من معالم الحضارة الإسلامية على اتساع رقعتها مكانًا وزمانًا مجالس العلم، منذ كان يعقدها رسول الله صلى الله عليه وسلم كلما عنّ أمر يحتاج إلى جمع وتحذير، وقد حثَّ عليها وذكر في فضلها أحاديث جمَّة، وكان يتعهدها الصَّحابة ومن تبعهم من أهل العلم والفضل، إلى أن عُرفت بصورتها النظامية في أروقة الأزهر الشَّريف، حتى بلغت أوسع مدى لها عبر الوسائط التعليمية الحديثة عن بعد.
تتنوع هذه المجالس لتشمل كل فروع العلم والمعرفة، في الفقه والحديث والتفسير والكلام والفلسفة وما كان وما جد، وما تلد وطرُف، لكن مجلسًا من المجالس جمع ما لم يجمعه سواه وانطلق من عقل منظم يجمع شتات التكوين، وينظم عناصر البناء العلمي للطالب، وهو مجلس التكوين الذي يعقده عن بعد أستاذنا الدكتور بشير الدماطي.
كأني بأستاذنا بشير الدماطي ذلك الشيخ المتقن أيام الحضارة الزاهرة، وكأني بمجلس التكوين في مجلس من مجالس المسجد الأموي أيام عمر بن عبد العزيز، أو في رواق من أروقة مساجد بغداد أيام هارون الرشيد، أو في حلقة من حلقات مسجد قرطبة أيام عبد الرحمن الناصر، في ذلك العهد القديم حيث يختلط العلم بالتربية، فيسلك بنا مسلك أهل العلم قديمًا. مجلس نشعر فيه بنفحات الأزهر تحفنا من كل ناحية، وتسمو بنا لمعانٍ حسان، معانٍ لن نجدها في مقررات الدراسة، ولا في مناهج الحداثة، معاني التزكية والتربية التي إن لم نتعهدها بالسقيا؛ تذبل وتسقط منا مع الأيام حتى لا يبقى منها في نفوسنا شيء، تلك المعاني التي شغلنا عنها بالرد والجدل وتخطفتنا عنها المسائل العلمية، والامتحانات وأبحاث التخصص، وظننا أننا قد تجاوزناها إلى ما بعدها؛ فسقطت منا شيئًا فشيئًا، وأمسينا نخبط بغير هدى، وما أحوج الإنسان إلى تعهد تلكم المعاني، والوقوف أمامها، وأن يتزود بها في كل خطوة؛ لتربو روحه مع ربا العلم.. فلا يضل الطريق.
مجلس يجوب بنا آفاق العلوم العربية ويحرص فيه أستاذنا أن يؤدب تلاميذه بأحسن ما يكون من الأدب؛ فيعلمنا أول ما يعلمنا “إنما العلم الخشية”، ويكرر علينا فضائل العلم، وفضل العالم والمُتعلم، ويطوف بنا حول معنى “إن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم”، يذكرنا في كل لقاء “إنما نتعلم العلم نبتغي به وجه الله، لا لنماري به السفهاء، ولا لنكاثر به العلماء، ولا لنصرف وجوه الناس إلينا به”، يعلمنا ألا نخوض فيما لا يعنينا، يعلمنا أن أول العلم الصمت، والاستماع، ويكرر علينا معاني تنزيه العلم عن أغراض الدنيا ومراقبة الله في كل عمل، يردد علينا قول الإمام الشافعي: “ليس العلم ما حفظ، وإنما العلم ما نفع”!
يقول: “مهمة الأستاذ المربي إيقاظ العقل”، ويردد علينا قول د. حماسة رحمه الله: “إن العالم إذا زل؛ زل بزلته كثيرون”، وإذا لم ينتفع العالم بعلمه؛ فغيره أبعد من الانتفاع به.
يتلو علينا معاني التواضع والخشوع والورع، وأن نحذر الفخر والخيلاء والتنافس في الدنيا وحب المدح والعجب والرياء، يعلمنا أخلاق العلماء، يعلمنا أن العالم إذا قال قولًا فرَدَّه عليه غيره ممن هو أعلم منه أو مثله أو دونه؛ فعلم أن القول كذلك.. رجع عن قوله، يعلمنا أن العالم كلما ازداد علمًا ازداد لله تواضعًا، وأنه من أحبَّ العلم أحاطتْ به فضائله.
حفظنا عنه “الإنجاز أدعى للإنجاز”، و“التوفيق حليف الإخلاص وإنما يتعثر من لم يخلص”، “من وقف على الأعتاب كان كمن فُتح له الباب”، وأن “ليس من غايتي أن أصل إلى النهاية، وإنما غايتي أن أسلك طريق كل ما يقرب إلى الله عز وجل بكل قول وعمل؛ فعلى المرء أن يسعى إلى الخير جاهدًا، وليس عليه أن تتم المقاصد”.
يذكرنا بورد تلاوة القرآن، وبالنوافل، وأن يكون لنا ورد من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن الأذكار، والاستغفار، ويقول لنا: “لا تحسبوا أن هذه الأوراد بعيدة عما نحن فيه من العلم”.
وأن العلم لا ينال إلا بالإلف، العلم مغنم لا مغرم، وأن تكون أسعد الناس بعلمك، فالعلم هو إزاحة الظلمات وإماطة الأذى عن عقلك، وأن آفاق العلم متسعة لا تدرك إلا بذوي الهمم، يسألنا أن ندعو الله ليذيقنا حلاوة العلم؛ فنحب أن نحيا بمعنى قول الإمام أحمد بن حنبل: “معي المحبرة إلى المقبرة”. أستاذنا يحرص على أن يشحذ الهمم ويبعث فينا الأمل، فبعد كل مجلس نود لو نلتهم الكتب التهامًا.
ويسعى بنا لبناء العقل، فيقول: “بناء العقل شيء يحققه في نفسك العلم، وبناؤه يدور حول البناء العلمي والبناء الثقافي والبناء السليقي والبناء الفكري”، وبدأ معنا بالبناء العلمي للعلوم العربية والإسلامية؛ وذلك لأنه الأساس الذي يتوالى عليه غيره، ويرسخ فينا معنى أن العلوم العربية ما هي إلا لخدمة النص القرآني، وطالما ذكّرنا أن الشعر والأدب العربي ليس الغرض من دراستهما أن تستمتع بهما فحسب، بل حتى تقف على أساليب العرب في كلامهم؛ لتفهم كيف كان القرآن معجزًا رغم أنه جاء على أسلوب بيانهم!
ينقل لنا عن د. محمد أبو موسى قوله: “العلوم العربية والإسلامية ترى الروابط بينها كأنها من فطرتها”، ويذكرنا أن “علوم العربية كالأواني المستطرقة”، و“مجاز كتب التراث مجاز الكتاب الواحد”، يعلمنا أن العلم بالمسألة لا يكون إلا بالتأمل فيها والإحاطة بجميع زواياها.
يعلمنا أن تنوع تحصيل العلوم يعين على تفوق العقل وتميز قدراته، وأن كثيرًا من العلماء الذين عرفوا بعلم من علوم العربية، كان لهم تفوق في علوم أخرى -كان من الممكن أن يعرفوا بها- ولكن غلب عليهم ذلك العلم فعرفوا به، كما قالوا عن الإمام الشافعي كان من علماء اللغة والأدب فغلب عليه الفقه فعرف به، وكما قالوا في علي بن عبد العزيز الجرجاني -صاحب الوساطة- كان فقيهًا ثم غلب عليه الشعر فعرف به. وقالوا من لم يقرأ إلا الفقه لا يعرف الفقه، ومن لم يقرأ إلا النحو لم يعرف النحو؛ لأن العلوم يسقي بعضها بعضًا.
ومن جميل ما يردد علينا: “إن للنصوص هيبة، وللكلمة هيبة فإن بها ترفع درجات المرء وبها يهوي ويزل”، وكيف أن تحصيل الأدوات من الأهمية بمكان للتعامل مع النص، فتحصيل الأدوات هو ما يجعل الطالب من زمرة أهل العلم. أستاذنا طالما يصقل في نفوسنا وجوب أن يُرى علينا ما نقرأ وما نتعلم وأن نتعهد العلم بالمذاكرة؛ “فالعلم يربو بالمراجعة”.
يرسخ فينا معاني عزة الإسلام، وعزة الأمة، وعزة العربية؛ فننمو ونفوسنا ممتلئة بعظمة ديننا، وتراثنا، وحضارتنا، لا نعاني من عقدة النقص، أو الانهزامية الحضارية، فننشغل بثقافة غيرنا ونطرح ثقافتنا كرهًا وعدوانًا، فننسلخ عن ديننا وعروبتنا، بل منهم المبتدأ الذي ننطلق منه لتعلم غيره من الثقافات واللغات، وإليهم المنتهى.
والجميل.. أنه لا ينصرف بنا -بتلك المعاني- عن أصل العلم ومسائله، بل يوازن بين هذا وذاك، يسلك بنا مسلك أهل العلم قديمًا.
أكرمنا المجلس بعدد من الكتب بدأ بالبناء المعرفي للطالب فاعتنى بعلوم الألة، وعلوم الغاية، ليبلغ أصل العلم بالطواف حول عدد من الكتب، مررنا على الأربعين النووية وشرحها وإعرابها، وكتاب تنقيح الأزهرية ومجلس في إعراب القرآن، وما يحوي المجلس من قراءة لمقالات أدبية، وكتب في التزكية، جزى الله أستاذنا خيرًا عما يبذل لنا من وقت وجهد، وأسأل الله أن يجعله من أهل حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم (فمن دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه).