حفريات معرفية

رسولٌ من عند الله، أم ساعي بريد ؟!

رسولٌ من عند الله، أم ساعي بريد؟! (1)

هل محمد ﷺ مجرد ساعي بريد؟

رافقت مسيرة الأديان موجاتٌ متتالية من الابتلاءاتِ العمليَّة والعلميَّة، وكلها تحاول أن تزيح الدِّين أو جزء منه، ليحل الهوى الإنساني مكانَ الوحي الإلهي، ومن بينَ تلكَ الموجات التي لا تزال تحاول إزاحة الوحي الإلهي عن منصةِ التَّوجيه والإرشاد، شبهة إنكار حجيَّة السُّنَّة النَّبوية، وهي شبهة قديمة حديثة، ظهرت في مستويات متعددة، ما بين من ينكر السُّنة إجمالًا، ثم فاشت في الأيام الأخيرة في مستوى أقل فجاجة وأكثر مكرًا، فأنكرت السُّنة النَّبوية باستثناء السُّنة العملية المنقولة بالتَّواتر، لأنَّ إنكارها سيؤدي حتمًا إلى تجريفِ أركان الإسلام الأربعة.

وكنتُ قد حاورتُ مجموعة من معتنقي هذه النَّظرية وفي أثناءِ حواري معهم قلت لأحدهم: إنكَ باختزالك الوحي في القرآنِ الكريم، تجعل من محمَّد ﷺ مجرد ساعي بريد، يحمل الكتاب إلينا ثمَّ ينصرفُ لا يلوي على شيء! فاستعظمَ المحاور هذا التَّوصيف وتلكَّأ، ثم ما لبث أن كتب أحدهم هذا المعنى ملوحًا بأنَّ محمَّدًا صلى الله عليه وسلم مجرد ساعي بريد، وأنَّ سنَّته عبارة عن تجربة تاريخية، يمكن الإفادة منها دون الإلزام، مثلها مثل سيَر العظماء الذين ظهروا في التَّاريخ، وأنَّ أحاديث الرَّسول ﷺ من التَّاريخ، لا قيمة تشريعية لها، وطفِق يستند في إحياء نظرية “ساعي البريد” هذه إلى مجموعة من الأدلة بزعمه، منها خلو القرآن الكريم من الأمر باتباعِ سنَّة محمَّد صلى الله عليه وسلم، وأنَّ الوحي الملزِم هو ما جاءَ في القرآنِ الكريم، وما تواتر من السُّنة العملية فقط، وأنَّ الرَّسول صلى الله عليه وسلم  لم يأمر بكتابةِ حديثه فدلَّ على عدمِ حجيتها، إلى غيرها من الشُّبهات التي كرَّرها زمرة منكري السُّنة منذ مطلع القرن العشرين وحتى اليوم، فلزم إعادة التذكير ببدهيات الإسلام ومصادر التَّلقي عند المسلمين، حتى لا يغتر جاهل أو يزل مفتون، وعلى الله قصْد السَّبيل.

مكانة السنة النبوية في التشريع

أولًا: مفهوم السُّنَّة

ماهي السنة؟

تأتي السُّنَّة في اللغة بمعنى الطَّريقة والعادة المطردة، وذلك أصلها في الجذر اللغوي كما قال ابن فارس: (السين والنون أصل واحد مطرد، وهو جريان الشيء واطراده في سهولة)(1). (وحرف النون في آخر الفعل يأتي للاستقرار والإقامة والثبوت والديمومة “آمن – قطن – سكن – ركن – سن.. والنون محاطة بجدارين يمنعان انزلاق أو سيلان ما فيها)(2).  وقد وردت في القرآنِ الكريم منسوبة إلى الله “سنَّة الله” وهي قوانينه الثَّابتة، أو منسوبة إلى الفعل البشري “سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ”، وكأنَّ العلاقة بين الثَّانية والأولى، أنَّ مآل الفعل البشري لن يكون محمودًا مالم يتَّسِق جريانه مع القانون السّنني الكوني، وليس ثمة طريقة عملية هادية مثل سنَّة المصطفى ﷺ يمكن لنا أن نقتفيها كي لا تتنكب خطانا عن السّنن الإلهية التي يمضي وفقها الكون.

وفي الحديث توكيد لدور النَّبي في اشتراع سنَّة وطريقة للاتباع فعن أنس بن مالك قال: (جاءَ ناسٌ إلى النبيِّ ﷺ، فَقالوا: أَنِ ابْعَثْ معنا رِجالًا يُعَلِّمُونا القُرْآنَ والسُّنَّةَ)(3). وكان الصَّحابة يستخدمون السنة لما ثبت من تشريع النَّبي ﷺ فعن عليٍّ رضِيَ اللهُ عنه قال): السُّنَّةُ وَضعُ الكَفِّ على الكَفِّ في الصَّلاةِ تَحتَ السُّرَّةِ ((4).وعن عامر بن واثلة أبي الطفيل: (قلتُ لابنِ عباسٍ: يزعمُ قومك أنَّ النبيَّ ﷺ قد رَمَلَ بالبيتِ وأنَّ ذلك سُنَّةٌ)(5).

غير أنَّ البيئات العلمية قد تنوَّع استخدامها لمصطلح السنة، بحكم الحاجة لمعالجة حقل الاشتغال المعرفي، فالسنة في اصطلاح المحدثين تعني: (أقوال النَّبي ﷺ وأفعاله وتقريراته وصفاته الخِلْقِية والخُلُقية، وسائر أخباره، سواءٌ أكان ذلك قبل البعثة أم بعدها)(6) . بينما اكتفى الأصوليون بما يهمهم من السُّنَّة وهو البحث عن مصدر للتشريع، إذ يعرّفون السُّنة بأنها: (مَا صَدَرَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَيْرِ الْقُرْآنِ مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ أَوْ تَقْرِيرٍ مما يصلح أن يكون دليلًا لحكم شرعي)(7).

في حين يستخدمها الفقهاء في مساقٍ آخر تمامًا، إذ يجعلون السُّنة (كل ما ثبتَ من أحكامِ الشَّرع عن النَّبي صلى الله عليه وسلم مما ليس بفرضٍ ولا واجب، وهي بهذا المعنى تقابل الواجب وغيره من أحكام الشَّرع الخمسة)(8).

مخطوطة المكتبة الوطنية في بلغاريا لصحيح البخاري, ألف سنة

مفهوم الحديث:

وأما الحديث فهو عند أهل المصطلح: (مَا أُضِيفَ إِلَى النَّبِيِّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قَوْلًا كَانَ أَوْ فِعْلًا، أَوْ تَقْرِيرًا)(9). قال التهانوي: (وكثيرًا ما يقع في كلام أهل الحديث ومنهم العراقي ما يدل على ترادفهما)(10). وقال ابن الأثير: (وَلِهَذَا يُقَالُ فِي أدِلَّة الشَّرع الكِتابُ والسُّنَّة، أَيِ القرآنُ والحديث)(11).وقد جزم الشيخ عمر فلاته (أنهما [أي السُّنة والحديث] مترادفان لدى غالب المحدثين والأصوليين)(12).

وقد بنى منكرو السنة أهرامات من الأوهام حول مصطلح السُّنة، وزعموا أنَّ السنة تعني الطريقة المتواترة، وأنَّ الحديث لا علاقة له بالسُّنة، وعليه فلا سنة إلا ما نقل من عمل النَّبي المتواتر، وما عداه فلا قيمة تشريعية له، (وهذا استدلال متهافت، إذ يبني قضية كلية في التشريع الإسلامي، على اصطلاح محدث لا يخفى بطلانه)(13).

وهذا ضربٌ من ضروبِ القول بغير علم، فلا سند لقولهم هذا من كتاب ولا سنة ولا فهم الصحابة ولا تقريرات علماء الأمة وأئمتها المتبوعين، فالفرق (بين السنة والحديث فرق وظيفي يستخدم أحيانًا، ويعبر عن أحدهما بالآخر أحايين كثيرة)(14). وسيأتي في موضعه تفصيل الالتباس بين السُّنة العملية والقولية.

الهوامش:

  1. مقاييس اللغة (3/ 60). 
  2. فقه السنن الإلهية، عادل عيساوي،عن هشام الحمصي، الجديد، ص31. 
  3. صحيح مسلم حديث رقم:٦٧٧. 
  4. سنن أبي داود ٧٥٦. 
  5. مسلم ١٢٦٤. 
  6. الشنقيطي، خبر الواحد وحجيته،ص51. 
  7. إرشاد الفحول (1/ 95)، عبد المطلب، توثيق السنة (ص: 17). 
  8. الشنقيطي، خبر الواحد وحجيته، ص51. 
  9. السيوطي، تدريب الراوي (1/202)، السخاوي، فتح المغيث (1/131). 
  10. التهانوي، كشاف اصطلاحات الفنون والعلوم (1/627). 
  11. ابن الأثير، النهاية(2/409). 
  12. فلاته، الوضع في الحديث(1/46). 
  13. رمضاني، محمد رمضان، آراء محمد رشيد رضا،ص 116،عن : المعلمي، الأنوار الكاشفة (ص: 57). 
  14. آراء رضا، ص 116.

مقالات ذات صلة

‫4 تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى