في قلب السرديات الكبرى للأديان، تقف قصة خروج بني إسرائيل من مصر كواحدة من أكثر الحكايات حضورًا وإثارة للجدل، ليس من زاوية الإيمان فقط، بل من منظور العلم والتاريخ والعقل.
في هذا المشهد القديم، نجد ثلاث روايات متجاورة:
• رواية التوراة وما تحمله من أرقام ضخمة.
• ونتائج علم الآثار التي تلزم الصمت غالبًا.
• وبيان القرآن الكريم المعجز والدقيق.
الرواية التوراتية: أرقام تلامس الخيال
تذكر التوراة في سفر العدد (1:46) أن الذين خرجوا مع موسى عليه السلام من مصر كانوا: 603,550 رجلًا محاربًا دون احتساب النساء والأطفال والكهنة (بنو لاوي). وبافتراض وجود أسر وأطفال، فإن الرقم الإجمالي يتجاوز على الأرجح 2 مليون نسمة.
وقد علل أبو المفسرين اليهود “راشي” (ت: 1040م) هذا التكاثر الاستثنائي، بأنها البركة الإلهية نزلت على العبرانيين حيث كانت النساء اليهوديات (يلدن ستة في بطن واحدة) (1) . وقد أراد “راشي” أن يُكحِّلها فأعماها، لقد أزال التباس العدد الخرافي بخرافة أن المرأة تلد في كل بطن 6 أولاد!
علم الآثار: حيث تصمت الأرض
ولو سلّمنا بصحة الرقم الضخم، وتحرك هذا الجمع المليوني عبر صحراء سيناء طوال أربعين عامًا، لكان من المحتم أن تخلّف هذه المسيرة آثارًا مادية واضحة، من مخلفات معيشية، ونشاطات بشرية، وتغيرات جغرافية محسوسة. ولكن على امتداد أكثر من قرن من التنقيب والبحث، لم يُعثر على شيءٍ يُثبت هذا الحضور الهائل. فالصحراء – التي تحفظ بصمات البشر لآلاف السنين – ظلت صامتة، لا تنطق بشاهد ولا تومئ بأثر.
وعلم الحفريات والآثار، رغم تقدمه، لم يجد أي دليل مادي يدعم رواية الخروج الجماعي الضخم:
1. ظل البروفيسور إسرائيل فينكلستاين(أبو علم الآثار التوراتية)، على مدى أكثر من ثلاثة عقود، يطوف بين أطلال مدن كنعانية وتلال توراتية، من تل مجدو شمال فلسطين، إلى خربة بيتين “بيت إيل” في قلب الضفة الغربية، ومن أريحا إلى النقب، ومن سيناء حتى تخوم دلتا النيل. قاد بعثات أثرية في أكثر من 40 موقعًا أثريًا، شملت أراضي فلسطين والأردن وجنوب لبنان، وامتدت تحليلاته إلى بيانات المقابر المصرية والنقوش المعبدّية، بحثًا عن أي خيط أثري يؤيد أو يفند الرواية التوراتية عن الخروج. وبعد تنقيب مضنٍ، وقراءة نقدية للتراكمات الطبقية، خرج بنتيجة قلبت الموازين، خلاصتها أنه لا يوجد أي أثر مادي لخروج بني إسرائيل (2).
وقد دعم موقفه بأدلة من غياب أي طبقة أثرية تعود إلى جيل موسى ويشوع في سيناء أو كنعان، فلا وجود لمخيمات أو أدوات أو مدافن تشير إلى أمة كانت تتنقل وتعيش في سيناء لعقود.
2. رغم اشتهار المصريين القدماء بتوثيق أدق تفاصيل حياتهم، من حملاتهم العسكرية إلى مواسم الفيضان، لم تسجّل آثارهم أيّ إشارة إلى حدث بحجم خروج جماعي لبني إسرائيل كما ترويه التوراة. وقد كان من سمات التدوين المصري أنّه يُركز على الانتصارات دون الهزائم، إذ لم يكن مقبولًا في العقيدة الفرعونية أن يُهزم الفرعون الذي يُعد إلهًا أو ابن إله؛ فالاعتراف بالهزيمة كان طعنًا في شرعيته الإلهية. ومع ذلك، فلو كان بنو إسرائيل يمثّلون فعلاً قوة بشرية هائلة تتحدى مصر، لكان من المتوقع – وفق منطق النقوش الملكية – أن ترد الإشارة إليهم في سياق النصر عليهم وسحقهم، على أقل تقدير.
الاستثناء الوحيد الذي ورد في السجل الأثري المصري هو ما يُعرف بـ لوحة “مرنبتاح”، المنقوشة في القرن الثالث عشر قبل الميلاد، والتي تُعد أول وأقدم ذكر معروف لكلمة “إسرائيل” في الوثائق غير الدينية. تقول اللوحة: (إسرائيل خُرّبت، ولم يعد لها نسل) (3).
وهو توصيف لا يدل على كيان قوي أو دولة ذات شأن، بل على مجموعة صغيرة تم سحقها، دون أن يُنسب إليها حتى اسم أرض أو مدينة، بخلاف بقية الكيانات المذكورة في النقش.
إن هذا الذكر الوحيد – رغم أهميته في إثبات وجود مجموعة تُدعى “إسرائيل” – لا يدعم السردية التوراتية التي تصوّر خروجًا جماهيريًا مهيبًا، ولا يمنح تلك الجماعة أي صفة سياسية أو عسكرية معتبرة في السياق التاريخي آنذاك.
الحساب الرياضي: حين يتحدث المنطق
دعونا نُخضع الرواية التوراتية لاختبار العقل ومنطق الأرقام، فالروايات لا تُقاس بروعتها البيانية فقط، بل بقدرتها على الصمود أمام المعايير العلمية.
تنص التوراة في سفر الخروج (12:40) على أن بني إسرائيل أقاموا في مصر أربع مئة وثلاثين سنة، بدءًا من دخول يعقوب عليه السلام مع أبنائه الاثني عشر وأحفاده، الذين بلغ عددهم – بحسب سفر التكوين (46:27) – سبعين نفسًا. غير أن هذا الرقم الزمني لم يحظَ بإجماع الباحثين، فقد خالفه عدد من أبرز علماء الآثار والتاريخ التوراتي، ومنهم عالم المصريات البريطاني كينيث أ. كيتشن، الذي يُعد من المدافعين عن بعض مصداقية النص التوراتي، إذ يرى أن المدة الفعلية للإقامة في مصر لا تتجاوز 250 عامًا، مرجّحًا أن الرقم 430 يشمل إقامة إبراهيم وذريته في كنعان ومصر معًا، لا في مصر وحدها(4) .
لكن، وحتى لو سلمنا بالرقم التوراتي الكامل (430 سنة)، واعتبرنا أن ذرية يعقوب بدأت من 12 رجلًا فقط، فإن المحصلة الإحصائية تكشف عن فجوة مدهشة. فلو طبقنا المعدل العالمي للنمو السكاني (1.03% سنويًا وفقًا لتقارير البنك الدولي لعام 2024)، وهي نسبة تتجاوز نسب النمو في تلك الحقب الغابرة حيث لا صحة إنجابية، ولا أدوية تقي الأطفال موجات الفيروسات والأمراض المميتة، ولو طبقنا نسبة النمو العالمية الحالية فسيصل عددهم بعد 430 عامًا إلى نحو 984 نسمة فقط. وحتى لو افترضنا سيناريو مفرطًا في الخصوبة، كحال اليهود في إسرائيل الحديثة الذين يبلغ معدل نموهم 1.8% سنويًا وفقًا للمكتب المركزي للإحصاء الإسرائيلي؟ [بحكم الهجرة وخصوبة المجتمع الديني في إسرائيل]، فلن يتجاوز العدد 25,747 نسمة في نهاية المدة.
وهذه الأرقام – برغم سخائها الإحصائي – تبقى بعيدة تمامًا عن الرقم التوراتي المذهل الذي ورد في سفر العدد (1:46): (كان جميع المعدودين… ست مئة ألف وثلاثة آلاف وخمس مئة وخمسين).
أي أكثر من 600,000 رجل محارب، ما يعني، وفقًا للتقديرات التوراتية نفسها، أن عدد السكان الكلي تجاوز المليونين.
وهكذا، ووفقًا لأدق النماذج الديموغرافية الحديثة، فإن هذه الرواية لا تصمد أمام الحسابات العلمية، وتبدو الأرقام التوراتية – في أفضل الأحوال – رمزية أدبية هدفت إلى تعظيم الحدث، أو مبالغات قومية داخل السردية اللاهوتية، لا يمكن دعمها بأي منطق ديموغرافي واقعي أو نموذج إحصائي حيادي.
وفقًا للتقديرات السكانية المستندة إلى دراسات أثرية وجغرافية، يُقدَّر عدد سكان مصر خلال عصر الدولة الحديثة (1550–1070 ق.م) بما يتراوح بين 2.5 إلى 3 ملايين نسمة، كما أشار الباحث كارل بوتزر في تحليله لقدرة الأراضي الزراعية على استيعاب السكان (5). ويُعد هذا الرقم الأعلى بين التقديرات العلمية المعتمدة لتلك الفترة، مما يجعل الادعاء بخروج أكثر من 600,000 رجل محارب من بني إسرائيل، بالإضافة إلى النساء والأطفال، أمرًا غير منطقي، إذ يُمثل ذلك نسبة كبيرة من إجمالي سكان مصر آنذاك، وهو ما لا تدعمه الأدلة الأثرية أو السجلات التاريخية المتاحة.
وعليه فإن العدد الواقعي للذين خرجوا مع موسى أنهم يعدون بالمئات، وخاصة إذا استحضرنا أن آلة القتل لأطفالهم لم تتوقف، قال تعالى : ﴿يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ﴾ (سورة البقرة: 49).
الرواية القرآنية:
عودنا القرآن الكريم، في سرده لأخبار الأمم السابقة، أن يمنحنا فقه العبرة من أحداث الماضي، دون أن يغرق في التفاصيل الدقيقة، إلا إذا كانت تلك التفاصيل تمثل مفاصل حيوية في الحدث، تسهم في فهم ما جرى. فهو لا يهدف إلى تحويل السرد إلى رمزية تجريدية، بل يعرض من خلال إشاراته الدقيقة معالمَ مهمة، تحمل في طياتها إعجازًا يمكن للبحث العلمي أن يستند إليه في تتبع بقية أجزاء الصورة، وصولًا إلى معالمها الكاملة.
ولكن الرواية القرآنية لم تخل من إشارات أخرى قد تهدينا إلى الحجم المعقول لبني إسرائيل آنذاك:
1. في سورة الشعراء، وعلى لسان فرعون، نقرأ: {إِنَّ هَٰٓؤُلَآءِ لَشِرْذِمَةٌۭ قَلِيلُونَ} [الشعراء: 54]، وكلمة “شرذمة” تعبّر عن جماعة قليلة مستضعفة، اقترنت دلالتها في الاستعمال العربي بالاحتقار والتفاهة، لا بمجرد القلة العددية. وقد ذهب المفسرون من الطبري وابن عطية إلى ابن عاشور أن فرعون استخدم اللفظ للتهوين من شأن بني إسرائيل نفسيًا ودعائيًا، لا لوصف عددهم الحقيقي. ولم تُحدِّد المعاجم عددًا ثابتًا للكلمة، وإن أشار بعضهم إلى أنها تُطلق على ما بين ثلاثة إلى ثلاثين. والقرآن، ببلاغته، عبّر بأدق لفظ عن الواقع النفسي والديموغرافي لبني إسرائيل في تلك اللحظة، دون أن يغرق في الأرقام كما فعلت التوراة.
وللأسف الشديد أورد معظم المفسرين الرواية التوراتية دونما تمحيص تعقيباً على هذه الآية، باستثناء الإمام ابن حزم الذي فند الرواية التوراتية وسخر منها، وبين أنها من أبرز تناقضات التوراة المحرفة (6).
2. ورد الأمر الإلهي إلى موسى عليه السلام: ﴿فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا إِنَّكُم مُّتَّبَعُونَ﴾ [الشعراء: 52]، والفعل “أسرِ” في لغة العرب مأخوذ من السُّرَى، أي السير في الليل خُفيةً. وهو أسلوبٌ يُستخدم عند الخوف من الرصد أو الملاحقة، ويقتضي قِلّة الخارجين وسرعة تحرّكهم، لا ضجيجَ الجموع ولا صخب القوافل الثقيلة. ومن ثمّ، فإن الرواية التوراتية التي تذكر خروج أكثر من 600,000 رجلٍ محارب – عدا النساء والأطفال – تُثير إشكالات علمية ومنطقية جمة؛ إذ كيف يمكن لهذا العدد الهائل (الذي يتجاوز 2 مليون نسمة) أن يتسلل ليلًا دون أن يشعر بهم أحد في دولةٍ مركزية محكمة كالفرعونية؟ بل كيف أمكن تأمين الغذاء والماء والتنظيم اللوجستي لمثل هذا الحشد الهائل في لحظة فرار؟
3. عندما بلغ بنو إسرائيل صحراء سيناء، واجههم الظمأ في أرضٍ قاحلة، عُرفت بندرة المياه منذ أكثر من عشرة آلاف سنة، وذلك بحسب ما يرجّحه علماء الجيولوجيا الذين يؤرخون تحول المنطقة إلى صحراء جافة مع نهاية العصر المطير الأخير(7).
فاستسقى موسى ربه لقومه، فجاء الأمر: ﴿فَقُلْنَا ٱضْرِب بِّعَصَاكَ ٱلْحَجَرَ ۖ فَٱنفَجَرَتْ مِنْهُ ٱثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا ۖ قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍۢ مَّشْرَبَهُمْ﴾[البقرة: 60]، فانفجرت منه اثنتا عشرة عينًا، لكل سبطٍ من الأسباط عينٌ تخصه، فلا نزاع ولا تزاحم. معجزة جمعت بين القدرة الربانية والتنظيم الاجتماعي، إذ “علم كل أناس مشربهم”، في مشهد يُثبت البُعد الواقعي والدقيق للرواية القرآنية، مقارنة بما تكتظ به النصوص الأخرى من مبالغات أو غموض رمزي.
4. عندما أراد موسى عليه السلام أن يكلّم ربّه، انتُدب من قومه سبعون رجلاً يمثلون خيار بني إسرائيل، كما ورد في قوله تعالى: ﴿وَٱخْتَارَ مُوسَىٰ قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًۭا لِّمِيقَـٰتِنَا﴾ [الأعراف: 155]. والمفارقة اللافتة أن العدد نفسه تكرر في بيعة العقبة الثانية، حيث بايع النبي ﷺ سبعون رجلاً من الأنصار، وهم الذين مثّلوا نواة الجيش المدني لاحقًا، والذي بلغ نحو ألف مقاتل في غزوة أحد. وإذا قسنا ذلك على السبعين الذين خرجوا مع موسى، فقد يمثلون عُشر قومهم في تلك المرحلة، في أعلى التقديرات، وهو ما يعزز الرأي القائل بأن عدد بني إسرائيل آنذاك كان بالمئات، وهو ما ينسجم مع وصف فرعون لهم بأنهم: ﴿شِرْذِمَةٌۭ قَلِيلُونَ﴾ [الشعراء: 54].
5. ومما يدحض الرواية التوراتية التي تفترض خروج مئات الآلاف من بني إسرائيل، أن القرآن الكريم ذاته يشير إلى أن الذين آمنوا بموسى عليه السلام لم يكونوا عامة بني إسرائيل، بل كانوا “ذريةً” منهم، كما في قوله تعالى:﴿فَمَا آمَنَ لِمُوسَىٰ إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ﴾ [يونس: 83].وقد التقط ابن عطية الأندلسي (ت: 542هـ) هذه الدقة البلاغية، فقال:«﴿فَمَا آمَنَ﴾ تُعْطِي تَقْلِيلَ المُؤْمِنِينَ بِهِ، لِأنَّهُ نَفَى الإِيمَانَ ثُمَّ أَوْجَبَهُ لِلْبَعْضِ، وَلَوْ كَانَ الأَكْثَرُ مُؤْمِنًا لأَوْجَبَ الإِيمَانَ أَوَّلًا ثُمَّ نَفَاهُ عَنِ الأَقَلِّ»(8) ، وهو ما يعزّز قول ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير “الذرية” بأنها القليل (9) .
وهكذا، تتكامل الإشارات القرآنية والقراءات البيانية في توضيح أن بني إسرائيل في مصر لم يكونوا عددًا ضخمًا، وأن من تبع موسى عليه السلام منهم لم يكونوا سوى قلة من القلة، ما يُسقط تمامًا الصورة التي تروّجها بعض التقاليد التوراتية عن شعب غفير، ويعزز الطابع الواقعي للرواية القرآنية.
6. أمر الله تعالى موسى عليه السلام بدخول الأرض المقدسة مع قومه، كما ورد في قوله تعالى: ﴿يَا قَوْمِ ٱدْخُلُوا ٱلْأَرْضَ ٱلْمُقَدَّسَةَ ٱلَّتِي كَتَبَ ٱللَّهُ لَكُمْ﴾ [المائدة: 21]. وقد تضمن هذا الأمر الإلهي وعدًا بالنصر بمجرد الدخول، دون الحاجة إلى قتال طويل أو حشدٍ عسكريٍّ كثيف.
ومن الناحية التاريخية والديموغرافية، تشير الدراسات الأثرية الحديثة إلى أن مدينة القدس – أورشليم – خلال العصر الحديدي الثاني (نحو القرن العاشر قبل الميلاد) لم تكن مدينة عظيمة، بل كانت مستوطنة محصّنة صغيرة لا تتجاوز مساحتها 11 إلى 12 فدانًا، مع عدد سكان يتراوح بين 500 إلى 1000 نسمة فقط، بحسب التقديرات الميدانية للخبير الإسرائيلي هليل جيڤا، أحد أبرز علماء الآثار المختصين في حفريات البلدة القديمة بالقدس. وتدعمه في هذه الرؤية التحليلية أعمال الباحث الأمريكي الراحل هيرشل شانكس (1930–2021)، الذي كرّس جهوده لعرض ونقد الروايات التوراتية من منظور أثري محايد (10).
بناءً على هذه المعطيات الدقيقة، فإن دخول مدينة كتلك لم يكن يستدعي جيوشًا جرارة، بل يكفي فيه جمعٌ من المقاتلين، وهو ما يُبيِّن واقعية الرواية القرآنية حين ربطت النصر بمجرد الامتثال للأمر الإلهي بالدخول، لا بخوض معارك ميدانية شاقة، في مقابل ما تطرحه السردية التوراتية من تصورات أسطورية عن الحشود والصراعات وتوحش يقوده “يوشع بن نون” [تلميذ موسى وخليفته من بعده]، حيث هدم وأحرق نحو ثلاثين مدينة، كما ورد في سفر (يشوع 12: 24). ومن رحم هذه الرؤية التوراتية وُلدت سرديات صهيونية حديثة تتغذى على الفكرة ذاتها: إحراق المدن وهدم البيوت وتهجير السكان باسم “الحق التاريخي”، وهي العقيدة التي نراها تتجسّد اليوم كما هو الحال في غزة.
7. حتى السلوك الجماعي لبني إسرائيل، كما صوره القرآن، لا يشير إلى أمة عظيمة، فلم يكن بني إسرائيل – كما يصورهم القرآن الكريم – أمةً عظيمة ذات بأسٍ وعدد، بل كانوا جماعة محدودة مترددة، لم تتجاوز في مواقفها حدود القبيلة الصغيرة التي أرهقها الذل وشلّ إرادتها الخوف. ففي لحظة الاختبار والمواجهة، قالوا لموسى عليه السلام بلسانٍ خالٍ من العزيمة: ﴿فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون﴾ [المائدة: 24]، ولم تكن هذه النزعة الطفولية في السلوك استثناءً، بل ظلّت مرافقة لهم حتى في أزمنة لاحقة، كعهد طالوت وداود، حيث لم يُعرف عنهم حنكة الحرب، بل إن المعركة الحاسمة حُسمت بيد راعٍ شاب، داود “عليه السلام”، لا بسلاح الجند بل بمقلاع داود، قال تعالى: {وقتل داود جالوت } [البقرة: 251].
وحين نتأمل هذه المشاهد المتكررة ندرك أن القوم – بحسب القرآن – لم يكونوا قوة بشرية ضاربة، بل مجموعة محدودة ضعيفة البنية والمنعة، لا تصمد أمام صراع طويل، ولا تنهض ببناء كيان عظيم. وهذا يتقاطع بوضوح مع المبالغات العددية في السردية التوراتية التي ادّعت خروجهم من مصر في ست مئة ألف مقاتل.
أخيراً:
لقد أدّت الرواية التوراتية المحرّفة، بما فيها من مبالغات عددية وخيالات درامية، إلى أن يتعامل كثير من علماء الآثار والتاريخ الحديث مع قصة موسى والخروج على أنها أسطورة دينية لا سند لها في الواقع التجريبي. ومع غياب الأدلة الأثرية المؤيدة، ساد في الأوساط الأكاديمية نوع من القطيعة بين الدين والتاريخ، سببه الدين المبدل، حتى أن بعض العلماء أنكروا مصداقية الرواية قبل زمن التنقيبات الأركيولوجية، اعتمادًا على العقل المجرد وحده، كابن حزم الذي سبق عصره في بيان تناقضات الروايات التوراتية.
وبينما تتهاوى السرديات أمام مِحكّ العلم والعقل، تبقى الرواية القرآنية شامخةً بجلالها، متماسكةً في بنائها، نقيّةً في عبارتها، دقيقةً في نسبها، واقعيةً في توصيفها.
لا تتوسّل المبالغة لتقنع،
ولا تستدعي التهويل لتُثبت،
بل تضع كل كلمة في موضعها، وتُسكن كل رقم في سياقه، وتمنح الحدث حجمه الحقيقي دون غلوّ ولا تقزيم.
وعندما يتلعثم التاريخ، وتَصمت الآثار، ويتمادى الخيال في نسج أوهامه…
يبقى القرآن، كما عهدناه، ناطقًا بالحق في سكينةٍ مهيبة، يشهد له الصدق في كل لفظ: ﴿وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا﴾ [النساء: 122].
الهوامش:
- Rashi, The Torah with Rashi’s Commentary: The Sapirstein Edition – Shemot (Exodus), trans. and elucidated by Yisrael Isser Zvi Herczeg (Brooklyn, NY: Mesorah Publications, 1995), 4.
- Israel Finkelstein and Neil Asher Silberman, The Bible Unearthed: Archaeology’s New Vision of Ancient Israel and the Origin of Its Sacred Texts (New York: Free Press, 2001), 35.
- Kitchen, Kenneth A. On the Reliability of the Old Testament (Grand Rapids, MI: Eerdmans, 2003), 464.
- Kenneth A. Kitchen, On the Reliability of the Old Testament (Grand Rapids, MI: Eerdmans, 2003), 287.
- Karl W. Butzer, “Estimating Population in Ancient Egypt,” Brewminate: A Bold Blend of News and Ideas, last modified May 17, 2016. https://brewminate.com/estimating-population-in-ancient-egypt/.
- ابن حزم، الفصل في الملل والنحل، تحقيق: محمد إبراهيم نصر وعبد الرحمن عميرة (بيروت: دار الجيل، 1996)، 1: 96.
- Nicholson, Sharon E., et al. Pluvial Periods in Southern Arabia over the Last 1.1 Million Years. Quaternary Science Reviews 239 (2020): 106301, p. 12.
- تفسير ابن عطية (3/ ١٣٦).
- تفسير الطبري(12/248)
- Geva, Hillel. “Jerusalem’s Population in Antiquity: A Minimalist View.” Tel Aviv 41, no. 2 (2014): 133. Shanks, Hershel. Ancient Jerusalem: From the Jebusite City to David’s Capital. Washington, DC: Biblical Archaeology Society, 2011, 28–30.
بارك الله فيك
ممتعه