المدونة

مسلسل الانكشاف والدرس الرباني

"لا تحسبوه شرا لكم"

من يتأمَّل في المراحل التي عاشها النَّبي صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام في حملِ راية الرِّسالة ومن ثمَّ الوصول إلى مرحلة التَّمكين سيجد فيها محطات وأحداث شكلت بمجموعها رصيدًا تراكميًّا لتحولات ونقلات نوعية للمشروع التغييري الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم بتأييدٍ من ربه جلَّ في علاه.

وبالاستقراء والتَّحليل والمقارنة العامة لتلكَ المواقف أو المحطات سنجدها على نوعيْن أجمالًا:

النوع الأول:

أحداث سارة بعثت التفاؤل وبثَّت الأمل في القلوب والنُّفوس بانتصار الحقّ على الباطل وزهوق المجرمين والسفهاء الذين كانوا يتطاولون على الدَّعوة وأهلها .

ومن هذا النوع يمكن أن نذكر الأحداث والمشاهد على النحو الآتي:

– مساندة أبو طالب لابن أخيه محمَّد بن عبد الله أمام صلف مشركي قريش إلى حين وفاته.

– ومن ذلك توفر المكان الآمن للنخبة المؤمنة لتشد من أزر بعضها البعض وتزيد من تقارب الوحدة الإيمانية والفكرية بينها بمعية الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم في بيت الأرقم بن أبي الأرقم.

– ومن ذلك إسلام الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه وتمام بيعتي العقبة الأولى والثانية ونجاح الهجرة الأولى والثانية للحبشة و نجاح هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه والوصول إلى المدينة وتأسيس مسجد قباء ومن بعده مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم ووصول الرسالة إلى القبائل المحيطة بالمدينة، بل إلى القوى الإمبراطورية المحيطة بالجزيرة العربية  وانتصار المسلمين في غزوة بدر الكبرى وسقوط الكبار من رموز العداء والكفر من مشركي قريش، وقبل ذلك توقيع وثيقة المدينة النبوية بين مكوناتها القبلية والفكرية ودخول النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة الكرام فاتحين قائلين “جاء الله الحق وزهق الباطل إنَّ الباطلَ كان زهوقًا”.

ثم عودة النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع معلنًا إكمال تبليغ الرِّسالة والدِّين:

“اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا”. كل تلك المشاهد والمواقف والمحطات كان لها أثر كبير فيما جرى بعدها من أحداث وشكلت تراكمًا ورصيدًا إيجابيًّا في مسيرة الدعوة وجعلت الصف المسلم أكثر تماسكًا وثقة وحماسًا للاستمرار .

النوع الثاني:

في المسار الموازي يأتي النوع الآخر من تلك المحطات والأحداث:

أحداث مؤلمة ومحزنة وصادمة وذات وقْع كبير على النفوس كان لها أثرها السلبي الكبير على القلوب والعقول، ومن ذلك:

– موت أبو طالب عمّ النبي صلى الله عليه وسلم وكذلك أمُّ المؤمنين خديجة زوج النبي صلى الله عليه وسلم.

– وكذا استشهاد أسد الله حمزة بن أبي طالب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم.

– وكذا من المواقف عودة عبد الله بن أُبَي بثلث الجيش الذي خرج مع النبي صلى الله عليه وسلم في أحد .

– والانتكاسة التي حصلت للجيش بمخالفة الرماة لأمر النبي صلى الله عليه وسلم بعدم ترك مواقعهم . وإصابة الرسول صلى الله عليه وسلم وشجّ رباعيته عليه أفضل الصلاة والسلام، وقصة الإفك التي حصلت لأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وتداعياتها على بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى الصحابة وأهل المدينة كلهم.

– ونقض اليهود للعهد بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم. وتداعي قبائل المشركين لمحاصرة المدينة فيما سُمي بمعركة الأحزاب وتوقيع النبي صلى الله عليه وسلم لوثيقة صلح الحديبة التي كان ظاهرها رجوح الكفة لصالح المشركين.

– ورد النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بصير بحسب بنود صلح الحديبية ومحاولات الاغتيال المتكررة للنبي صلى الله عليه وسلم . وفقدان العشرات من قيادات الصحابة والصحابيات في الغزوات والسرايا التي كانت في عهد النبوة طوال السنوات .

كل هذه الأحداث وغيرها وبتفاصيلها المحزنة والمؤلمة كانت كافية لبثِّ الحزن والأسى في قلبِ الجماعة المؤمنة لولا لطف الله وحفظه لعباده الموحدين، ومن ثمَّ وجود القدوة والأسوة في شخصِ النَّبي صلى الله عليه وسلم الذي كان يستثمر المواقف والأحداث لإعادة أصحابه إلى الاتجاه الصحيح للتعامل مع تلك الأحداث وعدم الخضوع للخوض والجدل والاختلاف التي يجعلها تحقق هدف العدو من افتعالها أو إثارتها أو النفخ فيها من خلف الأقنعة .

لقد كان منهج النبي صلى الله عليه وسلم في غالب تلك المحطات والأحداث المؤلمة لا يخرجُ عن ذلك الدرس الذي نجده في قول الله _ جلَّ وعلا_ في سياق قصة الإفك:

“لا تحسبوه شرًّا لكم، بل هو خيرٌ لكم لكلِّ أمرئ منهم ما اكتسب من الإثم والذي تولى كِبَره منهم له عذابٌ أليم”.

وهكذا تتكرر المشاهد المؤلمة – في عصرنا الحاضر لقلوب وعقول المؤمنين- لكنها عند التَّأمل تندرج كلها في مسلسل الانكشاف الطويل للنِّفاق الذي بدأ في عصره عليه الصَّلاة والسَّلام وحدثنا عن آخره صلى الله عليه وسلم وأنه يؤدي إلى تمايز المجتمع المسلم إلى فسطاطين، فسطاط إيمان لا نفاق فيه وفسطاط نفاق لا إيمان فيه .

ولذلك فإن ما نجده في صفوف العشرات، بل المئات من صفوة ونخب المجتمع في البلاد العربية والإسلامية من التَّخلي والسقوط في مواقفها من الثوابت والقضايا الكبرى التي تعصفُ بالأمَّة وسيرها عمياء صماء بكماء كما يريدها العدو إنما هو في سياق أحداث هذا النوع الثاني وسيعقبها بإذن الله تعالى وحسب مقتضى سننه الجارية في الكون وفي الأمم والحضارات تحولات ونتائج تعود لصالح الفئة الصابرة المؤمنة المتمسكة بالمنهج، والسَّاعية لرضوان الله إذا هي أخذت بالمنهج الرباني والنَّهج النَّبوي في التعامل، وأحسنت العبرة واقتناص الدروس والاستفادة من الأخطاء وحسن تقدير الأمور والتعامل معها بحنكة ونظر للمآلات والعواقب.

الانكشاف والدرس الرباني 1 مسلسل الانكشاف والدرس الرباني

خلاصة الدرس:

إن هذا الانكشاف مهما كان طعمه مرًّا، ومهما كان أثره مؤلمًا، ومهما كان الصبر على آثاره مستنزفًا للطاقات والعقول والقدرات المادية والمعنوية إلا أنَّ دروس السَّيرة النَّبوية العطرة ومنهج التَّعامل مع الانكشاف القديم تقول لنا لا تنسوا وعد الله لكم:

“حتى إذا استيئس الرُّسل وظنوا أنهم قد كُذِبُوا جاءهم نصرنا فنجي من نشاء ولا يردُّ بأسنا عن القوم المجرمين”.

“ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله وما زادهم إلا إيمانا وتثبيتا”.

“ومن يتقِّ الله فهو حسبه إنَّ الله بالغ أمره قد جعل الله لكل شيء قدرًا”.

خلاصة الخلاصة:

فلتكن هذه الانكشافات والانقلابات المنكرة في عقيدتنا ومن ثمَّ في نظرنا وقناعاتنا وتربيتنا ومناهجنا جزء من رسائل التربية الربانية التي يهيئ الله بها الأمَّة لتحمل دفة القيادة للعالم في اللحظة التي يختارها الباري جلَّ وعلا ويضعها في يد من هو صالح ومهيأ لها وما علينا إلا أن نكون في ركب القافلة، نعلِّم ونربي ونرشد ونوجه مبشِّرين ومنذرِين واثقين في البداية والنَّهاية بنصر الله للحقِّ ولأوليائه، كما قال جلَّ وعلا:

“والعاقبة للمتقين”.

وأن كل ما يصيبنا إنما هو بلسم العناية الرَّبانية من جهة، وألم التربية الربانية من جهة أخرى، وكلاهما يؤدي إلى الاستعداد والجاهزية لتحقيق الهدف المنشود.

قال تعالى: “وإذ قال موسى لقومه استعينوا بالله واصبروا إن الارض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين قالوا أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا قال عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون”.

و”عسى” في القرآن:

واجبة… واجبة … واجبة، فهل من قلوب واعية وعقول راشدة؟

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى