المدونة

مسلمو الغرب وفهم معادلة الثَّوابت والمتغيرات

أقيمت ندوة علمية بعنوان: “ثوابتنا في وجه المتغيرات” قدَّمها أكاديميون يمنيون متخصصون في العلوم الشرعية يعيشونَ في الدولِ الأوربية، وشاركَ فيها العشرات من أبناءِ الجالية اليمنية بألمانيا وأوروبا.

وتمثل هذه الفعالية باكورة لأنشطة توعوية ومعرفية وثقافية يُشكر القائمون عليها بـ”منتدى الشمال الثقافي بمدينة هامبورغ”.

ونظرًا لضيق الوقت لم أتمكَّن من طرح مداخلة سريعة أثناء النَّدوة، وهو ما دفعني لكتابةِ حزمةٍ من الخواطر والأفكار حول هذا الموضوع المهم, والواسع، والذي يصعبُ الإحاطة بكلِّ جوانبه في لقاءٍ واحد، لا سيما ومثل هذه القضايا أضحت مثار اهتمامٍ وجدل ونقاشاتٍ لدى أبناءِ وشباب المسلمين الغربيين, والجاليات الإسلامية في دولِ الغرب، خاصة في ظلِّ موجاتٍ متصاعدةٍ من تيارات اليمين الشعبوية العنصرية المتطرفة، والمتسلحة بمبادئ الرأسمالية بصيغتها الجديدة وفق قِيم الحداثة المادية المتوحشة، التي لا ترى في الإنسان غير مخلوق مادي، لا غاية له في الحياة سوى إشباع رغباته وشهواته الحيوانية، لذلك تعمل بعض قوى الحداثة على الترويج للإلحاد، وتحارب الأديان خاصة السَّماوية منها، ولا جريرة لها إلا أنها تحثُّ على المبادئ والقيم الدينية التي تعنى بالروح والأخلاق والفضيلة.

هذه الظواهر أصبحت واقعًا معاشًا في معظمِ المجتمعاتِ الغربية، والأخطر أن ترعاها مؤسسات وأنظمة وتيارات، ناهيك عن الشركات التجارية والاستثمارية الدولية العابرة للحدود والتي باتت تتحكَّم في مصيرِ العالم والبشرية وفقًا لما يحقِّقُ مصالحها الرأسمالية المادية الجشعة, فلا يهمها ولا غاية لها سوى الإثراء والرِّبح.

في ساحة المواجهة تلك تطلُّ علينا مبادرات خجولة لبعض المتدينين ورجال الدين من مختلف الأديان، للتأكيد على أهمية بعض قيم وأخلاق الأديان السماوية التوحيدية التي تحثُّ على الفضيلة والخير، رغم ما أصاب التدين في المجتمعات الغربية من ضعفٍ تسبَّبَ في تعرضه للعزلة والتجريف والتَّحريف، وتمَّ إفراغ الدِّين والتدين من محتواهما الحقيقي، ولم يتبق من التَّدين في الغرب إلا مجموعة من الممارسات الطقوسية الخاوية من الرُّوح، التي لا تبعثُ طمأنينة، ولا تنعكسُ على سلوك النَّاس في واقع حياتهم.

ومقابل تلك التحركات والإمكانات المهولة لقوى الحداثة المادية تبقى الكتلة الصلبة المتمثلة في المسلمين من أبناءِ تلك الدول نفسها, ومعهم أبناء الجاليات الإسلامية؛ هي صاحبة الدور الأبرز في مواجهة إنسان المادة لأجل إنسان الروح والمشاعر والقِيَم، حيث تُلقى على عاتقهم مهمة الحفاظ منظومة الأخلاق والفضيلة التي تعنى بحياةِ الرُّوح، وفقًا لمبادئ الإسلام السمحة التي تنعكسُ بآثارها الإيجابية على نفوسهم, وفي واقع حياتهم ومجتمعاتهم. ولأهمية تحقيق ذلك الهدف, وتلك الغاية النبيلة، يتطلب وبشكلٍ متواز مع الجهود العملية إلى المزيد من الاطلاع والمعرفة الواعية بثوابت الدين؛ لتنعكسَ في واقعهم المعاش تعبدًا وأخلاقًا وسلوكًا وممارسات، وذلك لكي يجعلوا من أنفسهم وتدينهم الواعي الوسطي قدوات إيجابية ورسل سلام ومحبة، كما هو دين الإسلام ورسول السَّلام محمَّد صلى الله عليه وسلم الذي بعثه الله رحمةً للعالمين، لقوله عزَّ وجل: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾ {الأنبياء: 107}.

لقد خلقَ الله الإنسان، ونفخَ فيه من روحه، وفطرَ النَّاس بالفطرةِ السَّوية التي تجعلهم يحبونَ الخير والعدل والحرية والصَّلاح, ويبغضون الشَّر والظلم والطاغوت والاستعباد، وأرسل إليهم الرسل, وأنزل عليهم الكتب؛ ليعيدوا البشرية إلى طريق الخير والعدل كلما حادت عنهما، أو ارتكست في مهاوي الضلال, والطغيان.

فارتباط الإنسان بربه وبدينه, وحاجته لهما أمرٌ فطري وبدهي، وذلك لأنَّ حياة البشر لا تستقيم ويسودها العدل والمساواة والصَّلاح إلا مع تمثل الناس لمبادئ الدين القويم التي توجب عليهم عبادة الله وحده وقيامهم بمهمة الاستخلاف في الأرض وعمارتها وإقامة العدل فيها.

فالإنسان هو القِيمة العليا في الإسلام، والمسلم وفقًا لهذا الفهم السَّليم لمبادئ دين الإسلام، وتمثل تعاليمه وقيمه، ينبثق عنه التدين الإيجابي الذي ينعكس عبادة وخلقًا وممارسات وسلوكًا في واقع الحياة، يتم فيها بذل الخير والنَّفع للفرد وللمجتمع الذي يعيش فيه بكل تفان وإخلاص, إرضاء لربه وطلبًا للأجر, وإسعادًا للبشرية، كما يسهمُ في التعاون على نشرِ ساحات البر, والمعروف، وتقليص ومحاصرة الإثم والظلم والعدوان.

يمكن القول: إنَّ ثوابت الإسلام تتلخص في أركان الإسلام والإيمان، وهي الأساس التي تتشكل على ضوئها عقيدة المسلم وعباداته فينبثقُ عنهما السُّلوك والممارسات المنضبطة بمنظومةِ الأخلاق والفضيلة التي يحثُّ عليها الإسلام ومبادئه النَّاظمة لحياة النَّاس؛ ليسودها الخير والعدل والسَّعادة، التي تحميها منظومة الأحكام.

ولذلك, فقد أعلنَ الرسول الكريم حقيقة هذا الدين وعنايته بحياة النَّاس وآخرتهم, حين قال صل الله عليه وسلم: “إنما بُعِثْتُ لأُتَمِّمَ مكارمَ الأخلاق”.

إذن, يقع على عاتق العلماء والدعاة المسلمين في الغرب ومعهم كل ذي معرفة بالإسلام مهمة تقديم هذا الدِّين الإسلامي بمبادئه السَّامية وقِيمه السَّمْحة غضًا طريًا سهلًا ميسرًا بعيدًا عن التَّعقيد والتَّشدد, وخلافات المذاهب, والطوائف، سواء لأبنائه أو لغيرهم من النَّاس، كما أراده الله عزَّ وجل وقدَّمه النَّبي الكريم محمَّد صل الله عليه وسلم لقومه وأصحابه من العرب, ومن جاورهم من الأمم الأخرى، حين راسل ملوكهم ورؤساءهم برسائل تحمل بضع جمل تلخص مفهوم الإسلام وقيمه وتدعوهم إلى خير الإسلام وعدله وسعته.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى