ترجمات

التنميط دمَّر منظومة التَّعليم.. كيف نصلح المنظومة التعليمية؟

كين روبنسون:

كين روبنسون

 ترجمة: حسين مديحج

لقد ولدنا جميعًا بقدراتٍ يصعب سبْر أغوارها، وما نفعله بها يتعلق بكل شيءٍ له صلة بالتَّعليم، ويتمثل أحد أدوار التعليم في مساعدةِ النَّاس على تنميةِ مواهبهم وقدراتهم الطَّبيعية؛ والأمر الآخر مساعدتهم على شقِّ طريقهم في العالم من حولهم، وفي كثير من الأحيان يقع التعليم بين البينين، وفي الوقت الذي نواجه فيه مستقبلًا محمومًا بصورةٍ متصاعدة، يحسنُ أن نقومَ بعملٍ أفضل حتى نسارعَ في تغيير منظومةِ التعليم، فلدينا الموارد والخبرات، وما ينقصنا هو الرؤية والالتزام.


ما الفرق بين التعلم والتعليم والمدرسة؟

في كتابي “أنت وطفلك والمدرسة” فرَّقت بين التَّعلم والتعليم والمدرسة، فالتَّعلم هو اكتساب مهارات وفهم جديد؛ والتعليم هو نظام تعليمي منظَّم, في حين أنَّ المدرسة هي مجتمعٌ من المتعلمين.. جميع الأطفال يحبونَ التعلم، والعديد منهم يعانون صعوبة في التعليم، والبعض الآخر يواجه تحديات كبيرة مع المدرسة.


مشكلة التحيز في المنظومة التعليمية:

عادة لا تتجسد المشكلة في المتعلمين، بل في التحيّز المتأصل في منظومةِ التعليم، وثقافة المدارس المفروضة، ولأجيال متعاقبة كان التَّعليم الرسمي منحازًا بشكل منهجي نحو أشكال ضيقة من القدراتِ الأكاديمية، أسفرت عن تجاهل كبير للتنوع المدهش في المواهبِ والاهتمامات الإنسانية.


كيف أثر السياسيون على المدارس؟

في الجيل الماضي على وجه الخصوص، كان السَّياسيون يخنقونَ المدارس في ثقافة محبطة للمطابقة القياسية/ التنميط (standardization)، ونتيجة لذلك، قاموا بتهميش القدرات التي يحتاجها أطفالنا لخلق عالم أكثر إنصافًا واستدامة – أعني بها الإبداع والمواطنة والتعاطف والتعاون.


بعض إمكانات الإنسان:

على حدّ معرفتنا، الإنسان هو أكثر المخلوقات إبداعًا على ظهر البسيطة، فلقد وُهِبنا قوى عميقة من الخيال، وقدرات مادية لاستيعاب تخيلاتنا في لغات ونظريات واعتقادات تتسم بالتعقيد، وكذلك الحال مع الأشكال المحسوسة من التكنولوجيا والهندسة المعمارية والزراعة والفنون والعلوم وغيرها من الأمور.

تكمن المعضلة في أننا خلال الثلاثمائة سنة الماضية، قمنا بإنشاء حضارات شوشت علاقتنا مع البيئة الطبيعية، وهي الآن تعرّض بقاءنا كنوع للخطر، وتفرض علينا تحديات وجودية.. لدينا قدرات هائلة للابتكار، لكن الساعة تدق، والتعليم هو المفتاح الوحيد لإطلاق العنان لهذه القدرات – ليس نظام الاختبارات المتعثر المتعارف عليه، بل أشكال التعليم التي تتقصد صقل هذه الممكنات الفريدة والاحتفاء بها.


ما يجب على المدارس تطبيقه:

تتقاطع ثقافاتنا ومجتمعاتنا بصورة وثيقة، ومع ذلك، اُبتليت الإنسانية في مختلف أقطار العالم بخصومات تحزبية مميتة، ومنظومة التعليم ليست سببًا فيها، وليست الحل النَّاجع لها أيضًا، ولكنها ينبغي أن تكون جزءًا من الحل، ولكي تكون كذلك، فعلى المدارس أن تدرّس وتطبّق فوائد المواطنة، ومحو الأميّة الثقافية، وقيم التراحم، كما أنَّ للفنون والعلوم الإنسانية قيمة مضافة في هذا السياق.

كذلك يجب أن يتعلم أطفالنا أنه لا يمكن المضي قدمًا بالمغامرة البشرية إلا من خلال أشكال معقدة من التعاون، فقبل عدة سنوات، أدرت حدثًا مع الدالاي لاما (Dalai Lama), وأثناء تعرضه لأحد محاور اللقاء طُرح عليه سؤال استوقفه لبرهة من الزمن، ثم نطق قائلًا: “لا أعرف! لم أفكر في ذلك من قبل.. ما رأيك؟”..

هذا أحد أعظم المدرّسين في العالم يقول بمنتهى السعادة “لا أعرف”، فقد كان يدرك أنه لا أحد يمسك بأكثر من بضع خيوط صغيرة من النسيج الكثيف للمعرفة البشرية، كما قال المنظر الثقافي العظيم كليفورد جيرتز (Clifford Geertz)، نحن كبشر معلقون في شبكات ذات أهمية نسجناها بأنفسنا، فنحن نعتمد على معارف الآخرين حتى نبقى على قيد الحياة بكلِّ الطرق، ولكن نظامنا التعليمي لا يتأسس على التعاون، بل على التنافس.


كيف تدعم التكنولوجيا الثقافة والإبداع؟

لطالما كانت الثقافة والإبداع مدعومتان بالتكنولوجيا، فالأدوات المهمة تقوم بأمرين؛

أولًا: توسع من نطاق وصولنا المادي، لكن الأدوات التحويلية تفتح أذهاننا كذلك، فالمحراث سهّل من تقليب التربة، وفي النهاية قلب طرق الحياة بأكملها.

يعد انتشار التقنيات الرقمية أفضل دليل حديث على إمكان التعاون، ففي الإمكان أن تكون التغيير الأكثر شمولًا وتبعية في تاريخ البشرية – وهي خطوة تغييرية محتملة في تطورنا كنوع، إضافة إلى كونها تغيّر السياق الذي نعلم فيه الناس، والغايات التي نعلّمهم من أجلها، كما أنها تستطيع دعم التدريس وجعل منظومة التعليم أكثر حيوية وأكثر تشاركية، وللتمثيل تعد ويكيبيديا أكبر تأليف من المعارف البشرية تمَّت تجربته على الإطلاق، وهي تعاونية بالكامل وتصحح نفسها بنفسها.

الأدوات المتوفرة لدينا الآن مذهلة، وما زلنا في مرحلة مبكرة جدًا من تطورها، ومع تطور الذكاء الاصطناعي وتنامي تأثيره، سنضطر إلى سؤال أنفسنا عن ذلك المعامل الواضح الذي يجعل منا بشرًا، والصفات التي علينا الاحتفاء بها.

لدينا الآن فرصة لإعادة التفكير في النظام البيئي للتعليم بأكمله، كما إننا بحاجة إلى إعادة اختراع المدارس، فهناك حركة متنامية في التعليم البديل.

ثانيًا: يتعلق الأمر ببناء مدارس تقدّر البعد الاجتماعي للتعلم والنشاط العملي، حيث تعطي قيمة متساوية للفنون والعلوم، وتكرس نفسها لتهيئة الظروف المناسبة لتعلم الناس، ولجعل التعليم أكثر عضوية وتفاعلية وأقلّ شكلية، كما يدرك القائمون عليها أنَّ المدارس يجب أن تعزز شهية الشباب الطبيعية للتعلم، وأن تكون مبدعة ورحيمة وديمقراطية وتعاونية، وذات طابع شخصي وعضوي.

إنَّ الحركة نحو إضفاء البعد الشخصي (personalisation) في الطب تتقدم بالفعل، وينبغي أن نتحرك بالتعليم سريعًا في ذات الاتجاه كذلك، فلدينا الأدوات والمواهب الاحترافية، وينقصنا إثارة الدافعية والرؤية والتفاؤل والالتزام السياسي، فهذه أيضًا مهمة أخرى للتعليم.

المصدر
wired

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى