تزكية

رمضان.. قراءة في أسفار الجوع والعطش

في أول ساعة من ساعات هذا الشهر القمري، يفتح ما يربو على مليار إنسان، أكثر من مليار نسخة من كتاب واحد، يحوي محاور عدة، أحدها محور القصص. وستكون القصة الأولى التي يواجهون أحداثها في الصفحات الأولى، هي أعظم قصصه على الإطلاق!

ذلك أنها تحكي المشاهد الأولى لوجود الإنسان الأول.. وتتحدث عن فلسفة وجوده ومركزيتها بين الموجودات على صفحة الوجود.

ذلكم هم المسلمون.. وذلك هو القرآن الكريم.. وتلكم هي قصة آدم عليه السَّلام، وحادثة أكله من الشَّجرة.

وسنكتفي هنا بالإشارة إلى جزء القصة الذي له علاقة بهذا الشَّهر الكريم.

وهو “الأكل من الشجرة” ذلك أنَّ هذا المشهد -على قصره- كثيف الدلالات.. فهو يشير ضمن أمور عديدة، إلى مصدر تحديد المفاهيم، وتكوين التصورات، ورسم المسارات، والوجهة الوحيدة والمصدر الأوحد لتلقي الأمر والنَّهي: {وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ} (البقرة:35). وهو مصدر ينبغي أن يكون غير منازع في هذه الخصائص من أحد، فكما أنه لا ينازعه أحد في دعوى الخلق، فلا ينبغي أن ينازعه أحد في حقِّ الأمر، كما قال سبحانه: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ ۗ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ ۗ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ } (الأعراف:54).

ثم نترك هذه الإشارة المفتاحية على عجالة، لننتقل لقصة الأكل التي ستجلب، حين تمارس، بمعزل عن الأمر الشرعي، عدة شرور:

أولها: البعد عن ستر الله والتعري عن ألطافه، والعُلوق في أوحال الغواية، قال تعالى: { فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ ۚ وَعَصَىٰ آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَىٰ } (طه:121).

ثانيها: الوقوع في حبائل الشيطان، كما تقع النحلة في حبائل العنكبوت، وانظر لهذه الصورة التي ترسم معالم العلاقة بين الآدمي وبين إبليسه حين يترك ساحة التكريم، وينساق خلف الأوهام التي يصورها له إبليسه الذي ينفذ إليه من خلال تحبيب الشهوات المرموز لها بالأكل من غير الحل: {فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَٰذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ (20) وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ (21) فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ ۚ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ ۖ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ} (آل عمران:20-22).

ثالثها: الهبوط عن جنة السعادة إلى حضيض التعاسة، فما وقع عبد في معصية، وما تقحم منهيا عنه إلا تلقفته غيلان الشقاء، ومضغته بأنياب الهموم والمتاعب، كما قال تعالى: { قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا ۖ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ۖ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَىٰ (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ} (123-124:طه).

وقال تعالى: { وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِير} (الشورى:30). وقال تعالى: ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} (الروم:41).

ap رمضان.. قراءة في أسفار الجوع والعطش

حكمة وأحكام

ولعل الحكمة من كون أول اختبار للإنسان كان متمحورا حول الأكل- أن يدرك الإنسان مركزية وخطورة أحكام الأكل والشرب، ويصبح متهيئا ذهنيا ونفسيا وبدنيا للتعامل مع المساحة النصية الشاسعة التي شغلتها الأحكام الشرعية المتعلقة بالمأكولات والمشروبات والبيوع، وغيرها من المعاملات التي لها صلة بها، والتي شغلت حيزًا واسعًا من أبواب الفقه، مقارنة بغيرها من الأبواب.

من أجل ذلك تطالعنا تعقيبات ذات صلة بموضوع الأكل عقب الذكر الثاني -بحسب تسلسل السور- لقصة آدم والأكل من الشجرة، حيث يقول سبحانه: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ * قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} (الأعراف:31-32).

وبالعمل وَفْقَ الأحكام الشرعية، يضمن المسلم الأكل والشرب الحلال الذي يصبح إحدى الطاعات التي تجعل المسلم قريبا من ربه؛ حدا يؤهله ليكون مستجاب الدعوة، قال صلى الله عليه وسلم: “أَيُّها النَّاسُ، إنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ لا يَقْبَلُ إلَّا طَيِّبًا، وإنَّ اللَّهَ أمَرَ المُؤْمِنِينَ بما أمَرَ به المُرْسَلِينَ، فقالَ: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} (المؤمنون:51)، وقالَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} (البقرة: 172)، ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أشْعَثَ أغْبَرَ، يَمُدُّ يَدَيْهِ إلى السَّماءِ، يا رَبِّ، يا رَبِّ، ومَطْعَمُهُ حَرامٌ، ومَشْرَبُهُ حَرامٌ، ومَلْبَسُهُ حَرامٌ، وغُذِيَ بالحَرامِ، فأنَّى يُسْتَجابُ لذلكَ؟!” (صحيح مسلم).

فانوس رمصان

الصوم صعود ثانٍ

والإسلام، في طريقه لتهذيب النفس البشرية وترقيتها في مراقي الإيمان، لم يكتف بمطالبة أتباعه باجتناب الحرام فحسب، بل رفعهم منزلة أعظم من تلك.. فطالبهم في بعض أحكامه بترك المباح، حتى تبتعد النفوس بالكلية عن الحدود الملتبسة بين الحلال والحرام.. وفي هذا السياق كان الصيام.

وإن سياحة فؤاد المؤمن في آفاق آيات الصيام، لكفيلة وحدها أن تفتح عليه أبواب المعارج ليبدأ رحلة الصعود في مراقي التقوى، حتى يصل إلى مرتبة الشهود، حيث لا منزلة أعلى من منزلة: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ ۚ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (آل عمران:18).

هذه المنزلة العلوية التي سيبدأ الإقلاع إليها من التخفف من زينة الشهوات التي ذكرت أماتها في قوله تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ۗ ذَٰلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} (آل عمران:14).

وستكون الأعمال التي ذكرت في الآيتين اللتين تفصلان بين هاتين الآيتين هي الروافع التي ستصعد بالمؤمن من قاع الشهوات إلى سماء الشهادة.

ولا شك أن من أجلِّ الأعمال التي ترفع مكانة المؤمن عند ربه هي عبادة الصوم، حتى إن الحق سبحانه أفرده بسياق خاص، يشي بالقرب منه سبحانه، لا تشاركه فيه بقية العبادات، “قالَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: قالَ اللَّهُ: كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ له، إلَّا الصِّيَامَ؛ فإنَّه لي، وأَنَا أجْزِي به، والصِّيَامُ جُنَّةٌ، وإذَا كانَ يَوْمُ صَوْمِ أحَدِكُمْ فلا يَرْفُثْ ولَا يَصْخَبْ، فإنْ سَابَّهُ أحَدٌ أوْ قَاتَلَهُ، فَلْيَقُلْ: إنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ. والذي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بيَدِهِ، لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِن رِيحِ المِسْكِ. لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ يَفْرَحُهُمَا: إذَا أفْطَرَ فَرِحَ، وإذَا لَقِيَ رَبَّهُ فَرِحَ بصَوْمِهِ” (متفق عليه).

The Holy Quran open A رمضان.. قراءة في أسفار الجوع والعطش

عبادة العولمة المؤمنة

أول ما يطالع المرء وهو يتلو آيات الصيام بعد النداء الأعظم حبًّا في جنبات هذا الوجود {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ} هو صيغة الأمر “كتب” والذي يبدو أنه يرتبط بالأوامر الشاقة، كالقتال والقصاص.. وإذن فهذا التصدير يشير إلى أن الصيام، بصيغته الشرعية التامة، سيكون أمرا شاقا، لا يطيقه إلا من أفلت من سلطان هواه وشهواته.

وثاني الإشارات في الآية هي عالمية هذه العبادة، ذلك أنها عبادة تتغيا فيما تتغياه، تقليم أظافر الطغيان الإنساني الذي يصنع الفلسفات، التي تبيح للطغاة نهب ثروات الشعوب والأمم الأخرى، إرضاء لشهوة التكاثر.. ومتى صامت الأمة عن الحلال الذي بين يديها، فإنها ستكون أزهد فيما بين يدي الآخرين..

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ} (البقرة:183).

وتنتصب التقوى ثالثة هذه الإشارات في ختام الآية الأولى من آيات الصيام، كما ينتصب الهدف في غاية كل عمل، لتبين الغاية العظمى من الصيام، { لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}. وحيث تكون التقوى، تكون كل فضيلة، وحيث تكون التقوى، يكون كل بر، وحيث تكون التقوى، يكون الإنسان الذي لا يحتاج لسلطان ليضبطه، ولا لقانون ليلزمه، من أجل ذلك جعل الإسلام الصيام هو ضمير المسلم، الذي يقوم في قلبه مقام السلطات، والرقيب الذي يعاير سلوكه، ولو أدى لتنازله عن حقوقه، والباعث الذي يجعل عطاءه أحب إليه من أخذه، ” وإذَا كانَ يَوْمُ صَوْمِ أحَدِكُمْ فلا يَرْفُثْ ولَا يَصْخَبْ، فإنْ سَابَّهُ أحَدٌ أوْ قَاتَلَهُ، فَلْيَقُلْ: إنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ”

ولقد كان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم هو النموذج الأمثل لتمثل كل قيم الصيام، كما كان النموذج الأمثل لتمثل كل قيم الدين، حيث لم يكن تدينه مجرد أداء عبادات منبتة عن عالم الناس والتخفيف عن أكتاف المتعبين وإشاعة السعادة في قلوب المحرومين، وإنما كان تدينه عليه الصلاة والسلام أخذا بمعالي الأمور من كل أطرافها، يروي ابن عباس رضي الله عنهما حديثا جليلا نختتم به هذه التناولة يوضح كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان، يقول: “كانَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أجْوَدَ النَّاسِ، وكانَ أجوَدُ ما يَكونُ في رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ، وكانَ جِبْرِيلُ يَلْقَاهُ في كُلِّ لَيْلَةٍ مِن رَمَضَانَ، فيُدَارِسُهُ القُرْآنَ، فَلَرَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ أجْوَدُ بالخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ المُرْسَلَةِ” (متفق عليه).

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى