المدونة

كيف يؤثر الإعلام في تفاعلنا وتوجهاتنا؟

إنَّ المشكلة الحقيقية منذ دخول الإعلام المرئي إلى عالمنا العربي في العراق سنة ١٩٥٦ ميلادية وصولاً إلى يومنا هذا تكمن في التأثير المباشر على الثَّقافة الجمعية للمجتمع. حيث ينقل البث الإعلامي رسائل وقيم معينة حول قضايا سياسية واجتماعية يتشكل على أثرها الرأي العام والذوق المجتمعي وصولاً إلى السياق الثقافي وكيفية فهم واستيعاب المواضيع المختلفة، ومع الطفرة الرهيبة الحاصلة في الربع الأول من القرن الواحد والعشرين أصبح لوسائل الإعلام المرئي ليس فقط التلفاز، ولكن أيضًا وسائل التواصل الاجتماعي التي أصبحت متاحة لطبقة واسعة من المجتمع ولها تأثير مباشر على مستوى جميع الأجيال وليس على الشَّباب فقط.

وفى سياق هذا التأثير تكلم الفيلسوف علي عزت بيجوفيتش من حوالي أربعين سنة وهو في محبسه، وفي كتابه “هروبي إلى الحرية”، كتب: ” يثبت التنويم المغناطيسي والتقنيات المشابهة له كيف يمكن أن نعايش أفكارًا ومشاعر كأنها أفكارنا ومشاعرنا نحن، مع أنها موحى بها وليس لها أساس موضوعي ،ويصبح التلفاز من خلال التكرار المستمر والمتواصل، شيئًا شبيها بهذا، فملايين المشاهدين يقبلون بعض الآراء وكأنها آرائهم هم ،وكثير ما تكون هذه الآراء ليس لها أساس من الصحة وغريبة عليه تمامًا، وهذا هو التنويم الجماعي الذي يتحقق من خلال التكرار المتواصل لبعض الآراء والمواقف”. ومن هذا الاستشهاد يمكننا فهم العقلية التي تتحكم في تصدير صور معينة وتكررها حتى نتعامل معها على أنها اختيارها نحن. وقبل الخروج من هذه النقطة كان لزامًا ذكر ما قاله الراحل عبد الوهاب المسيري في موسوعته العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة في السياق ذاته، حيث يقول: ” وأصبح من الممكن إغواء الفرد وإيهامه بأن ما يرغب به هو قرار حر نابع من داخله ، ولكنه في الحقيقة أسير مئات الإعلانات التي ولدت الرغبة الذاتية، وخلقت عنده الرغبة التلقائية”. وهذا ما سنتعرض له بأكثر من مثال في الفقرات القادمة.

وبالعودة لعنوان المقال أو ما قصدت بأنه دس السم في العسل وأسقطنا عليه الاستشهادات السابقة من كلام بيجوفيتش و المسيري رحمهما الله، فقد كنت كتبت أثناء عرض أحد المسلسلات العربية على التلفزيون المصري وهو “جزيرة غمام” تكلمت أثناء فترة العرض عن الرسالة الضمنية التي يريد فريق العمل إيصالها – وهى وجهة نظر تخضع للصواب والخطأ – في إنتاج يخطف العقل من سهولة النص  وبساطة العرض وتمكن الممثلين المؤدين وأتذكر أني كتبت حينها أنها جرعة صافية من السم وليست دسا للسم في العسل، فقد كانت وجهة النظر المنقولة من هذا المسلسل تتطلب تغيراً للصورة السائدة مجتمعيًّا عن المتدينين، مع تعمد تجريم الشيخ وطالب العلم والمتحدث باسم  الدين. فقد أظهر المسلسل أنَّ الشيخ الإمام ما هو إلا لص يسعي للسيطرة على المجتمع باسم الدين تارة وبالإرهاب والعنف تارة، وأما طالب العلم فهو صانع للأعمال محب للخلاعة وملاطفة النساء ،في مقابل صورة الدرويش الممتدة عبر الزمن من وقت شمس التبريزي وجلال الدين الرومي وصولا إلى يومنا هذا حيث عرفات صاحب القلب النقي الذي يري بنور الله. وزد على هذا التصور تصدير صورة الفرقة والتشرذم إن حدث وجود اختلاف فقهي أو مذهبي في فهم بعض النصوص وتطبيقها في نفس القرية –  إسقاطًا على المجتمع – حيث سنحيا في فرقة وشقاق وهذا بالتأكيد ما يكفيه الواقع المعايش بالتجربة على المستوى الاجتماعي، ولن أبالغ إن قلت وعلى المستوي الشخصي أيضًا حيث كنت في سلطنة عمان حيث يحيا في وئام تام أربع فرق مذهبية في مثال رائع للتعايش في ظل قانون قوى يحمي المجتمع من أي انحراف أو تطرف.

يؤثر الإعلام في تفاعلنا وتوجهاتنا؟1 كيف يؤثر الإعلام في تفاعلنا وتوجهاتنا؟

أما المثال الثاني: وهو مثال نشاهده عيانًا في كل عام أكثر وأشد ضراوة من العام الذي سبقه وهو احتفالات المجتمعات المسلمة بالهالوين وأعياد الكريسماس. وفى هذا يقول المسيري رحمه الله: “إن ما يسود من تقاليع ربما لا يكون بالضرورة تعبيرًا عن رغبات الناس وتطلعاتهم الحقيقية. وهذه حقيقة مهمة لابد من تذكرها في عصر الإعلام والموضات المتلاحقة”. وانطلاقًا من هذا الاقتباس من كتاب “رحلتي الفكرية” يتبين لنا أن بعض التقاليد المنقولة إلينا ماهي إلا نتاج التكرار المرئي لهذه العادات حتى أصبحت جزء من اعتقادنا وعادتنا في الفترة الأخيرة حتى أصبح الكثير من الناس يتبارون في المبالغة في التزيين لفترة الكريسماس في حين أنها مناسبة دينية للكنيسة الغربية أي دخيلة حتى على كنائس مصر على أقل تقدير..

وقبل الخاتمة: لابد من التأكيد على أنَّ وسائل الإعلام متفاوتة في التأثير على حسب التفاوت بين الشعوب وثقافاتهم ولهذا يأخذ مقدمو المحتوى المرئي في حسابتهم دائمًا طبيعة المجتمعات وكيفية فهمها لما يجري حولهم من أحداث مع دراسة الواقع وإدراك الشعوب لهذا الواقع من حولها حتى يتمكن من إرسال ما هو مطلوب لتغير الوجهة السائدة أو التأكيد على مفاهيم موجودة بالفعل. ولا يمكن أن نقول: إن هذا الدور هو دور يحمل في طياته الشر في كل الأوقات فقد شاهدنا خلال أحداث كأس العالم في قطر كيف كان للإعلام دور مهم في ترسيخ الهوية العربية والتشجيع عليها حتى بين المشجعين الأجانب عن هذه الثقافة.

الخلاصة التي أروم الوصول إليها مما سبق، أنه أصبح من السهل اليسير على المتحكمين في مخرجات وسائل الإعلام التأثير وتغيير الوعي الجمعي من خلال تكرار رسائل معينة من خلال الشاشات.  لكن يظل دورنا في هذا هو إيجاد بديل لكل ما نراه غير مناسب أو متوافق مع ديننا الحنيف وتراثنا وثقافتنا من خلال إنشاء الوعي الناقد لتمكين الأفراد من التميز بين ما هو غث وما هو سمين وفى الختام، لا يفوتني أن أوكد على المعنى الوارد في سورة الرعد “فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً ۖ وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ ۚ كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ” . وفى هذه الآية المثال على الحق والباطل وأن الحق سيبقي لأهله ما دام له أهل.

يوسف أبو العلا

يوسف أبو العلا طبيب جراح قلب في إنجلترا، وكاتب، وصانع محتوى متعلق بالكتب والعلوم علىٰ اليوتيوب، مهتم بالمجال التوعوي ونشر الوعي والثقافة العامة.

مقالات ذات صلة

‫2 تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى