حفريات معرفية

إسلام بلا سنة!

رسولٌ من عند الله، أم ساعي بريد؟! (ج4)

عمدت إلى فصل الأدلة الثانوية لحجية السنة، تنزلاً عند تشغيب أصحاب نظرية ساعي البريد، إذ يقولون كيف تستدلون على حجية السنة بالسنة ونحن ننكر السنة ابتداء، فرأيت أن أفصل عرض البراهين القطعية التي يستلزم من إنكارها إنكار ضرورات الدين والعقل، وهي العصمة والقرآن والإجماع، ثم أتيت ببقية البراهين في مبحث تابع، لجلاء التأسيس العقدي والأصولي الإسلامي لقضية حجية السنة، باعتبارها قضية محورية من بدهيات الدين وضروريات الإسلام.

البرهان الأول: طلب المعصوم اتباع سنته

يُسلّم معنا كل مسلم أن محمداً معصوم، وأنه صادق فيما بلغ وأمر، فإذا تكاثفت أحاديثه وأوامره على اتباع السنة، فذلك برهان ساطع في حجيتها.

صحيح أن تلك الأحاديث الواردة جاءت آحاداً، إلا أن استفاضتها بتعدد الألفاظ وكثرة الروايات ودورانها حول معنى واحد، يجعل المعنى الكلي لها قطعي الورود قطعي الدلالة، (لأنّ الألفاظ الكثيرة إذا وردتْ من طرق مختلفة ورواة شتّى ومعناها واحد، لم يجزْ أن يكون جميعها كذبا، ولم يكن بدّ أن يكون بعضها صحيحًا)(1).ومن هنا بنى العلماء عليها برهان حجية السنة.

وقد يقول قائل إن الاستدلال بالسنة على حجية السنة يستلزم مصادرة على المطلوب كما يقول المناطقة، وهذا صحيح إذا ما ناوشنا ذلك الاستدلال دون مقدمات منهجية، بل نقول إن القرآن أسس لحجية السنة، وأسس لعصمة الأمر النبوي، ومن القرآن ننطلق لنستمع لما يقوله المعصوم حول السنة، وهل تساوق مع القرآن في إقرار حجيتها؟

t77 إسلام بلا سنة!

والنتيجة: أننا نجد خطاب المعصوم متسقاً مع الخطاب القرآني في محورية السنة في التشريع وحجيتها، وإليك طائفة من أقوال المعصوم صلى الله عليه وسلم:

1.قال صلى الله عليه وسلم: (فَإِذا أَمَرْتُكُمْ بشيءٍ فَأْتُوا منه ما اسْتَطَعْتُمْ، وإذا نَهَيْتُكُمْ عن شيءٍ فَدَعُوه ((2)

2.قال صلى الله عليه وسلم: (كُلُّ أُمَّتي يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ إِلّا مَن أَبى، قالوا: يا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَن يَأْبى؟ قالَ: مَن أَطاعَنِي دَخَلَ الجَنَّةَ، وَمَن عَصانِي فقَدْ أَبى)(3)

3.قال صلى الله عليه وسلم :(فمن رغب عن سنتي فليس مني)(4)

4.قال صلى الله عليه وسلم: (إنَّ كَذِبًا عَلَيَّ ليسَ كَكَذِبٍ على أَحَدٍ، مَن كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا، فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النّارِ)(5). ولولا أن حديثه تشريع لما غلظت العقوبة على الكذب، لأنها كذب في الدين. قال الشافعي: (فلما نَدَب رسول الله إلى استماع مقالته وحفظِها وأدائها امرأً يؤديها، دلَّ على أنه لا يأمر أن يُؤدَّى عنه إلا ما تقوم به الحجة على من أدى إليه؛ لأنه إنما يُؤدَّى عنه حلال وحرام يُجتَنَب)(6)

5.قال صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع: (ألا هلْ بَلَّغْتُ قُلْنا: نَعَمْ، قالَ: اللَّهُمَّ اشْهَدْ، فَلْيُبَلِّغِ الشّاهِدُ الغائِبَ)(7). قال البيهقي: (ولولا ثبوت الحجة بالخبر- لما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في خطبة- بعد تعليم من شهد أمر دينهم-: ألا فليبلغ)(8).

والأحاديث التي تؤكد هذا المعنى المحوري كثيرة، واكتفينا بهذه النبذة بغية الاختصار، وهي في مجموعها تقرر معنى متواتراً أن سنة النبي صلى الله عليه وسلم لازمة الاتباع، وأنها مصدر التلقي الثاني بعد القرآن الكريم.

البرهان الثاني: تعذّر العمل بالقران وحده

ما أسهل إطلاق النظريات الجوفاء التي لا تخضع للاختبار والتمحيص، ولو كانت النظريات العلمية تطلق بهذه الطريقة الباردة، لكان لدينا نظريات بعدد الهواة المتطلعين لمزاحمة أهل الجد والاجتهاد، ومن بين هذه النظريات الباهتة نظرية ساعي البريد، فقد قلت لأحدهم: إنكم تزعمون أن القرآن وحده مصدر التشريع، والأذكياء منكم يضيفون إليه السنة العملية المتواترة هروباً من فضيحة إنكار أركان الإسلام الأربعة، فهل تستطيع أن تصوغ لي تشريعاً متكاملاً لدين الإسلام من دون السنة؟

ودعنا نبدأ بالصلاة، فعلى رأي المتطرفين منكم، ففي أي قرآن نجد أن هذه الهيئة المخصوصة للصلاة من قيام وركوع وسجود وتسليم، وأين نجد أن صلاة الفجر ركعتين والظهر أربعاً والمغرب ثلاثاً؟ ولو تجاوزنا رأي المتطرفين إلى الأقل تطرفاً ممن يستثنون السنة العملية بزعمهم، فهل في السنة العملية قراءة الفاتحة أو التحيات أو غيرها من أذكار الصلاة، أيليق بنا أن نقوم بين يدي رب العالمين صماً لا نناجيه بشيء؟ وأنت تعلم أن هذا المحتوى الابتهالي للصلاة لم يرد إلا عن طريق السنة القولية؟ ثم إذا انتقلنا إلى الزكاة، أين نجد مقاديرها في القرآن أو في السنة العملية المتواترة، أم نقول للناس إن أقل مالاً يُدفع للفقراء كافياً لإسقاط الزكاة عنكم!

zakat islamic law إسلام بلا سنة!

والقرآن يأمرنا بالحج، ولكن أين السنة المتواترة التي تحدد مواقيت الوقوف وصفة الإحرام وما يجتنب فيه والقرآن يأمرنا بقطع يد السارق، فمن أين نقطعها، إلى غيرها من الأحكام الشرعية؟ (فجرد نفسك وعقلك عما ورد في السنة فهل يمكننا القيام بهذه التكاليف؟ وهل من المعقول: أن يكلفنا الله بتكاليف أخفاها عنا، وأعمانا عن مراده منها؟ ألا يكون ذلك: عبثا محالا أن يصدر عن الله سبحانه.؟!)(9).خاصة (وإنما في القرآن جمل لو ترُكنا وإياها لم ندر كيف نعمل فيها وإنما المرجوع إليه في كل ذلك النقل عن النبي صلى الله عليه وسلم وكذلك الإجماع إنما هو على مسائل يسيرة.. فلا بد من الرجوع إلى الحديث ضرورة)(10). (ولو أن امرأ قال لا نأخذ إلا ما وجدنا في القرآن لكان كافرا بإجماع الأمة.. ولو أن امرأ لا يأخذ إلا بما اجتمعت عليه الأمة فقط ويترك كل ما اختلفوا فيه مما قد جاءت فيه النصوص لكان فاسقا بإجماع الأمة)(11).

وكل من له أُنسة بفلسفة العلم، يدرك أن اختبار النظرية، وتطبيقها، أول شروط تماسكها وجديتها، ولذلك تموت النظريات التي لم تمر بمنشور الاختبار في مهدها، هذا إذا أسمينا هذا الهراء، نظرية في فهم الإسلام.

الهوامش:

  1. الفقيه والمتفقه، الخطيب البغدادي (1/495). 
  2. صحيح مسلم، حديث رقم: 1337. 
  3. صحيح البخاري حديث رقم:٧٢٨٠. 
  4. متفق عليه. 
  5. متفق عليه، وقال العيني (رواه مائَة من الصَّحَابَة – رَضِي الله عَنْهُم – وَقَالَ ابْن الصّلاح: َلَيْسَ فِي الْأَحَادِيث مَا فِي مرتبته من التَّوَاتُر، وَقيل: لم يُوجد فِي الحَدِيث مِثَال للمتواتر إِلَّا هَذَا). 
  6. الرسالة1/401. 
  7. متفق عليه. 
  8. دلائل النبوة 1/23. 
  9. عبد الخالق (ص:326). 
  10. الإحكام 2/79. 
  11. المصدر السابق2/80.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى