فكر

التجديد والإصلاح في العصر الإسلامي الأول

التَّجديد والإصلاح الدِّيني في الإسلام (2-7)

التَّجديد والإصلاح الدِّيني في الإسلام (2-7)

إحسان باحارثة

أ/ مجالات التجديد والإصلاح الإسلامي:

في مجتمع إنساني حفظت العناية الإلهية مصدر دينه من التحريف والضياع، ويؤمن بمبدأي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والاجتهاد وفرضيتهما على القادرين؛ لم يكن غريبا أن تمتليء صفحات تاريخه بعدد لا يحصى من جهود التجديد والإصلاح التي تبلورت في حركات الرفض والاحتجاج.. وعمليات التغيير والإصلاح والتصويب – بغض النظر عن صوابية بعضها من عدمها- لكل ما يبدو أنه خروج عن ثوابت الإسلام وأساسياته بدءا من أصغر خطأ أو انحراف على مستوى الأفراد إلى مستويات أكبر من الانحرافات في المجتمع والدولة والحكام… وسواء أكانت أخطاء في سلوكيات وممارسات فردية وعامة وسلطوية، أو في أفكار ومذاهب تمس أصول الإسلام وتنحرف بها إلى فهوم وممارسات تتعارض مع عقيدة التوحيد وإفراد الخالق بالربوبية والألوهية، وما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من هدي وتعاليم وتشريعات. وقد منحت حركات التجديد المجتمع المسلم حيوية مستمرة، وهذه ملامح من مظاهر حركات التجديد تلك: 

1. التجديد وفق مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: 

لا تحتاج عملية الإصلاح والتجديد على المستوى الخاص (الفرد والأسرة والعلاقات الاجتماعية) إلى حديث خاص عن مشروعيتها وأهميتها فهي مما لا يمكن إنكار وجوده، والثابت في دين الإسلام أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو منبع الحيوية في المجتمعات، ولتلافي الانحرافات والجمود والشطحات من أي نوع قبل أن تستفحل وتتحول إلى أصول وعقائد تشوه حقيقة التوحيد التي جاء بها الإسلام.

حركة تصحيح الأخطاء وتقويم الانحرافات بدأت في زمن النبي الكريم نفسه مما كان يقوم به بنفسه من تصحيح أخطاء تصدر عن بعض المسلمين مثل الرجل المسيء في صلاته، أو الرجال الثلاثة الذين ظنوا أن الغلو في العبادات مما يرضي الله ورسوله، أو مواجهة ظهور بعض النعرات الجاهلية الفردية والجماعية من بقايا التربية الجاهلية ومفاهيمها في نفوس بعض المسلمين. وكانت تلك التصحيحات والتنبيهات نبراس قدوة للمسلمين؛ فاتبعوا هدي النبي بدءا من زمن الصحابة والتابعين ومن جاء بعدهم في كل زمان ومكان في عدم السكوت عن الأخطاء والمنكرات، وضرورة المبادرة للنهي عنها والتنبيه لخطورتها، وبيان الصواب. 

وكان طبيعيا حدوث اختلاف في وتيرة عمليات الأمر والنهي: كما ونوعية، ووفق ظروف كل عصر لكن المبدأ ظل قائما في النفوس والعقول أن لا قائمة للدين إلا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ودفع المسلمون أثمانا باهظة مقابل إهمال مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.. أو الانحراف في ممارسته عن هدي النبي الكريم.

وعلى المستوى العام – أي عملية التجديد  وإنكار المنكرات العامة- كانت هناك محاولات مستمرة لإصلاح الدولة وسيرة الحكام، وشؤون الحكم وسياسة أمور الأمة من خلال مواجهة اجتهادات الحكام أو قراراتهم التي قد يجد فيها مسلمون خطأ أو خروجا أو انحرافا عن تعاليم الإسلام، ويمكن ملاحظة أن المجتمع المسلم عرف الاعتراض أو التحفظ على قرارات الحكام الخلفاء من عهد الخلافة الراشدة؛ بل حتى بعض اجتهادات النبي صلى الله عليه وسلم – غير ذات الشأن الديني الموحى به- تحفظ عليها بعض الصحابة، وناقشوا النبي في صوابيتها طالما كانوا يفهمون منه أنها من أمور الدنيا والاجتهاد البشري.. كما هو مشهور في رأي الحباب بن المنذر بتغيير موقع معسكر المسلمين في غزوة بدر، وفي الخروج من المدينة أو البقاء فيها لمواجهة جيش قريش في غزوة أحد، وفي حادثة تأبير النحل، وفي مشاورة النبي الدائمة لأصحابه في أمور كثيرة، وقبوله رأيهم دون أن يفهم أحد أن عصمته تشمل الدين والدنيا أو أن السمع والطاعة له تمنع نصيحته، وهو الذي علم المسلمين أن الدين نصيحة لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم.

وفي سائر حقب التاريخ الإسلامي، وبدعوى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لم تكد تمر فترة دون تمرد وخروج مسلح ضد الحكام الخلفاء رفضا لهم، ورفضا لشرعيتهم، أو لأساليب حكمهم؛ وسواء أكان ذلك بمبررات دينية صرفة أو مبررات دنيوية.. ولم يسلم الحكام أبدا من التمرد حتى في ظل ما يقال عن ترويجهم لعقيدة الجبر و(وجوب طاعة الحاكم وإن ضرب ظهرك وسلب مالك)، بل يمكن القول إن الدولة الأموية المتهمة بذلك كانت أكثر دولة إسلامية واجهت من الثورات والتمردات والمعارضات ما كان سببا في سقوطها في الأخير؛ بسبب استئثار بني أمية بالحكم، وتحويله من شورى إلى ملكية وراثية. ولا زالت هذه الدولة حتى اليوم ولأسباب طائفية تواجه حملات التشنيع والتسفيه وتجريدها من كل فضيلة وإيجابية، رغم الدور الكبير الذي أدته في نشر الإسلام، وفي تأسيس قواعد ومسارات الحضارة الإسلامية، ورغم أن كل الدول التي جاءت بعدهم ومنهم معارضوهم وكارهوهم التزموا سياسة الحكم الوراثي نفسها![1]

indus2gh4 التجديد والإصلاح في العصر الإسلامي الأول

وفي هذا الإطار نفهم تحفظ بل معارضة عمر بن الخطاب الشديدة لقرار أبي بكر الصديق بمواجهة حركات الردة والتمرد على الدولة الإسلامية؛ بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم؛ حتى استبان له صواب موقف الصديق. ومعارضة امرأة لقرار عمر الفاروق بتحديد المهور، ومعارضة جماعات من المسلمين لعثمان بن عفان ومطالبتهم له باعتزال الخلافة، وهي المعارضة التي لم يواجهها بالعنف، ولم يجد فيها خروجا عن الإسلام أو كفرا أو استحقاقا لحرمانهم من صفة الإيمان والإسلام رغم تهديدهم له بالقتل، بل واستجابته لبعض مطالبهم المعقولة، ومثلما واجه علي بن أبي طالب من معارضات وصلت إلى القتال وتكفيره وقتله في الأخير! وقياسا على ذلك في كل ما واجهته الدول الإسلامية من تمردات واعتراضات لم تتوقف حتى سقطت الدولة العثمانية آخر دولها الكبرى في القرن العشرين الميلادي. 

وبالإضافة إلى الثورات المسلحة التي لم تتوقف ضد الحكام المتغلبين؛ ظهرت الآراء والمذاهب الإسلامية العقائدية التي افترقت بشأن مسائل الحكم والسلطة وشروط الحاكم، ومصطلحات الخلافة الراشدة والملك العضوض والملك الجبري، وطاعة الحاكم في المعروف فقط، والمدى المسموح به شرعا للتعامل مع الحكام الذي لم يستوف شروط الخليفة الراشد.[2]

وفي شؤون إصلاح وتجديد مفهوم الحكم والسلطة ظهر تجديد ثورات المسلمين ضد احتكار السلطة وتحويل الحكم إلى وراثة في بداية ونهاية العصر الأموي مثل ثورات:(الخوارج، والحسين بن علي، وعبدالله بن الزبير، وعبدالرحمن الأشعث، وزيد بن علي). وتجديدا لصورة الحكم الإسلامي الراشد وفي مواجهة الانحرافات الطارئة كانت إصلاحات عمر بن عبدالعزيز، وفي إنقاذ الأمة من تكالب الأعداء عليهم والقضاء على دار الإسلام ظهرت جهود السلاجقة وآل زنكي، وصلاح الدين الأيوبي، وقطز والظاهر بيبرس ثم الأتراك العثمانيين في إنقاذ الدولة الإسلامية من السقوط في مخالب الصليبيين والمغول.[3]

وفي كل تلك الحوادث لم يقل أحد – إلا الأتباع الانتهازيون ومنافقو السلطان المعروفون في كل زمان ومكان- أن أحدا من الخلفاء معصوم عن الخطأ، أو أنه موحى إليه من الله في قراراته، أو أن نقده كفر ولو في اجتهاداته الدينية والاعتراض عليه. وفي التراث الإسلامي عدد لا يحصى من مؤلفات السياسة الشرعية التي بينت كل ما يتعلق بشؤون الحكم والحكام التي كانت في أغلبها نقدا غير مباشر للحكام في عدم استحقاقهم للحكم، ولتقصيرهم في إداراتهم للدولة وشؤون المسلمين، وقد نأى كثيرون من العلماء بأنفسهم عن الحكام ورفضوا التعاون معهم، وفضلوا التفرغ للعلوم الفقهية طالما وجدوا أنهم لن يستطيعوا – بسبب ظلم الحكام وطغيانهم وعدم قبولهم للنصيحة- التعامل معهم بقناعاتهم.

2. التجديد والإصلاح بمبدأ الاجتهاد:

i التجديد والإصلاح في العصر الإسلامي الأول

كان (الاجتهاد) هو وسيلة التجديد والإصلاح العقلي والفكري والعلمي في المجتمع الإسلامي. وقد بدأت أولى مراحل الاجتهاد والإصلاح العلمي بعد وفاة النبي الكريم مباشرة، وكانت أبرز دعامة للإصلاح والتجديد الإسلامي هو حفظ الله تعالى القرآن الكريم وسنة النبي صلى الله عليه وسلم من كل ما جرى على الرسالات السابقة من تحريف وضياع: [ إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون]، وقد تولى النبي الكريم هذه العملية بنفسه بعون من الله تعالى وتدارس القرآن مع جبريل عليه السلام، ثم اكتملت المهمة في عهد الخلافة الراشدة وخاصة في زمن الخليفة الراشد عثمان بن عفان الذي عمل على استكمال المهمة بتوحيد القراءات والمصاحف في مصحف واحد جامع تفرغ لجمعه كبار الصحابة من القراء الذين كان النبي الكريم يكلفهم بحفظ ما نزل من القرآن بإشرافه المباشر. كما اهتم الصحابة بتعليم سنة النبي الكريم للناس، ونشر العلم بها في كل مكان. وبحفظ الأساس الذي قام عليه الإسلام تصير أي محاولة لتحريفه أو التلاعب بمبادئه مكشوفة ويسهل فضحها وإثبات مخالفتها للأساس المحفوظ المعترف به عند الجميع. 

وفي مراحل لاحقة نشأت في الحياة العلمية الإسلامية أدوات علمية فائقة الدقة، وكلها كان هدفها ضمان الدقة والضبط والصحة لكل ما يتعلق بالقرآن وسنة النبي الكريم، والمحافظة على رسالة الإسلام نقية كما جاء بها النبي الكريم فنشأت علوم مثل: علوم اللغة والشعر والأدب، والنحو والصرف، والبلاغة والفرائض، والقراءات والتجويد، وعلوم الحديث ودارسته: سندا ومتنا ورجالا، وعلوم أخرى تختص بالمعاني واستنباط الأحكام، وعلوم التفسير، والسيرة النبوية والتاريخ، وأصول الفقه والفقه، وعلم الكلام. ومن أمثلة ذلك:

– في علوم القرآن الكريم ظهرت حركة علمية دقيقة واسعة النطاق لحفظه وتدوينه وتعليمه؛ إذ بدأ الاهتمام بحفظ القرآن الكريم وكتابته وتوثيقه بعد أن استحر القتل بحفظة القرآن في حروب الردة في بواكير زمن الخلافة الراشدة بعد وفاة النبي عليه الصلاة والسلام، وشملت تلك العملية الهائلة الحفظ في الصدور، والكتابة، والتوثيق، وتدقيق كل ما يتصل به إلى مستوى الحرف الواحد وكيفية نطقه وكتابته، وتوجت تلك الوسائل بجمع القرآن في عهد أبي بكر الصديق في الأشهر التي الوفاة، ثم كتابة المصحف العثماني في أقل من عشرين سنة من وفاة النبي عليه الصلاة والسلام.. ثم كانت الظاهرة العلمية الأبرز وهي انتشار تعلم وتعليم القرآن الكريم في كل المجتمعات الإسلامية بوصفه الكتاب المقدس للإسلام، وأساس التشريع والعلم والحياة فيها، والذي لا غنى للفرد ولا المجموع عنه، ونشأت علوم أكثر اختصاصا بكل ما يتعلق بالقرآن بلغت العشرات(أوصلها السيوطي في  كتابه: الإتقان في علوم القرآن إلى ثمانين علما) تختص كل منها بكل تفصيلة من تفاصيل القرآن الكريم.

1 التجديد والإصلاح في العصر الإسلامي الأول

– وفي مجال الحديث النبوي ظهرت إحدى أعظم حركات التجديد العلمي التي استكملت مسيرة حفظ الحديث النبوي الشريف، ونشطت لتدوينه وحمايته من الضياع والتحريف والأكاذيب والوضع، وبرزت جهود علماء مثل الأئمة محمد بن شهاب الزهري، وابن جريج، ومالك بن أنس، وسفيان الثوري، وأبي عمرو الأوزاعي، عبد الله بن المبارك، وسفيان بن عيينة، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهوية وصولا إلى الإمامين البخاري ومسلم ومن جاء بعدهما من العلماء الحافظين لسنة النبي الكريم.

– وفي العقيدة وتجديد روحها ظهرت مذاهب رفض الأفكار الخاطئة والمتناقضة في الوقت نفسه؛ مثل تشبيه صفات الله تعالى بالمخلوقين مقابل إنكار صفاته وتحويلها إلى مجرد تجريدات فلسفية، والقول بالجبر مقابل إنكار القضاء والقدر، والإرجاء البدعي وأن لا معصية تضر مع الإيمان مقابل تكفير المسلم بالمعاصي.. وبرز في تلك الحركات التجديدية تجديد أئمة التابعين وصولا إلى تجديد الإمام أحمد بن حنبل في مواجهة طغيان بعض رجال المعتزلة ومحاولتهم فرض آرائهم بقوة الحديد والسلطان وإلغاء التعددية الفكرية التي تميز بها المجتمع المسلم، وتجديد ابن تيمية ومدرسته الشاملة في مواجهة خرافات بعض فرق الصوفية، وأباطيل الباطنية، وانحرافات غلاة الروافض، ومساويء الجمود المذهبي، والأفكار المنحرفة المتأثرة بالفلسفة اليونانية.

– وفي مجال الفقه برزت جهود تجديد ابن عباس وعائشة أم المؤمنين، وابن عمر، وسعيد بن جبير، وسعيد بن المسيب وبقية فقهاء المدينة مثل عروة بن الزبير، والقاسم بن محمد بن أبي بكر، عبيد الله بن عتبة بن مسعود، وخارجة بن زيد بن ثابت، وسليمان بن يسار، والليث بن سعد، وعطاء بن أبي رباح، والأوزاعي، ووصولا إلى تجديد أئمة المذاهب الكبرى: أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد بن حنبل، ومن قبلهم ومن بعدهم ظهر الآلاف من العلماء والفقهاء في شتى نواحي عالم الإسلام عملوا على تعميم العلم الشرعي بين المسلمين، وضبط أدواته بعيدا عن الفوضى والتلاعب بالحلال والحرام.

– وفي أصول الفقه ظهر تجديد أبي يوسف صاحب أبي حنيفة ثم الإمام الشافعي المؤسس لهذا العلم في رسالته الرائدة الشهيرة (الأم)، وصولا إلى أبي حامد الغزالي، والآمدي، والبيضاوي، والكمال بن الهمام، وابن السبكي، وابن حجر العسقلاني، والسيوطي.

– وفي مجال التزكية والأخلاق وتربية النفس والروح ظهر تجديد الأئمة مثل الحسن البصري، وعلي زين العابدين، وعبدالله بن المبارك، وسفيان الثوري، وأبي حامد الغزالي، وابن القيم، وعبد القادر الجيلاني.

– وفي علم الآثار والتاريخ والسير، وأنساب العرب وأخبارهم، والسيرة النبوية وتاريخ الرسل والأمم المجاورة للجزيرة العربية واليمن وملوكها وأنسابها وأشعارها، وتاريخ أمة الفرس خاصة؛ ظهرت جهود ابن إسحاق، وابن هشام، والواقدي، وابن سعد، والكلبي، والمدائني، والطبري، وأبي فرج الجوزي، وابن الأثير، وابن كثير، والذهبي، وابن خلدون.

– وفي علوم اللغة والأدب – وبسبب الحاجة إلى تعلم الشعوب غير العربية للغة القرآن، وتقويم ألسنة الموالي بعد شيوع اللحن في الكلام- ظهرت جهود العلماء في جمع ألفاظ اللغة وأشعار العرب في الجاهلية والإسلام؛ كجهود علماء مثل أبي عمرو العلاء، وخلف الأحمر، والأصمعي، وأبي زيد الأنصاري، وأبي عبيد، ومحمد بن سلام الجمحي، وحماد الراوية، والمفضل الضبي، وابن الأعرابي، ابن سلام 

– وفي علم النحو ظهرت جهود أبي الأسود الدؤلي، وابن إسحاق الحضرمي، والخليل الفراهيدي، وسيبويه، والليث بن نصر بن سيار،، والأخفش الأوسط، والهراء، والمبرد، والزجّاج، والكسائي، والفراء، والزمخشري.. وعدد لا يحصى ممن تفرغوا لضبط لغة القرآن ولغات العرب، وبيان إبداعها وعظمتها، وتجديد معانيها وأساليبها.[4]

s6102h7e867a37ed3ef711be98bc7e7b2d48c655e085f6 التجديد والإصلاح في العصر الإسلامي الأول

ولعل مما يوجب الإشارة أن كل تلك العلوم رغم طابعها وغرضها الديني؛ إلا أنها لم تكن كلها ولا في معظمها علوما دينية صرفة خاصة بالنخب والفقهاء، بل كانت تتقصد أيضا علوما وثقافات محورها الإنسان وحياته الخاصة والعامة.. فعلم مثل الفقه كان يختص بكل شؤون الدنيا، وعلاقات الإنسان وبيان حقوقه وواجباته تجاه الآخر والمجتمع والدولة.. وعلوم اللغة والأدب اختصت بروح الإنسان وعقله وذوقه.

واستقرت في أصول العلوم حقيقة أن هذا الدين ومقصد هذه الشريعة وأحكامها التي جاء بها هو تحقيق مصالح الناس في هذه الحياة بكفالة ضرورياتهم وتوفير حاجياتهم وتحسينات حياتهم، وجلب المنافع ودفع ضرر عن الإنسان في دينه ونفسه وعقله وعرضه وماله، والعمل على حمايتها وصيانتها، وضبط التوازن بينها وبين حقوق الآخرين وفق قواعد عديدة مبسوطة في كتب العلم؛ فهي ليست شريعة تهمل الدنيا وتهمل الإنسان، وتغرق الدنيا والإنسان في قضايا دينية مجردة لا علاقة لها بالحياة الدنيا.[5]

وخلاصة الأمر أن فكرة (الإصلاح الديني)؛ بمعنى إزالة الفساد والانحراف الطاريء، والمحافظة على عقائد الإسلام وشريعته وشعائره نقية خالصة من الانحراف والتزوير؛ لم تكن غريبة عن المفاهيم الإسلامية لا في المعنى ولا في تجسيده في الحياة الإسلامية، وهو إصلاح شمل الحياة الاجتماعية العامة، والممارسات السلوكية للأفراد، كما شمل الحياة الفكرية والسياسية، وكانت وسائله المحاورات والمناظرات والتآليف في المجالات العلمية والفكرية والفقهية وصولا إلى الثورة والخروج على الظالم ومواجهة المنحرفين في المجال السياسي.. وهو إصلاح قد ينجح أحيانا ويفشل أخرى.. لكنه في الخلاصة حفظ لدين الإسلام – حتى في حالة الفشل- الخطوط الفاصلة بين الصواب والخطأ، وبين ما هو دين ثابت عن الله تعالى ونبيه الكريم وبين ما هو من انحرافات البشر وغبار القرون المتطاولة.

الهوامش:

  1. انظر واقعنا المعاصر، محمد قطب، ص113، ط1، 1986، مؤسسة المدينة للصحافة.
  2. تاريخ المذاهب الإسلامية في السياسة والعقائد وتاريخ المذاهب الفقهية، الشيخ محمد أبو زهرة، مصدر سابق.
  3. للدكتور علي محمد الصلابي عدد متميز من الدراسات عن حركات التجديد العسكري التي تولت مواجهة الغزوات الصليبية والمغولية وحماية العالم الإسلامي منها.
  4. لمزيد من التفاصيل والأسماء والجهود العلمية يراجع كتابا: تاريخ التشريع الإسلامي للشيخ محمد الخضري، ط7، 1960، دار المعرفة للطباعة والنشر، بيروت. وعلم أصول الفقه للشيخ عبد الوهاب خلاف، وتاريخ الأدب العربي للدكتور شوقي ضيف عن العصرين العباسيين الأول والثاني.
  5. يقول الكاتب المعروف محمد أركون: (الإصلاح إحدى مراحل الانتقال من ثقافة اللاهوت إلى ثقافة محورها الإنسان) نقلا عن: الأنا وتمثلات الآخر: الأصولية المسيحية البروتستانتية أنموذجا- مجلة دراسات العلوم الإنسانية والاجتماعية- المجلد4 العدد3، 2013.. وكما هو ملاحظ بيسر فإن دين الإسلام لم يكن مقتصرا على اللاهوت أي علم ما وراء الطبيعة أو الغيب في المصطلح الإسلامي، ولم يعرف أصلا هذه التفرقة بين الدنيا والدين التي عرفتها الحالة المسيحية قبل ظهور حركات الإصلاح الديني، ودارت تعاليم الإسلام ابتداء وانتهاء على ضمان ما تقوم به حياة الناس في الدنيا والآخرة معا، وما هو لازم لاستقامة مصالحهم المعيشية تجنبا لشيوع الفوضى والمفاسد.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى