حفريات معرفية

رسول من عند الله، أم ساعي بريد؟! (ج2)

رسول من عند الله، أم ساعي بريد؟!

براهين حجية السنة

يجدر بنا أن نستندَ في بحثنا هذا إلى الأسس الصَّلبة، والبراهين القاطعة التي أصّلت للمصدر الثاني في التشريع الإسلامي، وسنحاول أن نستند إلى البراهين محل الاتفاق بين أهل العلم وأهل العقل، متجاوزين الاستدلال بمواطنِ الخلاف، ومنها الاستدلال على وحيانية السُّنة من داخلها، إذ أنَّ ذلك مصادرة على المطلوب، فلا يصح منطقًا أن نستدل على ما هو محل النزاع بنفسه، تنزلًا عند الخصم، ورغبة في إلزامه الحجة القاطعة، وإلا فإنَّ السُّنة وحي إلهي، فوق رؤوسنا، ولا إسلام لمن جحدها، وسنقرر ذلك في موضعه.

البرهان الأول: برهان العصمة

اختار الله سبحانه وتعالى أصدق البشر وأتقاهم له وأزكاهم نفسًا، لحمل رسالته إلى النَّاس، غير أن ذلك لم يكن هو الضمان القطعي لعدم سهوهم أو غفلتهم في التبليغ، فأيدهم الله بعصمة منه، تحجزهم عن الإخلال بتبليغ كلمة الله إلى النَّاس، حتى تقوم على النَّاس الحجَّة البالغة.

(والمقدار المتفق عليه بين المسلمين يقع حول عصمة النَّبي محمد ﷺ في شؤون التبليغ، بمعنى أنه معصوم فيما يبلغ عن الله سبحانه، وهذا يعني أنه إذا نسب شيئًا إلى الله فلا يكون في نسبته تلك أي كذب أو خطأ مستقر، فكل ما ينسبه الرَّسول ﷺ  إلى الله فهو حجة بالاتفاق بمقتضى نبوته وتصديقه وعصمته).(1)

وعصمة الله لرسوله في تبليغ الدين ظاهرة في كتابه الكريم، قاطعة في ثبوتها ودلالتها، اجتمع عليها أهل الملة بلا خلاف، إذ هي من مقتضيات العدالة الإلهية، ومن ضرورات الرسالات السماوية، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ ۖ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ ۚ وَاللَّـهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) المائدة:67.

وقال تعالى: (وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّـهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ أَن يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ ۖ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَيْءٍ ۚ وَأَنزَلَ اللَّـهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ ۚ وَكَانَ فَضْلُ اللَّـهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا) النساء:113. 

وقال تعالى: (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ ﴿٤٤﴾ لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ﴿٤٥﴾ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ) الحاقة: 44-46. 

وقال تعالى: (وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَىٰ ﴿١﴾ مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَىٰ ﴿٢﴾ وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ ﴿٣﴾ إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ) النجم:1-4.

هل يسهو الرسول ﷺ أو يغلط؟

وقد أجاز بعض الأصوليين السهو والغلط في حق النَّبي ﷺ، ولكنهم أجمعوا (على اشتراط التنبيه فورًا من الله تعالى، وعدم التقرير عليه. وذلك يستلزم: أنَّ كل خبر بلاغي – بعد تقرير الله له عليه – صادق مطابق لما عند الله إجماعًا: فيجب التَّمسك به)(2).

فعندما حكم النَّبي ﷺ على أسرى بدر بالفداء، نزل الوحي يتوعد، رغم أنَّ حكمه اجتهاد وليس بلاغًا، وما ثمة وحي سابق فلماذا نزل التَّصويب؟ لأنه صلى الله عليه وسلم واقع تحت عناية العصمة، فلا بدَّ أن يصوّب، ولو كان ملزمًا بالكتاب فقط، لما نزل تصويب، لأنَّ حكمه تدبير سياسي سينتهي بعد وفاته، ولا قيمة له كما يقول أصحاب نظرية ساعي البريد.

والقول بعدم عصمة النبي ﷺ في البلاغ “قولًا أو فعلًا ” وجواز خطأه أو كذبه أو سهوه في البلاغ دون تنبيه من الله وتصحيح، مخل بالشريعة، ويجعلنا نشك في محفوظية القرآن واكتمال الشريعة، خاصة وأنَّ الله بين لنا أنَّ الشريعة اكتملت على يد محمد ﷺ، قال تعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا) المائدة:3. فكيف يكون دينًا كاملًا إذا جاوزنا على النَّبي ﷺ سهوًا أو غفلة دونما تنبيه من الله وتصحيح!

وقد فطنت الصَّحابية الجليلة أم أيمن لخطورة انقطاع الوحي من هذه الزاوية، إذ قالت للشيخين “أبي بكر وعمر” عندما زاراها ليعزياها في وفاة النبي ﷺ: (إنما أبكي انقطاع الوحي من السَّماء)، فهي تدرك أنَّ مسيرة التصويب السماوي قد رفعت، وعلى المسلمين أن يلتمسوا طريقهم وفق موجهات الوحيين المتروكة بين أيديهم.

وعليه فإذا قال المعصوم لنا: امسحوا على الخفين، وليس على الحائض صلاة، ولا تأكلوا السباع، وغيرهن من الأحكام، فيجب علينا الاتباع.

وإذا سألت أصحاب نظرية “ساعي البريد” ما تقولون في الأحكام التي شرعها محمد ﷺ ولا نجدها في القرآن الكريم؟ فليس لهم إلا جوابان: إمَّا أنه ﷺ يقدح من رأسه دونما وحي– حاشاه ربي -، وعندها لا موثوقية في نقله للقرآن أصلًا، فبطلت الرسالة بجملتها. أو أنه يصدر عن وحي، وهنا تبطل نظريتهم بالجملة. 

وقد قال أحدهم: إنَّ القرآن نزل على قلب محمد ﷺ، وهو أدرى بأسراره منا، فهو يمتح من معينه، ويستخرج من مخبؤه مالا ندركه نحن، وهذه الأحكام جزءٌ من ذلك الاجتهاد النَّبوي الشَّريف. والجواب: إن كانت هذه الأحكام استلالًا من القرآن لا يقدر عليه إلا محمد ﷺ، فهي خصيصة له توجب الاتباع، إذ لا يستطيع أحدٌ على مثل هذا الاجتهاد الذي يستبطن النص القرآني ليخرج مقادير الزكاة وأعداد الركعات، وما الذي يجب على النُّفساء قضاؤه ومالا يجب، إلخ. أو أن تكون وحيًا نزل على محمد ﷺ من خارج القرآن، فوجب الاتباع في كلا الحالتين، بحكم صدقه فيما يأمر ويبلغ، وعصمته في ذلك، وعليه فإن نظريتكم باطلة من كل الوجوه. 

ومقتضى العصمة هي اتباع المعصوم فيما أمر ونهى، سواء جاء الأمر في القرآن أو لم يأت، فهو لا يأمر بتشريع من لدن نفسه بحكم عصمته، فلا يمكن لمحمد ﷺ أنَّ يجيز لنا المسح على الخفين أو يرفع عن المرأة النفساء قضاء الصلاة، وهي مسائل عبادية محضة لا مجال للاجتهاد فيها، ولا وجود لها في القرآن، فعلمنا يقينًا أنه معصوم فيما أمر، فوجب الاتباع.

البرهان الثاني: التأسيس القرآني لحجية السُّنة

كان القرآن ولا يزال وسيبقى إلى أن يرفعه الله حائط الصَّد أمام موجات التَّشكيك والتهويش على هذا الدين العظيم، ولذلك تصطدم طغمة المشككين قديمًا وحديثًا في فرض أجنداتهم الخاصة على الإسلام بجدار القرآن، فيعمدون إلى اعتساف الآيات وتحريفها عن مواضعها، بل بلغ بهم الحال إلى تعطيل دلالات اللغة كي يحمّلوا القرآن ما شاءوا من المعاني والأهواء كما فعلت الشيعة الباطنية قديمًا. 

وقد وجدنا طغمة منكري السنة يزعمون أن القرآن خلو من أي بينة قاطعة تدل على حجية السنة ومصدريتها في التشريع، رغم احتواء القرآن على (77 موضعًا يتحدث عن الرسول ﷺ) تتنوع أساليبها البيانية لتأكيد بديهية من بديهيات الإسلام وهي أنَّ محمدًا رسول من عند الله وأنَّ سنته وحي واجبة الاتباع وأنَّ طاعته معقد الفلاح وأن سيرته محل الإتساء. 

ومن له أُنسة بكتاب الله سيلحظ من أول وهلة أنَّ التكرار القرآني لأي موضوع يعني بالضرورة محورية هذا الموضوع في التَّصور الإٍسلامي، فما كان لهذا الحشد القرآني أن يحتفل بمجرد ساعي بريد حظه أن يوصل الكتاب ثم ينصرف! 

ولذلك تفشل نظرية ساعي البريد، في تفسير كل هذا الحشد الكبير من الآيات وفهم هذا التنوع في الخطاب القرآني لتقرير مقام الرسول ﷺ وضرورة اتباعه، إذ لو كان ساعي بريد كما تقول النَّظرية، لاحتجنا إلى آيات محدودة تبين صدقه وصدق ما جاء به، دون التوغل في الأمر باتباعه وطاعته والتزام أمره وجعل طاعته من طاعة الله، والتحذير الشديد من مخالفة أمره ولو قلبيًا. 

لقد حاول رواد نظرية ساعي البريد تأويل تلك الآيات القرآنية السَّاطعة، وقد يفلحون في التملص من آية أو اثنتين أو ثلاث، ولكن أنى لآلة التأويل أن تزيح هذا الحضور النَّبوي في القرآن الكريم، وأن تطوح بعشرات الآيات لأجل تقرير نظرية متهافتة كهذه، إلا أن يلجؤوا إلى الفكرة الباطنية التي تفصل العلاقة بين الدال والمدلول، وتجعل للقرآن تفسيرًا باطنيًا يسهل من خلاله الإطاحة بمقرراته المركزية، وعندها لن تنتهي حجية السُّنة بل تنتهي حجية القرآن ويصبح كلامًا بلا معنى ثابت، لأنه تحول إلى نص مفتوح قابل لتركيب أي معنى عليه، وهذه جناية على القرآن أي جناية، ونسف له من الوجود.

التأسيس القرآني لحجّية السنة

وقد عمد علماء الإسلام إلى تبويب الآيات الدالة على حجية السنة إلى أبواب عديدة، فمنها:

1- آيات الدعوة للإيمان بما جاء به محمد ﷺ.

مثل قوله تعالى: (فَآمِنُوا بِاللَّـهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا ۚ وَاللَّـهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِير) التغابن:8.

وقوله تعالى : ( وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّـهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّىٰ فَرِيقٌ مِّنْهُم مِّن بَعْدِ ذَٰلِكَ ۚ وَمَا أُولَـٰئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ ﴿٤٧﴾ وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّـهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم مُّعْرِضُونَ ﴿٤٨﴾ وَإِن يَكُن لَّهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ ﴿٤٩﴾ أَفِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ اللَّـهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ ۚ بَلْ أُولَـٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴿٥٠﴾ إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّـهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ۚ وَأُولَـٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴿٥١﴾ وَمَن يُطِعِ اللَّـهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّـهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَـٰئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ ﴿٥٢﴾) النور:52.

وقوله تعالى: ((فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ، ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ، وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) النساء:65.

قال الشَّافعي: (نزلت هذه الآية في رجل خاصَمَ “الزُّبَيْر” في أرضٍ، فقضى النبي بها “للزبير”. وهذا القضاء سنة من رسول الله، لا حُكْمٌ منصوص في القُرَآن)(3) .. وفي هذه الآية الأخيرة لا يكتفي القرآن منا أن نسلّم ظاهرياً بأمر النبي صلى الله عليه وسلم، بل لا بد من التسليم الباطني والرضا بما حكم وأمر وشرع؛ ولست أدري كيف يلزمنا الكتاب العزيز بهذا التسليم القلبي إزاء مجرد ساعي بريد -حاشاه ربي وصلى عليه وقاتل الذين يغضون من سنته- كما تقول نظرية ساعي البريد، إذ كان يكفي التسليم بصدق الكتاب الذي جاء به، أما التسليم القلبي لأمره وحكمه، فهذا مقام لا يبلغه إلا رسول يحكم بوحي من ربه.

2- آيات طاعة الرسول ﷺ.

هل يجب طاعة الرسول ﷺ؟

وردت في القرآن (22  آية)(4) تأمر بطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم ، وتفرض له طاعة مستقلة بجوار طاعة الله، وتحذر من مخالفة أمره، وتجعل الهداية منوطة بطاعته، وهي طاعة أعلى من مقام الإمارة أو الولاية السياسية كما يريد أن يحرفها أصحاب نظرية “ساعي البريد” إذ يجعلون آيات الطاعة متعلقة بكونه قائداً لهم، ولست أدري كيف يجعل القرآن طاعة الأمراء تبعاً لطاعة الله ورسوله، في حين يجعل طاعة الرسول مستقلة كما في قوله تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّـهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّـهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّـهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا) النساء: 59.

ثم يأتي من يحصرها في طاعة أوامره السياسية!! وقد تلمّح أهل العلم دلالة استقلال طاعة الرسول هذه فقالوا:(أمر تعالى بطاعته وطاعة رسوله، وأعاد الفعل إعلامًا بأن طاعة الرسول تجب استقلالًا من غير عَرْضِ ما أمر به على الكتاب، بل إذا أمر وجَبَتْ طاعتُه مطلقًا، سواء كان ما أمر به في الكتاب أو لم يكن فيه، فإنه أوتي الكتاب ومثلَه معه، ولم يأمر بطاعة أولي الأمر استقلالًا، بل حذف الفعلَ، وجعل طاعَتَهم في ضمن طاعة الرسول)(5).

وقوله تعالى: (فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّـهِ وَالرَّسُولِ) (نكرةٌ في سياق الشرط تعمُّ كلَّ ما تنازع فيه المؤمنون من مسائل الدين دِقِّهِ وجِلِّهِ، جَلِيَّهِ وخَفِيِّهِ، ولو لم يكن في كتاب اللَّه)(6).

(وَالنُّكْتَةُ فِي إِعَادَةِ الْعَامِلِ فِي الرَّسُولِ دُونَ أُولِي الْأَمْرِ مَعَ أَنَّ الْمُطَاعَ فِي الْحَقِيقَةِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى كَوْنُ الَّذِي يُعْرَفُ بِهِ مَا يَقَعُ بِهِ التَّكْلِيفُ هُمَا الْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ فَكَأَنَّ التَّقْدِيرَ أَطِيعُوا اللَّهَ فِيمَا نَصَّ عَلَيْكُمْ فِي الْقُرْآنِ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فِيمَا بَيَّنَ لَكُمْ مِنَ الْقُرْآنِ وَمَا يَنُصُّهُ عَلَيْكُمْ مِنَ السُّنَّةِ)(7)..  (ومنها: أن الناس أجمعوا أن الرد إلى اللَّه سبحانه هو الرد إلى كتابه، والرد إلى الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- هو الرد إلى نفسِه في حياته، وإلى سنته بعد وفاته)(8) (ومنها: أنه جعل هذا الرد من موجِبَاتِ الإيمان ولوازمه، فإذا انْتَفَى هذا الرد انتفى الإيمان)(9).

بل يذهب القرآن إلى تقرير حقيقة بدهية تقتضيها طبيعة إرسال الرسل فيقول تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّـهِ) النساء: 64. ثم تأتي الآيات الأخر لتحذر من عواقب مخالفة أمر الرسول، قال تعالى:(وَأَطِيعُوا اللَّـهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا) المائدة:92. وقوله تعالى: (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) النور:63.

وقد قال بعضهم أن الطاعة التي وردت في القرآن قد وردت مقترنة بالرسول وليس بالنبي، وأن الرسول صاحب رسالة مستقلة بخلاف النبي الذي يأتي برسالة رسول قبله. فقلنا لهم: قلتم لنا أن مقام الرسالة خاص بالقرآن، وقلتم إن مقام النبوة خاص بالحكم بين الناس وكونه أسوة حسنة، وجعلتم الطاعة في الآيات متعلقة بكونه حاكماً والحكم فرع عن مقام النبوة كما تقولون وليس عن مقام الرسالة، فلماذا عدتم وتناقضتم وزعمتم أن الطاعة متعلقة بالرسالة التي هي القرآن الكريم؟!

فإما أن تكون الطاعة متعلقة بالرسالة فقط كما تزعمون، وبهذا يسقط حصركم لها سابقاً بأن الطاعة متعلقة بكونه حاكماً، وإما أن تكون الطاعة متعلقة بكل ما جاء به الرسول، وبهذا تسقط نظريتكم المتهافتة.

هل التكرار في القرآن الكريم ليس من البلاغة؟

هل التكرار في القرآن الكريم ليس من البلاغة؟

ومن العجائب والعجائب جمة، أن أحد رواد نظرية “ساعي البريد” قد أجلب بقلمه وصحائفه ضد القول بوجود الترادف بالقرآن، وأن البلاغة القرآنية أسمى من تكرار الألفاظ إذ هي تضع كل حرف بميزان دقيق، ثم ما لبث أن سقط في أول امتحان، فزعم (إن طاعة الرسول هي طاعة الرسالة نفسها أي ((القرآن الكريم))!! فقلت: إذا كانت طاعة الرسول يا منكر الترادف في القرآن هي طاعة القرآن ، فما هي طاعة الله إذا في الآية؟ ويكأنك تجعل من الآية تقول :(وأطيعوا الله  “أي القرآن” ، وأطيعوا الرسول ” أي القرآن ” ) وهذا لغو وحشو في الكلام يتنزه عنه أي عربي فضلاً عن كلام الله المعجز المبين!

وآيات طاعة الرسول في القرآن الكريم تدل دلالة قطعية على حجية قول المصطفى ولزوم أمره لأن الله أمر بطاعته مطلقاً دون قيد أو شرط، بل وأفرد الأمر بطاعة الرسول كما بينا سابقاً، وجعل الهداية في طاعته فقال تعالى: (وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا) النور:54. والهداية والضلال لا تتعلقان بالطاعة السياسية كما يزعم منكري السنة، بل هما لصيقان بالطاعة التشريعية، فالهداية بنت التشريع الذي يهدي إلى صراط الله، وليست بنت الأوامر السياسية التي تصدر عن أمير أو حاكم. 

ومن صور العرض القرآني لمقام التشريع النبوي، أن جعل الله طاعة الرسول واتباع أمره، من طاعة الله وأمر الله، قال تعالى: (مَّن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّـهَ) النساء:80. فأعْلمهم أنَّ طاعتَهم طاعتُه، وأن حكم الرسول هو حكم الله، لأنه صلى الله عليه وسلم وسيط الوحي إليهم، ومحل العصمة الإلهية فلا يشرع إلا وفق مراد الله . (10) 

ثم ختم العرض القرآني المهيب آيات طاعة الرسول، بالتحذير من مخالفة أمره، حيث جعلت الضلالة من نصيب أولئك الذين يخالفون أمره، قال تعالى: (وَمَن يَعْصِ اللَّـهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا) الأحزاب:36. وقال تعالى: (وَمَن يَعْصِ اللَّـهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا) الجن:23. فأنظر أي وعيد يلحق بمن يعصي الرسول صلى الله عليه وسلم، فهل هذا وعيد ينتظر من عصى حاكما سياسيًا كما يصور أصحاب نظرية ساعي البريد، الذين يجعلون آيات الطاعة للرسول تعني طاعته كولي أمر فقط! أم هو وعيد لمن يعرض عن مصدر التشريع النَّبوي، وبيان لخطورة ذلك على دينه ومستقبله في الآخرة.

الهوامش:

  1. حيدر حب الله، مرجع سابق(ص:58.). 
  2. عبد الغني عبد الخالق، حجية السنة(ص:279-280). 
  3. الشافعي، الرسالة (1/ 83) 
  4. المعجم المفهرس، محمد فؤاد عبد الباقي(ص:430). 
  5. إعلام الموقعين (2/ 89). 
  6. إعلام الموقعين (2/ 92). 
  7. فتح الباري (13/111). 
  8. إعلام الموقعين (2/ 92). 
  9. إعلام الموقعين (2/ 92). 
  10. ينظر: الرسالة (1/82).

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى