فكر

الشريعة الإسلامية من الصلاحية إلى الضرورة (ج8)

(تحرير ومناقشة لمذهب الطوفي في المصلحة والنص)

سليمان بن عبد القوي، نجم الدين الطُّوفي، (657 – 716 ه)(1). من علماء القرن السابع الهجري، له مؤلفات كثيرة في الفقه وأصوله، وأصول الدين. وهو حنبلي المذهب. من مؤلفاته: التعيين في شرح الأربعين النووية(2)، وقد شرح الحديث ” لا ضرر ولا ضرار” بنحو 40 صفحة، جعلته موضع جدل عند المفكرين المعاصرين.

من الأدلة الشرعية التي عرفها علماء المسلمين في استنباطاتهم: المصلحة المرسلة، وهو من الأدلة الأصولية المختلف فيها. والمشهور مذهبان في هذه المسألة(3): احتج مالك وأحمد ومن تابعهم بالمصلحة المرسلة، وقالوا: إنها طريق شرعي فيما لا نص فيه ولا إجماع. ومنع الشافعي ذلك، وإن كان الشافعي يدخل المصلحة ضمن القياس بمعناه الواسع. وبالنظر في موقف من احتج بالمصلحة المرسلة(4)، فقد اتفقوا على أن المصلحة المرسلة يؤخذ بها حيث لا نص. وإذا ما تعارضت المصلحة مع النص؛ فإنهم يتفقون على تقديم النص القطعي على المصلحة. وأما النص الظني فإن أحمد يقدم النص الظني على المصلحة، ويرى أن النص أولى بالاعتبار، وأن المصلحة المعارضة متوهمة. وأما مالك فإنه أثر عنه أنه يخصص النص الظني بالقياس إن تظافرت شواهده واعتمد على أصل مقطوع به، والمصلحة عنده من ذلك الصنف إن ثبتت بطريق قطعي، فيقدم القطعي على الظني.

ويقرر العلماء أن المصلحة الحقيقية – لا المتوهمة – لا تتعارض مع النصوص الشرعية الثابتة الصحيحة، فالشريعة جاءت لتحقيق مصالح العباد، ودفع الضرر عنهم.

فما موقف الطوفي من تعارض النص والمصلحة؟

المشهور أن الطوفي يقول بتقديم المصلحة على النص، سواء قطعيا كان النص أم ظنيا. ويفترض أن النص القطعي قد يختلف مع المصلحة، وحينئذ لا بد من تقديم المصلحة؛ لأنها مقصد، والنص وسيلة، والمقاصد تقدم على الوسائل.

وبناء على ذلك ذهب يحتفي به كل من يدعون إلى تعطيل النصوص، وإلغاء الحكم بالشريعة الإسلامية.

في هذا المبحث سنقف وقفتين، نجيب فيهما على سؤالين، السؤال الأول: هل من الصحيح أن الطوفي دعا إلى تجاوز النص الشرعي، وإلى تجاوز الأدلة الشرعية برمتها؟  والسؤال الثاني: إلى أي مدى يبدو ما قاله الطوفي في هذه القضية متماسكا؟

المسألة الأولى: هل دعا الطوفي إلى تجاوز الدليل الشرعي؟

بقراءة لما قرره الطوفي نخلص إلى النتائج التالية:

أولا: 

الطوفي ميز بين العبادات والمعاملات. فقال بالنص في العبادات ورعاية المصلحة في المعاملات. فهو قيد مهم في توضيح مذهب الطوفي. 

ثانيا: 

يقرر الطوفي أن النص قد جاء بالمصلحة في المعاملات، ومن ثم فالنص والمصلحة متفقان، في نحو: الأحكام الخمسة: قتل القاتل والمرتد وقطع يد السارق وحد القاذف والشارب.. ونحو ذلك من الاحكام. وضرب أمثلة عديدة لما جاء به الكتاب والسنة من مصالح في المعاملات، ثم يقول(5): (فما من آية من كتاب الله إلا وهي تشتمل على مصلحة أو مصالح).. ويقول، بعد أن ضرب أمثلة من السنة، كحديث: (لا يبيع بعضكم على بيع بعض…إنكم إن فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم)، فقال: (وهذا ونحوه في السنة كثير، لأنها بيان الكتاب).. وكذلك الإجماع. 

ثالثاً: 

يقرر استحالة ألا يراعي الله مصالح العباد في الأحكام الشرعية. 

يقول(6): (من المحال أن يراعى الله عزَّ وجلَّ مصلحة خلقه في مبدئهم ومعادهم ومعاشهم، ثم يهمل مصلحتهم في الأحكام الشرعية، إذ هي أهم، فكانت بالمراعاة أولى، ولأنها أيضًا من مصلحة معاشهم إذ بها صيانة أموالهم ودمائهم وأعراضهم فلا معاش لهم بدونها فوجب القول بأنه راعاها لهم، وإذا ثبت رعايته إياها لم يجز إهمالها لها بوجه من الوجوه، فإن وافقها النص والإجماع وغيرهما من أدلة الشرع فلا كلام، وإن خالفها دليل شرعي وُفِّقَ بينه وبينها بما ذكرناه من تخصيصه بها، وتقديمها بطريق البيان). 

رابعاً: يقرر أن النص القاطع ثبوتا ودلالة لا يتعارض مع المصلحة. 

يقول(7): (فإن كان [النص] متواترا صريحا فهو قاطع من جهة متنه ودلالته، لكن قد يكون محتملا من جهة عموم أو إطلاق، وذلك يقدح في كونه قاطعا مطلقا، فإن فرض عدم احتماله من جهة العموم والإطلاق ونحوه وحصلت فيه القطعية من كل جهة بحيث لا يتطرق إليه احتمال بوجه منعنا أن مثل هذا يخالف المصلحة فنعود إلى الوفاق). 

خامساً: 

لم يقل الطوفي بإهمال النص في المعاملات على إطلاقه، بل قال: رعاية المصلحة تخصص النص أو تبينه، ولا يصح تعطيل النص. فلم يقل الطوفي بتعطيل النص أو إهماله أو إلغائه، بل قال بتخصيصه وبيانه من خلال المصلحة. 

يقول(8): (وهذه الأدلة التسعة عشر أقواها النص والإجماع، ثم هما إما أن يوافقا رعاية المصلحة، أو يخالفاها، فإن وافقاها فَبِهَا وَنِعْمَت، ولا نزاع إذ قد اتفقت الأدلة الثلاثة على الحكم، وهي النص والإجماع ورعاية المصلحة المستفادة من قوله عليه الصلاة والسلام: “لا ضرر ولا ضرار” وإن خالفاها وجب تقديم رعاية المصلحة عليهما بطريق التخصيص والبيان لهما، لا بطريق الافتيات عليهما والتعطيل لهما، كما تقدم السنة على القرآن بطريق البيان). 

سادسا: 

يقرر أنه حين الخلاف بين النص والمصلحة فلا ينبغي تعطيل النص بل لا بد من الجمع بينهما، بما لا يخل بالمصلحة ولا يتلاعب بالنص.

كما يؤكد أنه لا يذهب إلى تعطيل أدلة الشرع، بل (هو تقديم دليل شرعي على أقوى منه، وهو متعين، للإجماع على وجوب العمل بالراجح)(9).

فهو يعتد بالدليل الشرعي، والمصلحة هي من أدلة الشرع. وأكد ذلك بقوله منكرا على من اتهمه بترك أدلة الشرع: (وأما كون ما ذكرناه من رعاية المصالح تركا لأدلة الشرع بغيرها فممنوع، بل إنما يترك أدلته بدليل شرعي راجح عليها مستند إلى قوله عليه الصلاة والسلام “لا ضرر ولا ضرار”).

سابعا:

وإن تعذر الجمع، فإنه يرى أن المصلحة يمكن أن تخصص النص أو تبينه، وذلك مقصوده بتقديم المصلحة.

يقول(10): (أما المعاملات ونحوها فالمتبع فيها مصلحة الناس كما تقرر، فالمصلحة وباقي أدلة الشرع إما أن يتفقا أو يختلفا، فإن اتفقا فبها ونعمت كما اتفق النص والإجماع والمصلحة على إثبات الأحكام الخمسة الكلية الضرورية، وهي قتل القاتل والمرتد وقطع السارق وحد القاذف والشارب ونحو ذلك من الأحكام التي وافقت فيها أدلة الشرع المصلحة، وإن اختلفا فإن أمكن الجمع بينهما بوجه ما جُمِعَ، مثل أن يحمل بعضُ الأدلة على بعض الأحكام أو الأحوال دون بعض، على وجه لا يخل بالمصلحة، ولا يُفضي إلى التلاعب بالأدلة أو بعضها، فإن تعذر الجمع بينهما قدمت المصلحة على غيرها).

ثامنا: 

يقرر أنه لا يصح تجاوز الشريعة؛ لأن المصلحة دليل من أدلة الشرع. 

يقول(11): (ولا يقال: إن الشرع أعلم بمصالحهم فيؤخذ من أدلته؛ لأنا نقول: قد قررنا أن رعاية المصلحة من أدلة الشرع، وهي أقواها وأَخَصُّهَا فلنقدمها في تحصيل المصالح). 

تاسعاً: يقرر أن الإحالة إلى تحصيل المصلحة لا تكون إلا حينما يسكت الشرع عن ذلك، أي فيما لا نص فيه. فيقول في خاتمة بحثه(12): (أما مصلحة سياسة المكلفين في حقوقهم فهي معلومة لهم بحكم العادة والعقل، فإن رأينا دليل الشرع متقاعدا عن إفادتها، علمنا أنه أحالنا في تحصيلها على رعايتها، كما أن النصوص لما كانت لا تفي بالأحكام علمنا أَنَّا أُحِلْنَا بتمامها على القياس، وهو إلحاق المسكوت عنه، بالمنصوص عليه، بجامع بينهما). فهو يقرر أن الشرع إن لم يفدنا بالنص المتضمن مصلحة سياسة المكلفين في حقوقهم، فإنه يحيلنا إلى أن نجتهد في تحصيلها ورعايتها. ويشبهها بالقياس. ومن المعلوم أن القياس يكون قياسا على نص. 

عاشراً: 

وبهذا يتبين أن مفهوم المصلحة عند الطوفي يختلف عن مفهومها عند الحداثيين، فالمصلحة عند الطوفي تعتمد على الشرع وتتكئ عليه وتنطلق منه، وتجد حجيتها وأصلها في النصوص الشرعية.

❃❃❃

الإسلامية من الصلاحية إلى الضرورة ج2 1 الشريعة الإسلامية من الصلاحية إلى الضرورة (ج8)

المسألة الثانية: مناقشة الطوفي فيما ذهب إليه؟

ما سبق قراءة متأنية لحديث الطوفي حول المصلحة والنص، وهو يبين أن الطوفي ليس كما يصوره من يحتج بما يقوله على استبعاد الشريعة الإسلامية عن الأنظمة السياسية والاقتصادية وغيرها من المعاملات الدنيوية. فنصه واضح على أنه يجعل للدليل الشرعي حرمته واعتباره.

وبرغم ذلك؛ فإن حديث الطوفي عن المصلحة مليء بالتناقضات؛ وهذا ما يجعل أولئك يستلون من كلامه ما يؤيدون به مذهبهم. ولذلك ففي هذا الجزء من مناقشتي أبين التناقضات التي وقع فيها الطوفي، والردود التي تقال له.

وإذا سلكنا مسلك الرد على الطوفي، من حيث إن بعضهم فهم من كلامه أنه يقول بالمصلحة فيما لا نص فيه وفيما فيه نص. فنرد عليه من أوجه:

1/ فرضية باطلة

إن افتراض معارضة المصالح للنصوص فرضية باطلة؛ لأن الشريعة التي تقرر أنه “لا ضرر ولا ضرار” لا يمكن أن تأتي بنصوص تعارض المصالح(13).

كما أن بطلان فرضية الطوفي تتمثل في استدلاله بحديث: “لا ضرر ولا ضرار”، فهو استدل به على تقديم المصلحة مطلقا. فيقول(14): والحديث (يقتضي رعاية المصالح إثباتا، والمفاسد نفيا، إذ الضرر هو المفسدة، فإذا نفاها الشرع لزم إثبات النفع الذي هو المصلحة لأنهما نقيضان لا واسطة بينهما). بالرغم من أنه صرح أن الحديث (خاص في نفي الضرر المستلزم لرعاية المصلحة) (15).

ولكن غاية ما يدل عليه الحديث أن الشريعة تدرأ المفسدة التي من الممكن حصولها في واقعة ما. وبناء على ذلك قرر العلماء أن درأ المفسدة مقدم على جلب المصلحة، واستشهد العلماء بهذا الحديث على إحدى القواعد الفقهية المهمة، وهي (الضرر يزال). فدفع المفسدة وإن كان جزءا من المصلحة بمفهومها العام؛ لكنه أخص منها؛ لذلك لا يصح الاستدلال على الأخص للوصول إلى نتيجة أعم. ذلك أن المصلحة تشمل: جلب المنفعة ودفع المفسدة.

ولا يصح إطلاق القول: إن نفي المفسدة يستلزم جلب المنفعة؛ فثمة حالات يتحقق فيها نفي المفسدة دون جلب المصلحة (مثل: منع المالك أن يتصرف بملكه بما يضر الغير كاتخاذ معصرة أو فرن يؤذيان الجيران) فمنعه مفسدة له، وليس له مصلحة من ذلك. ومن القواعد الفقهية أيضا: ارتكاب أخف المفسدتين دفعا للمفسدة الأكبر. ومن القواعد الفقهية: يُتحمل الضرر الخاص دفعا للضرر العام.. فهنا موازنة بين المفاسد نفسها.

والطوفي نفسه يقرر أن المصلحة والمفسدة إن تعارضتا فيمكن تحصيل الأهم: (دفع المفسدة أو جلب المصلحة)، فإن تساويتا كانت القرعة بينهما أو الاختيار(16). وعلى هذا فإنه من الممكن حصول المفسدة وعدم زوالها، وفوات المصلحة المقابلة.

كما أن الحديث “لا ضرر ولا ضرار” قد يدل على أن المراد به النهي لا النفي، فهو ينهى المؤمن عن مضارة غيره من الناس(17) كما قال: (المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده). ومن ثم فلا يصح دليلا للطوفي على مذهبه.

ومما يبطل فرضيته ويبين تناقضه قوله(18): (ولأن المصلحة هي المقصود من سياسة المكلفين بإثبات الأحكام، وباقي الأدلة كالوسائل، والمقاصد واجبة التقديم على الوسائل). فإذا كانت سياسة الشرع تجعل المصلحة هي المقصودة من النصوص، فكيف يفترض أنها تعارض تلك النصوص التي جعلتها المقصودة؟! فلو عارضت النصوص المصلحة لثبت أن الشريعة لم تأت برعاية المصلحة، وهذا يهدم ما ذهب إليه.

ثم قوله إن النصوص وسائل مغالطة منطقية؛ فالنصوص ليست مقصودة بذاتها، بل بما تشتمل عليه من أحكام ومقاصد ومصالح؛ فلا يصح اعتبارها وسائل. وهل من أحد يعتبر القرآن الكريم وسيلة؟!

كما أن الطوفي ناقض نفسه حين قال في معنى الحديث(19): (وأما معناه فهو ما أشرنا إليه من نفى الضرر والمفاسد شرعا، وهو نفي عام إلا ما خَصَّصَهُ الدليل، وهذا يقتضي تقديم مقتضى هذا الحديث على جميع أدلة الشرع وتخصيصها به في نفي الضرر وتحصيل المصلحة؛ لأنا لو فرضنا أن بعض أدلة الشرع تَضَمَّنَ ضررا فإن نفيناه بهذا الحديث كان عملا بالدليلين، وإن لم ننفه به كان تعطيلا لأحدهما وهو هذا الحديث، ولا شك أن الجمع بين النصوص في العمل بها أولى من تعطيل بعضها).

ووجه تناقضه أنه أعمل قاعدة الجمع بين النصوص؛ واستبعد تعطيل أحد النصوص. فكيف يقرر في الوقت نفسه أن النصوص

2/ دليل المصالح ظني

جعل الطوفي “رعاية المصلحة” دليلا قطعيا (وذلك مستفاد من تقريره أنه يقدم على غيره من أدلة الشرع حتى قطعية الثبوت، بل يؤكد وجوب المصير إليه)(20)، وحين نسأله: ما مستند القول برعاية المصلحة؛ فإنه يستند بدليل ظني. وهو: “لا ضرر ولا ضرار”، بل الحديث لا يرقى لمرتبة الصحيح. وحسنه بعضهم.

يقول(21): (واعلم أن غرضنا من هذا كله ليس القدح في الإجماع وإهداره بالكلية، بل نحن نقول به في العبادات والمقدرات ونحوهما، وإنما غرضنا بيان أن رعاية المصلحة المستفادة من قوله عليه الصلاة والسلام: “لا ضرر ولا ضرار” أقوى من الإجماع، ومستندها أقوى من مستنده).

وبهذا فالطوفي يرد على قطعية دليله بنفسه؛ فحين ناقش دلالة الإجماع ورجح أنه ظني، كما بين أن النص لا يكون دليلا قطعيا إلا في قطعي الثبوت والدلالة فقط، وما عداه فظني.

كما أنه حين رد على من قال (إجماع الأمة حجة قطعية)، قال لهم(22):

(إن عنيتم بكونه قاطعا القطع العقلي الذي لا يحتمل النقيض كقولنا: الواحد نصف الاثنين، فلا نسلم أن الإجماع قاطع بهذا المعنى، وإن عنيتم به استناده إلى دليل قاطع فقد سبق تفصيل جوابه في الاعتراض على دلالة الآية الثانية من أدلة الإجماع، وإن عنيتم به أنه لا يجوز خلافه فهو عين الدعوى ومحل النزاع، بل عندنا يجوز خارقه بأقوى منه).

وبمثل ذلك نقول في دليل رعاية المصلحة، فهي ليست دليلا قاطعا عقلا؛ بدليل اختلاف الناس في تقدير المصلحة. ولا تستند إلى دليل قاطع ثبوتا ودلالة. 

والعجيب أن الطوفي يضعف دلالة الإجماع مقابل المصلحة، ثم يحتج بالإجماع على تقديم المصلحة(23)!!

3/ معارضة النصوص بالمصالح

وحين نسأل الطوفي: وما دليلك على أن المصالح قد عارضت النصوص فعلا؟

فيستدل بمجموعة من الأحاديث النبوية على أنه قد ثبت في السنة معارضة النصوص بالمصالح(24). ومنها: حديث “لا يصلين أحدكم العصر إلا في بني قريظة “فأقر من صلى في الطريق، وقوله لعائشة: “لولا قومك حديث عهد بالإسلام لهدمت الكعبة، وبنيتها على قواعد إبراهيم”، وعقب بقوله: (وهو يدل على أن بناءها على قواعد إبراهيم هو الواجب في حكمها، فتركه لمصلحة التألف). ويستدل بأدلة أخرى بعضها منكر.

ونحن نقول، أولا: استدلاله بهذه الأحاديث وإن كانت في الصحيحين غير مسلم له بناء على مذهبه؛ لأنها غير متواترة وغير قطعية الثبوت والدلالة. وعليه فلا يصح أن يثبت من خلالها قواعد قطعية (وهي أن المصلحة دليل قطعي ويقدم على ما سواه).

وثانيا: لا يوجد في أدلته تعارض بين النصوص والمصالح. ذلك أن المصلحة التي يستدل لها واردة في النص، فإقرار النبي لمن صلى في الطريق صار نصا، وإقرار النبي لبقاء الكعبة صار نصا. فلو افترضنا أن ثمة تعارضا فسيكون بين النص والنص. 

وثالثا: غاية ما يدل عليه النص أن الشارع يراعي المصلحة أصلا، ولا يدل على أن المصلحة تعارض النص. 

ولذلك فمن العجب أن يقول الطوفي بعد ذلك بناء على هذه الاستدلالات(25): (فقد ظهر أن دليل رعاية المصالح أقوى من دليل الإجماع فلنقدم عليه، وعلى غيره من أدلة الشرع عند التعارض بطريق البيان).

وبذلك فحين يحتج للمصالح من خلال النصوص الشرعية، فإننا نقول: المصالح التي ينبغي تقديمها على النصوص إنما هي المصالح التي اعتدت بها النصوص، وبالتالي فلا يمكن بحال من الأحوال أن تتعارض المصالح مع نصوص أقرتها. فأما إن قصد بالمصالح شيئا آخر فهذا ليست محل كلامنا، ولا نظرنا.

الترِندية الشريعة الإسلامية من الصلاحية إلى الضرورة (ج8)

4/ الدليل العقلي غير قطعي

ثم إن دعواه أن دليل المصلحة العقلي قطعي، غير مسلم له؛ ذلك أن تقدير المصلحة غير ثابت، فيختلف من عقل إلى آخر.. بل يختلف لدى الشخص الواحد من وقت لآخر.

يقول الشيخ عبد الوهاب خلاف(26): (وإن الطوفي الذي يحتج بالمصلحة المرسلة إطلاقًا فيما لا نص فيه وفيما فيه نص فتح بابًا للقضاء على النصوص، وجعل حكم النص أو الإجماع عرضة للنسخ بالرأي؛ لأن اعتبار المصلحة ما هو إلا مجرد رأي وتقدير، وربما قدر العقل مصلحة بالرويَّة والبحث يقدرها مفسدة. فتعريض النصوص لنسخ أحكامها بالآراء، وتقدير العقول خطر على الشرائع الإلهية وعلى كل القوانين). ويقول أبو زهرة(27): (نجد الطوفي مؤمنا بالمصلحة الإيمان كله، وليته قد تخلف به الزمان، حتى رأى عصرنا الحاضر، وتشابك الاجتماع فيه، وتعقد مسائله، وحيرة العلماء في علاجه، وتضارب آرائهم، وتباين مذاهبهم، حتى إن بعضهم ليرى في الأمر المصلحة كلها، وهي واضحة لديه وحده، ويرى الآخر غيرها).

بل إن ما رآه الطوفي مصلحة قطعية، كتحريم الربا، نجد اليوم من يراه غير ذلك، ويقدمون المصلحة في القول بجواز الربا. وكذلك ما رآه من مصلحة قطعية في قطع يد السارق نجد اليوم من يقدم المصلحة على أنها في عدم القطع.

5/ دعوى أن المصلحة تمنع الاختلاف، والنصوص متعارضة

ومن ناحية أخرى جعل الطوفي(28) المصالح أمورا واضحة بينة لا يقع بسببها اختلاف، في حين أن تعارض النصوص هي سبب الاختلاف بين العلماء. وبذلك دعا إلى رعاية المصلحة باعتبار أنها ستمنع الاختلاف وتؤدي إلى اتفاق الناس.

وهذا الكلام مخالف للواقع، فإن تقدير المصلحة بين الناس مختلف اختلافا شديدا، كما هو مشاهد في الواقع. وإن (من المصالح ما يحتاج إلى دراسات عديدة لبيان الوجه فيها، ولا يمكن أن ينتهي الناس إلى الاجتماع على مصلحة معينة)(29).

بل إن الطوفي نفسه ذكر مجموعة أدلة يبين بها أن هناك من عارض النص أو الإجماع بالمصلحة، ومما استدل به أن ابن مسعود عارض إجماع الصحابة على جواز التيمم للمريض وعدم الماء، وأن ابن مسعود بنى معارضته على المصلحة، يقول(30): (وهذا ترك للنص والإجماع بمجرد المصلحة). فهل المصلحة في التخفيف على المريض – أو فاقد الماء – بالتيمم، أو بعدم التيمم؟!

ثم إن دعواه أن الخلاف مفسدة(31) غير مسلم؛ ففي الخلاف توسعة على الناس وعدم تضييق لهم، وفيه توسعة على الحاكم والقاضي في الأخذ بأنسب الأقوال، أو الاجتهاد بناء عليها، كما أن الأخذ والرد في العلم والمعرفة هو الذي ينضج العلوم ويسهم في تطويرها. كما أن الخلاف فيه إطلاق الإبداع لعقول العلماء، كما أن فيه نقدا وتقييما للآراء المختلفة ووزنا لها، وغير ذلك من مصالح.

كما أن مثل هذه الحجة هي دليل عليه؛ فهو حين ذكر أن خلاف العلماء في تعارض الروايات، نسب لبعضهم قولا يرد السبب إلى عمر بن الخطاب في منعه تدوين السنة(32). وقد جاء بالقول كشاهد، ولم يناقشه أو يبين بطلانه؛ مما جعل ابن رجب يحمل عليه ويتهمه بالتشيع وأنه يسيء إلى عمر بن الخطاب(33).

وهذا يبين تناقض الطوفي، فهو يرى أن عمر بن الخطاب لو دون السنة لما حدث خلاف في النصوص، ولما حدث اختلاف بين العلماء. وبناء على ذلك فلا داعي لرعاية المصلحة؛ لأن الأمة ستكون متفقة على النصوص. وبهذه الحجة أبطل الطوفي دعواه على أهمية رعاية المصلحة؛ لأن كلامه يبين أن رعاية المصلحة إنما لجأنا إليها حين اختلفنا في النصوص؛ فلو أمكننا الاتفاق في النصوص فلا داعي لرعاية المصلحة. وإذن فالأولى به ان يدعو للاتفاق بشأن النصوص، لا أن يفتح بابا جديدا للاختلاف.

ثم إن زعمه باختلاف النصوص وتضاربها، سيشمل نصوص العبادات أيضا، ولا يقتصر على المعاملات فقط. في حين أن الطوفي يفرق بين العبادات والمعاملات؛ فيجعل النصوص في العبادات أولى بالاتباع(34). فكيف إذن تكون أولى بالاتباع وهي تؤدي إلى الاختلاف والتناقض؟!

وأخيرا؛ فإن دعوى تناقض النصوص هو بمنزلة القول: الشريعة متناقضة. فإذا كانت الشريعة متناقضة، فكيف تكون شريعة حاملة للمصالح والهدايات والإرشاد للناس؟ وكيف ظل الناس طوال سبعة قرون قبل مجيء الطوفي تحت حكم النصوص المتعارضة والشريعة المتناقضة؟!

6/ تخطئة السابقين

أورد الطوفي اعتراضا بعضهم على ما يقوله بأنها طريقة لم يقل بها أحد ممن سبق؛ فإن كانت صوابا لزم القول بخطأ السابقين، وإن كانت خطأ فلا يلتفت إليها. فرد على ذلك بقوله(35): (فالجواب أنها ليست خطأ، لما ذكرنا عليها من البرهان، ولا الصواب منحصر فيها قطعا، بل ظنا واجتهادا، وذلك يوجب المصير إليها، إذ الظن في الفرعيات كالقطع في غيرها، وما يلزم على هذا من خطأ الأمة فيما قبله لازم على رأي كل ذي قول أو طريقة انفرد بها غير مسبوق إليها).

فهو يقرر أن طريقته صواب، ولكن الصواب ليس منحصرا فيها قطعا بل ظنا واجتهادا. ولذلك فنحن نسأله: على أي أساس إذن قال بتقديم هذا الدليل على الأدلة القطعية؟! وكيف يقدمه وهو ظني على أدلة قطعية؟!

ثم إنه بعد ذلك يقرر وجوب مصير الأمة على ما يقرره؛ بالرغم من ظنيته. فعلى أي أساس يوجب على الناس أمرا لم يجب عليهم لا بقطعية العقل، ولا بالاستناد إلى دليل قطعي؟

ثم على أي أساس يقرر أن “الظن في الفرعيات كالقطع في غيرها” الظن يظل ظنا. وبغض النظر عن هذه الجملة، فإنه قد قرر أن “رعاية المصلحة” من الأصول القطعية لا من الفرعية، فكيف يقول الآن إن الظن في الفرعيات كالقطع في غيرها؟!

وأخيرا؛ فحين يجزم أن الأمة قبله على خطأ، ولا أناقش المسألة من ناحية أخلاقية، ولكن يكفي هذا دليلا على إسقاط حجته؛ فلو كانت قطعية أليس في الأمة خلال سبعة قرون قبله من قال بذلك؟!

❃❃❃

وأختم بالإشارة إلى ما ذكره الشيخ أبو زهرة بهذا الخصوص؛ ذلك أن مؤدى قول الطوفي أن (المصلحة تنسخ النص)، فيقول أبو زهرة(36) أن القول بنسخ النص لا يقول به إلا الإمامية الذين أجازوا نسخ النصوص الشرعية بأقوال أئمتهم، فأحل الطوفي المصلحة محل الأئمة، والتقى الرأيان في أن النص بعد الرسول لا زال قابلا للنسخ.

الهوامش:

  1. انظر ترجمته في: ديل طبقات الحنابلة، ابن رجب الحنبلي، ج4/ 404، والدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة، ابن حجر العسقلاني، ج2/ 295. 
  2.  تحقيق: أحمد حَاج محمّد عثمان، 1998م. 
  3. انظر: مصادر التشريع الإسلامي فيما لا نص فيه، عبد الوهاب خلاف، ص 89. 
  4. انظر: أحمد بن حنبل: حياته وعصره، محمد أبو زهرة، ص 356. 
  5. التعيين في شرح الأربعين، ص 243. 
  6.  التعيين في شرح الأربعين، ص 246 
  7.  التعيين في شرح الأربعين، ص252. 
  8.  التعيين في شرح الأربعين، ص238. 
  9.  التعيين في شرح الأربعين، ص271. 
  10.  التعيين في شرح الأربعين، ص277. 
  11.  التعيين في شرح الأربعين، ص279. 
  12.  التعيين في شرح الأربعين، ص280. 
  13.  أحمد بن حنبل: حياته وعصره، محمد أبو زهرة، ص 357. 
  14. التعيين في شرح الأربعين، ص238. 
  15.  التعيين في شرح الأربعين، ص277.
  16.  التعيين في شرح الأربعين، ص 278. 
  17. انظر: المصلحة عند الحنابلة، الشثري، 36. 
  18.  التعيين في شرح الأربعين، ص277. 
  19. التعيين في شرح الأربعين، ص 237. 
  20.  التعيين في شرح الأربعين، ص 273. 
  21. التعيين في شرح الأربعين، ص 259. 
  22.  التعيين في شرح الأربعين، ص 272. 
  23.  انظر: التعيين في شرح الأربعين، ص 239، 244، 248. 
  24.  التعيين في شرح الأربعين، ص 268. 
  25.  التعيين في شرح الأربعين، ص 271. 
  26. مصادر التشريع الإسلامي فيما لا نص فيه، عبد الوهاب خلاف، ص 101.
  27.  أحمد بن حنبل: حياته وعصره، محمد أبو زهرة، ص 358. 
  28.  التعيين في شرح الأربعين، ص 266. 
  29.  أحمد بن حنبل: حياته وعصره، محمد أبو زهرة، ص 359. 
  30.  التعيين في شرح الأربعين، ص 258. 
  31.  التعيين في شرح الأربعين، ص 273. 
  32.  التعيين في شرح الأربعين، ص 266. 
  33.  ذيل طبقات الحنابلة، ج4/411. 
  34.  أسس نظرية الطوفي في المصلحة، حسبو بشير الطيب، 2019، ص480. 
  35.  التعيين في شرح الأربعين، ص 273. 
  36.  أحمد بن حنبل: حياته وعصره، محمد أبو زهرة، ص 361. وقد أضاف أبو زهرة: (وعلى ذلك نقرر أن مهاجمته للنصوص ونشر فكرة نسخها أو تخصيصها بالمصالح، هي أسلوب شيعي أريد به تهوين القدسية التي تعطيها الجماعة الإسلامية لنصوص الشارع، والشيعة الإمامية يرون أن باب النسخ والتخصيص لم يغلق؛ لأن الشارع الحكيم جاء بشرعه لمصالح الناس فى الدنيا والآخرة. وأدرى الناس بذلك الإمام، فله أن يخصص كما خصص النبى صلى الله عليه سلم، لأنه وصي أوصيائه، وقد أتى الطوفي في رسالته بالفكرة كلها، إن لم يذكر كلمة الإمام ليروج القول وتنتشر الفكرة).

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى