ترجمات

فن الإنصات: كيف تصغي بفاعلية؟

مستوحاه من مقالة لـــ آلان دو بوتون

ترجمة: محمد محمَّد خوامل

 

ينتاب البعض منا شعور مزعج بأننا مقصرون في الإنصات للآخرين وهنا سنخبرك بأن لا تنزعج فالإنصات للآخرين حِمْلٌ ثقيل، فلا تعتقد أنه بالضرورة شيء جيد أو قيم. في السطور التالية سنوضح لك كيف يصبح الإنصات شيء رائع وممتع لك ولرفيقك المتحدث.

ولأننا نريد أن نجعل الحديث بيننا وبين الآخرين أكثر امتاعًا فإننا نعتقد بأنَّ ما يجعلنا نعيش تلك اللحظات الرائعة هو محاولة تقليل فترة إنصاتنا وزيادة فترة حديثنا. لكن هل فهمنا هذا حقًا صحيح؟

بالتأكيد هنالك متعة في سماعنا لأصوتنا ونحن نتحدث لكن في الواقع متعة الحديث الحقيقية لا تكمن هنا، بل في فهمنا لذواتنا وكيف نصبح أكثر وضوحًا حيال أنفسنا ومشاعرنا وما نريده، وما قد نفعله لاحقًا، تكمن تلك المتعة الحقيقية في وضوحنا الذاتي لا في مجرد سماعنا لأصواتنا.

 

ما هي أفضل طريقة لفهم أنفسنا؟

والوضوح الذاتي لا يكمن في حديثنا فقط وهو ما نميل نحن للاعتقاد به، وضوحنا الذاتي بعيد عن هذا كل البعد؛ فأحيانًا تكمن أفضل طريقة يمكننا بها فهم أنفسنا في انصاتنا لقصصِ الآخرين.

قد يبدو أنَّ هذا مجرد هراء وشيء يتعلق بالمشاعر يمكن التشدُّقُ به، لكن في الواقع هذه هي الحقيقة وهناك مجال نعرفه جيدًا يثبت ذلك: إنه الأدب. فالروايات هي حكايات عن أشخاص آخرين لكن مع ذلك لا نمانع في قراءتها والاستمتاع بها لأنها أيضًا في أحسن الأحوال تعلمنا شيئًا عن أنفسنا.

لذلك ليس لدينا مشكلة لقضاء ساعات طويلة نقرأ لآخرين أمثال تولستوي أو بروست أو فيرجينيا وولف وهم يسردون لنا أفكارهم ومغامراتهم، وللمفارقة فإنه لا مشكلة لدينا بأن نبقى صامتين وأن لا ننبس بكلمة واحدة عن أنفسنا لأننا حينها نكون منهمكين بحيوية في فهم أجزاء من ذواتنا في صفحات تلك القصص.

وهذا ما أكده مارسيل بروست بقوله : “في الواقع يجد كل من يقرأ رواية ما جوانب من حياته الخاصة في تلك الرواية، لذلك الأحرى به أن يكون ممتنًا لتلك الجوانب التي قدمها له الكاتب”.

قد نرد على هذا بالقول إن هذا كله شيء عظيم جدًا، لكن المشكلة تمكن في أنَّ الشخص العادي الذي علينا أن ننصت له أقل امتاعًا من مارسيل بشكل كبير جدًا، وهذا ما يجعلنا ننصت تمامًا كلما قرأنا رواية في حين نصم آذاننا عن الاستماع لحكاية شخص عادي.

 

معضلة أسلوب السرد:

إلا أنَّ هؤلاء العاديون الذين حولنا أكثر روعة مما نظن إذا عرفنا كيفية الاستماع لهم وتنقيح ما يقولونه بطريقةٍ مناسبة. وما يجعلنا نقرأ لما نسميهم الكتَّاب الكبار هو اتقانهم مهارة جعل قصصهم الخاصة قصص تلامس وجدان الجميع حتى حينما يتحدثون عن أنفسهم حيث يخرجون من البعد المحلي المحصور إلى البعد العالمي.

فربما يحكون قصة ما عن طفولة إحدى قريباتهم أو رحلة ما إلى الغابات، لكنهم يحشون في بطن تلك القصة البعد العالمي، فحينما تقرأ تلك القصة تجد أنها ليست مجرد حكاية خاصة بأحدهم بل حكاية أشمل تروي صفحات من قصة البشر، وهكذا فإنهم لا يكتبون عن أنفسهم فقط بل عنَّا أيضًا.

في الحقيقة جميعنا نعيش تفاصيل حكايات عاشها البشر، إلا أنَّ معضلتنا تكمن في طريقة سردنا تلك التفاصيل فنميل لسردها بطريقة سيئة جدًا، فنبقى محصورين في تفاصيل محلية واستطرادات غير ضرورية مما يجلب الملل للمستمع ويجعله لا يتقبل الاستماع لنا، الخطأ لا يكمن في نوعية الحياة التي نعيشها، بل في طريقتنا في سرد تفاصيلها ولأننا نسرد تفاصيلها بطريقة سيئة فإننا ساعدنا في خلق شك ملازم لنا كلما توجب علينا الاستماع لحديث أحدهم.

 

بعض التصرفات الخاطئة التي نمارسها كلما هممنا بسرد حكاياتنا:

1 – حينما نتحدث عن تجاربنا فإننا نصبُّ تركيزنا على التَّفاصيل الواقعية فنتحدث عن الأزمنة والأماكن والتفاصيل الخارجية، لكننا لا ندرك أنَّ المتعة تكمن في حديثنا عن مشاعرنا تجاه الحدث، وليس الحدث نفسه.

2 – غالبًا نمر بتجربة عاطفية ما، لكننا بدلًا من الحديث عنها فإننا نجعلها تغمرنا ونصر عليها لتنهشنا من الداخل، حيث نكرر تباعًا “لقد كانت رائعة حقًا” أو “لقد كانت أكثر شيء إخافة في العالم”، لكننا لا نتحدث عن تفاصيل تلك التجربة لجعلها تعيش في عقل أحدهم.

3 – في الوقت الذي نأخذ على أنفسنا عهدنا أن نبدأ بالاستمتاع بسرد قصصنا يكبلنا الرُّعب، فنخاف من مشاعرنا حيث نراها تهديدًا باستدعاء مشاعر لا يمكن السيطرة عليها من الحزن أو التشوش أو الحماس، لذلك نلجأ للحديث عن الأشياء السطحية.

4 – ثم إننا لا نركز على حكاية واحدة، فهناك الكثير من الحكايات في رؤوسنا، ثمَّ أننا نستمر في فتحِ الباب لحكاياتٍ فرعية جديدة.

 

كيف أكون مستمعًا جيدًا؟

لكنَّ المستمع الجيد حينما يستمع لحكاية ما من حكايتنا مسرودة بتلك الطرق الغير ملائمة فإنه لا يتضايق، بل يحاول أن يقوم بعمل المحررين، فالمستمع الجيد هو ذلك الذي يعمل مثل عمل المحرر في دار النشر. خذ مثالًا في العلاقة بين الكاتب الأمريكي ريموند كارفر ومحرره الذي يعيش في نيويورك غوردون ليش. حيث يقوم الأخير بالكثير من التحرير والتنقيح لكتابات الأول، أو بعبارة أخرى يستمع له كثيرًا بطريقة تحولية وابداعية، وهذه الطريقة من الممكن أن تعلمنا فنّ الإنصات في حياتنا العادية.

غالبًا ما يعزِّز ليش ثقة كارفر من خلال جعله يشعر بأنَّ العالم يستمع له وأنَّ كتابته لها قيمة، حيث يقدم له المكافئ التحريري لما يمكن أن نسميه في المحادثة النظر عن كثب في عيني أحدهم بحنية ومشاركة وجدانية.

اعتاد ليش على منع كارفر من الانزلاق الى التفاصيل الخاصة المملة، ليلبس تجاربه في الريف الامريكي بعدًا عالميًا، وهذا ما صنع شهرته الممتدة الآن من كوريا إلى ألمانيا. كما منعه أيضًا من الانحراف عن موضوعه الرئيسي بجعله يصب تركيزه على موضوع واحد فقط في كل قصةٍ يكتبها.

 

ماذا ينبغي علي فعله كمستمع؟

وما علينا فعله كمستمعين هو أن نحذو حذو ليش وما فعله لكارفر، فحين ننصت لأحدهم يمكننا أيضًا الصياغة والتوقف والتأكيد من أجل إخراج تلك القصة الكامنة بشكل جيد من عقل المتحدث. فعندما تستمع لرفيق ما يحدثك بحديث ما عليك أن تمنعه من الانحراف عن موضوعه الرئيسي، من خلال قول أشياء مثل “قبل دقيقة كنا نتحدث عن …..”، أعده إلى آخر نقطة حية عاطفيًا ومترابطة في القصة. اسحبه بعيدًا عن التفاصيل السطحية المملة إلى حقائق عاطفية أعمق, اسأله: كيف كان شعورك تجاه ….؟

دعه يسرد أشياء غريبة وعجيبة، استخدم الإشارات التي تدل على أنك منفتح على حديثه، فربما يكون على وشك القول بأنه يشعر بالانجذاب لإحدى قريباته، أو ربما يخبرك بأنه سرق مالًا من شركةٍ ما. لا تفعل شيئًا قد يغلق باب ذلك الاعتراف قل له “استمر” فأنت لست بقاض، أنت صديق.

المستمع الجيد يعلم أنَّ إحدى أفضل الطرق لفهم قضية ما في حياة أحدهم هو سماعه يحكيها من خلال قصة شخص آخر، بالإضافة إلى وجود حس التنقيح لديه ليكون من المؤكد ايجاد نفسه في قصص الآخرين. وبهذه الطريقة فالإنصات لن يكون مجرد عمل روتيني نقوم به، بل قد يكون أكثر شيء ممتع يمكننا القيام به.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى