فكر

الشريعة الإسلامية من الصلاحية إلى الضرورة (ج4)

(ضرورة الشريعة)

ما سبق قراءة لصلاحية الشريعة من داخلها، ولكن هل نحن نقف عند هذا الحد؟

الجواب: لا، بل إننا نقول إن الشريعة الإسلامية ضرورة لتحقيق أي إصلاح مجتمعي داخل المجتمعات المسلمة. ولماذا نقول ذلك؟

ارتباط الاجتهاد بمصادر التشريع يجعل المسلم متسقا في أفعاله وسلوكه، فلا يوجد انفصال بين الدين والدنيا، ولا يوجد: ما لله لله وما لقيصر لقيصر.. فالإنسان يتعبد الله بحياته، كما يتعبده بصلاته وصيامه فإنه يتعبده بإقامة العدل بين الناس، وأداء الأمانات إلى أهلها، ومقاومة الظلم، والوفاء بالعهود، وحرمة نقض المواثيق، وإماطة الأذى عن الطريق، بل حتى يتعبد الله بمشط شعره، وبلبس الثوب النظيف.. فهناك انسجام واتساق كلي في حياة الإنسان، مرده إلى ارتباط حياته بالله (قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين).

نحن نرفض نتائج النزعة المادية وتجلياتها في حياتنا؛ فالإنسان ليس مادة فقط، بل هو روح أيضا. والحياة ليست مادية فقط بل هي روح ومعنى، والنظام الإسلامي يراعي هذين الجانبين، وأحكامه وقوانينه تراعي هذين الجانبين..

والروح في الإسلام أن الحياة الدنيا ليست منبتة الصلة عن الله سبحانه وتعالى، وهي مزرعة للآخرة.. لذلك فالمؤمن في تجارته أو في وظيفته أو في محكمته أو في… يرى ان العمل عبادة، وأن العدل عبادة، وأن الصدق عبادة، والأمانة عبادة،.. وإماطة الأذى عن الطريق عبادة، وحسن المعاملة عبادة، والنظافة عبادة… إلخ.

• الشريعة الإسلامية فريضة شرعية

هنا سؤال: قد يقول قائل: وهل الحكم بالشريعة الإسلامية واجب على المسلمين؟

فالجواب يأتي من الله تعالى، في سورة المائدة، يبين تعالى أنه أنزل التوراة وأمر أهلها أن يحكموا بها (إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ… وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ) ثم بين بعض أنواع الحكم بما أنزل الله في التوراة، (وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ…) فهي أحكام معاملات وليست عبادات، معاملات من قصاص وحدود. إذن فالله أنزل التوراة متضمنة أحكام المعاملات وأمرهم بالحكم بما فيها. كما يبين ذلك قوله تعالى: (وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ). فالتوراة قد اشتملت على حكم الله من قصاص وحدود ونحوه، وعليه فهنا استنكار لسلوك اليهود حين يعلمون حكم الله في التوراة ثم يذهبون إلى رسول الله طمعا أن يحكم لهم بغير حكم الله.

ثم قال مثل ذلك عن الإنجيل وأهله، (وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ..)، وهذا يصحح المفهوم الشائع الخاطئ أن النصرانية لا علاقة لها بالحكم، وأنها دين طقوسي. فالقرآن يبين لنا أن أهل الإنجيل قد أمروا بالحكم بما أنزل الله كما أمر به أهل التوراة.

ثم يخاطب أهل القرآن بنحو ذلك: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا) ثم يؤكد ذلك في الآيتين التاليتين. ولذلك خاطب نبيه: (إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا).

ولنفهم بعض الحكم الذي في القرآن، وهل المقصود به: العبادات والعقائد فقط أم يشمل المعاملات؟ وسأركز هنا على المعاملات.

يقول تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ).. فالحكم بين الناس بالعدل هل هو حكم عقائد وعبادات أم حكم في المعاملات والأقضية؟!

ويقول: (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا). فهل الاحتكام في المشاجرات والمنازعات إلا من المعاملات بين الناس؟! والله يبين أن إيمان الناس لا يتحقق حتى يكون تحاكمهم إلى ما أنزل الله، لا إلى الطاغوت، كما قال: (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ). ويبين سلوك هؤلاء الذين يعرضون عن الاحتكام إلى ما أنزل الله، فيقول: (وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49) أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (50) إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [سورة النور].

الإسلامية من الصلاحية إلى الضرورة ج4 5 الشريعة الإسلامية من الصلاحية إلى الضرورة (ج4)

• الشريعة والهوية:

إن الدعوة للشريعة الإسلامية يصبح اليوم واجبا شرعيا وضرورة حضارية، وذلك لمواجهة التغريب الثقافي والانسلاخ من الهوية، ولمواجهة التوحش الليبرالي…

مهمتنا اليوم تعزيز الإسلام وحضارتنا وتاريخنا، وتعزيزي الانتساب غليه في نفوس الأجيال.. وهذا لا يكون بالخطب الرنانة، بل بالعمل الفعلي الصحيح، وإحياء الاجتهاد والتجديد الشرعي في مختلف مجالات الحياة.

إن الإسلام هوية، والهوية لا تقتصر على الصلاة والصوم والحج.. بل تشمل مختلف أنماط ومجالات الحياة وأساليبها، ومختلف المفاهيم والقيم والعلاقات.. فهو صبغة شاملة (صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة)؟

من السهل الاستسلام، والارتماء في حضن الآخر الثقافي، وضياع الهوية.. ولكن العاقبة مرة، والخسارة فادحة.

إذا كنا نريد أن ننظر للإسلام على أنه مجرد طقوس مسيحية أو بوذية.. فإن غيرنا يرفض ذلك.. غيرنا ينظر لنا على أننا حضارة وثقافة وتراث وتاريخ.. وهذه كتابات المستشرقين المنصفين والمغرضين منهم طافحة بهذه النظرة.. وها هو (صامويل هنتنجتون) في صدام الحضارات يجعل الحضارة الإسلامية هي الهدف القادم.. فإذا غابت هوية الإسلام فماذا بقي لهذه الأمة؟

الإسلام هويته ليست في الطقوس فقط، بل في أنظمة الحياة كلها.

لماذا نريد أن ننهي صلتنا ذات الجذور الممتدة لأكثر من 1400 سنة… لانهزامية اللحظة؟!

لماذا نريد أن نقضي على عوامل الاتفاق، العوامل المشتركة بين أمة تضم أكثر من مليار.. وهي تمثل قوة بشرية هائلة، لو أحسن توظيفها.. لماذا بدلا من تقوية العوامل المشتركة نحاول تمزيق تلك العوامل.. ومثل ذلك مثل من يدعو على تمزيق اللغة العربية وإحلال لغات قومية محلها!!

كما أن وحدة التشريع بين الدول العربية عامل من عوامل وحدتها، بل وخطواتها نحو الوحدة والقوة؛ يقول عبد الوهاب خلاف(1): (إن المصلحين المعنيين بربط الدول العربية بعدة وحدات تقرب بينهم وتجعلهم أمة واحدة، لو اتخذوا الفقه الإسلامي أساسا لوحداتهم القانونية لوجدوا من أحكامه التي وردت بها النصوص، وأحكامه التي استنبطها المجتهدون، ومصادره التشريعية الخصبة أسسا قوية لتحقيق هذه الوحدة، وسن القوانين التي تلائم البيئات العربية على اختلافها، وكانت قوانين الدول العربية من شجرة واحدة، ومعين واحد، وكانت أقوى دعامة لوحدتهم).

ويقول الشنقيطي(2):

(وثمة اعتراض آخر يبديه البعض اليوم، وهو أن الانشغال بمعارك الهوية يشوش على الشعوب وهي تخوض معارك حياة وموت في سبيل الحرية. والحقيقة أن معركة الحرية لا تنفك عن معركة الهوية. وأن الشعوب لا تحقق حريتها بعيدا عن هويتها، بل إن استعادتها الثقة في ذاتها وفي هويتها هو السبيل إلى تحقيق الحرية. فالحرية ليست في متناول الشعوب الجبانة المهزوزة الفاقدة للثقة في ذاتها. كما أن الحرب على حرية الشعوب المسلمة اليوم مترابطة مع الحرب على هويتها. فالاستبداد الداخلي والاستعمار الخارجي جمعا بين الحرب على الهوية والحرب على الحرية في مجتمعاتنا، وكلاهما يسعى إلى إنتاج نمط من التدين الإسلامي المنزوع الدسم، الذي لا ينصر مظلوما ولا يردع ظالما، ولا يعبر عن أصالة الرسالة الإسلامية ووظيفتها التحريرية، بل هو مجرد تلفيق من مواريث الورع البدعي والزهد الزائف الذي تسرَّب إلى الثقافة الإسلامية من الديانات والفلسفات العتيقة. ولا عجب أن كانت القوى السياسية الإسلامية هي المستهدفة بالاستئصال أكثر من غيرها، لأنها تحارب على جبهة الحرية والهوية معا).

❃❃❃

وأشير إلى نقطة في غاية الأهمية، فإذا كان من حق الدولة العلمانية أن تبشر بعلمانيتها، وتدافع عنها وتحاول تنقية صورتها، وتقدم دروسا إرشادية، كما تفعل فرنسا وغيرها، وكما فعلت الدول الأوروبية لمصر ولتركيا…

أفليس من حق الدولة الإسلامية أن تقدم الإسلام وتسهم في نشره والدعوة إليه، وتصحح الصورة الذهنية الدولية عنه، فالدعوة إلى الإسلام واجب وفريضة على المسلمين، يقوم به المجتمع المسلم، وهو من الواجبات المعنية بتنظيمه الدولة نفسها. ولذلك يقرر فقهاء السياسة الشرعية أن الخلافة مهمتها حراسة الدين والدنيا.

وحين يتخلى المجتمع عن أحكام الله، فإن في القرآن نماذج كثيرة لمن فعل ذلك، ولا سيما اليهود، وغيرهم من الأقوام الذين تهاونوا بأمر الله وشرعه؛ فحاق بهم الهلاك. ونحن لم نصل إلى ما وصلنا إليه من الذل والهوان والضعة إلا بسبب تخلينا عن ديننا، فكما قال عمر: (نحن قوم أعزنا الله بالإسلام، فمهما ابتغينا غيره أذلنا الله).

❃❃❃

ومما يستشهد به في هذا السياق قول المستشار طارق البشري: (من يرفض النظام القانوني الإسلامي لا يرفضه ترجيحا لنظام قانوني أكثر اتصالا بالبيئة المصرية وأكثر ارتباطا بتاريخ الشعب المصري وتراثه، ولكنه يجري ترجيحا لنظم قانونية وافدة من الغرب، ومع تقرير المساواة وضمانها لا وجه لترجيح نظام وافد بالنسبة للجميع على نظام موروث، عاش في البيئة قرونا وتفاعل مع مكوناتها واستوعب ما استطاع من أعرافها وله اتصال ديني بعقيدة الأغلبية).

وثمة مقولة من المهم إيرادها: (إن مصر تجلب القوانين من الخارج – حتى الآن – وتطبقها علينا، ونحن ليس عندنا ما في الإسلام من قوانين مفصلة، فكيف نرضي بالقوانين المجلوبة، ولا نرضي بقوانين الإسلام”؟!)(3). هذه الكلمات ليست لي ولم أقلها أنا، بل الذي قالها: رأس الكنيسة القبطية وبابا الأقباط الأرثوذكس الأنبا شنودة.

الإسلامية من الصلاحية إلى الضرورة ج4 4 الشريعة الإسلامية من الصلاحية إلى الضرورة (ج4)

• اختلاف المنظورات

حين نسأل: ما الذي تحتاج إليه المجتمعات المسلمة لتحقيق الإصلاح المنشود؟

نجد أن لوثة النزعة المادية أسهمت كثيرا في تغيير منظورات بعضنا إلى الحياة، والفلسفات المادية سحبت هؤلاء إلى أماكن الخطر، بعيدا عن المنظور الإسلامي للحياة بمفهومها الشامل. في بحث قيم قارن بين المنظورات الغربية (ومنها: الواقعية والليبرالية) والمنظور الإسلامي لمجموعة من الوظائف والعلاقات الدولية(4)، وخلص إلى مجموعة من النتائج، منها:

(دور المرجعية ودلالات الثابت والمتغير):

يمثل الإسلام مرجعية ثابتة ونظاما شاملا للحياة، يحقق السعادة والهداية الكاملة للإنسان في الدنيا والآخرة. ومن ثم يرى أوغلو أن الصورة السياسية الاجتماعية لا بد أن تتأسس على قاعدة قيمية معرفية نابعة من إرادة الله، تشتمل على معايير ثابتة أبدية، أشبه ما تكون بالسلطة المرجعية العليا.

في المقابل تفتقر النظريات الغربية إلى وجود الثابت في مقابل المتغير، فالحضارة الغربية لا تعرف ثوابت، مما تجعل الحياة الغربية سائلة باستمرار، وسريعة التبدل، إضافة إلى سيادة النسبية السائلة، وما تُسببه من إشكاليات ترتبط بغياب المرجع. ووفقا للمسيري فالنموذج المعرفي الغربي اعتبر التقدم هو المرجعية النهائية، بسبب غياب المرجعية الثابتة لديه، وهذه المرجعية تخلو من الغاية الإنسانية والمبادئ الأخلاقية، بل أصبحت الوسيلة هي الغاية؛ لأن معيار التقدم ليس إلا زيادة المنفعة، وتعظيم اللذة. وبذلك يرى أوغلو أن المعرفة الوضعية جعلت الإنسان هو المرجعية بوصفه أهم عناصر الكون وسيده في إطار فلسفات مركزية الإنسان في الكون؛ أدى إلى فوضى النظريات والنماذج المعرفية.

(التعددية في إدراك العالم).

يرتكز نموذج العالمية في المنظورات الغربية على ثنائية الذات والآخر، ومركزية الذات التي قد تصل إلى حد إنكار هوية الآخر ووكلائه. فمثلا يصل مفهوم “المصلحة القومية” إلى ذروته في المنظور الواقعي، بما يُبدد إمكانية إدراك البعْد الإنساني الجمعي في رؤية الفواعل الدولية.

وبذلك ترى الليبرالية أن الحرب مشروعة على الدول غير الليبرالية، في حين تهدف الماركسية إلى القضاء على الليبرالية، وتعتقد الواقعية الهجومية أن التوسع العسكري المستمر هو من طبيعة الأمور، وهكذا. وهنا يمكن التساؤل عن حق الآخر في الوجود ضمن هذه المنظورات، فضلا عن حقه في الاستقلال وحفظ مصالحه.

أما المنظور الإسلامي فيقوم على التنوع والتعدد، وعدم اختزال العالم في ثنائية الذات/الآخر (إنا جعلناكم شعوبا..)، ويترتب على ذلك علاقات سلوكية لا تحتقر الآخر ولا تتعالى عليه.

(إدراك الذات)(5).

كان الانتماء البشري عبر التاريخ يقوم على عناصر لا علاقة للإنسان بها، كالجغرافيا أو العرق، وهي عناصر ترسخ العنصرية. فلا علاقة للإنسان بنسبه أو عرقه أو قوميته أو جغرافيته. والمشكلة الأخرى أن هذا الانتماء يجعل المنتمين ينظرون للآخر على أنه “غير” مختلف عنهم، وبذلك يصبح هدفا مشروعا لهم.

ومن أمثلة ذلك أن اليهود يصفون غيرهم بـ”الجوييم” ويعني: الأميين، فقالوا: (ليس علينا في الأميين سبيل)، أي كما قال الطبري: لا حرج علينا فيما أصبنا من أموال العرب ولا إثم. واليونان: استخدموا مصطلح “البرابرة”، ويؤمنون أنهم عبيد بالفطرة، كالحيوان تملكه بالصيد أو الحيازة، كما قال أفلاطون. في حين أن اليونانيين هم أسياد ولا ينبغي أن تكون بينهم حروب. وهلم جرا من مصطلحات ينتجها الناس باستمرار لوصف الغير وصفا عنصريا.

لكن الولاء داخل الإسلام كان بعيدا عن الدم والعرق، بل جعل الولاء للدين. والدين يعني: فكرة تؤمن بها اختيار وطواعية. وبالتالي يحق لك الانتماء لهذا المجتمع البشري الاختياري. فكان هذا فكرة ثورية في تاريخ البشرية. وبهذا نعرف سر انتشار لإسلام خلال أقل من قرن من شرق الأرض إلى غربها ومن شمالها على جنوبها؛ لأنه منح الناس ولاء اختياريا. حتى من لا يريد أن يؤمن بالدين كعقيدة وعبادة، فيمكنه الدخول فيه ولاء سياسيا، ويحظى بامتيازاته.

وبناء على ذلك نشأ مفهوم الأمة، الذي يجمع كل من ينتمي إلى الإسلام، بغض النظر عن أي اختلافات.. ولذلك تظل هذه الوحدة هاجسا لدى شعوب العالم الإسلامي اليوم، بالرغم من وجود الدول القومية المختلفة، ويرون أن المثال الذي يصبون إليه هو إنشاء وحدة إسلامية.

اليوم يهلل بعضهم للدعوة إلى “الإنسانية” معتقدين أنها انتماء عام غير عنصري.. وهي دعوة طوباوية خيالية غير واقعية. ولكن بغض النظر عن ذلك، فهناك من يدعو إلى اجتماع البشر وفق انتماءات اختيارية، وفق المبدأ أو الفكر. وهي دعوة تقدمية، سبقهم الإسلام منذ 14 قرنا من الزمان. مع الفارق أن دعوة الإسلام دعوة واقعية منطقية، وليست دعوة خيالية، ولا دعوة استعمارية، كدعوة العولمة اليوم القائمة على إلغاء الهويات وسحقها لمصلحة أقلية تملك القوة والمال والسلطة!!

والإسلام لا يبخس الانتماءات الأخرى حقها، ولكنه يهذبها ويعطيها مكانتها المناسبة ووظائفه اللائقة، دون أن تصبح مصدرا للعنصرية والحروب: (وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا..).

قد يقول قائل: في الإسلام مصطلح “أعجمي”. فالجواب أنه مصطلح لا يحمل أي دلالة غيرية؛ بل دلالة احتوائية، كما في الحديث (لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى) فالأعجمي مصطلح محايد للتعبير عن شعوب معينة، مثله مثل العربي. ولذلك جاء الحديث: (اسمعوا وأطيعوا ولو استعمل عليكم عبد حبشي).. فلا مزية للعربي على غيره.

وأما مصطلح “الكفر” فقد كان المصطلح المقابل الذي يميز من لم يدخل في الإسلام؛ دون أن يترتب على ذلك أي عداوة أو عقوبة أو انتقاص أو تحريض.. وهذا واضح في القرآن والسنة: (ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن)، (وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم)، (من آذى ذميا فقد آذاني). والشافعي يقول: (ما هو حلال في دار الإسلام حلال في دار الكفر، وما هو حرام في دار الإسلام حرام في دار الكفر)… ولهذا من الفقهاء من أفتى بقتل المسلم بالكافر.

الإسلامية من الصلاحية إلى الضرورة ج4 2 الشريعة الإسلامية من الصلاحية إلى الضرورة (ج4)

(عمل الفاعل الدولي)(6):

يحكم عمل الفاعل الدولي من خلال: القيم والمقاصد والقوة. أما القيم فهي المبادئ الموجهة وقد تكون غير أخلاقية، والقيم تشكل المقاصد، وتؤثر في طريقة توظيفه للقوة.

المنظور الإسلامي يجعل القيم فوق الواقع وحاكمة له، مثل: العدل، والإصلاح، والعمران، وعدم العدوان، ونصرة الضعيف. ومن ثم فللقيم دور في قياس الواقع وتغييره، مع التأكيد على أهمية إدراك الواقع، والنظر في ما يمكن فعله من الواقع أو تركه، دون الرضوخ والاستسلام للواقع. وكما تشمل القيم الذات فإنها تشمل الآخر بما يحرم الظلم والعدوان والاستكبار.

في حين أن النظريات الغربية تجعل القيم تابعة للواقع، وقد تعرضت هذه المنظورات للنقد من اتجاهات نظرية جديدة، من داخل النسق المعرفي الغربي نفسه؛ نتيجة إهمالها القيم والتاريخ والفلسفة لحساب الواقع المادي، في سعيها للوصول إلى مقولات عالمية ونظريات عامة.

وأما المقاصد؛ فالمنظور الإسلامي لها يقوم على بعُدين أساسيين؛ هما: المنافع، والضوابط. فالدولة لها الحق في أنْ تتبنى مصالح، وتسعى إلى تحقيقها عن طريق جلب المكاسب، ودفع المضار، وحفظ المقاصد المادية والمعنوية، ولكن هذا الحق ليس مطلقاً. فتعريف المكاسب والمضار والمقاصد ترسمه حدود تتصل بمضمونه، وتستبعد الكسب الذي يحمل أوجه فساد أو ظلم أو إسراف، وتُنظمه مبادئ تتعلق بالموازنات والأولويات والمراحل؛ لضبط العلاقة بين المصالح الحالية والمستقبلية، والفردية والجماعية، والعقيدية والدنيوية، وغير ذلك من أوجه المصالح المختلفة، وتضبطه قواعد تتعلق بشرعية المنطلقات والأهداف والوسائل؛ لتُشكل منظومة متكاملة تُدرَك بها المصالح في إطار رؤية كلية من التوازن. فالرؤية الإسلامية ليست رؤية يوتوبية تستبعد مفهوم “المصلحة”، أو تُقلل من أهميته، وليست رؤية ميكافيلية تعلي الغاية على حساب القيم والوسائل، وإنما تعلي المصلحة لتُشكل مقاصد للشريعة. وهي تحفظ -حتى للعدوّ، في أثناء الحرب- الدين، والعقل، والنفس، والأرض، والمال؛ فلا تُهدَم دور عبادة، ولا يُقتَل شيخ أو امرأة أو طفل، ولا تُحرَق أرض، ولا يُقطَع زرع إلى آخر ذلك. في حين أن المصلحة في المنظور الغربي تحمل تحيزات عنصرية، وتخضع لمنطق الأغلبية أو الفئة المهيمنة.

وأما القوة، فإعدادها واجب من المنظور الإسلامي، ويشمل مختلف الجوانب: المادية والمعنوية: الروحية والاقتصادية والعسكرية، والقوة البشرية وتقوية الإرادة والصمود…إلخ.

• خطورة فصل الدين عن الدولة

يأتي موظف إلى شركة، فتخبره الشركة بعمله ولكنها تقول له: ليست هناك مرجعيات ولا رؤية ولا رسالة ولا أهداف للشركة، فقط أدّ عملك كالآلة. هل يستوي مع موظف يدرك موقعه ووظيفته في سياق رؤية الشركة ورسالتها وأهدافها؟!

فكيف لو أن الشركة قالت للموظف: أنت تعمل معنا، ولكن عليك أن تتعرف على رؤية الشركة المنافسة ورسالتها وأهدافها، ويكفيك أن تؤدي وظيفتك في سياق تلك الشركة؟!

هذا باختصار ما عليه العلماني الذي يقول للمسلم: اعمل بعيدا عن الدين، لا علاقة للدين بوظيفتك. وربما قال له: اعمل في ضوء مرجعية علمانية تحدد لك وظيفتك!!

في حين أن المرجعية العلمانية تفتقر إلى الثبات والسياق اللازم للحياة؛ فالإنسان ليس مجرد آلة في الحياة، وإذا لم يدرك وظيفته فيها من خلال منظور مرجعي يبين له الرؤية والاهداف، ويبين له الماضي والمستقبل؛ فإنه سيعيش في شقاق واضطراب شديد.

وبهذا؛ فإن العلمانية يستحيل أن تكون مرجعية صالحة للإنسان؛ لعدم امتلاكها الرؤية ولا الرسالة ولا الأهداف التي تشكل منظومة فكرية صحيحة متسقة مع وجود الكون والحياة، وتبين الغاية من خلق الإنسان، وتبين الخط الثابت الذي ينبغي أن يقيس إليه واقعه وحياته.

وعودة إلى الموظف الآلة الذي لا يدرك دوره ضمن منظومة الشركة، فلو واجهته مشاكل فلن يقدم لها حلولا صحيحة أو ناجحة؛ لعدم إدراكه رؤية الشركة وغايتها. وكذلك الذي يعمل بلا مرجعية، ممن يقال له: اعمل بعيدا عن دينك، ولا علاقة للدين في عملك!

والدعوة إلى فصل الدين عن الدولة، هي دعوة إلى الفوضى، ودعوة إلى الفشل الذي يجعل الإنسان عاجزا عن إيجاد حلول بناءة وصحيحة لمختلف المشاكل الحياتية؛ مما يؤدي إلى خلق مشاكل لا تنتهي، كما نجده اليوم من سيطرة النموذج العلماني في العالم الغربي، وما تعانيه البشرية من مشاكل لا حصر لها.

الهوامش:

  1. مقدمة كتابه: مصادر التشريع الإسلامي فيما لا نص فيه، ص 6.  
  2. ديمقراطية لا علمانية: https://aja.me/xaktfp  
  3.  الأهرام القاهرية عدد 6/3 / 1985م.
  4. نماذج من العلاقات الدولية في العالم الإسلامي، فاطمة أبو زيد، 2017. 
  5.  انظر: حول أصول العلاقات الدولية، دكتور حلمي مرزوق، منشور ضمن: بحوث في تاريخ الحضارة الإسلامية، ص 187 – وما بعدها. 
  6.  نماذج من العلاقات الدولية في العالم الإسلامي، فاطمة أبو زيد، 2017.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى