فكر

الشريعة الإسلامية من الصلاحية إلى الضرورة (ج6)

(عوامل تأثير الشريعة في القوانين الدولية)

في 14 ديسمبر عام 1970 اعتلى الرئيس الفرنسي فاليري جيسكار منصة جامعة القاهرة، ومما قاله في خطابه(1): (علينا أن نتذكر أنه على الرغم من أن القانون المصري يستمد أصوله من القانون الفرنسي، فإن الإسلام قد أخرج أول محاولة عرفها العالم لتأسيس القانون الدولي). كان ذلك اعترافا رسميا فرنسيا رفيع المستوى بتأثير الشريعة الإسلامية في القوانين الدولية.

أ/ التأثير في القانون الفرنسي والإنجلو أمريكي:

• القانون المدني الفرنسي والمذهب المالكي:

في الأربعينيات من القرن العشرين جرت معركة بين القانونيين في مصر حول مسألة: هل كان التشريع الإسلامي (وبالأخص الفقه المالكي) مصدرا تشريعيا للقانون الفرنسي أو لا. وتعالت الأصوات المنكرة التي ترد القانون الفرنسي على القانون الروماني، حتى قال أحدهم: هاتوا نصا واحدا فقط يبين أن الشريعة الإسلامية مصدرا للقانون الفرنسي. فأجابه الشيخ سيد: وأبيك سنعطيك تسعة أعشار نصوص القانون الفرنسي.

في تلك الأثناء عكف الشيخ سيد عبد الله حسين (وهو فقيه أزهري، وقانوني درس ليسانس في الحقوق الفرنسية) لمدة عشر سنوات على دراسة القانون الفرنسي مادة مادة، وبيان أوجه التشابه والاختلاف مع القانون الروماني والفقه المالكي. وخرج عام 1948م بكتاب (المقارنات التشريعية: مقارنة بين فقه القانون الفرنسي ومذهب الإمام مالك بن أنس).

ويقول في مقدمته: (أجمع مشرعو أوروبا إجماعا سكوتيا على عدم ذكر التشريع الإسلامي، وقد كانوا يحكمون به في بلادهم لمئات السنين.. وكنت كلما تقدمت في الدراسة بجامعتهم أجد النصوص هي النصوص، والتعليل للأحكام عندهم هو التعليل في التشريع الإسلامي خصوصا مذهب مالك. وساعدني على ذلك دراستي الأزهرية فقد درست مذهب مالك لمدة خمسة عشر عاما ونلت أيضا شهادة العالمية على مذهب أبي حنيفة ودرست الحقوق الفرنسية بجامعة ليون الفرنسية، ودرست القانون الروماني والفرنسي.

وبذلك تبين أن القانون المدني الفرنسي (الموضوع في عهد نابليون الأول) وهو أصل القوانين التشريعية الوضعية – مأخوذ من مذهب مالك.

وحتى لا تكون دعواه مجرد كلام، فقد أخرج كتابه في 4 مجلدات قارن فيها بين القانون الفرنسي الروماني والفقه المالكي، وبين أن كثيرا من مواده من الفقه المالكي. وتوصل إلى أن 90% من القانون الفرنسي مرده إلى الفقه المالكي.

وما يؤكد هذا التأثر: تأكيد كثير من المستشرقين ترجمة أهم المؤلفات من الفقه الإسلامي إلى الفرنسية والتي يتقدمها مصنفات الفقه المالكي. وفي ذلك يقول المستشرق الفرنسي سيديو (المولود عام 1808م)(2): “والمذهب المالكي هو الذي استوقف نظرنا على الخصوص لما لنا من الصلات بعرب إفريقية، وقد عهدت الحكومة الفرنسية إلى الدكتور بيرون أن يترجم إلى الفرنسية، كتاب مختصر خليل بن إسحاق (ت 1422م/ 776 ه). وقد قام نيكولا بيرون بترجمته، وطبع لاحقا في 6 مجلدات تحت إشراف وزارة الدفاع الفرنسية (عام 1855م).

ومن المعلوم أن نابليون وضع القانون المدني الفرنسي عام 1804 بعد عودته من حملته المشؤومة على مصر والشام.. وبعد ذلك توالى وضع القوانين: قانون المرافعات، ثم القانون التجاري، ثم القانون البحري، ثم قانون الجنايات. ثم توالت الدول الأوروبية في وضع قوانينها بناء على القوانين الفرنسية.

وقد تم التحقق من هذا التأثر من خلال تحليل القانون المدني الفرنسي مع الفقه المالكية، تتابعت دراسات القانونيين في دراسة القانون المقارن، وخرجت رسائل جامعية وأبحاث في مجلات تجاوزت المئات، تكشف بالتحليل مدى اعتماد الفقه الفرنسي على الفقه المالكي.

ومن تلك الدراسات، دراستان لـ(بن خدة حمزة):

– مدى تأثر القانون المدني الفرنسي بالفقه المالكي في مجال التعبير عن الإرادة. قارنت بين القانون الفرنسي والروماني والفقه المالكي؛ للتأكد من احتمال تأثره بالقانون الروماني. وتوصلت الدراسة إلى المطابقة التامة بين القانون الفرنسي والمذهب المالكي، في حين أن القانون الروماني مختلف عن القانون الفرنسي؛ مما يستبعد فرضية تأثره به. 

– أثر الفقه المالكي في القانون المدني الفرنسي – العقد نموذجا، رسالة دكتوراه في القانون الخاص، نوقشت عام 2016. ومن نتائجها: أن نصوصا كثيرة في القانون الفرنسي تقترب في صياغتها من القواعد الفقهية الأصولية المالكية. وبخصوص النصوص القانونية المتعلقة بالعقد فالتوافق يكاد يكون مطلقا، ولم يحدث اختلاف إلا في مواد قليلة. سواء فيما يتعلق بتكوين العقد وبطلانه، أم ما يتعلق بآثاره وانحلاله. مع التأكيد على عدم وجود تأثر بالقانون الروماني في هذه الناحية(3).

❃❃❃

• التأثير في النظام القانوني الأنجلو أمريكي

ذهبت دراسات متخصصة حديثة، ومنها دراسة لجون مقدسي وهو أستاذ قانون وعميد سابق لثلاث كليات حقوق في الولايات المتحدة – إلى أن القانون الإنجليزي قد تأثر في فترة تكوينه في القرن الثاني عشر ببعض قواعد الفقه الإسلامي، وخاصة بالنسبة لنظرية العقد الناقل للملكية، ودعوى الاستحقاق الخاصة بحماية الحيازة والملكية. وأن نظام تدريس القانون الإنجليزي من خلال نُزل المحكمة أو مدارس القانون بلندن ليس إلا تطبيقا لنظام المدارس الملحقة بالمساجد الكبرى التي تخصصت في تدريس المذاهب الفقهية الإسلامية. وأن النظام القائم على السوابق وتحليل الوقائع ليس إلا تطبيقاً لنظم الفتوى وقواعد الجدل والمناظرات وأساليب أصول الفقه الإسلامي. وذهبت مونيكا غاديسي إلى أن نظام الترست (Trust) [تنمية الثقة] في إنجلترا قد نقل من نظام الوقف الإسلامي(4).

فعلى سبيل المثال، نظرية العقد الناقل للملكية. يشرح جون مقدسي أن الملكية في القانون الروماني وفي القانون الأنجلوسكسوني قبل الغزو النورماندي لا تنتقل بمجرد تبادل الإيجاب والقبول، على عكس الشريعة الإسلامية الذي يترتب على الإيجاب والقبول نقل الملكية مباشرة، وهو ما أخذ به القانون الإنجليزي.

ويعود تأثر القانون الإنجليزي بالفقه الإسلامي إلى فترة تكوينه، في القرنين الثاني عشر والثالث عشر أثناء حكم هنري الثاني (1189- 1154)، ويعود ذلك إلى احتلال النورمان المتزامن لجزيرة صقلية في جنوب إيطاليا في 1061م والجزيرة البريطانية في 1066م. ويرجع تكوين النظام القانوني الإنجليزي إلى استيلاء النورمان ـ الذين يرجع أصلهم إلى الفيكينج (Viking) الذين قطنوا شمال غرب فرنسا في القرن التاسع والعاشر الميلادي ـ في إنجلترا في سنة 1066م ميلادية؛ وإعلان وليام الفاتح ملكاً على إنجلترا؛ في الوقت الذي بدأ فيه استيلاء النورمانديين أنفسهم على جزيرة صقلية في سنة 1060م؛ ليكتمل بالاستيلاء على بلرما (Palerma) وعلى كل الجزيرة في سنة 1091م. وقد كان انتساب غزاة إنجلترا وغزاة صقلية إلى نفس المجموعة البشرية (النورمانديين The Normans) مناسبة لأن يتزاوروا ويتصاهروا ويتبادلوا الخبرات لإقامة نظام سياسي وإداري وقانوني جديد، يتخلصون فيه من عورات النظام البدائي الذي جلبوه معهم من بلاد الشمال(5).

الإسلامية من الصلاحية إلى الضرورة ج62 الشريعة الإسلامية من الصلاحية إلى الضرورة (ج6)

ب/ أمثلة على التأثير في القوانين الأوروبية:

• القوانين الإدارية والتجارية

المؤرخ البريطاني ويلز في كتابه: “معالم تاريخ الإنسانية”، يقول: (أوروبا مدينة للإسلام بالجانب الأكبر من قوانينها الإدارية والتجارية).

وهذا المستشرق المتخصص في الفقه الإسلامي، جوزيف شاخت، بالرغم من تعصبه ضد الإسلام ومحاولة تقليله من دور الإسلام وتاثيره، إلا أنه يسجل شهادته معترفا عن تأثيرات التشريع الإسلامي(6):

(أعظم هذه التأثيرات تمثلت في القانون التجاري، حيث انتقل في العصور الوسطى إلى أوروبا عبر البحر الأبيض المتوسط. وقد اندمجت هذه الأنظمة في القانون التجاري، والقانون المتعارف عليه في التجارة الدولية)… ثم يضرب أمثلة عديدة على ذلك، ويتحدث أيضا عن تأثر القوانين الأوروبية بالقراض.

يقول أحد القانونيين الغربيين (سانتيلان) Santillana(7): (من الأمور الإيجابية التي اكتسبناها من التشريع العربي (يقصد الإسلامي) هذه الأنظمة القانونية العديدة، من مثل الشركات المحدودة (يقصد القراض)، وهذه الأساليب المتصلة بالقانون التجاري. وحتى لو نحينا هذا جانبا فمما لا شك فيه أن المعايير الخلقية الراقية لجوانب معينة من هذا التشريع قد ساعدت على إحداث التطوير المناسب لكثير من مفاهيمنا الحديثة).

يقول عبد العزيز بنعبد الله، مبينا بعض مجالات التأثير على القانون في المجال الاقتصادي(8):

(قضايا الشركات وقد ضمنها البنوك، وهي تقوم في العالم المعاصر بأجل الخدمات لتنشيط مختلف مجالات التنمية الاقتصادية والاجتماعية، فالشركة بصورة عامة في المذهب المالكي هي كما يقول ابن عرفة: “شركة بقدر متمول بين ملكين فأكثر ملكا فقط”، والشركة في القانون الفرنسي شبيهة بها بل تستعمل “المدونة الفرنسية” نفس التعابير التي وجدت في النصوص الفقهية القديمة بما يدل على أن التشريع الفرنسي اقتبس منها، … ولاحظ الأستاذ “أوكطاف بيل” في كتاب له حول الشركة والقسمة في المذهب المالكي، أن الشركات المالكية شركات تنبني على عقود أمانة، وهو ما يجري به العمل في فرنسا قديما. (ربما تحت تأثير الأندلس).

وأهم أنواع الشركات اليوم وخاصة في أبرز دولة اقتصادية بأوروبا هي ألمانيا الغربية الشركة المعروفة بالقراض. والقراض Commandite أهم أنواع الشركات في المذهب المالكي لأنها لا تمس رأسمال المشارك فيها وإنما تقتصر مسؤوليته على حصته في الشركة، أي أن أرباب المال ملزمون على قدر المال كما في القانون الفرنسي وغيره من القوانين الأوروبية، وخاصة منها القانون الألماني الذي أصبحت العمليات المصرفية تجري اليوم في نطاقه على نسق البنوك بدون فائدة، وهو مظهر لأثر الفقه الإسلامي في المجتمع الألماني اليوم).

ويقول جوزيف شاخت أيضا(9): (أن المسيحيين المستعربين أخذوا يستعملون في وثائقهم وعقودهم الصيغ الفنية المتبعة في الوثائق الإسلامية).

• القانون الدولي

يقول العالم البلجيكي نِيسر نيست: (إن المسلمين قد وضعوا قواعد إنسانية للحرب، منذ عصر مبكر، وهي التي أخذ منها الإسبان أفكارهم الأولى عن أحكام الحرب)(10).

ولم يتوقف الأمر عند ذلك.. فحاليا يرى قانونيون غربيون أن أحكام الشريعة الإسلامية في المسائل الدولية يمكن الاستفادة منها وبخاصة في مجالين رئيسين: (الأول): تطوير أحكام القانون الدولي في شأن مركز الفرد فيه، والاعتراف به شخصاً من أشخاص القانون الدولي. و(المجال الثاني): إدخال المبادئ الأخلاقية في القانون الدولي. فالشريعة الإسلامية غنية بالمسائل التي تتصل بهاتين المسألتين(11).

ومن أمثلة التأثر: قانون الجنسية. فالجنسية في الحقيقة ميزة تتسم بها أمة بعينها وهي أيضا وصف لمن ينتسب لأمة من الأمم ولم يهتم الإسلام بالجنسية أو العنصر بقدر ما اهتم بالملة أو النحلة الدينية، ولكن ليس معنى هذا أن أحكام هذا المفهوم لم تكن واضحة مضبوطة في الإسلام، فقد قال النووي في تقريبه نقلا عن عبد الله بن المبارك وغيره أن من أقام في بلدة أربع سنين نسب إليها، وقد تحدث المراكشي في إعلامه عن أمد الحصول على هذه الجنسية حسب الفقه الإسلامي. وقد اختارت مدونات قانونية أوروبية وأمريكية نفس المدة لإقرار جنسية الأجنبي المقيم في البلد(12).

ويقول بنعبد الله(13):

(وقد اقتبس (الفونس التاسع) الحكيم ملك قشتالة وامبراطور المغرب (1272م) متأثراً بمعطيات الحضارة الِإسلامية في النصف الثاني للقرن الثالث عشر- من عدد كبير من المصادر العربية وهو الذي جدد جامعة سالامانكا التي قامت بدور كبير في وضع ما أدى إلى القانون الدولي الحديث وقد كتب الفونس هذا أول مدونة قانونية في أوروبا سماها Las Siete Partidas (نشرت بتعاليق لاتينية من طرف) في ثلاثة مجلدات (مدريد 1829) وقد استمدها خاصة من قانون (الولايات) في الأندلس المسلمة الراجع إلى عام 679هـ/1280م.

فكان اقتباساً فعلياً من الشريعة الِإسلامية، ولا يخفى على المختصين الذين يحاولون التنظير بين فحوى النصوص وتاريخ صدور هذه النصوص، ما كان من أثر لهذا الكتاب اللاتيني في نشوء القانون الدولي الأوروبي في العصر الحديث).

الإسلامية من الصلاحية إلى الضرورة ج63 الشريعة الإسلامية من الصلاحية إلى الضرورة (ج6)

• القوانين البحرية والتجارة الدولية

يقول عبد العزيز بنعبد الله(14):

(ومعلوم أن حماية المسافرين والتجار الأجانب كانت تتسم منذ أوائل الإسلام بسمة الوجوب في دار الإسلام، وقد تبلور التأثير الإسلامي عمليا في التنصيص على هذه المبادئ فعلا في المعاهدات التجارية، مثال ذلك المعاهدة التي أمضيت عام 895هـ /1489 بين جمهورية فلورانسا والسلطان المملوكي “قايتباي” أمير القلعة بالقاهرة، وقد تم توقيعها بعد ثلاث سنوات من المفاوضات برزت خلالها أولا كمرسوم سلطاني لدوائره الإدارية بمصر وسوريا قبل أن تكون معاهدة مع تجار أوروبيين. وقد نص هذا المرسوم بالإضافة إلى حماية التجار وضمان حقوقهم على عدة بنود تتعلق برسوم الجمارك (14%)، والقواعد الإدارية المتبعة، وإقامة قنصلية بين التجار داخل فنادقهم، ووسائل تحويل القروض، بل نص المرسوم حتى على إمكان التحكيم على يد السلطان بين تجار فلورنسا وتجار أوروبيين آخرين على الأراضي أو المياه المملوكية كل ذلك انطلاقا من الشريعة والتقاليد الإسلامية.

وقد أدت المبادلات التجارية بين الشرق الإسلامي وأوروبا لا إلى إمضاء معاهدات دولية فحسب، بل إلى تطوير الأعراف الجمركية والقوانين الإدارية والبحرية والحربية مع أوروبا الغربية، وقد تأسست في الأندلس عام 741هـ/1340م قنصلية للبحر، كما وضعت مدونة للتقاليد والقواعد تجمعت فيها نصوص ظهرت منذ القرن الحادي عشر الميلادي أيام الموحدين، وقد تم ذلك أولا في برشلونة حيث نشرت مجموعة قواعد لتنظيم التجارة البحرية والنص على عدم المسؤولية الجماعية مما لم يعرف إلا خلال القرن التاسع عشر بعد حرب القرم وقد نص “ماس لاطري”، على ذلك من خلال معاهدة أبرمها الموحدون انطلاقا من الآية الشريفة: (ولا تزر وازرة وزر أخرى) صدق الله العظيم، وقد قام اليهود بدور كبير في تسهيل نشر هذه المبادئ التي أدرجوا الكثير منها في تلمودهم دعما لنصوصه التشريعية).

ومن أول المدونات الأوروبية القانونية البحرية مدونة أوليرون (Oleron)، على كافة القواعد البحرية التي كان معمولا بها في البحر الأبيض المتوسط أثناء فترة الحروب الصليبية؛ حيث كانت التجارة العربية بين شمال وشرق المتوسط في أزهى عصورها، وتعتبر قواعد أوليرون تقنينا للقواعد الإسلامية في التجارة البحرية. والنص التاريخي مترجم بالإنجليزية ومنشور على الإنترنت تحت اسم (Oleron Rules) (15).

وأوضحت هونكة أن نشأة القانون البحري في أوربا جاء من صقلية، حيث إن الملك روجير الثاني أوكل أعلى وظيفة في الدولة آنذاك، وهي أمير البحر، الذي لم يشغلها سوى الرجل العربي، وأول من شغلها هو “عبد الرحمن النصراني” واسمه اليوناني: ” كريسودولوس”، وكان قائدا للقوات البحرية والبرية، ثم عينه قاضي القضاة. ثم خلفه عربي آخر وهو “جورج الأنطاكي”، الذي استطاع (بفضل عبقريته الإدارية التخطيطية من رفع من شأن أسطول صقلية ونشأه تنشئة جديدة على النظام المتبع في الأسطول العربي)(16).

• قانون اللاجئين والأمم المتحدة

في دراسة مقارنة صادرة عن الأمم المتحدة [عن المفوضية العليا لشؤون اللاجئين] قالت: إن الشريعة الإسلامية لديها تأثير كبير على قانون اللاجئين المعاصر(17). وأكدت الدراسة أن العادات المتبعة في الشريعة الإسلامية منذ 1400 عام في إكرام الأشخاص الفارين من الاضطهاد لديها تأثير كبير على قانون اللاجئين المعاصر أكثر من أي مصدر تقليدي آخر.

وقال المفوض السامي اللاجئين، أنطونيو غوتيرس، “إن الشريعة الإسلامية أكثر من أي مصدر تاريخي آخر هي أساس الإطار القانوني الذي تبني عليه المفوضية أنشطتها الرامية إلى مساعدة عشرات الملايين من الأشخاص الفارين من ديارهم في أنحاء العالم). وهذا يتضمن حق كل شخص في طلب اللجوء بالإضافة إلى منع إعادة أي شخص بحاجة إلى الحماية إلى مكان الخطر. وقال غوتيرس “يجب على المجتمع الدولي أن يثمن تقاليد الضيافة والكرم هذه وأن يعترف بمساهمتها في القانون المعاصر”.

وقد شرح البروفيسور أبو الوفا، عميد كلية القانون بجامعة القاهرة، كيف يحترم التشريع الإسلامي والعادات والتقاليد اللاجئين بمن في ذلك غير المسلمين ويمنع تحويلهم بالقوة من معتقداتهم ويتجنب تقويض حقوقهم ويسعى للم شملهم مع أسرهم وضمان حماية أرواحهم وممتلكاتهم.

• تأثيرات أخرى (غير أوروبية)

يقول جوزيف شاخت(18): (وفي الطرف المقابل في البحر الأبيض المتوسط نجد أن التشريع الإسلامي قد أثر تأثيرا عميقا في جميع فروع القانون في إقليم الكرج (جمهورية جورجيا السوفيتية الآن)، وذلك خلال فترة تمتد من عصر السلاجقة إلى عصر الصفويين (494 – 906 هـ).

وكذلك يوضح جوزيف شاخت ظهور تأثير التشريع الإسلامي في قوانين أهل اليهود والمسيحيين. فعلى المستوى اليهودي تأثر موسى بن ميمون -وهو حاخام يهودي (ت 601هـ/ 1204م) – بالتشريع الإسلامي، (وظهر ذلك في تنظيمه للمادة القانونية في مدونته بعنوان “مشناه توراة”، وهو عمل لم يسبقه إلى مثله أحد من اليهود)(19). وعلى المستوى المسيحي تأثرت الكنيسة المسيحية الشرقية (اليعاقبة والنسطوريون) بالتشريعات الإسلامية، فاقتبسوا في قانون الميراث والأوقاف الخيرية وغيرها.

ومن ناحية أخرى، فإن (انبساط الحكم العثماني على بقاع شاسعة من العالم كان له أعمق الأثر على القوانين في مختلف ميادين الحياة وخاصة في الأقاليم الأوروبية التي خضعت للآستانة ولا يزال على رجال القانون المقارن أن يسبروا أغوار هذه التأثيرات والمبادلات بين الفقه الإِسلامي والقوانين الوضعية فيما كان يسمى بالدول الاشتراكية التي كان معظمها تابعاً للأتراك إلى حدود سيبيريا حيث يمتد ما كان يسمى بالجمهوريات الِإسلامية السوفياتية)(20).

الإسلامية من الصلاحية إلى الضرورة ج66 الشريعة الإسلامية من الصلاحية إلى الضرورة (ج6)

ج/ بوابات التأثير:

تعددت بوابات التأثير في الأنظمة والقوانين الأوروبية. وقد أشرنا سابقا إلى بعضها، ومن ذلك الحملة الفرنسية على مصر، وقديما كانت عبر أربع بوابات: بوابة الأندلس في غرب أوروبا، وبوابة صقلية في جنوب إيطاليا، وبوابة الامتداد العثماني في شرق أوروبا، وبوابة الحروب الصليبية. ويضيق بنا المقام أن نتحدث عن كل بوابة منها بالتفصيل، ولكن نعطي بعض الملامح العامة فيما يتصل بالجوانب القانونية والتنظيمية.

- الأندلس

كانت الأندلس بداية صلات الفقه المالكي خصوصا، والأنظمة الإسلامية عموما بأوروبا. وكان لاتصال أوروبا مع غربها أثر في بدء استمداد قوانين الفقه المالكي في الأحكام المدنية. وطبقوها خلال 700 سنة. وأحلوا كثيرا منه محل القانون الروماني والكنسي، ولا سيما ما يتعلق بالبيوع والمعاملات.

ومن المشهور بين الباحثين أن البابا الفرنسي سلفستر الثاني (ت 1003م) رحل إلى الأندلس وتعلم العلوم، وعاد إلى فرنسا بعلوم العرب!! ومنها: الفقه المالكي، الذي بهره وجود مدونة قانونية شاملة لمختلف جوانب الحياة.. وبدأوا تطبيقه، ولكنه لم يخبرهم أن هذا القانون من عند المسلمين، بل شاع على أنه تحديث للقانون الروماني!! حتى إنه أثر عنه قوله: (أنا لا أمنع الزواج، ولا أدين الزواج الثاني، ولا أذم أكل اللحم)(21) ومن الواضح تأثره بالإسلام في هذه المقولة، وهي مقولة ليست هينة حين تصدر من البابا!

وفي هذا السياق، هذا الأمير تشارلز – ولي عهد بريطانيا- في محاضرة ألقاها في مركز أكسفورد للدارسات، يدلي بشهادته:

(كانت قرطبة في القرن العاشر اكثر المدن تحضراً في اوروبا، فنحن نعرف وجود مكتبات عامة في اسبانيا، في الوقت الذي كان فيه الملك الفريد يرتكب أخطاء جسيمة في فنون الطبخ في هذه البلاد، ويقال إن مكتبة حاكم قرطبة كانت تضم 400،000 مجلد، أي ما يزيد على عدد الكتب في جميع المكتبات في بقية أوروبا معاً، وقد كان ذلك ممكنا، لأن العالم الاسلامي اكتسب من الصين مهارة صنع الورق قبل أكثر من أربعمائة عام من حصول أوروبا غير المسلمة على تلك المهارة، كما أن كثيراً من المزايا التي تفخر بها أوروبا العصرية جاءت أصلاً من إسبانيا أثناء الحكم الاسلامي، فالدبلوماسية وحرية التجارة والحدود المفتوحة وأساليب البحث الأكاديمي والمستشفيات جاءت كلها من تلك المدينة العظيمة).

- صقلية والنورمانديين

ومن طرق التأثر الشهيرة: صقلية، حيث نشأت دولة عربية إسلامية لأكثر من قرنين (من عام 830 م – حتى غزو النورمانديين عام 1083م)، تركت أثرا كبيرا في الحضارة الأوربية. وتقول هونكه(22): (ففي صقلية هذه التي ظلت قروناً عديدة نورمانية أشتوفية، ولدت أوربا الحديثة، وكانت العبقرية العربية هي المولدة).

وقد تحدثت المستشرقة الألمانية زغريد هونكة(23) حديثا مطولا عن تأثر النورمانديين بأنظمة العرب، وانتقال ذلك التأثر إلى أوروبا. ومما قررته:

(روجير الثاني):

تأثر حكام صقلية تأثروا بالمسلمين تأثرا كاملا: (أما حكام صقلية الجدد فقد كانوا أسبق من غيرهم إلى اقتباس العادات والتقاليد والثقافة الإسلامية رغمًا من الاتفاقية المبرمة بينهم وبين البابا. وقد أسرف هؤلاء الحكام وغيرهم من سكان صقلية المسيحيين في التحلل من التقاليد المسيحية حتى الطقوس الكنيسة وشعروا بالسعادة عندما ساروا في طريق الأمراء العرب).

ولقد أوكل ملوك صقلية إدارة الدولة إلى العرب، وأولهم الأمير روجير، (الذي بلغت ثقته بالعرب حدًا جعله يكل إليهم حكم البلاد وإدارتها)(24). وتصرح بأن روجير الثاني أخذ عن العرب الأنظمة والتشريعات، ولا سيما ما يتعلق بالاقتصاد والضرائب(25). وتنقل عن ابن جبير من رحلته كلاما مهما يصف فيه صقلية وملكها وموظفيه، يبين أن عامة الموظفين في دولته كانوا من المسلمين(26).

وشهدت للقوانين التجارية في العالم العربي بالمرونة؛ في مقابل القيود التي كانت مفروضة على التاجر الأوروبي، وهذا غير تحريم الكنيسة في أحيان كثيرة للمتاجرة مع العرب (البرابرة)، وهو الأمر الذي رفضته مدينة البندقية فكانت فتحا مشرقا لأوروبا، وكان ذلك سببا رئيسا في نهضة إيطاليا وأوروبا: (انتصار البندقية كان، ولحد ما، انتصارا لأوربا، فالبندقية هي همزة الوصل بين الشرق والغرب اقتصاديا وعلميا وأدبيا، وإليها يرجع الفضل في هذه النهضة الإيطالية الشرقية، ومن ثم أخذت بيد الألمانية فالفرنسية. فتجارة الأراضي المنخفضة، ونجحت البندقية فربطت بينها جميعها وكونت شبكة قوية شملت المدن والشوارع ومختلف الطرق حتى بلغت إنجلترا والبلاد الإسكندنافية الشمالية فنهضت هذه الدول نهضة غير متوقعة). وبذلك أدت التجارة العربية إلى ثراء أوروبا اقتصاديا واجتماعيا(27).

ومما استفادته أوروبا من المسلمين: التسهيلات التجارية(28)، والنظام الضريبي(29)، وكذلك الأنظمة المؤسسية التي تعلمتها أوروبا من النظام الطبي والمستشفيات عند المسلمين، ومن ذلك اشتراط الحصول على شهادة للممارسة الطبية، ووجود لائحة طبية للممارسة الطبية. والأنظمة التعليمية والمؤسسات التعليمية من مدارس وجامعات(30).

وتقرر حقيقة مهمة، وهي أن الأوروبيين سطوا على العلوم والمعارف والتراث العربي، ونسبوه لأنفسهم(31).

وتحدثت عن تأثر الفرسان المسيحيين أثناء الحروب الصليبية، بالأنظمة والعادات والتقاليد العربية، تقول عنهم: (ألم يحدث أن الفرسان المسيحيين، لما كانوا في البلاد المقدسة وبخاصة ملكهم «بلدوين» الأول، رفضوا الانصياع للعقلية الصليبية ولم تحل إنذارات البابا دون اقتباس عادات وتقاليد المسلمين أعدائهم في العقيدة، وبلغت درجة تأثر أولئك الفرسان المسيحيين وعلى رأسهم بلدوين بالمسلمين والإسلام أنهم حرموا على أنفسهم أكل لحم الخنزير كما التزموا أكل الطعام العربي ومراعاة كل ما هو عربي حتى العملة العربية والمحلاة بالآيات القرآنية الكريمة. لقد جاء الصليبيون «لمقاتلة أعداء الله» فحدث أنهم قلدوا المسلمين في كل شيء حتى إن المراسلين الذين كانوا في القدس والذين كان يسرهم أن ينشروا عنهم أنهم يحاربون في سبيل الله، قال أولئك المراسلون: «نحن الذين كنا أوربيين أصبحنا الآن شرقيين»).

الإسلامية من الصلاحية إلى الضرورة ج65 الشريعة الإسلامية من الصلاحية إلى الضرورة (ج6)

(فريدريك الثاني):

فريدريك الثاني (1194-1250)، إمبراطور ألمانيا وملك صقلية وملك بيت المقدس، وخاض مع البابوية حربا من أجل السيطرة على إيطاليا، وهو قائد الحملة الصليبية السادسة عام 1228م.

تقول هونكه عن فريدريك الثاني: أنه (الشعلة المضيئة في مملكة صقلية ونجم أوربا اللامع).. (يأتي في طليعة قادة النهضة الإصلاحية وحركة إحياء العلوم)، وأنه (أكثر أمراء الإصلاح شبها بالحكام العرب، مثله مثل المأمون أو الكامل)، وأنه كان عصريا بسبب تأثره بالأفكار العربية وتمثله لها. وأن (هذه الشخصية الجبارة يجب أن ننظر إليها ونحكم عليها من هذه الزاوية فقط، فالشيء الذي يجب الاعتراف به أنه ما كان يبلغ ما بلغه دون القواعد والأسس العربية التي قامت عليها دولة النورمانيين، فضلاً عن الثقافة العربية التي كانت سائدة في صقلية وطنه). ولقد تلقى تعليمه الأول في مدرسة عربية، وأهم معلميه هو القاضي الشرعي للمسلمين في باليرمو(32).

وتعده مؤسس العلوم الحديثة في أوروبا، (وأصبحت صقلية في عهده مركزا مهما لانتقال الحضارة العربية إلى أوروبا)(33). وقد أسس جامعتين: ساليرنو ونابولي، (ساليرنو كانت تدرس الثقافة والعلوم العربية والإسلامية، ومنها الطب. وفي نابولي كانت تدرس جميع الفروع العلمية باستثناء الطب، كما كان يدرس فيها القانون.

وقد اقتبس فريدريك – كما تقول هونكه نظام حكمه (من نظام حكومة السلطان الكامل)، وكان يتداول مع مستشاره فخر الدين شتى الموضوعات، ومنها: (تنظيم الدولة وإدارتها حسب الأنظمة العربية المتبعة. وقد أدرك فريدريش أن العرب قد نبغوا في دولتهم في خلق نظام إداري قوي، فسلاطين الفاطميين في مصر كانوا أيضاً سادة صقلية واشتهروا بأنظمتهم المالية).

وحتى روجير الأول من قبله، (اقتبس في دولته القائمة في الجزيرة نفس النظام الذي كان سائداً من قبل أيام حكم العرب، فأبقي على ديوان الخزانة والحسابات والإدارة والجمرك، وهي التي كانت تعرف قديماً باسم ديوان الأحباس وديوان النظر، وغيرها كتلك الخاصة بالتنظيم الإداري وما إليها، وقد احتفظ روجير بأسمائها العربية وموظفيها العرب كما حرص حرصاً شديداً على الحسبة لتنظيم المكوس والأتاوات والمكاييل والموازين وإدارة الأملاك. والذي حدا بروجير على الاحتفاظ بهذا النظام العربي إعجابه به أولاً وتجنباً لما عساه أن يحدث من اضطراب وفوضى. كذلك استخدم أيضاً فرقاً عربية بضباطها وقوادها كما حرص على الاستفادة من أمراء البحرية العرب).

ولذلك استفاد فريدريك من هذا النظام المالي، كما تقول هونكه أن (حرب فريدريش ضد الثوار ثم الحملات الصليبية وفيما بعد حروبه المتصلة ضد البابا والمدن اللومباردية. كل هذه المشاكل مجتمعة كلفته أموالاً طائلة، وديوان الأحباس وديوان النظر وغيرهما من الدواوين العربية فقط هي التي مكنته من جمع الأموال اللازمة للمحافظة على كيان الدولة داخلياً وخارجياً).

كذلك استفاد فريدريك من العرب (في مسح الأراضي سنوياً وتقدير الضرائب حسب مساحتها وذلك تجنباً لما عساه أن يقع من ظلم عند تقدير الضرائب، فأدخل هذا النظام أيضاً إلى صقلية، كما تكونت لجان لتقدير الأراضي وتقدير الدخل، وتقدير الضرائب، ومقابل الجزية في البلاد الإسلامية التي فرضت على غير المسلمين فرضها هو في مملكته على المسلمين واليهود).

(كذلك نجد الضرائب غير المباشرة التي فرضها العرب على المواد التموينية والمواد الكمالية تفرض على سكان صقلية كما كانت فيها من قبل. كذلك نجد احتكار الدولة لبعض السلع الخاصة والمناجم عاد ملكاً خاصاً لرئيس الدولة الذي كانت تتبعه إدارة المكوس، كما احتكرت الحكومة أيضاً بعض البضائع مثل الحرير وغيره من الحاجيات المنزلية، فكما أن هذه الأشياء كانت حقاً من حقوق الدولة العربية منذ أواخر القرن العاشر الميلادي كذلك الحال هنا في صقلية، فقد درس فريدريش هذا النظام وبخاصة إبان إقامته في الشرق، وعند عودته فرض احتكار الدولة للملح والمعادن والقار والكتان، كما استولى على تجارة الحرير وصباغته وجعلها حقاً من حقوق الدولة، كما وضع تجارة الحبوب تحت رقابتها أيضاً).

(كذلك من الأنظمة المالية لأوربا نظام المكوس الفردريشي، فقد اقتبسه النورمانيون عن رعاياهم العرب إلا أن فريدريش نظمه تنظيماً دقيقاً جداً، فألغى المكوس الداخلية الإقليمية التي كانت كل جماعة تفرضها حسب أهوائها واكتفى فريدريش بالمكوس القائمة عند حدود المملكة فقط. وعقب عودته من الحملة الصليبية أقام في جميع الموانئ وعلى الحدود الشمالية فنادق كتلك الموجودة في البلاد العربية وعلى امتداد طرق القوافل وفي الموانئ حيث تأوي مئات الألوف من التجار والمسافرين. فجميع الصادرات والواردات يجب أن تخزن في مخازن خاصة تابعة لتلك الفنادق وتحت إشراف موظفين خصوصيين، وكانت هذه البضائع توزن موازين حكومية وتباع وتشترى وتفرض عليها المكوس).

ونظام الحسبة أدخله فريديريك إلى أوروبا: (أدخل أيضاً نظام الحسبة العربي لمراقبة سائر المهن والتجارة والاقتصاد والصحة كما حرص على وجوب السهر على مراقبة هذا النظام واحترامه، وقد ظل نظام الحسبة قائماً في مملكته قروناً طويلة، وفي عام ١٢٣١ أصدر القيصر مرسوماً بتعميمه في أوربا أيضاً، أي خارج الجزيرة).

فريدريك اتخذ حرسه الخاص من العرب(34)، وقد (وكل إلى عرب «لوكيرا» حراسة خزانة الدولة وممتلكاتها التي لم تكن تدر حتى ذلك الوقت إلا الدخل القليل. كذلك وكل القيصر إلى العرب الإشراف على القاعات الملكية وإدارة جميع أملاكه وضياعه الخاصة وأملاك الدولة والمصانع التي كانت تنجز جميع الأعمال التي يحتاج إليها القصر الملكي، وكذلك المصانع العربية التي كانت تنتج السهام والأقواس والدروع والجنات مختلف أنواع المجانيق، وكذلك اللجم وسرج الخيل ورحل الجمال والخيام والسجاجيد والستائر وغطاء الحيطان والوسائد المطرزة بالذهب والمطارح الحريرية).

وكان كبار رجال دولته من العرب، ومنهم: («جيوفيني» ويلقب «آل مورو» أي المسلم، وكان أمين القصر ثم رقاه إلى وظيفة كاتم أسرار المجلس الاستشاري القيصري). ومنهم: ريتشارد، وهو عربي صقلي. (وهو في الأصل من رجال القانون فكان يعمل قاضياً، ثم أصبح في الدولة المسيحية كبير الأمناء، ثم تدرج في الرقي حتى عينه الملك مستشاره الخاص وظل في منصبه هذا زهاء عشرين عاماً).

وتقول عن تأثير ريتشارد العربي في الأنظمة التشريعية للدولة، ومن ذلك “مصلحة الرأي”:

(بعد عودة القيصر من ألمانيا عام ١٢٢٠ م تولى العربي ريتشارد كبير أمناء مملكة صقلية إلى جانب عمله وزارة المالية والخزانة، وكذلك الإدارة العامة للرأي. ومنحه سيده كثيراً من الأملاك في صقلية وقد ظل هذا العربي قائماً بهذه الوظائف الخطيرة في الدولة حتى وفاته عام ١٢٣٦ م. وظهور هذا التغير الجوهري الخطير في التشريعات القانونية في مدارس الحقوق في شمال إيطاليا، وذلك بسبب وجود القاضيين «بطرس فون فينيا» و «ثاديوس فون سويسه» في البلاط الملكي، فقد انتقلت إليهما إدارة مصلحة الرأي بينما انتقل «يوجنيس موروس» إلى مصلحة الأمانة).

ومن كبار موظفي صقلية أيضا: (“أوبرت فلاموناكا» وهو في الواقع ابن عبدالرحمن، وقد ترقى بجده وكفايته من وظيفة المدير العام المصلحة ضرائب بالرمو إلى المدير العام المالية صقلية وامتد سلطانه حتى القصور الملكية، وكذلك المهام الدبلوماسية والسفارات.. كما ترأس مرة أخرى بعثة اقتصادية لإجراء محادثات تجارية مع سلطان تونس … وفي دولة كدولة الأشتوفي كان من المستطاع أن يصر هو على ألا يوقع اتفاقية أو وثيقة إلا باللغة العربية).

وكانت الوظائف العليا – ولا سيما المالية والإدارية – في يد العرب، وكانت اللغة العربية هي لغة الدواوين المالية(35). وهكذا فإن فريدريك كما تقول هونكه (استطاع بمساعدة موظفيه تنفيذ جميع هذه الإصلاحات لجعل من دولته أول وأعظم دولة مدنية مستقلة عن الكنيسة وسلطانها).

❃❃❃

ابن رشد -الفقيه المالكي، يعد من أهم بوابات التأثير في أوروبا. ومن المعلوم تأثر أوربا بفلسفته، وترجمة كتبه كلها بما فيها الفقهية. ولا شك – كما يقول ويلز – أن لذلك تأثيرا كبيرا في التشريع الأوروبي(36). كما أن الرشدية في أوروبا كانت شعارا للعقلانية والدعوة إلى الحد من نفوذ الكنيسة، وكان أشد تأثيرها أول الأمر في باريس ثم انتقلت إلى بقية دول أوروبا(37).

وقد وصفت هونكه في كتابها “شمس الله تشرق على الغرب” تأثر أعظم ملوك أوروبا وهو فريدريك الثاني، بابن رشد، واعتباره مثله الذي يحتذي به. وبعد أن تحدثت عن رفض الكنيسة في أول الأمر لابن رشد وفكره، عادت بعد ذلك فتقبلته.. ثم قالت: (وأخيرا بعد أن تبينت جامعة باريس خطر هذا الفيلسوف العربي الذي أثر في الفكر الأوروبي أثرا كبيرا، ظهرت العلوم العملية ومهدت الطريق لظهور الفكر الأوروبي وازدهاره).

• خاتمة:

(وهكذا يمكن القول بأن تأثير الِإسلام في أوروبا قد شمل كل المجالات سواء منها الدبلوماسي – بإحداث قنصليات- أم إقرار مبدأ شخصية القانون وكرامة الأجنبي وضمان حقوقه وأساليب إعلان الحرب ووسائل تعويض العدو وحماية الأسرى والمرضى والعجزة واستعمال الشارات الضوئية خلال المعارك الليلية وحمام الزاجل في المواصلات وطريقة توزيع الغنائم ومبادئ الفروسية، وقد بلغت هذه التأثيرات الِإنسانية حتى ملوك الجرمان الذين كان لرهبانهم أوثق الصلات ببلاط فريدريك الثاني بصقلية)(38).

يقول سيديو: (تكونت فيما بين القرن التاسع والقرن الخامس عشر مجموعة من أكبر المعارف الثقافية في التاريخ، وظهرت منتوجات ومصنوعات متعددة واختراعات ثمينة، تشهد بالنشاط الذهني المدهش في هذا العصر، وجميع ذلك تأثرت به أوروبا بحيث يؤكد القول إن العرب كانوا أساتذتها في جميع فروع المعرفة. لقد حاولنا أن نقلل من شأن العرب، ولكن الحقيقة ناصعة يشع نورها من جميع الأرجاء..وليس من مفر أمامنا إلا أن نرد لهم ما يستحقون من عدل، إن آجلا أو عاجلا)(39). ويؤكد غوستاف لوبون(40) أن الجامعات الأوروبية عاشت على ترجمات الكتب العربية لستة قرون.

ولذلك أتفق مع جلال مظهر(41) في تسمية مقدمات عنصر النهضة في أوروبا بـ: “عصر الاستعراب الأوروبي”، وذلك أنه “طغت علوم المسلمين المكتوبة باللغة العربية على جميع مظاهر الحضارة في أوروبا، وكانت العلوم المترجمة من العربية إلى اللاتينية الأساس الجوهري للتعلم والتقدم.. فقد كانت اللغة العربية هي لغة العلوم والفنون والآداب”.

ويبين جلال مظهر في كتابه القيم(42) التأثير الهائل للعرب، الذي بلغ أوجه من منتصف القرن الثالث عشر حتى منتصف الخامس عشر.. وفي هذا العصر كانت أوروبا مفتونة بالعرب، حتى إن الأساتذة الجامعيين كانوا يقلدون العرب في لباس العباءة العربية أثناء إلقاء المحاضرات، ومن هنا نشأ تقليد الروب الجامعي، وأيضا كوفية التخرج. واتصف هذا العصر بالقبول الأعمى لكل ما كان يأتي عن العرب، والنظر إليه بوصفه حجة نهائية. حتى إن دافنشي (1452 – 1519م) نعى على المستعربين أنهم يقلدون أعمال الآخرين دون أن يسهموا في الاختراعات، ويقومون بإلقاء اللوم عليه لأنه يحاول أن يخترع!!

في المرة القادمة حين تقرأ عن هذه الأسماء: روجر بيكون (والمنهج التجريبي)، بيكام (صاحب شفرة بيكام)، ألفونس الحكيم، جلبرت، سيمون دي كوردو، بل حين ترى كل متخرج يلبس عباءة التخرج وكوفيته، أو كل أستاذ جامعي يلبس ذلك.. فتذكر أن ذلك مرده إلى العرب والمسلمين.

❃❃❃

وإذا كان (النصف الأول من القرن العشرين منشغلاً بما إذا كانت الشريعة الإسلامية قد تأثرت بالقانون الروماني. فها نحن أولاء في آواخر القرن العشرين وأوائل القرن الواحد والعشرين ننظر فيما إذا كان القانون الإنجليزي نفسه ـ المعروف بأنه لم يتأثر بالقانون الروماني ـ قد تأثر أثناء فترة تكوينه بالشريعة الإسلامية)(43).

وهكذا بينما نحن منشغلون باستبعاد الشريعة الإسلامية، أو المذاهب عن الدولة.. إذا بغيرنا يستفيدون من هذا التراث الفقهي، بل المذهبي!!

الإسلامية من الصلاحية إلى الضرورة ج68 الشريعة الإسلامية من الصلاحية إلى الضرورة (ج6)

د/ شهادات واعترافات دولية قانونية:

وأختم الحديث عن هذا المحور بالإشارة إلى بعض الشهادات القانونية المعاصرة للشريعة الإسلامية، ومن ذلك:

– ذكر السنهوري شهادات مجموعة من علماء القانون الغربي، الفقيه الألماني كوهلر، والإيطالي دلفيشيو، والأمريكي ويجمور، والفرنسي لامبير. الذين شهدوا بمرونة الشريعة وتطورها وأنها إحدى الشرائع الأساسية الثلاث التي سادت ولا زالت تسود العالم، إلى جانب القانون الروماني والقانون الإنجليزي. 

– جاء في سجل المؤتمرات الدولية، مثل مؤتمر القانون المقارن في لاهاي سنة ١٩٣٨م، مؤتمر المحامين الدولي في لاهاي سنة ١٩٤٨م، وأسبوع الفقه الإسلامي الذي عقد في جامعة باريس سنة ١٩٥١م: اعتبار الشريعة الإسلامية مصدراً من مصادر التشريع العام، وأنها حية قابلة للتطور، وأن اختلاف المذاهب الفقهية في هذه المجموعة الحقوقية ينطوي على ثروة من المفاهيم والمعلومات ومن الأصول الحقوقية هي مناط الإعجاب وبها يستطيع الفقه الإسلامي أن يستجيب لجميع مطالب الحياة الحديثة والتوفيق في حاجاتها. 

– كما أن مؤتمر القانون المقارن المُنعقد بلاهاي قرر أنَّ الفقه الإسلامي فقه مُسْتَقِلٌّ بذاته وليس مُسْتَمَدًّا من أي فقه آخر 

– كما أن مؤتمرات عربية وإسلامية عديدة أقامتها كليات الحقوق والقانون، أوصت بضرورة الرجوع إلى الشريعة الإسلامية، لصلاحيتها التامة للتطبيق. – وفي 1958 انتهت محكمة العدل الدولية إلى الإشادة بأحكام الشريعة الإسلامية، والإشارة إلى أنها أحد الأنظمة القانونية الراقية في العالم الحديث. 

– يقول المستشرق المجري فمبري: (فقهكم الإسلامي واسع جدا إلى درجة أني أعجب كلما فكرت في أنكم لم تستنبطوا منه الأنظمة والأحكام الموافقة لبلادكم وزمانكم). 

– ويقول شبرل عميد كلية الحقوق في جامعة فيينا، في مؤتمر الحقوق الدولي عام 1927: (إنّ البشرية لتفتخر بانتساب رجل كمحمد إليها، إذ إنّه رغم أُمّيته، استطاع قبل بضعة عشر قرنًا أنْ يأتي بتشريع، سنكونُ نحنُ الأوروبيين أسعد ما نكون، لو وصلنا على قمته بعد ألفي عام)…طبعا نحن نؤمن أن التشريع من عند الله، ومحمد رسول من الله. – يذكر د/ وهبة الزحيلي أن عددا من القوانين المدنية قامت على مصادر إسلامية بحتة، كالقانون المدني الأردني عام 1976م، دون أن يجدوا عناء في ذلك.

ومما يتصل بهذه الشهادات، ما قرره أساتذة القانون والفقه من سبق الشريعة الإسلامية والفقه الإسلامي في النظريات والأحكام القانونية الغرب، ومن ذلك:

– يقول السنهوري: (وآتي بأمثلة أربعة اضطررت إلى الاقتصار عليها لضيق المقام: يدرك كل مطلع على فقه الغرب أن من أحدث نظرياته في القرن العشرين: نظرية التعسف في استعمال الحق، ونظرية الظروف الطارئة، ونظرية تحمل التبعة، ومسؤولية عديم التمييز. ولكل نظرية من هذه النظريات الأربع أساس في الشريعة الإسلامية لا يحتاج إلا للصياغة والبناء ليقوم على أركان قوية، ويسامت نظريات الفقه الحديث).

– عبد القادر عودة في كتابه: “التشريع الجنائي في الإسلام”، يذكر طائفة من النظريات التشريعية التي نعم المسلمون تحت ظلالها منذ 1400 سنة، في حين لم يعرفها المشرع الغربي إلا منذ قرنين. ومنها: نظرية المساواة، ومن فروعها: المساواة بين الرجل والمرأة في التكاليف والحقوق العامة. ومنها نظرية الحرية، وتشمل: حرية التفكير والاعتقاد. ومنها نظرية الشورى، ومنها نظرية: تقييد سلطة الحاكم (بما في ذلك حق عزله)، ونظرية إثبات الدين بالكتابة.

– يذكر القرضاوي في كتابه “فقه الزكاة” سبق المسلمين إلى إقرار “دستور العدل الضريبي”، الذي ينسبونه اليوم إلى آدم سميث، وتشتمل قواعده على: اليقين والملاءمة والاقتصاد والعدالة. 

– كما أن هناك أحكام إسلامية اضطرت قوانين أوروبا للاعتراف بها مؤخرا؛ كحل لمشاكلهم، ومنها: الطلاق. الذي كان آخر من اعترف به الدولة الكاثوليكية (إيطاليا). وكذلك الربا تتعالى أصوات اقتصاديين أوربيين، ومنهم كينز، بالقول: (لا يصل المجتمع على العدالة الكاملة إلا بالقضاء على سعر الفائدة). 

ومما يتصل بهذا السياق الاجتهادات والقوانين التي قدمها علماء الإسلام المعاصرون، وقدموا حلولا لمشكلات راهنة، انطلاقا من الشريعة الإسلامية. ومنها: حقوق الإنسان، والنزاعات المسلحة، والقانون الدولي، والإرهاب، واستخدام الأسلحة… إلخ.

الهوامش:

  1. التشريع والقضاء في الفكر الإسلامي، د أحمد شلبي، ص 236. 
  2.  تاريخ العرب العام، ص395، تعريب عادل زعيتر ط. البابي الحلبي. وانظر: حضارة العرب، غوستاف لوبون، ص397. 
  3. أثار بعضهم مسألة ما يتميز به القانون المالكي؛ مما أدى إلى تأثيره في القانون الفرنسي، ومن ذلك: – يتميز بمرونته في المصادر التشريعية، وفي مقدمتها: المصالح المرسلة، والعرف، بما يؤهله لمواكبة التطورات والتحولات الاجتماعية. – عني الفقه المالكي بالتقعيد والتنظيم (التقنين)، وتعد المختصرات أشبه ما تكون بالنصوص الدستورية اليوم، تتضمن أحكاما تشريعية عامة، وتعنى بصياغتها. بل هناك أحد كتب الفقه المالكي اسمه (القوانين الفقهية) لابن جزي (ت 741هـ)، والقواعد لمحمد المقري، اشتمل على 1252 قاعدة فقهية. وله الكليات الفقهية فيه 525 كلية فقهية. – كما أن المذهب المالكي ساد في أوربا المسلمة (الأندلس)، وكان القضاة المالكيون في مواقع المسؤولية، فقد منح مذهبهم نموا. 
  4.  النظريات القانونية المقتبسة من الفقه الإسلامي في النظام القانوني الأنجلو أمريكي، برهام محمد عطا الله. http://www.siironline.org/alabwab/maqalat&mohaderat(12)/1492.htm 
  5.  انظر: النظريات القانونية المقتبسة من الفقه الإسلامي في النظام القانوني الأنجلو أمريكي، برهام محمد عطا الله. http://www.siironline.org/alabwab/maqalat&mohaderat(12)/1492.htm 
  6.  ج2/ 95. 
  7.  نقلا عن: مقدمة المقارنات التشريعية، سيد حسين، 1/9 
  8.  انظر: معلمة الفقه المالكي، 1983م، 42. 
  9.  تراث الإسلام، ج2/ 96. 
  10.  نقلا عن: إشكالات القانون الدولي الإنساني وجوابها من الفقه الإسلامي، 46. 
  11.  تطور القانون الدولي، تأليف ولفغانغ فريدمان، ترجمة لجنة من الأساتذة الجامعيين، 196.
  12.  راجع “الجنسية في قوانين المغرب العربي الكبير”، دراسة مقارنة، إبراهيم عبد الباقي، 1971، ص 861 نقلا عن: معلمة الفقه المالكي، ص43. 
  13. معلمة الفقه المالكي، ص47. 
  14. انظر: معلمة الفقه المالكي، 1983م، 45. 
  15. النظريات القانونية المقتبسة من الفقه الإسلامي في النظام القانوني الأنجلو أمريكي، برهام محمد عطا الله. http://www.siironline.org/alabwab/maqalat&mohaderat(12)/1492.htm
  16. تقول: (وفي أيام حكيم روجير الثاني كانت وظيفة أمير البحر هي أعلى وظيفة في الدولة كما أن شاغلها كان موضع ثقة الملك، وأول من تقلد وظيفة الأميرالية، هذه الوظيفة التي هي أصلا وظيفة عربية، لم يكن أحد رجال البحر الأقدمين الذين خدموا في الأسطول النورماني بل إن أول أمير بحر للأسطول المسيحي كان عربيًا، وهو عبد الرحمن النصراني، واسمه اليوناني «الكاثوليكي» هو «كريسودولوس». وكان حتى أيام روجير قائد القوات البحرية والبرية. لكن روجير الثاني رفع من شأن هذا الرجل الثقة وعينه أيضًا قاضي القضاة، ومن ثم وصل إلى درجة «كبير الأشراف»، وخلف هذا الأميرال أمير بحر آخر للدولة الملكية النورمانية، والأميرال الثاني هو العربي العبقري إداريًا واقتصاديًا واسمه «جرورج» الأنطاكي)…( وقد استطاع جورج الأنطاكي بعد أن صار أميرًا للبحر أن يرقى إلى أمير أمراء البحر، وبفضل عبقريته الإدارية التخطيطية رفع من شأن أسطول صقلية ونشأه تنشئة جديدة على النظام المتبع في الأسطول العربي، فأصبح هذا السلاح البحري سلاحًا قويًا استطاع بعد زمن قصير السيطرة على شمال إفريقيا). 
  17. موقع الأمم المتحدة: https://news.un.org/ar/story/2009/06/106262 
  18.  تراث الإسلام، ج2/ 96. 
  19.  صرح نفتالي فيدر في كتاب أصدرته جامعة أكسفورد عام 1947م: أن الديانة اليهودية تأثرت تأثرا بالبيئة الإسلامية… [إلى أن يقول]: (ومن الناحية الشكلية اتخذ اليهود لأنفسهم مناهج العرب العلمية في فروع الدين، والأخلاقيات والنحو، وتفسير التوراة، بل حتى في ميدان الشريعة فإن كتاب «تثنية التوراة» -وهو بحث منظم عن الفقه والتشريع اليهودي استمده مؤلفه من التلمود وشروحه وهوامشه- الذي كتبه موسى بن ميمون المتوفى في مصر عام ۱۲۰٤م، الذي يبهرنا ببنائه وترتيبه ليس سوى ترتيب لمواد الشريعة… وفقًا للنظام الذي وضعه علماء الفقه المسلمين). 
  20.  معلمة الفقه المالكي، 41. 
  21. الحضارة الإسلامية أساس التقدم العلمي الحديث، جلال مظهر، ص 128. 
  22.  عن كتابها: شمس الله تشرق على الغرب. 
  23.  كل هذه النقول من كتابها: شمس الله تشرق على الغرب. 
  24. تقول هونكه: (ولو أن فارقًا وقع بين العصرين، أعني عصر انتصارات العرب وعصر انتصارات النورمان، وهذا الفارق هو أن المهزومين الآن لا يحاولون تقليد المنتصرين في حياتهم وعاداتهم وتقاليدهم، بل العكس هو الصحيح، فالآن نجد المنتصرين المسيحيين الذين يقلدون المسلمون ويحاولون الاندماج فيهم وائتلافهم، إن المسيحيين هنا يقلدون المسلمين فالمسلمون انتصروا أو انهزموا هم المثل الأعلى الذي يحتذى). (كما أن الملك كان في حاجة ماسة إلى المسلمين لتنظيم وتدعيم وتثبيت دولته الفتية، وما كان في استطاعته النهوض بهذا العبء دون مساعدة العربي الذي كان الباب مفتوحًا أمامه بلوغ أعلى مراتب الدولة سواء في الوظائف المدنية أو العسكرية أو في الحاشية، كما ذكر مؤرخ عربي أن ملك النورمانيين قد تخلق بعادات وخلق ملوك المسلمين، فأوجد في حاشيته وظائف جديدة، وبذلك أخذ يتخلص تدريجيًا من عادات الإفرنج وتقاليدهم وبخاصة أنه لم تكن لديهم مثل هذه الوظائف التي خلقها كوظيفة أمير البحر مثلا). 
  25.  تقول: (ويدين روجير الثاني للعرب الذين مكنوا له في الأرض وهو أصغر ملوك أوربا وصيّروه أغنى الجميع. فالعرب هم المهرة في زراعة الأرض وفي النشاط الصناعي، ونظامهم مثالي في الاقتصاد والضرائب، وقد أخذه عنهم كما أخذ عنهم الإدارة والتشريع. وهناك مصدر آخر من مصادر ثرائه الخيالي هو الضرائب التي كان يدفعها العرب المقيمون على شواطئ شمال إفريقيا، وهم خالقو أسطوله. وأمير أمراء البحر جورج الأنطاكي هو الذي استطاع بمهارته إخضاع شمال إفريقيا لسيادة صقلية، ثم تركه روجير تسامحًا منه للحكام العرب. والواقع أن روجير يدين كثيرًا لهذا العربي الإفريقي الذي جعله ملك «صقلية وإيطاليا وإفريقيا»).
  26.  يقول ابن جبير، نقلا عن هونكه: (وأما فتيانه الذين هم عيون دولته وأهل عماله في ملكه فهم مسلمون ما منهم إلا من يصوم الأشهر تطوعًا وتأجرًا ويتصدق تقربًا إلى الله وتزلفًا ويفك الأسرى ويربي الأصاغر منهم ويزوجهم ويحسن إليهم ويفعل الخير ما استطاع)..
  27.  هونكه: (والآن يبدو لنا أن خيرات العرب كانت أساس الإثراء والرخاء لا في الشرق فقط بل في الغرب أيضًا، كما أن هذه التجارة العربية هي القوة الاقتصادية ذات الأثر الفعال في أوربا، وأن رفع المستوى الاجتماعي في الغرب إنما مرجعه القفف العربية الملأى بالفلفل، لذلك كان حرمان الأسواق الأوربية من هذه القفف سببًا رئيسيًا في القضاء على التجارة الداخلية أولًا، وإفلاس التجار ثانيًا، وصهر الذهب المتداول ثالثًا. ففي اللحظة التي قطعت فيها الصلات بين الشرق والغرب تحولت أوربا إلى بلاد زراعية فرجعت القهقري وانحط مستواها الاجتماعي). وتقول: (وتدين البندقية في تطورها ورقيها وثرائها إلى الاتجار مع العرب، فلولا القرفة والكمون ومختلف أنواع الصباغات بما فيها النيلة، وكذلك التوابل والبهارات، ما استطاعت البندقية أن تتزعم النهضة الاقتصادية الأوربية التي ساعدت على ازدهار الغرب وتقدمه). 
  28.  تقول هونكه: (وقد بلغ عدد التجار الألمان من الكثرة بحيث إن حكومة البندقية أعدت لأولئك التجار القادمين عبر جبال الألب مكانًا خاصًا للاتجار والإقامة أسوة بما فعله من قبل السلطان المصري للتجار المسيحيين في الإسكندرية حيث أوجد لهم الفنادق الخاصة)… (وعن طريق التجار أو طوائف الفرسان الألمان أدخلت الفنادق العربية الأصل إلى المدن التجارية الألمانية). 
  29. تقول هونكه: (استطاع التاجر “كونراد إيسفوجل” وهو أحد أبناء مدينة “نيرنبرج” الإقامة حيث يبيع بضائعه النحاسية والحديدية والفراء والأقمشة البرابنتية. وفي البندقية كان يدفع الضرائب المستحقة وقد أخذ هذا النظام عن العرب وكان يشرف على جميع هذه الإجراءات الموظف المعروف باسم السمسار). 
  30. تقول: (لم يقدم العرب لأوربا البناء فقط بل محتوياته أيضًا أعني العلوم والمعارف…. فهذا المدح القيم الذي يتجاهل ويتعامى عن الإنتاج العربي العلمي – هذا الإنتاج العربي الذي هو الدعامة التي تقوم عليها المعرفة الأوربية – والذي يتفوه به الأوربيون جريمة وإثم لا تجاه العرب فقط بل تجاه الحقيقة ذاتها).
  31.  تقول هونكه: (وهناك حقيقة يجب أن نقررها مرة ومرات، وهي أن العرب لم ينقذوا الثروة العقلية اليونانية فقط، ولولا هم لضاعت وقبرت، بل العرب هم الذين نظموها فبوبوها ورتبوها، ومن ثم قدموها لأوربا في ثوب علمي قشيب. العرب هم مؤسسو الكيمياء التجريبية وكذلك الطبيعة العملية والجبر والحساب بمعناه الحديث، وحساب المثلثات الكروي، وعلم طبقات الأرض، والاجتماع وغير ذلك من الاختراعات الكثيرة الأخرى في مختلف العلوم والمعرفة، وغالبًا ما سطا عليهم اللصوص ونسبوها إلى أنفسهم. فالعرب هم الذين قدموا للعالم أغنى وأثمن هدية، فهم أصحاب البحوث المنتظمة في الطبيعيات، هذه البحوث التي كانت العامل القوي في بعث العلوم الطبيعية في أوربا). 
  32. تقول هونكه: (فريدريش كان يتكلم طفلاً تسع لغات. أما العربية فقد كانت كأنها لسانه القومي، كان يعرف كذلك الحساب العربي وشارك في مجالات التجار العرب والأئمة من رجال الدين فأجاد فريدريش المحاولات والمجادلات حول الله والعالم، ومن الجدير بالذكر أن القاضي الشرعي للمسلمين المقيمين في بالرمو كان يتولى تعليم هذا الشاب المتعطش إلى العلم والمعرفة والفلسفة العربية، ويمده بالكتب إرضاء لرغبته الجامحة إلى العلم وتحصيله، ويتنفس عبيرها الباسم، كما ذكر فريدريش ذلك في أسلوب عربي رائع).
  33.  تقول هونكه عن فريدريك: (أصبح مؤسس العلوم الحديثة، وهو يأتي بصفته هذه في طليعة جماعات كثيرة هو جدها الذي خلقها، إنه صاحب الفضل في خلق هذه الجماعات العلمية وبخاصة تلك التي قامت إلى جانب المتكلمين والإنسانيين والمصلحين، فقد حقق فريدريش فوق أولئك وطار إلى أمثال «ألبرتوس مجنوس» و «روجير بيكون» و «ليوناردو ده فينشي» و «فرنسيس بيكون» و «جاليلي»، ومن ثم إلى العصر الحديث. فهل القيصر هو البادئ؟ أو أنه حلقة في السلسلة التي تمتد من الحركة العربية العقلية، وذلك لأن «ألبرت الأكبر» و «روجير بيكون» و «ليوناردو» هم أيضا من أولئك الذين يقومون في الواقع على أكتاف العرب). 
  34.  تقول هونكه عن فريدريك الثاني: (فاتخذ من شباب عرب «لوكيرا» حرسه الخاص فهم أبناء حرب وقتال وشباب امتلأت نفوسهم حباً للقيصر فلا تهمهم تهديدات البابا أو وعيده، كما أنهم لا يحترمون إلا القيصر ولا يأتمرون إلا بأمره فطاعتهم له عمياء وإخلاصهم لعرشه لا يعرف نهاية، وإن فرقة عربية تتألف من ثلاثين ألف مقاتل لن يتردد جنودها من خوض غمار الحروب دفاعاً عن قيصرهم وذودا عن عرشه. وهؤلاء الجنود العرب يقفون رهن إشارة القيصر لاستخلاص النصر من بين أنياب الموت). 
  35. تقول هونكه: (وكما كان الحال في القصر الملكي هكذا كانت الوظائف المالية الكبرى في جزيرة صقلية غالباً في يد عرب، وكانت اللغة العربية هي لغة الدواوين المالية وما زالت تسمى متى اليوم «ديوان»، كذلك اللغة العربية هي لغة موظفي الدرجتين الثانية والثالثة، وعليهم تقوم الدولة ويعتمد القيصر وإليهم الرجوع). وتقول: (ومنذ مائة وخمسين عاماً أو أكثر انتقل حكم صقلية من العرب إلى الأوربيين وبالرغم من ذلك ما زالت المسائل المالية والإدارة المالية موكولة إليهم بالرغم من أهمية الاقتصاد في حياة البلاد، فأولئك العرب كانوا دعامة قوية للقيصرية فنشاطهم وإنتاجهم للقيصر فريدريش الثاني وبخاصة في حروبه كان على جانب عظيم من الأهمية). 
  36. معالم تاريخ الإنسانية، ويلز، ج3/ 124. 
  37.  أفكار غيرت العالم، محمد طحان، ص 204. 
  38.  معلمة الفقه المالكي، بنعبد الله، ص48. 
  39.  نقلا عن: الحضارة الإسلامية أساس التقدم العلمي الحديث، جلال مظهر، ص 131. 
  40.  حضارة العرب، 589. 
  41. الحضارة الإسلامية أساس التقدم العلمي الحديث، ص 117.
  42.  الحضارة الإسلامية أساس التقدم العلمي الحديث، جلال مظهر، ص 151. 
  43.  النظريات القانونية المقتبسة من الفقه الإسلامي في النظام القانوني الأنجلو أمريكي، برهام محمد عطا الله. http://www.siironline.org/alabwab/maqalat&mohaderat(12)/1492.htm

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى