فكر

السياسة الشرعية في ظلِّ الأطراف المتشابكة والحسابات المعقَّدة

توطئة:

الحياة المعاصرة اليوم باتت في حالة مِن التَّشابك والتَّعقيد بحيث فقدت بساطتها ووضوحها، وما عادت أيُّ ظاهرة في الحياة البشرية ممكنة الدِّراسة والتَّحليل بعيدًا عن كلِّ ما يكتنف تلك الحياة مِن ترابط وتداخل؛ وبالتَّالي وفي سبيل فهمها يحتاج الباحث إلى الإلمام والإحاطة بتلك الأبعاد والسِّياقات المتَّصلة بتلك الظَّاهرة، والنَّظر إلى مدى تشكيلها للظَّاهرة أو تأثيرها على حجمها ونوعها ومسارها.

والسِّياسة هي إحدى الظَّواهر البشرية التي باتت اليوم معقَّدة ومتشابكة حدَّ الإشكال والتضخُّم، وما عادت هي تلك المسألة المرتبطة بالحاكم وجلسائه وحاشيته، وجنده وقوَّاته، وشعبه وأرضه، فالحاكم اليوم لم يعد إلَّا فردًا في كيان مؤسَّساتي ضخم اسمه الدَّولة، وهو كيان بات متوغِّلًا في حياة الأفراد والجماعات وشئونهم إلى درجة تحكُّمه بهم وسيطرته عليهم، مِن مولدهم وحتَّى وفاتهم. وهذا الكيان يضمُّ شبكات مِن المصالح والتحالفات والمنافع والمحسوبيَّات.

هذه الحقيقة ينبغي استحضارها واستشعارها ونحن نتناول أيَّ قضيَّة أو حدث أو ظاهرة سياسية اليوم، بشيء مِن التَّحليل أو التَّفسير أو التَّقييم أو النَّقد، إذ لا يمكن فهمها أو تصوُّرها مجرَّدة مِن أجزائها وتفاصيلها وارتباطها بكلِّ ما يحيط بها؛ فالحكم على الشِّيء فرع عن تصوُّره، وطالما أنَّ تصوُّر الأمور المركَّبة صعب فلا ينبغي اقتحامه دون أدوات علمية وموضوعية لخلق ذلك التَّصوُّر.

التَّشابك والتَّعقيد في السِّياسة المعاصرة:

الحياة البشرية على الأرض شهدت تطوُّرات عدَّة، وتغيُّرات مختلفة، وتقدُّمًا كبيرًا شمل جميع الجوانب، وفَرَضَ ذلك كسرُ الحواجز المكانية والزَّمانية والسِّياسية والاجتماعية، بل والفكرية والثَّقافية، وفتح حالات مِن الامتزاج والتَّداخل بين الظَّواهر والأمور والأحداث، بحيث أصبح العالم في حالة سيولة شديدة. وهذا بدوره شمل السِّياسة، فقد أصبحت السِّياسة المعاصرة ظاهرة تحتاج إلى الكثير مِن التَّفكُّر والتَّأمُّل والنَّظر، خصوصًا في حالة الاشتباك، أي في ظلِّ الحروب والصِّراعات والنِّزاعات، أو في ظلِّ التَّنافس والتَّسابق؛ وسواء كان ذلك على صعيد الدُّول أو الأحزاب والحركات السِّياسية أو الشُّعوب.

فإذا أردنا أن نناقش حدثًا في بلد ما فإنَّنا مضطرُّون لمناقشة السِّياقات الاجتماعية والاقتصادية والثَّقافية، فضلًا عن العوامل السِّياسية المحلِّية والإقليمية والدُّولية، بالإضافة إلى الأطراف ذات العلاقة أو المستفيدة مِن الحدث، وأين المصالح المتقاطعة بينها، وأين المخاطر المتَّصلة بها؛ وقد يستدعي ذلك عودة إلى دراسات تاريخية أو جغرافية أو سكَّانية. وهذا خلاف ما يجري، إذ يغلب على الكثير مِنَّا التَّناول البسيط، والنَّظرة السَّطحية، والأحكام المسبقة التي لا تستند إلى أي تقارير أو دراسات أو أبحاث أو بيانات ومعطيات واقعية. وهو مسلك مريح للكثير مِن النَّاس، خاصَّة وأنَّها ترغب في تأييد ما تقرِّره إزاء فكرة ما أو قضية ما، وترى أنَّ مِن المخاطرة استدعاء المنطق العلمي والمعرفي لتناول الحدث، إذ قد لا يساعد على توظيفه وتجييره.

وإذا كان المفتي أو القاضي أو الفقيه يتعامل مع محيط محدود، وقضيَّة أحادية، فإنَّ السِّياسي يتعامل مع محيط شاسع، وقضية شائكة، فهو أكثر مدى في النَّظر والتَّأثير مِن مفتٍ وقاضٍ وفقيه، ويتحمَّل مِن أعباء الإدراك والإحاطة أضعاف أضعاف ما يتحمَّله الفقيه. وإذا كان المفتي والقاضي والفقيه يتعامل مع قضايا مفكَّكة، تنتهي بانتهاء الفتوى أو الحكم أو الاستباط، فإنَّ السِّياسي يتعامل مع قضايا مترابطة، كلُّ واحد مِنها متَّصل بما قبله، وما يحُفَّه، وبما بعده، في تسلسل مستمرٍّ متتابع. وإذا كانت المآلات في الإفتاء أو القضاء أو الفقه معتبرة في تلك القضايا الجزئية المفكَّكة، فإنَّ المآلات في السِّياسة ركنًا أصيلًا في التَّعامل المستدام مع وقائعها وأحداثها.

إذنَّ حسابات السِّياسة معقَّدة، وأيُّ تشريع أو سياسة أو قرار أو خطَّة تصدر عن الدَّولة تمسُّ جميع قوى المجتمع، وتنعكس غالبًا على كثير مِن مناحي النَّشاطات الإنسانية، وتتقاطع فيها مصالح ومخاوف العديد مِن القوى. وأذكر فيما أذكر أنَّ أحد العاملين في الحقل السِّياسي، وبالأخص في مجلس النُّوَّاب، تحدَّث ذات مرَّة كيف أنَّ تشريعًا ما تراعى فيها فئات متعدِّدة وشرائح مختلفة وأطرافًا ذات العلاقة، وفي حال غاب أيُّ طرف منها عن الاهتمام والرِّعاية في القانون سيكون القانون مختلًّا ومرفوضًا مِن قبله. وعلى هذا فقس الأمور، سواء على صعيد أداء مجلس النُّوَّاب أو الحكومة أو رئاسة الدَّولة، وعلى صعيد القضايا الدَّاخلية أو الخارجية.

السياسي في سوريا الجديدة من الاستبداد إلى العدل2 السياسة الشرعية في ظلِّ الأطراف المتشابكة والحسابات المعقَّدة

الدِّيمقراطية وتنازع الإرادات:

الظَّنُّ بأنَّ السِّياسة مجال التقاء الإرادات واتِّفاقها وتعاونها ظنٌّ خاطئ، وناشئ عن تبسيط للأمر أو رؤية سطحيَّة، وفي أحسن الأحوال استحضار المجتمع المثالي (أكان ذلك المجتمع إسلاميًّا أو غير إسلامي). والحقيقة هي أنَّ السِّياسة ميدان تنازع وتصارع وتغالب على مدار التَّاريخ، لا بين الدُّول، بل وبين كلِّ أطراف الحقل السِّياسي، سواء كانت عصائب قبلية، أو جماعات دينية، أو إثنيَّات عرقية، أو فئات مصلحية، مذاهب فكرية. وحركة التَّاريخ، وتعاقب الدُّول، إنَّما هي ترجمة فعلية لهذا التَّنازع والصِّراع والتَّغالب، حتَّى على مستوى الأسر الحاكمة ذاتها في أضيق أحواله.

إسلاميًّا، وفي مرحلة عهد النُّبوَّة والخلافة الرَّاشدة، تأسَّس المجتمع الإسلامي الأوَّل على معاني وقيم ومبادئ الدِّين الرَّباني المنزل؛ ومع انحسار الجيل الأوَّل ودخول شعوب متعدِّدة الثَّقافات ومختلفة المذاهب في الإسلام أو تحت دولته، ومع تحوُّل الحكم مِن نظام شوروي إلى نظام ملكي وراثي، بدأت تنحسر قوَّة “الدِّين المنزَّل” لصالح قوَّة “الدِّين المؤوَّل”، كما أشار إلى ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية (رحمه الله تعالى). هذا التَّحوُّل أثَّر على طبيعة انتماء المجتمع المسلم للمعاني والقيم والمبادئ الأولى، وعلى مدى تلاحم المجتمع وتآلفه، إذ يفقد النَّاس مِن التَّوفيق والخير على قدر ما يفقدون مِن الهدى والحقِّ.

شيئًا فشيئًا، دخل منطق الصِّراع والتَّنازع والتَّغالب على الأمَّة، وكانت السُّلطة والدَّولة مبتدأ الخلاف، وأكثر ما جرِّد السَّيف لأجله، وسفكت الدِّماء عليه. فأصبح في المجتمع المسلم كيانات متعدِّدة تنصب فيما بينها الولاء والعداء على الاختلاف، وترى مصلحتها في الإضرار بالآخرين، وتُقدِّم مطامعها على ضرورات الاجتماع. وهو تصديق لما أخبر رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- عنه مِن الخلاف والفرقة، وضرب الأمَّة بعضها لرقاب بعض. واستمرَّ هذا الحال قرونًا مِن الزَّمن، دون أن يُوجد العقل المسلم حلًّا لهذا التَّنازع والصِّراع والتَّغالب، نظرًا لتسليمه المطلق بنظرية “المتغلِّب” التي صبغت التَّاريخ القديم، وأهملت مبدأ “الشُّورى” في وقت مبكِّر مِن صعود الإسلام كصيغة لإيجاد رؤية مشتركة ومتَّحدة.

وما جرى في المجتمع المسلم، سبقته إليه مجتمعات سابقة، كفارس والروم وأهل الكتاب. كما أنَّه لحق بالمجتمعات الغربية التي تدين بالنَّصرانية، إذ فشت فيها كلُّ عوامل التَّنازع والصِّراع والحروب الدَّاخلية، بصيغ طائفية وقومية وطبقية، حتَّى كادوا أن يهلك معظمهم في حروب عنيفة؛ لكن صدقت فيهم فراسة عمرو بن العاص -رضي الله عنه- حين وصفهم بأنَّهم: “إنَّ فيهم لَخِصالًا أرْبَعًا: إنَّهم لأحلمُ النَّاسِ عند فِتنة، وأَسرعُهم إفاقة بعد مُصِيبة، وأوشَكُهم كَرَّة بعد فرَّة، وخيرُهم لمسكِين ويتيم وضعيف، وخامسة حسنة جميلة: وأَمنَعُهم مِن ظُلم الملُوكِ”(1). وهذه الفراسة أشبه بتحليل علمي لخصائص المجتمع “الرُّومي” الذي ورد النَّصُّ حوله، والتي تعدُّ أوربَّا موطنًا لهم.

فقد عمد الأوربِّيون إلى فكرة النِّظام الدِّيمقراطي الذي تتعدَّد فيه الكيانات السِّياسية الممثِّلة للمجتمع، وتتشكَّل بصورة علنية ورسمية، لتعبِّر عن وجهات النَّظر المختلفة، والآراء المتباينة، والمصالح والهوِّيَّات الخاصَّة، بحيث تتحرَّك في الفضاء العام بشكل سلمي وفي إطار التَّنافس والتَّدافع، تحت سقف الهُوية وفي إطار دستور متَّفق عليه بين غالبية الشَّعب، بعيدًا عن العنف والقتال. وبرغم ما لحق هذه التَّجربة والخبرة البشرية مِن سوء نتيجة بُعدها عن مبادئ الحقِّ الإلهي والعدل الرَّباني في كثير مِن جوانبها، إلَّا أنَّها قابلة للتَّكييف والتَّحسين والتَّعديل، كما أنَّ النُّظم الملكية في دولة الإسلام تجاوزت ظلم وفساد النُّظم الملكية في الدُّول الطَّاغوتية، وأصبحت امتدادًا للخلافة الإسلامية، وإن نزلت عن مرتبتها ومكانتها الشَّرعية. فالملكيَّات في التاريخ الإسلامي لم تكن بسوء الملكيَّات في الأمم والملل الأخرى. وهذا يمكن أن يكون مع النظم الديمقراطية.

إنَّ استبقاء استحضار المجتمع المثالي وما يلائمه مِن نُظُم حاكمة في مجتمع مفكَّك ومنقسم على نفسه يؤدِّي إلى استعصاء إنزال الحلول المثالية على الواقع، ما يدفع إلى العجز عن تطبيقها كلِّية أو تطبيقها بتعسُّف متطرِّف قد لا يدوم. ومَن قرأ أحاديث الفتن وتوجيه الرَّسول -صلَّى الله عليه وسلَّم- لأصحابه للتَّعامل معها، وترتيبه -عليه الصَّلاة والسَّلام- الحلول على قدر السِّياق والحال والقدرة، يعلم يقينًا أنَّ هدي النَّبيِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- هو اتِّباع الحلول الممكنة والمناسبة والقابلة للتَّطبيق، ثمَّ الانطلاق مِنها لمعالجة الواقع باتِّجاه المثال المنشود حسب القدرة والاستطاعة. ومَن ظنَّ أنَّ التَّجاوب مع حال مجتمع الصَّحابة -رضي الله عنهم، هو ذاته التَّجاوب مع حال مجتمع التَّابعين -رحمهم الله، هو ذاته مع الأجيال المتعاقبة حتَّى المجتمعات الأخيرة التي أشار الرَّسول -صلَّى الله عليه وسلَّم- إلى أمراضها العميقة وأزماتها الكبرى وآفاتها المتعدِّدة، فقد أخطأ؛ وقد كان عمر بن عبدالعزيز يقول: “”تُحدَث للنَّاس أقضية بقدر ما أحدثوا مِن الفجور”؛ وهذا مِن فقهه رحمه الله.

وممَّا يُستأنس به في هذا المقام، أنَّه وبرغم المؤاخاة التي شرعها رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- بين المهاجرين والأنصار إلَّا أنَّ التَّمايز بين الفريقين ظلَّ باقيًا في واقع الحال، ذلك أنَّ النَّاس لا يمكن أن ينخلعوا عن جذورهم. وقد برز هذا التمايز في موقفين: عقب تقسيم غنائم معركة حنين، وفي سقيفة بني ساعدة عقب وفاة الرَّسول -صلَّى الله عليه وسلَّم. ففي الحادثة الأوَّلى أثَّر تقسيم الغنائم ومنح مسلمة الفتح الجزء الأكبر مِنها، في نظرة بعض الأنصار للأمر مِن باب التمايز بينهم وبين قريش كعشيرة للرسول، وهو ما دفع الرسول لتطمينهم وتفسير الأمر لهم وتأكيده أنَّه “لولا الهجرة” لكان رجلًا مِن الأنصار. وفي الحادثة الثَّانية حاول الأنصار تنصيب خليفة مِنهم، أو في أقلِّ الأحوال تقاسم السُّلطة مع قريش رأسًا برأس “مِنَّا أمير ومنكم أمير”، وهذا تأكيد مِنهم على أهميَّة معالجة إدارة السُّلطة في ظلِّ وجود مكوِّنين في المجتمع المسلم الأوَّل (مهاجرون وأنصار).

صحيح أنَّ المبادئ والقيم والمعاني الإيمانية ظلَّت هي المرجع والحاكم في تلك الأمور، وحسمت ذلك النزاع على قاعدة “لا ضرر ولا ضرر”، والعدل والتشارك والوحدة الجامعة، لكنَّ بروز تلك المشاعر والمساعي دليل على أنَّ طبيعة البشر لا يمكن إلغاؤها بالمطلق، ولكن معالجتها كي لا تستحيل إلى مسار خاطئ. وما صدر عن الرعيل الأوَّل يتوقَّع صدور مثله أو أكثر حدَّة مِنه في مَن أتى بعدهم. وما صراع القيسية واليمانية أو العدنانية والقحطانية إلَّا بواكير هذا النوع مِن النزاعات.

DALL·E 2024 03 17 19.12.20 Create an image that represents Psychological Approaches to the Group using a similar style to the attached picture. The image should feature a coll 1 السياسة الشرعية في ظلِّ الأطراف المتشابكة والحسابات المعقَّدة

إدارة الخلافات والتَّباينات:

رغم دعوة الإسلام إلى الاجتماع والتَّآلف والوحدة، إلَّا أنَّ هذه الدَّعوة تتأسَّس على فرضية واقعية وهي أنَّ المجتمع البشري قائم على التَّنوُّع والتَّعدُّد والاختلاف، وعليه فإنَّ الإسلام يقدِّم علاجه لهذه القضايا لا على أساس إعدامها فهذا لا يمكن، وإنَّما على أساس معالجتها للوصول إلى صيغة أمتن مِن التَّعايش والتَّعاون والشَّراكة.

وكما يقرُّ الإسلام بحقيقة الاختلاف يضع العلاج له: ((وَمَا اختَلَفتُم فِيهِ مِن شَيءٍ فَحُكمُهُ إِلَى اللَّهِ))، الشورى: 10؛ وكما يقرُّ بحقيقة التَّنازع يضع العلاج لها: ((فَإِن تَنَازَعتُم فِي شَيءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ والرَّسُولِ))، النساء: 59؛ وكما يقرُّ بحقيقة الصِّراع يضع العلاج له: ((وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ المؤمِنِينَ اقتَتَلُوا فَأَصلِحُوا بَينَهُمَا فَإِن بَغَت إِحدَاهُمَا عَلَى الأُخرَىٰ فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبغِي حَتَّىٰ تَفِيءَ إِلَىٰ أَمرِ اللَّهِ فَإِن فَاءَت فَأَصلِحُوا بَينَهُمَا بِالعَدلِ وَأَقسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المقسِطِينَ))، الحجرات: 9. وهذه الآيات وغيرها، بالإضافة إلى الأحاديث النَّبوية، ترسم ملامح إدارة الخلافات والنِّزاعات والصِّراعات في المجتمع الإسلامي مِن منطلق إمكانية وقوعها، وضرورة معالجتها. أمَّا آلية إدارة ذلك فيعود فيه للإفادة مِن تراكم الخبرات منذ العهد النَّبوي، ثمَّ الخلافة الرَّاشدة، ثمَّ التَّاريخ الإسلامي، حيث تشعَّبت الخلافات، وتراكمت النِّزاعات، وامتدَّت الصِّراعات، وأصبحت الأمَّة فرقًا وطوائف وجماعات وأحزابًا وشيعًا.

ومِن البؤس والجمود الوقوف في تقييم واقع المسلمين اليوم على حالة الأماني، أو التَّصوُّرات المثالية، والقفز على الواقع، وتقديم حلول لا تستجيب لاحتياجات الحال وضرورات الظُّروف، بدعوى العودة إلى الماضي المشرق والصُّورة المثالية للمسلمين قديمًا. ومع تفهُّم صدق النَّوايا، وحسن الظَّن، بمَن يطرح هذا الطَّرح، إلَّا أنَّ مِن المقرَّر شرعًا أن ما يصلح لزمان ومكان ومجتمع قد لا يصلح لغيره، خصوصًا فيما كان أصله التَّحوُّل والتَّغيُّر والتَّبدُّل لا الثَّبات والسُّكون. وفي الصَّحيحين، أنَّ عائشة -رضي الله عنها- قالت: (لو أنَّ رَسولَ اللهِ -صلَّى اللَّه عليه وسلَّم- رأَى ما أحدَثَ النِّساءُ لَمَنَعَهُنَّ المسجدَ، كما مُنِعَت نساءُ بني إسرائيل). وهذا مِن فقهها بصلة التَّشريع بأحوال النَّاس.

وقد قدَّم رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- نهجًا حكيمًا ورشيدًا في إدارة الخلاف، حتَّى قبل بعثته، إذ تروي كتب السِّيرة أنَّ قريشًا عند تجديدها بناء الكعبة اختلفت على مَن يتولَّى وضع “الحجر الأسود” في مكانه، ودبَّ بينهم نزاع، فقد أرادت كلُّ قبيلة مِن قريش أن تنال شرف وضع الحجر في موضعه، حتَّى كادوا أن يقتتلوا فيما بينهم، فجاء أبو أمية بن المغيرة المخزومي واقترح أن يحكِّموا بينهم أوَّل مَن يدخل عليهم مِن باب المسجد الحرام، فوافقوا على ذلك، فإذا برسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- أوَّل الدَّاخلين، وما إن رأوه حتَّى هتفوا: هذا الأمين.. رضينا. وما إن انتهى إليهم حتَّى أخبروه الخبر، فقال لهم: هلمَّ إليَّ ثوبًا. فأتوه به، فوضع الحجر في وسطه، ثمَّ قال لهم: لتأخذ كلُّ قبيلة بناحية مِن الثَّوب ثمَّ ارفعوه جميعًا. ففعلوا، فلمَّا بلغوا به موضعه، أخذه بيده الشَّريفة ووضعه في مكانه. فمن كان هذا رشده ووعيه قبل بعثته فإنَّه بعد هداية الوحي وتمام النِّعمة أكثر قدرة على إدارة الخلاف والنِّزاع والصِّراع.

وإذا كانت آيات القرآن الكريم، وتربية الرُّسول لأصحابه، قد عملت على تضييق مساحات الخلاف والنِّزاع والصِّراع بين الصَّحابة، فإنَّه وبقدر غياب تأثير آيات القرآن الكريم وتربية الرَّسول -صلى الله عليه وسلَّم- للمجتمعات المسلمة اليوم تتَّسع مساحات الخلافات والنِّزاعات والصِّراعات، ويصبح مِن الضَّروري امتثال “الثَّوب” الذي أمسكت به قبائل قريش في إبقاء القواسم والمصالح المشتركة بين جميع الأطراف للوصول إلى مرجع للتَّحاكم والصُّلح والاتِّفاق. وفي هذا يقول ابن تيمية -رحمه الله:” إنَّ كلَّ طائفة مِن بني آدم لا بُدَّ لهم مِن دين يجمعهم، إذ لا غنى لبعضهم عن بعض، وأحدهم لا يستقلُّ بجلب منفعته ودفع مضرَّته، فلا بُدَّ مِن اجتماعهم، وإذا اجتمعوا فلا بُدَّ أن يشتركوا في اجتلاب ما ينفعهم كلَّهم،.. وذلك محبَّتهم له، وفي دفع ما يضرُّهم،.. وذلك بغضهم له، فصار ولا بُدَّ أن يشتركوا في محبَّة شيء عام وبغض شيء عام، وهذا هو دينهم المشترك العام، وأمَّا اختصاص كلٍّ مِنهم بمحبَّة ما يأكله ويشربه وينكحه، وطلب ما يستره مِن اللِّباس، فهذا يشتركون في نوعه لا في شخصه، بل كلٌّ مِنهم يحبُّ نظير ما يحبُّه الآخر لا عينه، بل كلٌّ مِنهم لا ينتفع في أكله وشربه ونكاحه ولباسه بعين ما ينتفع به الآخر بل بنظيره”، ويضيف: “وإذا كان كذلك، فالأمور التي يحتاجون إليها يحتاجون أن يوجبوها على أنفسهم، والأمور التي تضرُّهم يحتاجون أن يحرِّموها على نفوسهم، وذلك دينهم، وذلك لا يكون إلَّا باتِّفاقهم على ذلك، وهو التَّعاهد والتَّعاقد، ولهذا جاء في الحديث: (لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له)”(2).

إذن، لا بُدَّ للنَّاس مِن قواسم ومشتركات، تشمل المصالح المطلوبة والمخاطر المدفوعة، وهي ما أسماها بـ”الدِّين المشترك”، ومفهوم الدِّين هنا مرتبط بالخضوع لا الدِّين التَّعبُّدي، باعتبار أنَّهم ملتزمون بهذه الأمور، وخاضعون للوازمها ومقتضياتها، مِن التَّعاون والنُّصرة لتحقيقها. وهذه القواسم المشتركة ينبغي أن توضع في دستور جامع مانع، يشكِّل طبيعة العلاقات بين الأفراد بكونهم مواطنين، وبين المجتمع والسُّلطة التي سيفوِّضونها وينيبونها في إدارة شئونهم باعتبارهما ركني الدَّولة.

السياسة الشرعية في ظلِّ الأطراف المتشابكة والحسابات المعقَّدة

الوعي والإدراك والإحاطة:

هذه المعاني الحسنة وردت في القرآن الكريم، وارتبطت بقدرة الإنسان على معرفة ما حوله، وهي تشير إلى ضرورة عمق التَّفكير وبُعد النَّظر وشمولية العلم، فالحياة دار مركَّبة مِن الأسباب والسُّنن، والوقوف على ظاهرها مخاطرة، وإغفال سيرورتها مغامرة. والمؤمن الذي فرض الله تعالى عليه الاستزادة مِن العلم والهدى، وقراءة السُّنن الكونية والآيات القرآنية، بحاجة إلى أن يفعِّل العقل الذي منحه الله تعالى إيَّاه للوصول إلى استحقاقات الخلافة في الأرض، فإنَّ الخلافة لا تعطى لخامل وجامد وقاعد، بل لا بُدَّ أن يكون الإنسان همَّامًا وحارثًا كما هي طبيعته. مِن هنا يفترض بالمؤمن في هذا الزَّمن وهو يتعامل مع ميدان السِّياسة المعاصرة أن يبذل المزيد مِن القدرات والطَّاقات والوقت لاستيعابها بكلِّ ما فيها، دون تقصير أو خلل، عندها فقط سيتمكَّن مِن التَّجاوب معها بشكل صحيح وصولًا إلى مبتغاه في قيام الحقِّ والعدل الممكن لمثله في زمانه وظروفه.

وإذا كان الغرب قد تفنَّن في خوض غمار علوم السِّياسة والاجتماع حتَّى تمكَّن مِن أَزِمَّة التَّأثير وقيادة العالم، فإنَّ الواجب علينا كمسلمين أن نُفيد فيما سبقونا إليه، بقدر مِن الوعي، لأنَّ هذه العلوم ليست حكرًا على شعب أو ثقافة أو بلد، بل هي حقٌّ مشاع يمنحه الله تعالى لعباده، فمِنهم مِن يوظِّفها في الخير ومِنهم مَن يوظِّفها في الشَّر. وقد أنزل الله تعالى على أهل بابل ملائكة يعلِّمون النَّاس طرق السِّحر لإبطالها، فأفاد مِنها أقوام للخير وأفاد مِنها أقوام للشَّرِّ، وعلَّم نوحًا -عليه السَّلام- صنع السَّفينة، وداود صنع الدُّروع، فجاء مِن بنى السُّفن وصنع الدُّروع للبغي والعدوان والطُّغيان. وعلوم السِّياسة والاجتماع مِن العلوم المشاعة التي مدارها على الخبرة والتَّجربة، خلافًا لعلوم العقيدة والعبادة وشرائع الحلال والحرام فإنَّ مدارها على الوحي والنَّصِّ والدِّين المنزل.

ونخلص ممَّا سبق إلى أنَّ سياسة اليوم بحاجة إلى عقل إسلامي مبتكر ومبدع، يقف على طبيعة التَّشابك والتَّعقيد الحاصل اليوم برؤية جديدة وخطَّة ملائمة وجهد مضاعف، كي نقلِّل الخسائر ونضاعف المكاسب لنا ولمجتمعاتنا المنهكة.

الهوامش:

  1. مسلم: 2898. 
  2. انظر كلامه في رسالة له بعنوان: قاعدة في المحبة.

أنور الخضري

كاتب وباحث يمني مهتم بالقضايا السياسية والشأن اليمني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى