اللُّغةُ فضاءٌ رَحْبٌ فسيحٌ، وعالمٌ مُدهِشٌ عجيبٌ، وبناءٌ مُعقَّدٌ تتقاطعُ فيه الأصواتُ بتنوُّعاتِها، والبِنْيَةُ بتحوُّلاتِها، والتراكيبُ بأنظمَتِها النَّحويَّةِ والبلاغيَّةِ، والدَّلالَةُ بآفاقِها الحقيقيَّةِ والمَجازِيَّةِ. وكلَّما درسَ المرءُ لغاتٍ أخرى، وانغمسَ في بحارِ أصواتِها وَمُفرداتِها وتراكيبِها وأنظمَتِها، ثمَّ رَجَعَ بصرَهُ إلى أسرارِ تنوُّعِها بعد أن كانتْ واحدةً على لسانِ أبينا آدمَ عليه السَّلامُ، انقلبَ وقلبُهُ مُطمئِنٌّ بالإيمانِ، وهو يردِّدُ قولَه تعالَى: (وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ).
ولا رَيبَ أنَّه عندما يتعلَّمُ المرءُ لغةً أخرى تُجابِهُهُ صعوباتٌ جمَّةٌ، ابتداءً من الأصواتِ؛ لأنَّ لكلِّ لغةٍ نظامًا صوتيًّا مُستقلًّا، وكثيرًا ما تحوي اللُّغةُ المُستهدَفَةُ أصواتًا ليستْ في اللُّغةِ الأمِّ للمُتعلِّم، ومرورًا بالمفرداتِ وطرائقِ اشتقاقِها وتوليدِها، وما رافقَ مَسيرَتَها من تداخُلاتٍ وتقاطُعاتٍ، ووصولًا إلى تراكيبِها المُسافرةِ في سُنبلاتِ الزَّمنِ من الحقيقةِ إلى المجازِ مسافاتٍ تُفضِي ببعضِ المتعلِّمينَ إلى الإعياءِ أو القُنوطِ، وانتهاءً بالانغماسِ في ثقافتِها، لأنَّ اللُّغةَ ليستْ مُجرَّدَ ملكةٍ لِسانيَّةٍ، ولكنَّها عالمٌ مسحورٌ، مشحونٌ بحمولاتٍ ثقافيَّةٍ جبَّارةٍ، تتقاطَعُ فيها خطوطُ الدِّينِ والفلسفةِ والتَّاريخِ والأدبِ والعاداتِ والتقاليدِ… وكلُّها صعوباتٌ تجعلُ الوقوعَ في زَلَّاتٍ مُضحكةٍ أمرًا واردًا جدًّا.
وليس الغرضُ من إيرادِ تلك الطرائفِ السُّخريةَ من أحدٍ على الإطلاقِ، فهم مشكورونَ كلَّ الشُّكرِ على إقبالِهمْ على تعلُّمِ لُغةِ القرآنِ، وتجشُّمِهم عناءَ الرِّحلةِ في دُروبِها الشائكةِ، التي طالَما ألقتْ سالِكَها من العربِ نِضْوًا طَليحًا، كما أنَّ العربَ ليسوا بأمثلَ من غيرِهم عندَ تعلُّمِ لغاتِ الآخرينَ، بلْ لعلَّهمْ أكثرَ طرائفَ ونوادرَ، وإنَّما الغايةُ هي التَّعليمُ من جهةٍ، والتَّرويحُ المشروعُ من جهةٍ أخرى، وهي الفكرةُ العبقريَّةُ التي قامَ عليها البرنامجُ البريطانيُّ السَّاخرُ الشَّهير: (Mind your language)، حيثُ يجتمعُ في الفصلِ الواحدِ أصحابُ لُغاتٍ ودياناتٍ وثقافاتٍ مُتباينةٍ، وأثناءَ الدَّرسِ تفوهُ ألسنَتُهمْ بما يُضحِكُ الثَّكلَى، ويُسقِطُ الحُبْلَى، فتستحضرُ من تلك المشاهدِ أسطورةَ تَبلبُلِ الألسنةِ في بابلَ القديمةِ!
وليس الوقوعُ في هذه الزَّلاتِ دَليلًا على ضعفِ القُدراتِ العقليَّةِ للمتعلِّمِ، فقد يقع فيها قائدٌ كبيرٌ، أو سياسيٌّ محنَّكٌ، أو مُخترِعٌ عبقريٌّ، وقديمًا نقلتْ كتبُ التُّراثِ الأندلسيِّ أنَّ أميرَ المُرابطينَ وسُلطانَ المغربِ الأقصى يوسفَ بنَ تاشفينَ (ت500هـ) الذي كان بربريًّا لا علمَ له بالشِّعرِ، ولا قدرةَ له على فهمِ رَوائِعِه؛ لأنَّه لم ينغمسْ في الثقافةِ العربيَّة، فلمَّا دخلَ الأندلسَ، وتمكَّنَ من النَّصرِ المؤزَّرِ على النَّصارى في موقعةِ (الزَّلَّاقة) عام 479هـ وفدَ إليه الشُّعراءُ يُنشدونَهُ مَدائِحَهم، فقال له المعتمدُ بنُ عبَّادٍ: أيعلمُ أميرُ المسلمينَ ما قالوا؟ قال: لا أعلمُ، ولكنَّهم يطلبونَ الخُبزَ! ولمَّا انصرفَ عن الأندلسِ إلى حضرةِ مُلكِهِ بالمغربِ، كتبَ إليه المُعتمدُ رسالةً بليغةً ضمَّنها بيتَي ابنِ زيدون (ت463هـ) في نونيَّتِه الشَّهيرة:
بِنْتُمْ وَبِنَّا، فَمَا ابْتَلَّتْ جَوَانِحُنَا
شَوْقًا إِلَيْكُمْ، وَلاَ جَفَّتْ مَآقِينَا
حَالَتْ لِفَـقْدِكُمُ أَيَّامُنَا، فَغَدَتْ
سُودًا، وَكَانَتْ بِكُمْ بِيضًا لَيَالِينَا
فلمَّا قُرِئ عليه هذانَ البيتانِ، قال للقارئِ: يَطلبُ منا جواريَ سُودًا وبيضًا؟ قال: لا يا مَولانا، ما أراد إلَّا أنَّ ليلَهُ كانَ بِقُرْبِ أميرِ المسلمينَ نهارًا، لأنَّ لَياليَ السُّرورِ بيضٌ، فعادَ نهارُهُ بِبُعْدِه ليلًا؛ لأنَّ أيامَ الحُزنِ ليالٍ سودٌ، فقال: “والله جَيِّدٌ، اكتبْ له في جوابِه: إنَّ دُموعَنا تجري عليه، ورُؤوسَنا تُوجِعُنا من بعده!
ولنْ أسوقَ في هذا المقالِ شيئًا من السَّيلِ العَرِمِ منَ الأخطاءِ التي يقعُ فيها المتعلِّمونَ على اختلافِ مُستوياتِهم، فهذا ممَّا لا يكادُ ينحصِرُ، وقد كنتُ قَديمًا مُولعًا بتسجيلِها، مُعتزِمًا نشرَها في كتابٍ، فأحصيْتُ في ملفٍّ حاسوبيٍّ بضعةَ آلافٍ منها، ممَّا خطَّهُ الطُّلابُ بأيديهم، ثمَّ وجدتُ تحليلَ الأخطاءِ بابًا بحثيًّا واسعًا، سُجِّلتْ فيه مئاتُ الرَّسائلِ، ونُشرتْ فيه عشراتُ الكتبِ، وإنَّما سأكتفي بذكرِ عشرةٍ من المواقفِ التواصليَّةِ الطَّريفةِ، التي سَمِعْتُها بأذني، أو أخبرني بها بعضُ الثِّقاتِ:
(1) حدَّثني أحدُ الزُّملاءِ أنَّ عاملًا هِنديًّا كانَ يعملُ حلَّاقًا في إحدى الدُّولِ العربيَّةِ، وكانَ مُولَعًا بتعلُّمِ اللُّغةِ العربيةِ، حتَّى برعَ في التَّواصُلِ بها تمامًا، ومنْ عادةِ الحلَّاقينَ قضاءُ الوقتِ في التَّحدُّثِ مع المُحلِّقينَ رُؤوسَهمْ والمُقصِّرينَ، فكانَ الرَّجلُ يلتقطُ بعضَ الكلماتِ والتعبيراتِ الطَّريفةِ، فيحفَظُها مُباشرةً، ويحاولُ استعمالَها، لكنَّه للأسفِ كانَ يُوظِّفُها في غيرِ سِياقِها، فقد حفظَ تعبيرَ: (الرَّمقِ الأخيرِ)، وبينما كانتْ زوجَتُهُ تلدُ، سألَهُ أحدُ الأصدقاءِ: ماذا فعلَ اللهُ بزوجَتِكَ؟ فقال: هيَ الآنَ في الرَّمقِ الأخيرِ، يقصدُ أنَّها على وشكِ الوَضْعِ! كما حفظَ تعبيرَ (خالي الذَّهنِ)، وظنَّ أنَّ الذهنَ تعنِي الرأسَ، وفي يومٍ كانَ يحلقُ لرجلٍ أصلعَ، فسألَهُ أحدهم: ما تصنعُ الآن؟ قالَ: أحلقُ لرجلٍ خالي الذِّهنِ، يقصدُ خاليَ الرأسِ من الشعرِ! كما حفظَ تعبيرَ (شخصيَّات بارزة)، وبينما كانَ عائدًا يركبُ الحافلةَ، وكانتْ مُزدحِمَةً جدًّا، حتَّى إنَّ كثيرًا من الرُّكابِ كانُوا يُخرِجونَ رُؤوسَهم من النَّوافذِ، فاتصلَ به أحدُهم، وسألَه: أينَ أنتَ الآنَ؟ فقال: أنا أركبُ مع عددٍ من الشَّخصيَّاتِ البارزةِ! وذكرَ الزَّميلُ تعبيرًا رابعًا، لكنَّني نَسيتُهُ!
(2) كانَ يعملُ معنا أحدُ الزُّملاءِ من إندونيسيا، يُسمَّى (صاحبُ الدين)، وأصلُ اسمِه (شهابُ الدين)، لكنَّ الشِّينَ متعذِّرةٌ على ألسنةِ الإندونيسيِّينَ، وشِبهُ غائبةٍ في لُغَتِهم، فحرَّفُوها إلى سِهَاب الدِّين، ولا مَعنَى لها، فهداهُ عقلُه إلى تحويرِ اسمِه إلى (صاحبِ الدِّين)، وكان عِفريتًا من الجنِّ، لا تسألُهُ عن شاذَّةٍ ولا فاذَّةٍ من الأشياءِ إلا دَلَّكَ على مَوْضِعِها، وفي يومٍ طلبَ منهُ أحدُ الأساتذةِ المصريِّين شيئًا من المُنشِّطاتِ الجِنسيَّةِ؛ إذْ كانَ نازلًا في إجازةٍ، وكانَ قد جاوزَ السِّتِّينَ، لعلَّهُ يُصيبُ من امرأتِه شيئًا، فأتاهُ بما يُوقظُ الوَسْنانَ، ويروي الظمآنَ، ثمَ قالَ له: “هذه الأشياءُ ستَجعَلُكَ مثلَ الحِمارِ”، يقصدُ في القوَّةِ والصَّلابةِ، وهذا غيرُ مألوفٍ في لغةِ العربِ، فإذا تتبَّعْتَ تشبيهاتِ العربِ بالحمارِ وجدتَها لا تبرحُ دائرةَ الغباءِ وسوءِ الفهمِ والذلِّ، بينما يشبِّهونَ بالحصانِ أو الفرسِ في العزَّةِ والقوَّةِ والنَّشاطِ، فلمَّا بيَّنْتُ له الأمرَ عدلَ عن زيغِ مَنطقهِ إلى الصَّوابِ، فنجعَ دوائي معه، وإنْ كنتُ لا أدري أنجعَتْ مُنشِّطاتُه، أمْ لا؟!
(3) منذُ سنواتٍ حضرْتُ مؤتمرًا في جامعةِ (الرَّانيري) بإقليمِ (آتشيه) بإندونيسيا، الذي دمَّرهُ (تسونامي) عام 2004م، وكانَ مِنْ بينِ المَدعوِّينَ في الجلسةِ الافتتاحيَّة الأستاذُ أحمد دولت، رئيسُ مؤسَّسةِ الفُرقانِ في تايلاندَ، وقد ألقى كلمةً جيِّدةً فصيحةً شبهَ خاليةٍ من اللَّحنِ، في التَّشجيعِ على تعلُّمِ اللُّغةِ العربيَّةِ، لكنَّهُ للأسفِ أنهاها بقوله: “حتَّى يتمكَّنَ المُتعلِّمُ منَ الحديثِ بلغةٍ عربيَّةٍ نقيَّةٍ، لا لونَ لها ولا طعمَ ولا رائحةَ”، وهو يقصدُ نقيَّةً شفَّافةً مثلَ الماءِ، وأطنبَ بوصفِ الماءِ الطَّاهرِ كما وردَ في كتبِ الفقهِ، لكنَّ الوصفَ في مثلِ هذا السَّياقِ يعدُّ ذمًّا، فكأنَّها لغةٌ مَمسوخَةُ المعالمِ، كَطعامِ المرضى الخالي من التَّوابلِ، ورحمَ اللهُ مَنْ كانُوا يُشبِّهونَ بعضَ الكلامَ بالأبْزارِ والمِلْحِ والسُّكرِ، والمِسْكِ وَالعَنْبرِ!
(4) حدَّثني الدكتورُ عبد الرحمن شيك، وهو أستاذٌ ماليزيٌّ شهيرٌ، من الرَّعيلِ الأوَّلِ الذي حملَ رايةَ تعليمِ اللُّغةِ العربيَّةِ في ماليزيا، أنَّه لمَّا ذهبَ إلى الكُويتِ للدِّراسةِ في الثمانيناتِ سألَ سائقَ سيارةِ الأجرةِ: كمْ سيارة؟ فقالَ: سيارةٌ واحدةٌ، فجعلَ يُكرِّرها، والإجابةُ لا تتغيَّرُ، حتَّى اكتشفَ السَّائقُ من خلالِ لغةِ الجسدِ أنَّه يريدُ كمْ أُجرةُ السَّيارةِ؟!
(5) حدَّثَتْني الدكتورةُ سيتي سارة، عميدةُ كليَّةِ اللغةِ العربيَّةِ سابقًا، أنَّها لمَّا نزلتْ مصرَ للدِّراسةِ في جامعةِ الأزهرِ، أوائلَ التِّسعيناتِ، ذهبتْ إلى بقالةٍ في مدينةِ نصرٍ لشراءِ البيضِ، فَنَسِيتْ كلمةَ البيضِ بالعربيَّةِ تمامًا، فجعلتْ تقولُ للبائعِ (Egg)، فلمْ يَفْهمْ، ومستحيلٌ أنْ يعرفَ (Telur) بالملايويَّةِ، فجعلتْ تستخدمُ لغةَ الجسدِ، وتقولُ له: الشَّيءُ الذي يَنزلُ من دُبُرِ الدَّجاجةِ، فاستخدمتْ ستَّ كلماتٍ، والمشكلةُ أنَّ الرَّجُلَ لا يعرفُ ما هو الدُّبُرُ؟ ولولا الإشارةُ إلى شيءٍ مُستديرٍ يُشْتَرى ويُؤكَل؛ لَذهَبَ وَهْمُهُ إلى ذَرَقِ الدَّجاجِ!
(6) حدَّثني أحدُ الزُّملاءِ أنَّه سألَ طالبةً ماليزيَّةً تدرسُ في جامعةِ الأزهرِ: أينَ كُنْتِ اللَّيلةَ المَاضيةَ؟ فقالتْ: “كنتُ في الغُرفةِ مَعَ صَديقي”، فأساءَ الأستاذُ الظنَّ بها، وذهبَ عقلُهُ إلى أنَّها كانتْ تَقْضِي ليلةً حمراءَ مع رجلٍ، وقال: أجئتَ من بلدِكِ لِتقضِي اللَّيلَ مع صديقك؟! والحقُّ أنَّ الطالبةَ تقصدُ (صديقتي)، لكنَّ المشكلةَ أنَّ اللُّغةَ الملايويَّةَ لا تُفرِّقُ بينَ المُذكَّرِ والمؤنَّثِ إلَّا بالنصِّ على أنَّهُ مؤنثٌ صراحةً، بأنْ تقولَ: (kawan perempuan saya)، وكأنَّها حرفيًّا صَديقَتِي الأنثى. ومنَ المفارقاتِ أنَّه بعد مُضيِّ نحوِ خمسةَ عشرَ عامًا على هذا الموقفِ، دَعَتْنِي الطَّالبةُ ذاتُها إلى حضورِ حفلِ زِفافِها الذي كانَ أوَّلَ أمسِ السَّبت في “كوتا كينابالو”، التي نَختَصِرُها عادةً إلى (KK)، لكنَّنِي اعتذرْتُ لِطُولِ الشُّقَّةِ وهو يوم عملٍ عندنا، نسألُ اللهَ أنْ يُباركَ لَهما وعَليهما، وأنْ يجمعَ بينهما في خيرٍ.
(7) في إطارِ الاستعدادِ لليومِ الرِّياضيِّ، وتجهيزِ مَلابِسِه، جاءتْ إحدى الطَّالباتِ إلى غُرفةِ أحدِ الزُّملاءِ المصريِّينَ، وسألتْهُ: “يا أستاذُ، ما مَقاسُ اللِّباسِ؟”، فاحمرَّ وجهُهُ خَجلًا، وقد قصدتِ الدَّلالةَ المُعْجميَّةَ الأصليَّةَ المذكورةَ في قولِه تعالى: (يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ)، لكنَّ وَهْمَهُ ذهبَ إلى الدَّلالةِ الاجتماعيَّةِ العُرفيَّةِ في مصرِ، والتي تكادُ تقصرهُ على اللِّباسِ الدَّاخليِّ السَّاترِ للعورةِ!
(8) في أوَّلِ أيامِ عَمَلِي في بروناي، كُنَّا في مؤتمرٍ أو وَرْشةِ عملٍ، فقال لي أحدُ الأصدقاءِ إبانَ الاستراحةِ: هيَّا نذهَبُ إلى المُرتَّباتِ، فقلتُ لهُ: وهلْ نتسلَّمُ الرَّواتبَ من الخزينةِ يدًا بيدٍ كما كنَّا في مصرَ حتَّى وقتٍ قريبٍ؟ لقد علمتُ أنَّها تنزلُ تلقائيًّا في الحسابِ البنكيّ! ثمَّ اكتشفتُ أنَّه يُريدُ المُرطَّباتِ، التي تُنطَقُ بصيغةِ اسمِ الفاعلِ أو اسمِ المفعولِ، ولكلٍّ وَجْهٌ، وهي ترجمةٌ مٌناسِبَةٌ لكلمةِ (Refreshment) التي تُقالُ في هذا السِّياقِ عادةً.
(9) استقبلني أحدُ الأساتذةِ منْ قدامى المُسْتعرِبينَ الإنجليزِ في جامعةِ إكستر (Exeter) على بابِ المعهدِ بقولِه: (تَكْس سيِّء)، فقلتُ: نعمْ، سَيِّءٌ وبَغيضٌ، فذهبَ ذِهْني حسبَ نُطْقِهِ إلى الضَّرائبِ (Tax)، وكنتُ أيَّامَها في معركةٍ حاميةٍ مع مجلسِ المدينةِ؛ كيْ لا أدفعَ (Council tax)، ثمَّ اكتشفتُ أنَّهُ يُريدُ: الطَّقسُ سَيِّءٌ، فقدْ كانَ يومًا شديدَ البُرودةِ! ثمَّ قالَ لي: أريدُ منكَ خدمةً، فقلتُ: تفضَّلْ، فأتى بِجزءٍ من كتابِ (ألف ليلة وليلة)، وقد توقَّفَ فيه أمامَ أحدِ التَّعبيراتِ التي لم يَفْهَمْها، ووجدتُهُ قدْ ملأَ هوامشَ الصَّفحةِ بالقلمِ الرَّصاصِ، بما تمخَّضَتْ عنه مُحاولاتُ بحثِهِ عن معنى الكلمةِ في المعاجمِ، فنظرتُ إليها، ثمَّ ضَحِكتُ؛ لأنَّ الكلمةَ التي يبحثُ عنها وقعَ فيها تصحيفٌ أو خطأٌ طباعيٌّ، أذهبَ نقطةَ الخاءَ فصارتْ حاءً، وجعلَ المِسكينُ يبحثُ عنْ كلِّ البدائلِ المُمكنَةِ لفهمِ المعنى بحرفِ الحاءِ، وما هُوَ بِبَالِغِه، فقلتُ لها: أصْلُها كذا، وهي كلمةٌ واضحةٌ جدًّا، فجعلَ يُقلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى ما أنفَقَ فيها!
(10) حدَّثني أحدُ الأساتذةِ أنْ طالبةً كتبتْ إليهِ: (أريدُ أنْ أُقبلكَ، يا أستاذَ)، فقالَ في نفسهِ: حُبًّا وكرامةً، وتمنَّى لوْ فَعَلتْ، ثمَّ اكتشفَ أنَّها تقصِدُ: أنْ أُقابِلَكَ، فقالَ أحدُ الحاضرينَ: والله، هي أحسنُ حالًا ممَّنْ قالَ لي أثناءَ المُحاضرَةِ: (اسمَحْ لي أنْ أُقطِّعَكَ، يا أستاذُ)، يقصدُ: أُقاطِعَكَ!
وختامًا، فإنَّ الدارسَ لأيِّ لغةٍ ينبغِي أنْ ينغمسَ في ثقافَتِها، وأنْ يقفَ على طرائقِ أهلِها في التعبيرِ، التي سمَّاها الأوائلُ سُنَنَ العربِ في كلامِها، وبخاصَّةٍ في المَصْكُوكاتِ التَّعبيريَّةِ (Idioms)؛ حتَّى لا يقعَ فيما وقعَ فيهِ مَنْ أرادَ أنْ يُترجِمَ التعبيرَ المِصريَّ الشَّائعَ عند عقدِ القرانِ: فلان “كتبَ كِتابَه”، فترجَمَها إلى: (He wrote his book)، وهو ما يستحيلُ أنْ يفهمَ منهُ الإنجليزيُّ معنى عقدِ القرانِ، أو فيما وقع فيه مَنْ أرادَ أن يترجِمَ التعبيرَ الإنجليزيَّ الشَّائعَ عند المطرِ الغزيرِ: ( (It is raining cats and dogs، فقالَ: “إنَّها تُمطِرُ قِططًا وكلابًا”، وهو ما يُصيبُ العربيَّ بالرُّعبِ، أو يجعلُهُ يستلقِي ضَحِكًا من غرابةِ التَّعبيرِ.