المدونة

من شرفة بيجوفيتش: عرض لكتاب الإسلام بين الشرق والغرب

في كتابه “الإسلام بين الشَّرق والغرب” ينظر الفيلسوف علي عزَّت بيجوفيتش إلى الإسلام من خارجه، فهو يشاهد الإسلام باعتباره فكرة لتفسير وفهْم العالم: يقول المؤلف في مقدمةِ الكتاب: “إنه ليس نظرة للإسلام من الداخل، وإنما على الأرجح نظرة من الخارج، بهذا المعنى، فإنَّ موضوع الكتاب ليس في أساسه عن الإسلام كمعلم، بل عن الإسلام كنظرةٍ على العالم”.

كيف إذًا ينظر الإسلام إلى العالم وإلى موقعه بين الأفكار والنَّظريات العالمية؟ وكيف ينظر على عزَّت للإسلام ويشاهد نظرته لحياة؟ هذا المقال هو رحلة موجزة في فلسفة بيجوفيتش في تصوره للدِّين الإسلامي.

إنَّ الإسلام كما يقول بيجوفيتش ليسَ كتابًا نظريًّا، وانما كتابٌ عمليٌّ، هو منهج حياة، وليس طريقة في التَّفكير.

إنَّ مفردات فلسفة بيجوفيتش تتجسَّد في مفاهيم كثيرة غير أنَّ فكرة ثنائية الإنسان والطبيعة تكاد تكون نقطة انطلاقه والركيزة الأساسية لفلسفته. والقارئ لكتاب الإسلام بين الشَّرق والغرب يجد مفردات يمكن اعتبارها أساسًا لفلسفته من أجل فهم النِّظام العالمي انطلاقًا من الإسلام كدين متفاعل مع الإنسان والمحيط الخارجي من حوله: الإنسان ما هو؟ الدوار الميتافيزيقي، الثنائية التَّكاملية، الصُّدفة، المقدَّس، الحرية، الأخلاق، التضحية، عقدة الإنسان البدائي، المساواة والخلود، الفن، التَّمرد، علم الرُّوح، الحيادية، الرَّغبة الجمالية، المسجدرسة. إجمالًا تكاد هذه هي المفاهيم الأساسية في فلسفة بيجوفيتش، وقد توزعت في أهم فصول الكتاب: الخلق والتَّطور، الحضارة والثَّقافة، ظاهرة الفن، الأخلاق، الإسلام الوحدة ثنائية القطب.

من شرفة بيجوفيتش: عرض لكتاب الإسلام بين الشرق والغرب

الخلق والتطور

ينطلق من سؤال الإنسان، وهو سؤال جوهري، فالإنسان كتعريف يحدد كثيرًا من المفاهيم في الحياة. “قضية أصل الإنسان هي حجر الزاوية لكلِّ أفكار العالم”، فالإنسان عند بيجوفيتش كائنٌ مخلوق، إرادة ما أوجدته في لحظةٍ ما من الزَّمن، فالخلق ليس عملية تطور دارويني، وانما فعلٌ إلهي. “ليسَ شيئًا مستمرًّا، وإنما فعل مفاجئ. فعل أليمٌ ومفجع”، فهو يناقضُ تمامًا التَّعريف الذي جاءَ به الماديون للإنسان باعتباره الحيوان الكامل، الفرق بينه وبين الحيوان في الغابة هو فرق في الدرجة فحسب، وتستند مقولة الماديين إلى العلم الذي يفسِّر الإنسان وفقًا لنظريَّة التطور، غير أنَّ بيجوفيتش يفرق بين ما يقوله العلم وما يقوله الفن، وهناك تعارض بين العلم والفن: العلم يحيل الإنسان إلى داروين، أمَّا الفن فيرى الإنسان في صورة مثيرة قادمًا من عالمٍ مجهول. كما يرى أن الدِّين يساوي بين الإنسان والحيوان في حال أنَّ الإنسان شيء مغاير للحيوان، فالحيوان يشترك مع الإنسان في اللغةِ والعقل والذكاء، إذا وجدت أمثلة لحيوانات تتمتع بهذه الصفات، غير إنه لا يمكن أن يوجد حيوان متديِّن أو حيوان فنَّان أو يؤمن بالمحظوراتِ الأخلاقية”. ليسَ في عالم الحيوان شيء ما يشبهه حتى ولو بشكل بدائي _ الدين، أو السحر الدرامي، أو الفن، أو المحظورات الأخلاقية..”.

“ولقد وجدت التضحية في جميع الأديان بلا استثناء وظلت طبيعتها غيد مبررة، بل غامضة. إنها في الحقيقة من نظام آخر ومن عالمٍ آخر. وقد تأخذ التضحية في الديانات البدائية أشكالًا مروعة. ولكنها مع هذا الوصف تمثل خطًّا فارقًا وملموسًا وموجعًا في مشهده خطًّا فاصلًا بين العصر الحيواني المزعوم، وبين عصر الإنسان”.

الإنسان تتخذ طريقة تفكيره أحيانًا طابع اللامعقولية هذه اللامعقولية في التَّفكير تمثل من حيث غرابتها خطًّا آخر يؤكد غرابة الإنسان وصعوبة تفسيره، وفقًا للنَّظرة الداروينية. ويستشهد بملاحظات حول الانسان البدائي حيث عرف عنه عادات تقطيع بدنه وجدع الأنف بحسب دراسات أنثروبولوجية. وهذه العادات هي سمات خارجة عن الإطار الحيواني.!

وهناك ظاهرة في الفكر الغربي اسمها “عقدة الإنسان البدائي” تنتهي بأنَّ الحيوان أكثر تطورًا من الإنسان، بحجَّة أنَّ الإنسان لا يزال يمارس العبادة ويؤدي للطقوس الميثولوجية فيمَ الحيوان قد تركها شاقًّا طريقه في سلم التَّقدم. ولكن بيجوفيتش يتخذ من هذا المفهوم منطلقًا لإثبات خصوصية الإنسان ومغايرته للمادية، فهذه العقدة تعبر عن الخصوصية الملازمة للإنسان.

“أليس من السُّخرية حقًّا أنَّ الإنسان البدائي الذي استمتع منذ خمسة عشر ألف سنة مضت بالنَّظر إلى الزهور وبأشكال الحيوانات ثمَّ رسم ذلك على جدرانِ كهف، كان من هذه النَّاحية أقرب إلى الإنسان الحقيقي من الإنسان “الأبيقوري” الذي يعيش فقط لإشباع متعه الجسدية.

ينكر الفكرة التي يقدمها العلم عن الإنسان من خلال شرح مفهوم التابو والأخطار التي يتجنبها الإنسان لما لها من طبيعة أخلاقية والتي ظهرت لدى الشعوب في وقتٍ مبكِّر من الحياة. ثمَّ يؤكد بأنَّ العلم كان حدثًا متأخرًا في ظهوره عن الدِّين، فالدِّين هو سابق في الوجود، قديم قدم الإنسان نفسه، أمَّا العلم فهو مفهوم حديث ومتأخر. آخذًا في الاعتبار عجز العلم عن تفسير كثير من الجوانب المتعلقة بالإنسان كالخير والشَّر والشعور بالفجيعة والصَّراع الدائم بين المصلحة والضَّمير والتساؤلات الوجودية والدوار الميتافيزيقي المصاحب للإنسان وظاهرة التطلع إلى السَّماء كل ذلك وغيرها من الظواهر تظل بدون تفسير عقلاني.

أمَّا من حيث النشأة فقد كان الإنسان والدين والفن دائمًا في تلازم وثيق. ويلاحظ أنَّ الإنسان لا يزال هو الإنسان نفسه منذ إنسان “النيندرتال” استنادًا على نتائج دارسات أركيولوجية، هناك رغبة لدى الإنسان في تجميل نفسه، وكما أنَّ الدين والفن والأخلاق البدائية جميعًا ذات مصدر واحد، هو شوق الإنسان إلى عالم مجهول “وإن اختلاف الإنسان عن الحيوان يمكن أن نلاحظه في التَّمرد فالحيوان لا يتمرد، الإنسان وحده الذي يتمرد، فهو الحيوان الوحيد الدي يرفض أن يكون حيوانًا.

يتحدث عن ازدواجية العالم الحي ومفهوم القصور في الطَّاقة فهي النقطة الحاسمة في تعريف الحياة التي تعني التشوش العام ويسرد اعترافات لعلماء فيزيولوجيين” حتى الآن لا نعرف على وجه التحديد ماهية الحياة. نحن لا نستطيع حتى أن نقدم تعريفا كاملا دقيقا لظاهرة الحيا”

يتحدث عن أن الحياة لديها قدرة ذاتية على تنظيم ذاتها ذاكرًا ما يعرف “ظاهرة سنوات الحرب” حيث يزيد عدد المواليد من الذكور ليعادل عدد الفقد في الضحايا بسبب الحرب. ومفهوم الصدفة حيث هي ليس مجرد احتمالات منطقية تخضع لقانون علمي، وبالتالي فإنَّ الانسان هو كائن غبي؛ لأنه يعتقد بأنَّ كل شيء في الحياة واضح في حين أنَّ كل شيء لا يزال مبهمًا. إذًا ليس على الإنسان سوى الدهشة فهي أعظم شكل من أشكال فهْم الحياة، على الإنسان أن يتصرف بشك كما فعل ” هاملت” وأن يتأمل وألا يتقمص دور الإنسان الفهلوي الذي يدعي أنه يعلم كل شيء.

يتحدث عن مفهوم الحرية في الإنسان وكيف أن إنسان الدارويني هو إنسان ليس حرًا فالرفض هو سمة أساسية في الإنسان، لأن الرَّفض هو جوهر الموقف الديني، والحيوان كائن محايد بخلاف الإنسان غير محايد، فهو منذ اللحظة التي وجد فيها عليه أن يختار إما أن يكون إنسانًا أو لا يكون. فالذي يخلق الكائن الحر ليس المادة. “فالله وحده هو القادر على أن يخلق مخلوقًا حرًّا، فالحرية لا يمكن أن توجد الا بفعل الخلق” فالإنسان تميزه تلك اللمسة الإلهية التي لولاها لما تحول إلى إنسان حر، لذلك: الإنسان ذو ضمير حي لا يوجد لدى الحيوان ولا يمكنه أن يفلت من داخل الإطار الأخلاقي الذي وجد فيه وألا يعيش بعيدًا عن فكرة الخير والشر، فهو حر، وبمقدوره الاختيار في أن يستخدم حريته في الخير والشَّر.

كما يتعرض الكتاب لفكرة علم الروح، وعلم النفس في الحيوان والإنسان على السواء، ولكن علم الرُّوح فقط في الإنسان، لأنَّ القيمة الروحية في الإنسان هي حقيقة ذات صبغة دينية بدونها يتلاشى الأساس الحقيقي الوحيد لموضوع المساواة الإنسانية. فإذا كان الله غير موجود، فإنَّ النَّاس بدون شك غير متساوين. وتكون خلاصة هذا الباب “أن القول بمذهب إنساني ملحد ضربٌ من التناقض لأنه إذا انتفى وجود الله انتفى بالتالي وجود الإنسان”.

الثقافة والحضارة

الثِّقة موصولة بين الثَّقافة والحضارة كما هي العلاقة بين الأداة والعبادة فقد كانتا أول مظاهر وجود الإنسان في الأرض: الأداة لها تعبير مادي والعبادة لها مضمون روحي وهي نفس العلاقة بين الثقافة والحضارة.

الثقافة تبدأ بالتمهيد للسَّماوي بما اشتمل عليه من دينٍ وفن وأخلاق وفلسفة، أمَّا الحضارة فهي استمرار للحياة الحيوانية ذات البعد الواحد. فالثقافة معناها: الفن الذي يكون به الإنسان انسانًا، الحضارة تعني: فن العمل والسيطرة وصناعة الأشياء.

ويفرّق بيجوفيتش بين العلم والتَّأمل. الأول يشير إلى الحضارة والثاني يعني الثقافة، “الحضارة تعلم أمَّا الثقافة فتنور”، تحتاج الأولى إلى التعلم أما الثانية فتحتاج إلى تأمل. وللتأمل أهمية بالغة إذ يؤدي التأمل إلى الحكمة والكياسة والطمأنينة.. إلى نوع من التَّطهير الجواني، إنه تكريس النَّفس للأسرار والاستغراق في الذَّات للوصول إلى بعض الحقائق الدينية والأخلاقية والفنية.” يمنح التأمل قوة على النَّفس أما العلم فإنه يعطي قوة على الطبيعة” فالعلم المدرسي يزكي في النفس معنى الحضارة فهو لا يساهم بشيء في الثقافة كما يعمل التَّأمل.

التأمل هو نشاط ديني، من خلاله تتصل النفس باللانهائي، ومن خلاله تشعر النفس بالحرية وتدرك العالم الآخر.

ويناقش مأساة التعليم التقني، لم يعد يربي فينا قيم ثقافية، بل قيم حضارية وفقًا لأيديولوجية معينة، وينفي كون التعليم مهمًّا بدا منهجيًّا_ إنه مستقل ولا يخلو من التوجيه المسبق، فالتعليم ليس حياديًّا على أيِّ حال. “فالمدرسة التي تقدم حلولًا أخلاقية وسياسية تعتبر من وجهة نظر الثقافة مدرسة همجية؛ لأنها لا تخلق أشخاصًا أحرارًا بل أتباعًا، “إنها قد تدعم الحضارة، ولكنها تحطُّ من شأنِ الثَّقافة.” ويقول إنَّ الأدب الرخيص أو ما يسمى “الثقافة الجماهيرية” المكرر والمزخرف يؤدي إلى سلب شخصية الفرد: فالتلفزيون حلَّ محل الأدب، والتَّفكير، ويخلص إلى أننا سنحتاج إلى دستور جديد لكبح هذا الجديد الذي يهدد بإقامة عبودية روحية من أسوأ الأنواع. ويتحدث عن الريف والمدينة وفقًا لمفهومي الحضارة والثقافة وينتهي إلى أنَّ الدِّين ينتمي إلى الحياة والفن والثَّقافة، أمَّا الإلحاد فينتمي إلى التنظيم والعلم والحضارة”.

الطبقة العاملة لم تعد قوة ثورية بسبب الفقر الشديد وتأثير الحضارة عليها تجعل من العمال قوة غير ثورية. بفعل الانسلاخ من القيم الثقافية: الدين والفن.! إن الدين هو محرك أي فعل ثوري. إنَّ الدِّين بتعبير شاعري يستطيع أن يرى الثورة كقصيدة ملحمية وليس فقط تدمير آلي أو تغير. إن المجتمع الذي تسيطر عليه مشاعر التغير والتضامن هو في حالة دينية والمجتمع العاجز عن التدين هو أيضًا مجتمع عاجز عن الثورة. إنَّ التقدم إذا كان ضد الإنسان فهو يطبع العالم إيديولوجيا تكبت الشَّخصية وتوجه الأديان لحياة آلية وفقا لخطة ( نوم، قطار، عمل) وهي خطة تمنح مستوى معينًا من المعيشة، ولكنها تحرم الإنسان من الخبرة والإثارة الحقيقيين. فالمادة تزعم أنَّ الإنسان يعيش بحواسه، فالرغبات المادية لا تحقق أي معنى قيمي للإنسان في الحياة. لهذا برزت ظاهرة تشاؤم المسرح “كلما زادت الرفاهية والرخاء؛ تعاظم الشعور باليأس والخواء” وإن مشاعر الاستياء والقنوط مجهولة تمامًا في المجتمع الفقير.

العدمية وفلسفة العبث هما ثمرة أكثر بلاد العالم ثراءً وتقدمًا. هكذا يقول بيجوفيتش، هذه الفلسفة تتحدث عن عالم بلا منطق، وعن فرد منقسم على نفسه سيكولوجيًّا، ومحطم عن عالمٍ أصم أبكم. ولكن هناك رأي ذكي يقول أنَّ العدمية هي تمرد على العالم المادي، وكأنها نوع من انكشاف النفس عن واقع لا يشبهها ولا يمثلها، لذلك يرى أنَّ في العدمية الجديدة نوع من الدِّين “إنَّ العدمية والدين يمثلان إنكارًا للمادية”، وهناك نقاط مشتركة بين العدمية والدين فالعدمية خيبة أمل ليس بسبب العالم والنظام، ولكن غياب الخير من العالم فكل شيءٍ تافه وعدم إذا كان الإنسان يموت إلى الأبد “إنَّ الفلسفة التقدمية لا تتحدث مباشرة عن الدين، ولكنها تعبر بوضوح عن الاعتقاد بأن الانسان والعالم ليسا مصنوعين بالمعيار نفسه. إنها تعبر عن القلق، والقلق بجميع درجاته – فيما عدا نتيجته- هو قلق ديني. وينتهي إلى خلاصة مهمَّة: “إلحاد اليأس هو إيمان.” ثمَّ يؤكد أنَّ توجيه النَّقد للحضارة لا يعني رفضها كليًّا، ولكن فقط لأجل أنسنتها: “إننا لا نستطيع أن نرفض الحضارة، حتى لو رغبنا في ذلك. ولكن الشيء الوحيد الضروري والممكن هو أن نحطم الأسطورة التي تحيطُ بها”.

والعلم 1 e1674666175943 من شرفة بيجوفيتش: عرض لكتاب الإسلام بين الشرق والغرب

ظاهرة الفن

يقسم العالم بين الفن والعلم والفرق بينهما أنَّ “العلم يكتشف أما الفن فيبدع” العلم يكتشف ما هو موجود، أما الفن فهو عملية خلق مستمرة. “إنَّ الفن ابن الدِّين .. وإذا أراد الفن أن يبقى حيًّا فعليه أن يستقي دائمًا من المصدر الذي جاء منه “فالفن جزء من الدِّين والتماثيل والأغاني والرقصات جزء من الشعائر، ولكنها انفصلت مع مرور الزَّمن.

الفنون هي شعائر وطقوس عبادية في أساسها “إن اللوحة الفنية بشكل ما هي نوع من أنواع الشعائر مرسومة على قماش كما أنَّ السمفونية شعائر لحنية”. الفن يبقى تأكيدًا على محدودية الحياة وتحديًّا للرؤية المادية للكون بدون إله، فهو رسالة مقدسة.

كما يتحدث عن الفن والإلحاد فهو يستبعد وجود فنَّان ملحد. الفنَّان هو مؤمن وإن لم يعلم بذلك; لأنَّ الفن هو تجلي للسماوي داخل الإنسان. ويتحدث عن مفهوم “إلحاد الدولة: الدولة التي تحارب الفن وتصاب الحياة الفنية داخلها بالركود، كما أنَّ الجبن والصَّمت عند الكتاب هو نوعٌ من الإلحاد; لأنَّ الفنان عليه أن يتجلى برسالته. كما يؤكد بأنَّ الفن يصبح بديلًا عن الدِّين في حالة إذا ما تعرَّضَ الإنسان لقمع ديني، وهذا ما يفسِّر الحراك الأدبي الكبير لدى كتاب روسيا، فالحريات الدينية آنذاك غير متاحة.

يستشهد بمقولة لبورس باسترناك: “إنّ الرجل الشرير لا يمكن أن يكون شاعرًا عظيمًا”، ليؤكد بأنّ الفن مظهر أخلاقي: “ينتمي الفن لعالم الصدق الجواني وليس العالم الواقع البراني”، والإخلاص في الفن كالإخلاص في الصلاة، فالفنان الذي يفتقد للإخلاص يلد عملًا ميتًا، والصلاة بلا إخلاص هي صلاة فارغة بلا معنى، وبهذا المعنى تأسيس لفكرة الخروج والإخلاص في الحياة العملية الرحبة انطلاقًا من القيمة الأخلاقية التي يولدها الفن”: إذا كنا مخلصين فلا يجب أن تختلف الكنيسة عن المصنع” وينتهي بتلخيص العلاقة بين الدَّين والفن بمقولته” إنَّ الفن في بحثه عما هو إنساني أصبح بحثًا عن الله.!”

0c4cfe9137 من شرفة بيجوفيتش: عرض لكتاب الإسلام بين الشرق والغرب

الأخلاق

في معرِض الحديث عن الأخلاق والدَّين يتحدث عن الواجب والمصلحة: “الواجب هو المصطلح الأساسي في علم الأخلاق والمصلحة هي المصطلح الأساسي في علم السياسة”، فالإنسان الأخلاقي يشعر بالواجب وينطلق منه ويقدم التضحيات في سبيله، فالتضحية ليس لها أي مصلحة مادية، إنها شعور في الإنسان ذو معنى أخلاقي وقيمي: “لكننا نستبعد أن تكون التضحية بلا معنى فلا بد أنها إلهام من عند الله، إنها تنتمي إلى عالم آخر غير عالمنا الدنيوي عالم يتميز بمعان وقوانين مغايرة لهذا العالم الطبيعي بجميع قوانينه ومصالحه”.

النية هي موضوع ديني والقيمة المادية هي موضوع دنيوي، لذلك فإنَّ مقياس أي عمل هو في النية التي تنبثق عنه. رسالة كل دين أن يحاكم الأعمال بالنوايا التي انطوت عليها، ورسالة الأيديولوجيات أو الثورات هي محاكمة الأعمال بالنتائج التي ترتبت عليها. “ليس الإنسان بما يفعل، بل بما يريد بما يرغب فيه بشغف”.

الأخلاق هي موضوع له علاقة بالروح، بالقيم، يستطيع الإنسان فهم المفاهيم كالحرية مثلًا إذ أنَّ العقل لا يفهم هذه المفاهيم، ولكنه يدرك الأمكنة والكميات فحسب، وهذا هو الفارق بين العقل والأخلاق.

الدين هو أساس كل الأخلاق والقاعدة التي تتأسَّس عليها: “لا يمكن بناء الأخلاق إلا على الدين” فالأخلاق إنما هي دين تحول إلى قواعد للسلوك يعني تحول إلى مواقف إنسانية تجاه الآخرين وفقًا لحقيقة الوجود الإلهي، لذا لو نظرنا لموضوع المحرمات في الدين مثلًا فانه قد لا يوجد لها معنى منفعي، ولكن لها معنى أخلاقي وأن الأخلاق ليس شرطًا أن تنحاز إلى الطبيعة وإنما قد تكون ضد الطبيعة نفسها”.

إنَّ ما يزعم بأنها شرور أخلاقية ومادية في هذا العالم هي الأساسية المحركة التي تجعل منا كائنات اجتماعية” كما إن الإلحاد لا يمكن أن نبني من خلاله أي نظام أخلاقي في الحياة، وبعد هذ العرض يخلص بيجوفيتش إلى القول:  “إنَّ الأخلاق ما هي إلا دين آخر”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى