تزكية

وَضَح الرُّوح في تلمُّس خفايا الحِكَم

إنَّ العبدَ في حالِ اشتِغالِهِ عن غَفلاتِه وزلاتِه برحماتِ الله المُنزَلة.. يرى عجزه أمام رحمةِ الله مُتمثلًا بكُل نُقطة قوةٍ فيه أعجبته، والعبدُ دونَ التوكُلِ هالِك، ودونَ إحسانِ النيةِ أمره فاسد، وإن من فضلِ النية ما أورده ابن الجوزي-رحمه الله – “إن بلغَ همي مُرادَه.. وإلا فَنيةُ المؤمنِ أبلغُ من عملِه”(1)  ، فالنيةُ إن صَلُحَت كاملةً كانت أحسنَ وأخير.

**

أنهيتُ قبلَ قليلٍ مُراجعةَ أعمالٍ كانت في الأشهر الماضية، وكُنتُ قد جعلتُ لي فيها أعمالاً أنجِزها، وأهدافًا أُحققها، وهي أقربُ لأن تكون أهدافًا معنوية لا مادية إلا في قليلٍ منها، والمعنويُ بالضرورة ينطبعُ أثره على المادي، وهي النتيجة التي أردتُ ورُمْتُ مُشاهدتها، وكُنتُ قد انشغلتُ بطُرقِ إصلاحِ الشأن الذي أردته اشتِغالًا مُضنٍ.. يأكُل من الوقت جله، ويأخذُ من قُدرةِ الجهد أكثره، ويأخذ من الفكرِ كله.. وعلى الاشتغالِ الذي كان، والتخطيطِ الذي سَبق، والفِكرِ الذي أُعمِل، إلا أنَّ الأمور في تلك المرحلة كانت قد تسلّطت عليَّ تسلطًا ما عهدته في حياتي قط، فما رمت حاجةً إلا تعسّرت علي، ولربما انعكسَت النتيجة التي ابتغيت، وما سلكتُ طريقًا إلا ولت حاجتي لغيره، فأعجزتني الحيل، وطفقتُ أفتِشُ عن حلٍ فلا أجد، فلجأتُ إلى الله لُجوءً كنتُ أحسبُ أني بلغتُ أَحسَنه، وطلبتُ نُصحَ أُناسٍ رأيتُ منهمُ الفضلَ السابغ، والعلمَ الوافِر، والخبرةَ الواسِعة، فانتبهتُ لأمورٍ غَفلتُ عنها، فأضفت على الذي كان شيئًا، وأنقصتُ منه آخر، ورتبتُ ونسقت، وأجملتُ وفَصلت، فأدركتُ بدايات الذي استحال، وانتبهتُ على أمورٍ أولتُها بُشرى كالتي يزهو به المنتصرُ لمّا يختتم نصره، وحسبتُ أني أحكمتُ قبضتي أيما إحكامٍ على نتيجةٍ مضمونةِ النجاح، فزَهوتُ زُهوًا تعاظَم في نفسي، على أنَّ النتيجةَ لم تُدرك بعد.. ، فما بقيَّ عليَّ في مرحلةٍ كالتي وصلتُها إلا أن أرى النصرَ في الذي بدأت، وما تخيلتُ لحظةً غيرَ الإدراكِ لِجُلِ الذي أردت..

ثُم دارَتِ الرَحى، فما وصلتُ لمرحلة التمام هذه حتى فسدَ الأمر بكبره، وبعظمِ الوصول الذي كان فيه، وانقلبَ البناء على رأسِه، وخُذِلت خُذلانًا شديدًا لا أزالُ أتجرعُ مرارته لساعتي هذه.. وما رأيتُ أصلحَ لِحالي من قولِ الشاعر:

إذا تمَّ شيءٌ بدا نقصهُ….ترقب زوالاً إذا قيلَ تم

إذا تمَّ شيءٌ بدا نقصهُ

ترقب زوالاً إذا قيلَ تم

فمكثتُ أيامًا أتصنعُ لِلنفسِ عافِيتَها، فأبتْ عليَّ النفس إلا المرض، وأخذتُ في مُدارةَ الأمور مآخِذَ عديدة علّ المُحرَزَ القديمَ يعود.. فازدادَ بُعدًا، وازددتُ كربًا، وانقلبتْ عليَّ نفسي انقلابًا شديدًا حتى غدت الدُنيا في وجهي سوداءَ مُكفهِرة، وطلبتُ الموت وأكثرتُ في طَلَبه، ورأيتُ أني على شارِفِ هلاكٍ لا أعلمُ قرارَ قاعِه..

كان الحال قد وصلَ بي إلى أن أخرج إلى الشارع فأتعجبُ من رؤية الناسِ تروح وتجيء، تبسمُ وتضحك.. تُحَدِّثُ، وتنصِت، وما بي حسدٌ لهم، إلا أنه العَجَبْ.. إذ والله كانت الدنيا في عيّنَي سوداءَ مُعتِمة!

وألا واللهِ إن الحال الموصوفَ في الذي كتبته على أنه كان شُهورًا معدودات، إلا أنهُ في نظري جاوزَ سنينَ يوسف، ويوسف -عليه سلامُ الله- نبيٌ مُؤيد، ابن نبيٍ مؤيد.. وما أنا إلا عبدٌ ضعيفٌ قاربَ الهلاك؛ إلا أنَّ الله عزَّ وجل أكرمُ مِن أن يدَع عبدًا ببابه عاجِزًا، فهداهُ عن طريقِ آخَرٍ بآخرين سَبقوا، فأرى الله عبدهُ نفسه في آياتِه…!

**

Photo of sunrise view from Mount Uhud Medina Saudi Arabia وَضَح الرُّوح في تلمُّس خفايا الحِكَم

إن للتربيةِ أسرار، وللتجربةِ أنوار، ولخوضِ المعامعِ ثِمار..

على أنَّ الرماةَ يوم أحد رِضوان الله عليهم كانوا قد عصوا أمر الرسول ﷺ فتركوا موقِعهم، وعلى الرغم من القتلِ الذي استفحلَ في عامة الجيش بسبب التخاذل الذي حَصل، إلا أن الكريم عفا عنهم، وحذّرهم العودةَ للعصيان، وأنباهم دروسًا وعِبرًا بليغة، وخَرَّجَ لهم حِكمًا كثيرةً لا نزالُ ننهل منها ليوم الناسِ هذا..

إن الرماة لما نزلوا عن جبلِ عينين ما كان قصدهم عِصيان النبي ﷺ أو مخالفة أمره، وإنما أرادوا جمعَ الغنائم، إذ أن النصر قد تَكَشّفَ، وبان الفَيْء لهم، وظنوا أن الحرب درات دورتها على المُشركين فأثنتهم، وأرجأتهم عن الساحة وقد امتلأوا خوفًا ووجلًا.. فنزلوا عن الجبل، فدارت الرَحى، وقَضى الله أمرًا كان مفعولًا.

انتهتِ الحرب، استشهدَ من استشهد، وثبتَ من ثبت، وفرَّ من فرّ، وغَنِمَ من غَنِم، وخسِرَ من خَسِر، ثُم أنزلَ الله سُبحانه وتعالى حِكَمهُ، وقضى بِأمره، وتنزلتِ الآياتُ في أحد بِسياقٍ طويل كعتابٍ دافئ، وتربيةٍ مُحكمة، وحكمةٍ مُعلنة، وترضيةٍ، وتسرية، وتخويفٍ، وتطمين، وتذكير، وتأويل، وهي الآياتُ في سورة آل عمران من الآية (151-180).

وهي مُتصلاتٌ بعضها ببعض، لا تنفكُّ الأولى عن الأخيرة، آياتُ الله المُحكمات فيهن من الحكم الكثير.. أذكرُ ما هزّني إذ طابقَ الحال، وجارى مُرامَ المآل، يقولُ تعالى  “ولقد صدقكم الله وعده إذ تَحُسونهم بإذنه حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعَصيتُم من بعدِ ما أراكُم ما تُحبون منكم من يريد الدُنيا ومنكم من يريد الآخرة ثُم صرفكم عنهم ليبتليكم ولقد عفا عنكم والله ذو فضلٍ على المؤمنين”, إنَّ الله يصدق عباده وعده، حتى إن حلَّ العِصيان، أراهم سوأته لكيلا يعودوا، وليقضيَ الله أمره، وابتلاهم تمحيصًا واختبارًا، وعفا عن العصيان، وذكّرهم فضله الدائم عليهم.

ثُم ذكر سبحانه وصفَ الحاصِل بعد العصيان والتذبذب في قوله عزَّ وجل “إذ تُصعِدون ولا تلوُونَ على أحدٍ والرسولُ يدعوكم في أُخراكُم فأثابكم غمًّا بِغمٍ لِكيلا تحزنوا على ما فاتكُم ولا ما أصابكم والله خبيرٌ بما تعملون”, يصفُ سبحانه تقهقرَ بعض المسلمين من الجيش إلى المدينة والمزارعِ أعلى موقعةِ أحد، ووصفَ حالَ الرسول ﷺ في دعواه الجيش للتوحدِ بعد الفرقة، ثُم ذكرَ عزَّ وجلّ ما أصاب الصحابة الكِرام، إذ أصابهم غماً بِغم، وكأنه سبحانه يقولُ لهم بفراركم عن نبيكم ، وفشلكم عن عدوكم ، ومعصيتكم ربكم، جُزيتم غماً على غم..

ثُم يُتبِع الله فيقول سبحانه “ثُم أنزلَ عليكم من بعدِ الغمِ أمنةً نُعاساً يغشى طائفةً منكم وطائفةٌ قد أهمتهُم أنفُسُهُم يظُنُونَ بالله غيرَ الحقِّ ظنَّ الجاهليةِ يقولون هل لنا من الأمر من شيء قُل إنَّ الأمرَ كُلَّهُ لله”, بعدَ المُصابِ من الغم الحاصِل، جعلَ الله المؤمنين طائفتين، فالطائفةُ الأولى أنزلَ عليهم أمنةً نُعاسًا، ووردَ عن أحدِ الصحابة قوله إن السيف سقطَ من يده مِراتٍ على أثرِ النُعاس. فالنُعاسُ في موقعِ حرب كان رحمةً وطمأنينةً أنزلها سُبحانه على من اجتباه، أما الطائفةُ الأخرى، فآخَذَهُم الله بسوءِ ظَنِهم، آخذهم الله بظنِ الجاهلية الذي ظنوه، إذ قالوا أن مالهم من أمرِ هذه الحرب شيء، وغفلوا عن أن الأمر لله كله، من قبل ومن بعد، الأمرُ لله نصرًا كانت النتيجة أم خسارة، فالقولُ الذي وردَ في حقِ النبي الأكرم سيدنا محمد ﷺ، يكون الصحابة حقيقينَ به أيضًا، وكل مصلحٍ حقيقٌ به، إذ قالَ تعالى “ليس لك من الأمر شيء”. ثُم ذكّرَ الله عباده بشرِ الشيطان وجنايته عليهم، وبسوءة المعاصي وبيانِ أثرها على العبد في أموره، فكأنه سبحانه اعتذرَ عنهم لهم، فعفا عنهم، وذكّرهم مغفرته وحلمه، قال تعالى: “إنَّ الذينَ تولوا منكم يوم التَقَى الجمعَانِ إِنَّمَا استَزَلَّهُمُ الشيطانُ ببعضِ مَا كسبُوا ولَقَد عَفا اللهُ عنهُم إِنَّ اللهَ غفورٌ حلِيم”.

يا لجمالِ عفو الله، يا لكرمِ الله ما أعظمه، إنَّ الله ذو مغفرةٍ واسِعة، وذو فضلٍ عظيم؛ كُنت بعد الذي سمعتُ ذاهِلاً، عَجِباً، مُتأمِلاً بحذق.. فرَجعتُ لنفسي حيثُ ابتدأت، وأخذتُ في تقديرِ الأمورِ تقديراً آخر، على غيرِ الذي قدرت وعلى غير المُنحنى الذي فيه تمَّ الأمرُ وقُضي، إذ أن المعركةَ انتهت.. أو هي إحدى جولاتها، فرُحتُ ألتَمِسُ الغنائِمَ بعدما ولت الجيوش، رُحتُ أتلمَسُ غنائِم الهزيمة، إذ لربما كان النصرُ في طياتِها أوسَع..!

إني كُنتُ لمّا غُيّبتُ في التفاصيلِ نُسّيتُ الواقِعَ الأكبر الحاوي لها، كالنّاظِرِ بعينِ المجهر، لا يرى إلا ما يُقابِلُ بَصره عَميٌ عما سِواه، فهذهِ أولى المصائبِ التي حلّت.

ثانيها: أني ذكرتُ توجُهي لله وطلبي منه المعونة.. فهممتُ مُحققًا في أصلِ نيةِ العمل، فرأيتُ أنه كان على حرف، وقلبتُ صحيفةَ النوايا فوجدتُها مُختلطةً خيراً بِشَرّ مُضمرٍ شحيح، فما عَلمتُ إن كان الأَخيرُ للأولِ أَغلَب! فنظرتُ في طلب المعونة الذي كان والتوكُل الذي حَصل، فرأيتُه توكُلاً غُلِّبَتْ فيه الأسبابُ على المُسبب، وأمعنتُ فعلمتُ أن القلب لمّا رأى الجوارِحَ أخذت بالأسبابِ أخذاً قوياً تُطلبُ معه الغايةُ بِتمامِها.. توانى في صدقِ التوَكُل، ولاحَ فيهِ طيفٌ بعيدٌ لِصنمِ الـ “الأنا” فعلمتُ أن انقلابَ الأمرِ، وفساده، والخُذلان العظيم الذي تَلاهُ، إنما كان كـَيَمينِ إبراهيم ﷺ التي راغت على الأصنامِ فجعلتهُا بَدداً جُذاذاً مُحَقّرين.

ثالِثُها: كانَ أني لمّا رأيتُ تراميَ أطرافِ النجاحِ في الأُفق، أيقنُتُ بحصوله.. فجررته جرًّا أسقطه عليّ، وحطّم أجزاءه فغدت مُفتتةً أمامي لا أملك من أمرها شيء، وغفلت عن أن الخيمةَ تُرفعُ رويدًا، والدولةُ لا تقومُ إلا على قويمِ البناء، ورصينِ الأساس، وكأني ما علمتُ أنَّ سحب الخيطِ قبلَ اكتمالِ النَظمِ فيه يُفسِدهُ؛ إلا أن قضاء الله لا يُردّ.

ورابِعها: كان أني غَفِلتُ عن أن الإسهابَ في السُقيا يُهلك الزرع، إلا أن هاوِ الزهرة.. جادَ عليها، والجوادُ لا يرضى أن تكونَ السواقي للذي فضّلَ واختص! فأبى إلا أن يجود بالنهر.. فجاد، فتمزقت على إثرِ تيّارِه، فلا هي ملَكت تماسُكًا، ولا هو شاءَ وقَدّر.

ثُم إني لمّا عجزتُ بدايةً وتوجهتُ لِمنَ أعلمُ جودةَ رأيه، وفَضلَ عِلمه، رأيتُ أني أخذتُ منهم الذي أحتاج، ورأيتُ أمري نالَ منهم خيراً جزيلاً، فترددتُ عليهم مرةً واثنتين، وثلاثةً وأربع، ثُم خَشيتُ الإثقال، فكرهتُ العودة إذ شعرتُ بعظيمِ حَرج، فانسحبتُ رُويداً، واكتفيتُ بِعامِ الذي يُعَلِمونَ، فكُنت كمن احتفرَ بئراً حلوةً ماءه، ثُم رَدمهُ دونَ عِلة؛ وهذه الخامِسة؛ وهذا الذي انتبهتُ إليه، ولا أشُكُ أن لله حِكماً أعظم، وليّ من الجَرائِرُ أكثر.. إلا أني وإن خالطَ القلب أسى ومرارة، فإني أرى الرِضى أسّرى فيهِ وأشيع.. فاللهم تمامَ الرِضى، فإنَّ في النفسِ جِراحاتٍ ما نَضِب أساها، وعَجِل اللهم العوضَ بالذي تراهُ أجمَلَ وأنسَب، وعلَّ نصراً كنصرِ الأحزابِ آتٍ، وعلَ غنائِمًا كغنائمِ خيبر…

maxresdefault 4 وَضَح الرُّوح في تلمُّس خفايا الحِكَم

إني رأيتُ المُسلِم في كُلِ أمره مُفتَتن، إذ أن الله هداهُ السَبيلين، فإن سَلكَ طريق الهُدى افتُتِنَ بالمُغريات أو توانى بِثِقَلِ المَكارِه؛ وإن سلكَ طريقَ الضلال كانت فِتنته أعظم، إذ عائدٌ على الجادّةِ أم مُستَمِرٌ في حيادِه عنها؟ وطائعٌ هواه، أم عاصٍ له، وعارفٌ يعصي مَن هو؟ أم جاهلٌ بالذي يعصيه؟ ثُم جُعِلَ للعبدِ في أهله وماله فِتنة، فإن انبسطَ رزقه، وكثُرَ أهله، كان الانبساط والكثرة فتنة ليرى اللهُ ماذا يفعل.. أيكفُر أم يشكُر؟ فإن انقبض وقل كان فتنةً أيجزعُ أم يصبر؟ وفي الأمور كلها تراهُ مُفتَتن، فإما يصبر ويشكر، وإما يجزعُ ويكفُر، وإما تائبٌ عائد، وإما مُصّرٌ ذاهِبْ، وعُلّمنا هذا في آخرِ آيةٍ اختُتِمَ بها سياقُ ذكرِ أحد، إذ قالَ تعالى “مَّا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَىٰ مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىٰ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ”, ومثله وردَ في سورةِ العنكبوت في قوله تعالى “أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُون” , والمعنى تكرر في غيرِ آيةٍ أُخرى، ما مِن مؤمنٍ إلا وهو في بلاءٍ خفيٍ كانَ أو ظاهر.

وما يَعلمُ العبد أشقيٌ هو أم سعيدٌ في أُمِّ الكِتاب، فالمرءُ على وَجلٍ ألا يُختمَ له بالصلاح وهو يُحاول للذي يحسبه خيرًا تَلَمُسًا، وخسارةٌ في الدُنيا وانقلابُ حالٍ جائزُ التغيير، ولا خسارةٌ في الآخرة لا تغَيُر لِحالِها إذ انقَلَب، ولولا رحمةُ الله لَيأِسنا أيما يأس، ولَمَا زِلنا في انحدارٍ أبدَ الدهرِ لا تقومُ لنا قائِمة، إلا أن الله كتبَ على نفسِه الرحمة، وانظُرِ اللطفَ في قولهِ تعالى “وَإِذَا جَاءَكَ ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِـَايَٰتِنَا فَقُلْ سَلَٰمٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَىٰ نَفْسِهِ ٱلرَّحْمَةَ أَنَّهُۥ مَنْ عَمِلَ مِنكُمْ سُوءًا بِجَهَٰلَةٍ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِۦ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُۥ غَفُورٌ رَّحِيم”. جاءَ في تفسيرِ البقاعي -أحسنَ الله إليه- قوله: (وإذا جاءك) وأظهر موضع الإضمار دلالة على الوصف الموجب لإكرامهم وتعميمًا لغيرهم فقال: {الذين يؤمنون} أي هم أو غيرهم أغنياء كانوا أو فقراء، وأشار بمظهر العظمة إلى أنهم آمنوا بما هو جدير بالإيمان به فقال: {بآياتنا} على ما لها من العظمة بالنسبة إلينا {فقل} أي لهم بادئًا بالسلام إكرامًا لهم وتطييبًا لخواطرهم, {سلام عليكم} أي سلامة مني ومن الله، ونكره لما يلحقهم في الدنيا من المصائب؛ ثم علل ذلك بقوله: {كتب ربكم} أي المحسن إليكم {على نفسه الرحمة} ثم علل ذلك بقوله واستأنف بما حاصله أنه علم من الإنسان النقصان، لأنه طبعه على طبائع الخسران إلا من جعله موضع الامتنان فقال: {أنه من عمل منكم سوءاً} أي: أيّ سوء كان ملتبسًا {بجهالة} أي بسفه أو بخفة وحركة أخرجته عن الحق والعلم حتى كان كأنه لا يعلم شيئًا {ثم تاب} أي رجع بالنَّدم والإقلاع وإن طال الزمان، ولذا أدخل الجار فقال: {من بعده} أي بعد ذلك العمل {وأصلح} بالاستمرار على الخير {فإنه} أي ربكم بسبب هذه التوبة يغفر له لأنه دائمًا {غفور} أي بالغ الستر والمحو لما كان من ذلك {رحيم} يكرم من تاب هذه التوبة بأن يجعله كمن أحسن بعد أن جعله بالغفر كمن لم يذنب، ومن أصر وأفسد فإنه يعاقبه، لأنه عزيز حكيم، “و يا عجيبَ الذي أُلهِم، إذ كيفَ كتَبَّ وفسّر؛ الحمد الله عظيم السِتر، عظيمُ المغفرة، دَللَّ الله على عِباده بالإيمان وهو أعظمُ مقصود على الرغمِ من المعصية، واعتذرَ عنهم لهم بالذي جُبِلَ عليه الإنسان من النقصِ والعَجلة التي أوردتهُ بالجهلِ للسَفهِ وسريعِ الحركة أو الخطرة والظن، وتابَ على الذي تاب.. عفوٌ كريم، خَاب وخسِرَ من عبدَ غيره، سُبحانه، لا معبودَ بحقٍ سِواه، ثُمَ أنَّ المُفسِرَ أتبعَ”, ولما أتى في هذه السورة وما قبلها بما أتى من عجائب التفاصيل لجميع الأحوال متضمنة واضح الدلالات وباهر الآيات البينات، قال عاطفًا على {وكذلك فتنا} عطفًا للضِدِ على ضِده، فإن في الاختبار نوع خفاء: [وكذلك] أي ومثل الفتن بإيراد بعض ما فيه دقة وخفاء من بعض الوجوه لنضل من نشاء، فيتميز الضال من المهتدي {نُفَصل الآيات} التي نريد بيانها ليتضح سبيل المصلحين فيتبع {ولتستبين} أي تظهرُ ظُهورًا بيّنًا {سبيل المجرمين} فتجتنب، وخص هذا بالذكر وإن كان يلزم منه بيان الأول، لأن دفع المفاسد أهم(2)” . إني ما ذكرتُ التفسيرَ بِطولهِ إلا لِعجَبي منه، إذ ما كُنتُ على اطلاعٍ أو معرفةٍ بتفسير البقاعي إلا بعد أن أشارَ عليَّ أحدُ الكُرماء به، ووصفَ المُفسرَ بِحرصهِ على التناسُب، وفهمه العميق للآياتِ وربطِ سِياقِها، ويقظتِهِ ووعيه في ذلك، فسبحان من علّمه، ما قرأتُ تفسيره ووقوفه على الآياتِ إلا خشعتُ مُتأمِلاً عَظمةَ الله، مُستشعِرًا حِكمةَ الله المُنزلة في كُلِ أمري..

وما هزتني كلمةٌ كما فعلت التي خَتمَ بِها  “لأنَّ دفع المفاسد أهم” وهي قاعِدةٌ فقهيةٌ عامةٌ شهيرة، وهي من الأصول، إلا أن وُرودها في موقعٍ كالذي أورده له معنى فيه كل الطرب، وهي ذاتُ الكلمة التي قالها لي شيخي في ذاتِ الأمرِ لما سألتُه، وفي المرتين كان لها في نفسي عظيمَ الوقع.. فالله الله عِبادَ الله في دفعِ المفاسِد، واعلموا.. لا شيءَ يعدلُ سلامةَ الصدر، فهي الأولى، ودفعُ المفاسِد أهم.

ولا يسعُ المقام إلا أن أختِمَ بالحمدِ أولًا وآخِرًا، وأن أرجو من الله ثباتًا وعفوًا، وفتحًا ومغفرةً، والحمد الله ربِ العالمين، والصلاةُ والسلام على المُعلمِ الكامل، رسولنا الكريم سيدنا وحبيبنا مُحمد ﷺ.

الهوامش:

1- ابن الجوزي- صيد الخاطر

2- نظم الدرر في تناسب الآيات والسور ص130- البِقاعي- بتصرف بسيط

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى