شرس وينمي فيه روح الانتقام والحقد فيؤذي نفسه والآخرين.

7/ التخلي تمامًا عن الضَّرب كوسيلة للتربية: إنَّ الضرب أسلوب من أساليب العنف وهو يُستخدم في بيئاتنا الأسرية اليمنية بشكل شائع وكبير جدًا بل ويُشجع عليه كوسيلة تربوية ناجحة كما يزعمون، ونظر عابر فقط في السيرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام يؤدي بنا لنتيجة واحدة حاسمة (ما ضرب رسول الله امرأة ولا طفلا قط)[ii]، هذا هو الهدي النبوي الذي خرّج لنا أفضل جيل عرفته البشرية، وبهذا أيضا تثبت الدراسات الحديثة في علم النفس وهذا علامة علم النفس الدكتور علي زيعور يردد (احترام الإنسان أسمى ما أؤمن به.. لا تسحقوه).. وهو يؤكد على أنَّ الجنوح في السلوك له أسبابه وبواعثه، والتفاهم معه  يكون بالبحث عن هذه الأسباب ومحاولة علاجها لا استخدام الضرب والقمع وتحطيم شخصية الطفل[iii].

8/ تحقيق الشورى: إنَّ مما يؤيد وجود السَّلام في الأسرة ويعززه ويقويه هو اعتماد الشورى مبدأ أساسي في التعامل، إذ لا ينبغي أن يكون للأب سلطة دكتاتورية وأوامر نهائية عند اتخاذ قرارات تهم الأسرة، فالأم والأبناء لهم الحق في المشاركة في صنع القرار وهذا ما سيجعل القرار أكثر صوابية فضلا عن تعزيز روح الألفة والصداقة والتعاون داخل الأسرة.

9/ تحمل المسؤولية نحو المجتمع: من الأدوار المهمة في عملية توطين السلام الأسري أن نربي في أفراد الأسرة روح المسؤولية المجتمعية، وروح المبادرة والمساهمة. فإذا كنا جزءاً من المشكلة في هذا المجتمع فلعينا أن نتحمل المسؤولية و نكون جزءاً من الحل.

10/ التَّطوير من القدرات التربوية لدى الوالدين من خلال التدريب والتثقيف: إنَّ التربية هي وظيفة فطرية غريزية لا تحتاج لكثير من التدريب والتعليم بشأنها، ولكن في هذا العصر المتحول المتطور المتسارع نحتاج للاستعانة بأدوات العلم والمعرفة لنسترشد في تعاملنا مع الأبناء وفي حماية البيت من مختلف الأخطار، هناك الآن جامعات[iv] تقرر ضمن مساقاتها العلمية مقررًا في (التربية الوالدية) على أساس أنَّ هؤلاء الطلبة عما قريب سيكونون آباء وأمهات وعليهم أن يدخلوا هذه المرحلة بعلمٍ ومعرفة ووعي، وهذا ما نتمناه أن يُطبَّق في الجامعات اليمنية، وأن تقام دورات للتأهيل لمن يحتاج أو لمن فاته الحصول على المقرر الجامعي. إنَّ الأسرة هي المكون الأخطر وعليها يتوقف مستقبل المجتمع ومن حق هذا المكون أن نبذل أقصى ما بوسعنا لحمايته وسلامته والحفاظ عليه وجعله بيئة يعم فيها السلام، ليعم بعد ذلك في المجتمع كله.

هذا ما استطعت رصده من خلال تجاربي الذاتية واستفادتي العلمية والنظر في واقع الأسرة اليوم، وأظن أن دراسة هذه النقاط ووضعها في دائرة الاهتمام في حياتنا الأسرية جدير بأن يغير أحوالنا نحو الأفضل ويخفف ولو قليلا من وطأة العنف في المجتمع.

 

هوامش

[1] قاسم أمين، المرأة الجديدة، مؤسسة هنداوي، مصر، صـ 15.

[1] أنظر:

          مشكلات الأطفال السلوكية/ د.وفيق صفوت مختار. دار العلم والثقافة. مصر.صـ59.

          مشكلات الأطفال/ د. عبدالكريم بكار. دار السلام. مصر. صـ77.

[1] في ضرب المرأة هناك بحثان جديدان في تفسير معنى الضرب في القرآن، يتوافقان مع روح الشريعة وقيمها العليا الحاكمة.

هما (ضرب المرأة) للدكتور أبي يعرب المرزوقي في موقعه الرسمي.

و(ضرب المرأة وسيلة لحل الخلافات الزوجية) للدكتور عبدالحميد أبو سليمان، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، ودار الفكر.2002.

[1] أنظر: التحليل النفسي لمخاطر القمع والعقاب عند الطفل في كتاب د.علي زيعور ( أحاديث نفسانية اجتماعية ومبسطات في التحليل النفسي والصحة العقلية) دار الطليعة، بيروت، صـ 222-226.

[1] أنظر لتجربة الجامعة الإسلامية العالمية في ماليزيا في :

          الرؤية الكونية الحضارية القرآنية، عبدالحميد أبو سليمان، دار السلام، مصر.

 

          (التربية الوالدية) هشام الطالب/ عبدالحميد أبو سليمان/ عمر الطالب. المعهد العالمي للفكر الإسلامي، هرندن- فرجينيا.  

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى