يعتقد الملاحدة أن قضية الإيمان بالله مجرد توهمات افترضها الإنسان؛ ليُزيح عن كاهله آلام الحياة، والشقاء الذي يلقاه فيها، كما أنهم يدّعون أن العلم التجريبي يقود إلى حتمية إنكار وجود الخالق، وأن قضية الإيمان في أصلها لا تنتمي للفضاء العلمي، وتُعد هذه الادعاءات المتُهافتة أهم سمات الخطاب الإلحادي المعاصر، وعند تمحيص هذه الادعاءات، وتدقيق النظر فيها، نجد أنها تتسم “بالوهن المعرفي”، وتبدو معالم هذا الوهن في تأليه الملاحدة للعلم التجريبي، وجعله الطريق الأوحد والموثوق للمعارف اليقينية؛ ففي التصور الإلحادي المعاصر يعتبر كل شيء لا يمكن التحقق من صحته بالتجربة العلمية الحسية، ضربُ من الوهم والخرافة، وقد أطلق بعض المهتمين على هذه النظرة المغالية في إمكانيات العلوم التجريبية مصطلح (scientism)، والتي تُرجمت في الساحة العربية بــ”العلموية”، وتُعد هذه الرؤية العلموية بمثابة القطب الذي تدور حوله رحى الإلحاد المعاصر. وسوف نقدم في هذه المدونة عرضًا تحليليًا نقديًا لهذه القضايا.
الإلحاد ونحر المعارف الإنسانية
إن المنهج الإلحادي المعاصر يُقرر صراحة بأن المعارف اليقينية لا يمكن تحصيلها إلا من خلال بوابة التجربة الحسية المادية، ومن ثم يستبعد الملاحدة مصادر المعرفة الإنسانية الأخرى (العقل، الفطرة، الخبر)، بل عمدوا إلى تحقيرها، والتقليل من أهميتها في تحصيل المعرفة، ويُعبّر عن هذه النظرة العلموية أحد الملاحدة سكوت تود (Scott Todd) قائلًا: “حتى لو كانت جميع المعطيات تشير إلى مصمم ذكي، فإن فرضية مثل هذه الفرضية يجب أن تكون مستبعدة من العلم؛ لأنها تمثل نظرة غير مادية”. إن هذا الموقف الإلحادي المعبّر عن خلل منهجي؛ نابع من حالة الانبهار بالمنجزات، والاختراعات التي حققها العلم الحديث، والتي ساهمت في تحقيق الرفاهية للإنسان في شتى مناحي الحياة، ونحن في نقدنا هذا لسنا في موقفٍ معادٍ للعلم، كلا، ولكننا نرفض المنهجية الإلحادية التي اتخذت من العلم التجريبي “إلهًا معبودًا” لا يجوز المساس به، وسمحوا له بالولوج إلى كل المجالات البحثية الأخرى؛ فالمنهج التجريبي له حقوله المعرفية التي يشتغل فيها، ومن غير المقبول إطلاق يده إلى كل فروع المعرفة، خاصة إذا كانت المسألة محل البحث تتجاوز منطق “المختبر”، والتجربة” مثل مسائل “الألوهية”، بل إن العلم لا يملك الإجابة عن الأسئلة الكبرى مثل ما الغاية من وجودنا؟ وما مصيرنا؟ إن الملاحدة قاموا بنحر المعارف الإنسانية حين اختزلوها في إطار العلوم الطبيعية المادية.
الإلحاد وتشويه صورة العلم
إن الراصد للحالة الإلحادية المعاصرة يجدها دائمًا ترفع شعار العلم، وتُعلي من شأن قدراته، وتؤكد أن العلم الحديث يقدم صورة متكاملة للوجود ليس للإله مكان فيها. إن هذه النظرة الموغلة في التطرف، سرعان ما ينقلب عليها الملاحدة، ويتنكرون لها، عندما يقودهم الدليل التجريبي للشك في مذهبهم المادي، ولقد صرّح عالم الرياضيات البريطاني جون لينوكس (John Lennox) كاشفًا عن هذا التناقض بقوله “الملاحدة الجدد ليسوا علميين كما يدعون، بل إنهم إذا اقترب بهم الدليل من الشك في المذهب المادي، وترجيح القول بالألوهية تشنجوا، وصاروا لا علميين”
وقد ذكر د. عمرو شريف في كتابه “خرافة الإلحاد” مثالًا بديعًا يوضح مجال العلم، وحدوده، وجاء هذا المثال بعنوان “تورتة عمتي فضيلة” “أعدت عمتي فضيلة “تورتة” احتفالًا بمناسبة ما، ودعت إليها مجموعة من أكبر العلماء في مختلف التخصصات، وطلبت من كل عالم أن يعرفنا بالتورتة من وجهة نظره، تحدث عالم التغذية عن محتوى التورتة من السعرات الحرارية، وتحدث عالم الكيمياء الحيوية عن تركيبها من البروتينات، والدهنيات، وقدم الرياضي معادلات تصف سلوك هذه العناصر، وأخيرًا حدثنا عالم الاقتصاد عن تكلفة صناعة التورتة. لا شك أن العلماء قد أحاطوا “بكيفية” صناعة التورتة، بعد ذلك وجه إلى هؤلاء العلماء سؤال “لماذا صنعت التورتة؟ وهو ما يعرف بــ”الغائية” لم يستطع أحد من العلماء أن يقدم الإجابة، وفي نفس الوقت لم يكن جهلهم هذا قادحًا في قدراتهم”. ويُشير المثال السابق إلى أن كل محاولة لإقحام العلم في ميادين معرفية لا تتناسب ومنهجيته؛ حتمًا ستبوء بالفشل، ولتأكيد هذا المعنى يقول الطبيب البريطاني بيتر مداور (Peter Medawar) “العلم لا يستطيع الإجابة عن الأسئلة البديهية مثل: كيف بدأ هذا الوجود؟ كيف جئنا إلى هنا؟ إن هذه الأسئلة ليس لها إجابة إلا عند الفلاسفة، ورجال الدين.
الملاحدة الجدد وأزمة المبدأ الأخلاقي
تمثل “القيم الأخلاقية” أحد أهم الإشكاليات التي تعصف بالخطاب الإلحادي المعاصر، وتجعله عاجزًا عن تقديم رؤية مقبولة للسؤال الأخلاقي؛ وهذا العجز منشأهُ تلك الرؤية المادية التي يدور في فلكها العقل الإلحادي، وقد طرح الملاحدة عددًا من المؤلفات في محاولة لمعالجة هذه الأزمة، لكنها جميعًا تظهر عجزًا حقيقيًا في الإجابة عن الأسئلة العميقة التي يفرضها ملف “الأخلاق”، ومن بين هذه المؤلفات كتاب “المشهد الأخلاقي” للملحد سام هارس ((Sam Harris، والذي قدم فيه رؤية تعبر عن حقيقة هذا المأزق الإلحادي، يقول هارس”القيم الأخلاقية هي التي ترتقي بعافية الإنسان، وبما أن العلم قادر على إخبارنا بما يحقق العافية؛ فهو قادر على تحديد القيم الأخلاقية الحسنة، والقبيحة”. وعلى الرغم من محاولات هارس في أن يجعل العلم الطبيعي مصدرًا للتعرف على القيم الأخلاقية، نجد ريتشارد داوكنز (Richard Dawkins)، يعترف صراحة بصعوبة هذه القضية بقوله “العلم الطبيعي ليس لديه طرق للحكم على ما هو أخلاقي؛ إن هذه مسأله متروكة للأفراد والمجتمع”. إن تقرير داوكنز هذا يؤسس لمبدأ “النسبية الأخلاقية” التي تجعل الأحكام الأخلاقية غارقة في مستنقع الأمزجة، والأذواق الشخصية. والخلاصة التي أود التأكيد عليها “أنه لا يمكن بناء منظومة أخلاقية متماسكة على أرضية غير أرضية الدين، ولا يمكن الحديث عن المبدأ الأخلاقي في ظل فلسفة مادية ترى أن عقولنا نتاج للعشوائية الداروينية العمياء”. وقد صدق دوستويفسكي حين عبّر عن هذا المعنى في روايته “الإخوة كارامازوف” قائلًا: “إذا لم يكن الله موجودًا؛ فكل شي مباح”.
وأخيرًا هل ينفي العلم وجود الله؟
يجيبنا عن هذا التساؤل “أنتوني فلو” أحد أشرس ملاحدة العصر الحديث، عندما أقر بوجود الإله في محاضرة علنية في جامعة نيويورك عام (2004)، يقول: “لقد صرت أقبل فكرة “الوجود الإلهي”، وأُفسّر ذلك بأن ما أثبته العلم الحديث من تعقيد مذهل في بنية الكون، يشير إلى وجود “مصمم ذكي”، كذلك فإن البحوث الحديثة حول أصل الحياة، وما تكشّف من بنية شديدة التعقيد وطريقة أداء مذهلة لجزيء (DNA)، يؤكد حتمية وجود المصمم الذكي”. وأكد “فلو” في كتابه “هناك إله “”There is a God أن موقفه هذا لم يكن مبنيًا على إيمان أعمى، بل كان بدافع من البراهين العلمية. ولم يهتد الملاحدة برحلة أنتوني فلو العلمية التي رست به على سواحل الإيمان، واتهموه بالخرف، ووصفوه بأقذع الأوصاف. وعلى كلٍ، فإن المنطلقات العلمية التي تقف خلف إيمان “فلو” تُفنّد الفكرة الإلحادية التي تفترض أن العلم ينفي وجود الله. قال تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ}[سورة فصلت: 53] .
جزاكم الله خيراً دكتورنا الكريم
مقال جدا رائع…يدل على عمق التفكير وحسن التعبير
بارك الله بك وبعلمك دكتور ونفع بك العباد والبلاد. مقالة راقية تستحق النشر. كتبت وأبدعت وأوجعت الملحدين👍
احسنت بارك الله فيك