فكر

الشريعة الإسلامية من الصلاحية إلى الضرورة (ج2)

(مفهوم الشريعة الإسلامية، النص، الاجتهاد، الدين، التدين)

أ/ أقسام مصادر الشريعة الإسلامية؟

ثمة خلط كبير في المفاهيم الشرعية، يقع فيها عامة من ينادي بالعلمانية، فالشريعة الإسلامية تطلق على نوعين من المصادر التشريعية:

الأول: المصادر النصية، وتتمثل في القرآن الكريم، والسنة النبوية الصحيحة. 

والثاني: المصادر الاجتهادية، وتتمثل في: الإجماع، والقياس، والمصالح المرسلة، والاستحسان، والعرف، والاستصحاب، وسد الذرائع، وفعل الصحابة، وشرع من قبلنا. وغيرها من مصادر اجتهادية.

ومن ثم فإن القوانين التي تشتمل عليها الشريعة الإسلامية نوعان:

الأول: قوانين حتمية، لا يمكن لأحد مخالفتها، ولا تتغير بتغير الزمان والمكان، كوجوب الزكاة والحج والصيام، وحرمة الربا والزنا، ووجوب الوفاء بالعقود وحرمة نقضها. وهي مستمدة من نصوص قطعية الثبوت والدلالة. وهذه لا مجال فيها للاجتهاد.

والثاني: قوانين مبيحة وتفسيرية واجتهادية، ولا تقوم على نصوص قطعية الثبوت والدلالة، وهذه يحدث الخلاف فيها بين المجتهدين. ويمكن التمييز فيها بين قسمين:

– قسم يقوم على نصوص ثابتة ولكنها ظنية الدلالة، فمجال الاجتهاد فيها يكون في حدود تفهم النص، وفق مناهج الاستنباط الشرعية. (ويجوز أن يكون الحكم في بلد إسلامي أن عدة المطلقة ثلاثة أطهار، وفي بلد آخر أن عدة المطلقة ثلاث حيضات. ولله الحكمة في أنه صاغ النص محتملا للدلالة على أكثر من حكم) (1). ويقول ابن القيم: أحكام (تتغير بحسب اقتضاء المصلحة له زمانا ومكانا وحالاً، كمقادير التعزيرات وأجناسها وصفاتها. فإن الشارع بنوع فيها بحسب المصلحة)(2)

– وقسم مسكوت عنه، لا نص فيه. وأكثر الأحكام الفقهية تندرج ضمن هذا القسم. وهذه منطقة الاجتهاد المفتوح وفق ضوابطه وشروطه، يختلف فيها المجتهدون، وتتطور وتتغير؛ فيجوز مخالفتها.

بل إن من العلماء من أجاز الخلاف في مصادر أصول الفقه نفسه؛ ولذلك فإذا وجدت الأمة في زمن ما مصادر تشريعية لا تتعارض مع الشريعة الإسلامية فيجوز لها الإفادة منها.

ولذلك فمن الخطأ النظر إلى الشريعة الإسلامية على أنها منتج ولد كاملا، بل تطورت عبر تاريخ طويل، والتطور لم يقتصر على الأحكام بل على المصادر نفسها، ونتج عنه تراث فقهي وتشريعي في مختلف الأنظمة والمجالات الحياتية.

والخلاصة أن الشريعة الإسلامية تشمل:

1/ مجموعة الأحكام المستنبطة من القرآن والسنة مباشرة، أو غير مباشرة. 

2/ مجموعة القوانين الصادرة عن المسلمين؛ من أحكام مؤسسة على النص مباشرة، أو المستندة إليه، أو اجتهادات لم تخالف النص. وذلك لتنظيم شؤون الحياة.

❃❃❃

الإسلامية من الصلاحية إلى الضرورة ج2 1 الشريعة الإسلامية من الصلاحية إلى الضرورة (ج2)

ب/ النص والاجتهاد:

من الخطأ كذلك اتهام علماء المسلمين أنهم لا يميزون بين النص والاجتهاد، وهذه التهمة تعرض بثوب آخر؛ حيث يقال: (لا يميزون بين الدين والفكر الديني)، وهذه الصياغة دخيلة، ولكننا نتجاوز ما فيها ونتعامل معها بحسب الدلالات. فإذا كانوا يقصدون بالدين: النص وحده، فهذا خطأ؛ لأن الدين يشمل النص والاجتهاد في النص، بل وكل اجتهاد لا يخالف النص. ولذلك فالاجتهاد من الدين. ولكن العلماء بعد ذلك يميزون بين النص والاجتهاد كما أوضحت أعلاه.

ولذلك فالاجتهاد مجاله مفتوح بضوابطه، والمجتهد يجتهد دينا… وانضباطي حين قيادة السيارة بقواعد المرور هذا أمر أتعبد الله فيه وألتزم به ديانة قبل أن ألتزم به قانونا، كما أن الدولة التي تضع هذه القواعد لحفظ أمن الناس هي تلتزم بالدين الذي جاء وأقر هذا المبدأ. فـ(مجال الاجتهاد كل مسألة شرعية ليس فيها دليل قطعي الثبوت قطعي الدلالة، سواء أكانت من المسائل الأصلية الاعتقادية، أو المسائل الفرعية العملية)(3).

وحين نصف الحكم بالشريعة الإسلامية، فهذا يعني:

– اتباع المسلم لمرجعية النصوص من قرآن وسنة صحيحة (وفق قواعد فهم النص التي أقرها العلماء). – الاجتهاد وفق معيارية المصالح منضبطة بما يتفق مع النصوص ولا يخالفها. فالنصوص معيار أول لتحديد المصالح. ولكنها غير حاصره، فما استبان للناس من مصالح 

– لم تقل بها النصوص، ولا تخالف النصوص – فهي من الشريعة، وهذا مصدر تشريعي عرف باسم: المصلحة المرسلة.

ولا يخطر في بال أحد أن ما اجتهد فيه المجتهد هو حكم الله، ولذلك كانت من وصايا الرسول حين يبعث أميرا أن يقول له: (وإذَا حَاصَرْتَ أَهْلَ حِصْنٍ فأرَادُوكَ أَنْ تُنْزِلَهُمْ علَى حُكْمِ اللهِ، فلا تُنْزِلْهُمْ علَى حُكْمِ اللهِ، وَلَكِنْ أَنْزِلْهُمْ علَى حُكْمِكَ؛ فإنَّكَ لا تَدْرِي أَتُصِيبُ حُكْمَ اللهِ فيهم أَمْ لَا)(4). وفي البيهقي أن كاتبا لعمر بن الخطاب رضي الله عنه، كتب: هذا ما أرى الله أمير المؤمنين عمر، فانتهره عمر رضي الله عنه، وقال: لا، بل اكتب هذا ما رأى عمر، فإن كان صواباً فمن الله، وإن كان خطأ فمن عمر.

❃❃❃

فمفهوم الشريعة الإسلامية فيه إثبات (موجب) ونفي (سلب).. فالشريعة من حيث الإثبات تشمل مجموعة الأحكام الإلهية، كوجوب الزكاة وحرمة السرقة. ومن حيث النفي فإنها تعني: كل ما لم يخالف حكم الله من أحكام بشرية. فالتزام الحاكم والمجتهد في حكمه ألا يخالف حكم الله يمنحه مساحة واسعة يجتهد فيها. حتى ولو كانت هذه المساحة مصادر تشريعية أخرى غير القرآن والسنة. وهذا المفهوم ليس من رأسي، بل هو فهم الصحابة أنفسهم، ولذلك حين كان أحدهم لم يجد الحكم في القرآن أو السنة يجتهد (بما لا يخالف النص)، وقد تبلورت مصادر تشريعية عديدة نتيجة للحركة الحرة خارج النص، ولكن المتقيدة بشرط ألا تخالف النص.

إذن الشريعة الإسلامية تشمل أيضاً: كل ما لم يخالف حكم الله؛ مما يتوصل إليه المجتهد. فوصف الشريعة بأنها إسلامية مرده إلى أنها مشروطة بألا تخالف حكم الله. ثم لها التوسع في الاجتهاد. فنطاقها واسع وقابل للتوسع. هذا أولا. وثانيا وصف الشريعة بأنها إسلامية مرده إلى أن المجتهد في مصادره الأخرى يستلهم مقاصد النص الديني، ويستنبط منه المصالح؛ بما يمنحه أدوات واسعة ومتقدمة للحكم والاجتهاد. وثالثا: الشريعة الإسلامية وصف هوية يجعل المجتمعات المسلمة متصلة بتاريخ عريق واضح المعالم، وله هويته التي تمثله، له تاريخه وحضارته وقوانينه التي تعبر عنه.. ولذلك فهو في حاضره يعبر عن مصالحه المعاصرة بما يتصل مع تاريخه وهويته، دون أن ينفصل عن ذلك ويذهب لأحضان قوم آخرين.

ولذلك لم يكن الحاكم يمنح اجتهاده قداسة.. القداسة في الحكم للنص القطعي الثبوت، القطعي الدلالة، كتحريم الربا أو الزنا، ووجوب الزكاة ووجوب الشورى، ووجوب أن يكون الحاكم برضا الناس، ونحو ذلك. أما كيفية شكل الدولة، أو آلية اختيار الحاكم، فهذه تخضع للدائرة المرنة من الشريعة.

ولذلك فالاستدلال بحديث تأبير النخل، أو حديث الحباب في بدر – على شرعية العلمانية واستبعاد الدين من نطاق المجال السياسي والاقتصادي هو استدلال غير علمي البتة؛ فغاية ما يدل عليه أن المشرع منح الناس نطاقين، الأول: نطاق ثابت مغلق ملزم وليس فيه مجال للاجتهاد البشري (يتصل بمختلف مجالات الحياة)، والثاني: نطاق مرن مفتوح، يجتهد الناس فيه بما تقتضيه مصالحهم وحاجاتهم. المهم ألا تصطدم مع النطاق الأول.

ولذلك حين يقول العلماء عن الفعل الدنيوي للنبي إنه ليس ملزما تشريعيا للأمة، وكذلك أقواله واجتهاداته كما في الأمور المتعلقة بالزراعة والحرب والسياسة… إلخ. فإن هذا يجعل الأمة غير ملزمة باتباع النبي في مثل هذه الاجتهادات. ولكن الأمة ملزمة بألا تخالف الثابت من الدين في الواجبات والمنهيات.

والسياسة الشرعية التي عرفها المسلمون عبر تاريخهم، هي السياسة التي تلبي مصالحهم واحتياجاتهم بما لا يخالف النص الديني، وليس بالضرورة أن يكون لكل حكم نص ديني يرجع إليه الناس.

ولذلك فالقائمون بالسياسة الشرعية ليسوا الفقهاء فقط، بل المتخصصون وأصحاب الكفاءات المختلفة.. فقوانين الشرطة يضعها خبراء في مجالهم، وقوانين المرور كذلك، والقوانين الطبية خبراء في الطب، والزراعة والصناعة والتجارة… إلخ. وعالم الشريعة ليس من اختصاصه وضع هذه القوانين.. ولكن ثمة هيئة تشريعية عليا تعتمد القوانين؛ بعد التأكد من عدم وجود أي مخالفة شرعية؛ لأن الشريعة هي مصدر التشريع دستوريا، ولذلك فمخالفة الشريعة تعد مخالفة دستورية.

الإسلامية من الصلاحية إلى الضرورة ج1 الشريعة الإسلامية من الصلاحية إلى الضرورة (ج2)

ج/ النص والدين والشريعة:

يظل المستشرقون يصرون على هذه الشبهة، وهي الخلط بين النص والدين والشريعة. فالنص هو جزء من الدين وجزء من الشريعة. وهذا الذي اكتمل بوفاة النبي صلى الله عليه وسلم.

أما الدين فهو من الدينونة، أي الخضوع، والدينونة في الإسلام لله تعالى في الحياة كلها: (قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين)، ولذلك حين يحتكم المؤمن إلى الله ويرفض الاحتكام إلى الطاغوت فهذا من الدين.

والتدين: التزام الإنسان بالدين، أي خضوعه في معتقداته وأخلاقه وسلوكه لله، سواء فردا كان أو جماعة. وكل فعل يدخل في التدين عند الإنسان – سواء كان صائبا أو خاطئا – هو من الدين، بمعنى أنه يقصد فيه عبادة الله، ومن ثم فهو يؤجر عليه بقدر تحريه للحق (حتى لو أخطأ)، ويؤثم فيه بقدر انصرافه عن تحري الحق (حتى لو أصاب).

أما الاجتهاد فهو قيام المسلم الأهل لذلك، بإصدار حكم شرعي في مسألة ما، بالبحث في النصوص الشرعية، أو وفقا لها، أو بما لا يخالفها. فالاجتهاد تدين من حيث إنه ممارسة للدين (فالعلم والاستنباط والبحث عن الحكم الشرعي لمختلف الأمور، هو من الدين).

ولكن التدين لفظ عام يشمل الاجتهاد وغيره، فأداء المسلم للصلاة تدين ولكنه ليس اجتهادا. لذلك فالاجتهاد أخص من التدين؛ فهو يقتصر – إذا صح التعبير – على “التدين العلمي الشرعي”؛ ذلك أن الاجتهاد بحث علمي في النص الشرعي أو في وقائع الحياة بضوابط الشرع؛ بما يؤدي إلى إصدار أحكام وتشريعات.

ولم يقيد الدين حياة الناس بالنص، بل جعل النص منطلقا وكاشفا لهم ليكتشفوا من خلاله المقاصد الشرعية، فإن أصابوا فلهم أجران وإن أخطأوا فلهم أجر. والسجل الذي يجمع هذه المحاولات الاجتهادية، إضافة إلى النصوص نفسها، فهذا يسمى “الشريعة الإسلامية”.

ومن ناحية أخرى، فإن اتباع المسلم للشريعة الإسلامية هو تدين، سواء في ذلك ما يمكن للفرد أن يقيمه أو ما يتعلق بالجماعة. فالفرد يحقق الشريعة الإسلامية بأداء الزكاة مثلا، وباجتناب الزنا، وبترك التعامل بالربا…إلخ. والجماعة تقيم الشريعة بتطبيق الحدود، وبتحقيق مختلف أحكام الشريعة المتعلقة بالجماعة. قال تعالى: (ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا).

نفرق كذلك بين الاجتهاد والفكر الديني، فالفكر الديني يشمل أي إنتاج بشري له صلة بالدين، وبهذا المعنى فالاجتهاد جزء من الفكر الديني، ولكن الفكر الديني يطلق أيضا على بحوث مقارنة الأديان مثلا، أو الردود عليها، أو تناول الفرق والطوائف…إلخ. في حين يقتصر مفهوم الاجتهاد على الفكر المتعلق بالأحكام التشريعية.

خلاصة ما سبق:

– الشريعة تشمل: النص (قرآنا أو سنة)، وتشمل: الاجتهاد، ولا تشمل: التدين (باستثناء الاجتهاد). 

– والدين يشمل: الشريعة (النصية والاجتهادية)، ويشمل التدين.

ولذلك فالدين لا يقابل الدنيا؛ لأن تدين المسلم في الدنيا هو من الدين. وسواء تدينه بفعل شعيرة تعبدية: كالصلاة والصيام، أو تدينه في أخلاقه وسلوكه: بالتزام الصدق والوفاء، وغير ذلك من ممارسات حياتية، كامتناعه عن أكل لحم الخنزير أو العلاقات المحرمة، أو امتناعه عن الرشوة والربا… فكل ذلك من التدين.

يقول تعالى: (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ)، أي: قاتلوا مشركي العرب حتى لا يفتنوا الناس في تدينهم ويكرهوهم على عبادة غير الله، فقوله (ويكون الدين كله لله) أي: يكون تدين الناس لله. فسمى التدين دينا. فلا يصح حمل معنى “الدين” هنا على مجرد التوحيد والعبادة؛ لأن هذا دين الله من قبل أن يكون هناك أمر بالقتال. وقوله (حتى لا تكون فتنة) يبين غاية القتال: حتى لا يفتتن الناس في تدينهم، بل يكون تدينهم كله لله؛ دون إكراه (لا إكراه في الدين).

وهذه الآية أيضا (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ)، تدل على أن التدين من الدين؛ فالمعنى: لا يصح لكم أن تكرهوا أحدا في تدينه بأن تجعلوه يلتزم بالإسلام؛ فالناس يتدينون اختيارا لا إكراها. (قال الراغب في المفردات: وقوله: “لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ”، قيل: يعني الطاعة، فإنّ ذلك لا يكون في الحقيقة إلّا بالإخلاص، والإخلاص لا يتأتّى فيه الإكراه). فالآيتان إحداهما حذرت المسلمين من إكراه الناس على أن يدينوا بالإسلام، والثانية أمرت المسلمين بأن يمنعوا الكافرين من فعل ذلك ولو بالقتال.

ولو رجعنا إلى المعاجم العربية فإنها تنص على أن التدين من معاني الدين، في لسان العرب مثلا: (دنتهم فدانوا، أي: قهرتهم فأطاعوا)، (والدين: الطاعة، وقد دنته ودنت له، أي: أطعته). وفي المفردات للراغب الأصفهاني ما يفيد أن أصل معنى الدين هو الطاعة، يقول: (والدِّينُ يقال للطاعة والجزاء، واستعير للشريعة، والدِّينُ كالملّة، لكنّه يقال اعتبارا بالطاعة والانقياد للشريعة، قال: “إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ”، وقال: “وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ”، أي: طاعة). وهنا أشير إلى أن عامة المعاجم العربية لم تكن تستخدم لفظ “التدين”، بل يستخدمون لفظ: “الدين”، فيقولون: دان فلان (أي: أطاع والتزم بالدين)، ولا يقولون: تدين. واللفظ وإن وجد قديما ولكنه نادر الاستخدام.

فالخلاصة أن الدين يشمل: التدين، ونصوص الشريعة (التي بلغها الرسول صلى الله عليه وسلم)، واجتهادات المجتهدين الشرعية.

❃❃❃

ولذلك فقول بعض المستشرقين أن المذاهب شرائع مستقلة(5)، هو قول باطل، ويكشف عن جهل قائله بالفرق بين النص والدين والشريعة.

الإسلامية من الصلاحية إلى الضرورة ج2 الشريعة الإسلامية من الصلاحية إلى الضرورة (ج2)

د/ التمييز بين النص والاجتهاد داخل النص النبوي نفسه

وحين فرق علماء الأصول بين أفعال النبي صلى الله عليه وسلم المختلفة: الجبلية والتعبدية والدنيوية… إلخ. فقد كانوا على وعي بالفرق بين النص والاجتهاد، ومدى الالتزام بكل من ذلك. فأفعال النبي التشريعية هي نصوص ملزمة، لا تختلف باختلاف الزمان والمكان. أما أفعاله الدنيوية (ويشمل ذلك: تدابير الحرب والإدارة والقيادة، وما اتخذه للكسب أو الطب أو الزراعة أو التجارة…إلخ).

بالرغم من أن بعض العلماء ذهب إلى أن هذه الأفعال تشريعية، بمعنى أنها ملزمة للأمة.. فإن جمهور العلماء ذهبوا إلى أنها داخلة في دائرة الاجتهاد، ولذلك لم يقولوا بوجوب المتابعة، وهم يعبرون عن هذا بصيغ مختلفة، مثلا: وهذا فعل فعله النبي بمقتضى الإمامة، أو بمقتضى المصلحة، أو بناء على معرفته وخبرته الشخصية، أو نحو ذلك(6).

فالعلماء ميزوا حتى داخل النص نفسه بين ما هو نص تشريعي ملزم، وما هو اجتهاد تشريعي غير ملزم. فكلاهما تشريع، وكلاهما من الشريعة الإسلامية: النص والاجتهاد.

ولكن العلمانيين أخطأوا حين لم يفرقوا بين القول والفعل، فيذهبون للاستدلال بحديث تأبير النحل مثلا، أو بعض أفعال النبي الاجتهادية ليعمموا القاعدة ويقولون: (أنتم أعلم بأمور دنياكم)،

وينسون أن النص القطعي ثبوتا ودلالة، وإن تعلق بأفعال دنيوية، فإنه يتسم بسمة الثبات، كقطع السرقة.. ولذلك ينسى العلمانيون قول النبي: (أتشفع في حد من حدود الله! والله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها)، وينسون وضع النبي للربا، والوعيد الذي توعد الله به من يأكل الربا (فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله).

وكل هذا مرده إلى خلطهم وعدم تمييزهم بين ما هو نص وما هو اجتهاد. فكما أن النص يكون في الأمور التعبدية فكذلك يكون في الأمور الدنيوية. وكما أن الاجتهاد يقع في الأمور الدنيوية فكذلك يقع في الأمور التعبدية. وربما أضرب مثلا لفعل نبوي حمله بعض العلماء على الاجتهاد؛ ولذلك اختلفوا فيه.

وهي صلاة التراويح، (قيام الليل)(7).

جاء في حديث عائشة: “لم يكن النبي – صلى الله عليه وسلم – يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة”. فقالت الظاهرية: الأمر بها مطلق من جهة العدد. وذهب أكثر الأئمة إلى عدم الوقوف عند هذا العدد، فاختار أحمد والشافعي وأبو حنيفة ثلاثاً وعشرين لفعل عمر، واختار مالك تسعاً وثلاثين كعمل أهل المدينة، ولم يقل أحد من متقدمي علماء الأمة بالوقوف عندما فعله – صلى الله عليه وسلم – فيما نعلم ما عدا بعض الظاهرية. قال النووي: “قال القاضي: ولا خلاف أنه ليس في ذلك حدّ لا يزاد عليه ولا ينقص منه. وإن صلاة الليل من الطاعات التي كلما زاد فيها زاد الأجر، وإنما الخلاف في فعل النبي – صلى الله عليه وسلم – وما اختاره لنفسه”.

ووجه ما رآه الأئمة الأربعة أن الأمر الوارد من الله تعالى مطلق، يتأدّى بالتهجد بأي عدد كان. وما فعله – صلى الله عليه وسلم – لا يزيد عن أن يكون اختار عدداً يناسبه، ثم حافظ عليه، لأنه “كان عَمَلُه دِيمَة”. فلا يدل ذلك على وجوب ما اختاره من العدد، ولا استحبابه. قال الشافعي: “رأيت الناس يقومون بالمدينة بتسع وثلاثين، وبمكة بثلاث وعشرين، وليس في شيء من ذلك ضيق”.

كما أضرب أمثلة لأفعال نبوية اختلف العلماء فيها: هل صدرت عن النبي بوصفه إماما (أي اجتهادية)، أو بوصفه مبلغا (نصية تشريعية). ومن ذلك(8):

– (من أحيا أرضا ميتة فهي له): مالك والشافعي: نعم لكل أحد. أبو حنيفة: لا إلا بإذن الإمام. 

– (من قتل قتيلا فله سلبه): الحنابلة: نعم بدون قول الإمام. مالك: لا، إلا إذا قال الإمام. 

– حين بعث معاذا إلى اليمن قال له (خذ من كل حالم دينارا). فهل الجزية تقدير ديني؟ كالعشر ونصف العشر في الزكاة، أو نصاب الذهب؟ عمر بن الخطاب: لا، ولذلك نوع التقديرات في عهده، بحسب قدرات الناس، من 12 درهما على 48 درهما. 

– النبي غرب الزاني. في حين أن عمر لم يغرب. فهل خالف عمر الدين؟ لا. هو فهم أن فعل النبي صدر بوصفه إماما، فللإمام تقدير المصلحة. النبي قسم أرض خيبر بين الفاتحين. فهو تصرف من النبي بوصفه إماما. ولذلك عمر لم يقسم أرض السواد.

فالخلاصة إذن أن مقولة الحكم بالشريعة الإسلامية، تتضمن جانبين: الجانب الشرعي والجانب الاجتهادي.

فالجانب الشرعي يتمثل في وجوب الحكم بقطعيات الدين، كوجوب الزكاة وحرمة الربا والزنا … كما يتمثل في حرمة مخالفة المجتمع لأمر الله ونهيه. فلا يصح أن يبيح المجتمع الربا أو الخمر أو الشذوذ الجنسي باسم المصلحة. فهذه المنطقة الشرعية إذا صح التعبير: تمثل منطقة الخطر، ممنوع تجاوزها.

وأما الجانب الاجتهادي، فهو جانب السعة والاختلاف والآراء والمذاهب التي قامت على تفسير النصوص وتجارب تطبيقها، والاجتهاد في مجالات واسعة لا نص فيها. والأصل في هذه المنطقة هو الانطلاق من مراعاة المصلحة.

وفي هذا الجانب أبدع المسلمون علماء وفقهاء ومتكلمون واصوليون وغيرهم تراثا أصيلا، لم يخالفوا فيه الدين، ولم يتجاهلوا توجيهاته، وفي الوقت نفسه توصلوا على اجتهادات فقهية مبتكرة.

ولذلك فنحن نسأل من يدعو للحكم بالعلمانية: هل العلمانية ستتجاوز الجانب الشرعي أم الجانب الاجتهادي أم الجانبين؟

فإذا تبين لنا أن علمانية فرنسا احترمت الجانب الاجتهادي في الشريعة الإسلامية، وقام القانون الفرنسي على المذهب المالكي… فلماذا يراد لنا نحن المسلمون أن نتجاوز شريعتنا ومذاهبنا واجتهاداتنا؟!

وأما الجانب الأول فإن القول بتجاوزه يعني ببساطة أننا تخلينا عن ديننا.. فهل يوجد مجتمع مسلم يبيح الخمر والربا والزنا وينص على إباحة ذلك في قوانينه؟!

فإذا قلتم: نحن لا نتجاوز الجانب الأول.. ولكن الجانب الاجتهادي هو جانب دنيوي لا علاقة له بالدين. ولذلك نحن نستدل بمقولة الطوفي والقرافي ونستشهد بفعل عمر.. فالجواب، أن المسلمين عبر تاريخهم يقرون أن الجانب الاجتهادي هو جانب مرن، وفيه سعة، ويحكمون فيه بالرأي المبني على الخبرة والمصلحة والعرف… ويجعلون ذلك جزءا من الشريعة الإسلامية بمعناها الواسع.

فلماذا إذن تفتئتون علينا، وتقولون: هذه علمانية؟!

الهوامش:

  1. مصادر التشريع الإسلامي فيما لا نص فيه، عبد الوهاب خلاف، ص 11. 
  2. ونص كلامه كاملا: (الأحكام نوعان: نوع لا يتغير عن حالة واحدة هو عليها. لا بحسب الأزمنة ولا الأمكنة، ولا اجتهاد الأئمة، كوجوب الواجبات، وتحريم المحرمات، والحدود المقدرة بالشرع على الجرائم ونحو ذلك، فهذا لا يتطرق إليه تغيير ولا اجتهاد يخالف ما وضع عليه. والنوع الثانى: ما يتغير بحسب اقتضاء المصلحة له زمانا ومكانا وحالاً، كمقادير التعزيرات وأجناسها وصفاتها. فإن الشارع بنوع فيها بحسب المصلحة). إغاثة اللهفان، ج1/ 331.
  3. الاجتهاد في الشريعة الإسلامية، القرضاوي، ص65.
  4. صحيح مسلم (1731).
  5. فجر العلم الحديث، 115، 127.
  6. للاطلاع على مناقشة واسعة لهذه المسألة انظر: أفعال الرسول للشيخ الأشقر. ويقول: (حيث يبين أن خلاف العلماء في أفعال النبي مبني على أصل اختلف فيه العلماء، وهو: (اعتقاداته أو ظنونه – صلى الله عليه وسلم – في الأمور الدنيوية هل يلزم أن تكون مطابقة للواقع، بمقتضى نبوته، أو أن هذا أمر لا صلة له بالنبوّة؟). ويقول مبينا المذهبين: المذهب الأول: أنه – صلى الله عليه وسلم – معصوم من خطأ الاعتقاد في أمور الدنيا. بل كل ما يعتقده في ذلك فهو مطابق للواقع. ولم نجد أحداً من قدماء الأصوليين، صرّح بمثل هذا المذهب. ولكنه لازم لمن جعل جميع أفعاله – صلى الله عليه وسلم – حجة حتى في الطبيات والزراعة ونحوها. وهو لازم أيضاً لمن صحح منهم أن تقريره – صلى الله عليه وسلم – لمخبر عن أمر دنيويّ يدل على صحة ذلك الخبر، كما فعل السبكي. المذهب الثاني: أنه لا يلزم أن يكون اعتقاده في أمور الدنيا مطابقاً للواقع، بل قد يقع الخطأ في ذلك الاعتقاد قليلاً أو كثيراً. بل قد يصيب غيره حيث يخطئ هو – صلى الله عليه وسلم -. قالوا: وليس في ذلك حطٌّ من منصبه العظيم الذي أكرمه الله به، لأن منصب النبوّة منصبٌّ على العلم بالأمور الدينية، من الاعتقاد في الله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، ومن الأمور الشرعية. أما إذا اعتقد أن فلاناً مظلوم فإذا هو ظالم، أو أن دواء معيّناً يشفي من مرض معيّن، فإذا هو لا يشفى منه، أو أن تدبيراً زراعياً أو تجارياً أو صناعياً يؤدي إلى هدف معيّن، فإذا هو لا يؤدّي إليه، أو يؤدي إلى عكسه، أن تدبيراً عسكرياً أو إدارياً سينتج مصلحة معيّنة، أو يدفع ضرراً معيّناً، فإذا هو لا يفعل، فإن ذلك الاعتقاد لا دخل له بالنبوة، بل هو يعتقده من حيث هو إنسان، له تجاربه الشخصية، وتأثّراته بما سبق من الحوادث، وما سمع أو رأى من غيره، مما أدّى إلى نتائج معيّنة، فكل ذلك يؤدّي إلى أن يعتقد كما يعتقد غيره من البشر، ثم قد ينكشف الغطاء فإذا الأمر على خلاف ما ظنّ أو اعتقد. وقد صرّح بأصل هذا المذهب، دون تفاصيله، القاضي عيّاض والقاضي عبد الجبار الهمداني المعزلي والشيخ محمد أبو زهرة… ثم ذكر حجج هذا المذهب، كحديث تأبير النخل، وحديث أم سلمة “إنما أنا بشر، وإنكم تختصمون إلي، ولعلّ بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي له على نحو ما أسمع. فمن قضيت له بحق أخيه شيئاً فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من النار”. ثم قال: إذا ثبت الأصل الذي ذكرناه آنفاً، فإنه ينبني عليه أن ما فعله – صلى الله عليه وسلم – من أمور الدينا مما مرجعه إلى تجاربه الخاصة، وخبرته الشخصية، وتفكيره وتقديره في الأمور الدنيوية التي وضحناها، لا يدل على مشروعية ذلك الفعل بالنسبة إلى الأمة. وممن صرّح بهذه القاعدة بصفتها العامة، من الأصوليين القدامى القاضي عبد الجبّار. وصرّح به حديثاً ولي الله الدهلوي، ومحمد أبو زهرة، وعبد الوهاب خلاف، وعبد الجليل عيسى، وفتحي عثمان).
  7. انظر: أفعال الرسول، محمد بن سليمان الأشقر، ج1/ 309. 
  8. انظر هذه الأمثلة في: شريعة الإسلام، القرضاوي، ص 122.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى