فكر

المسلمون في مواجهة مظالم الحكام: قراءة في الفكر السني والهادوي!

العلاقة بين المحكومين والحكام كانت إحدى المسائل السياسية والعلمية التي شغلت المسلمين منذ بداية التاريخ الإسلامي لمؤسسة الخلافة العضوض والحكام المتغلبين بعد زمن الخلافة الراشدة, وقد انقسم العلماء والعامة قسميْن في كيفية التعامل مع الحكامِ المتغلِّبين:

فقسمٌ اعترفَ بشرعيتهم ما دام تغلبوا على السَّلطة؛ لكن تباينت مواقفهم تجاه الأخطاء والمظالم ما بينَ موالٍ مهادنٍ للحكَّام متملق لهم مبرر لتصرفاتهم ولو كانت مخالفة للشريعة بوصفهم ولاة الأمر الواجب طاعتهم حسمًا للخلافِ وتوفيرًا للدِّماء. وما بين مقرٍ بحكمهم لكن رافض لأخطائهم ومظالمهم، وداعيًا إلى طاعتهم في المعروفِ فقط وعدم مجاراتهم في معاصيهم، وعدم رفع السَّيف في وجوههم ما لم يدخلوا في بابِ الكفْر الصَّريح وأقاموا الصَّلاة وعامة أحكام الإسلام، ولم يجيزوا الخروج عليهم في حالةِ الظلم والانحراف البين إلا إذا كانت لديهم القدرة على تغيير المنكر دونَ مزيد من الضَّرر.

وقسمُ معارض ورافض لشرعية الحكام ابتداءً، وهؤلاء أنواع: فمنهم الثَّائر بالسِّلاح دائمًا ضدَّ ما يعتقده مظالم وأخطاء مخالفة للإسلام دون تمييز ولا احتراز.. ونوع هادن الحكام وعلق ثورته على اشتراط ظهور الإمام المنتظَر كما هو عند فرق الشيعة عدا هادوية اليمن الذين ساروا على طريق الخوارج في الخروج على الحاكم الظالم في ميزانهم.

وفي العموم ورغم تلك الاشتراطات والتحفظات لدى الفقهاء والفرق الإسلامية؛ فقد عرف التاريخ الإسلامي سلسلة لا تنتهي من الثورات والخروج على الحكام بدعاوى مختلفة، وسقطت دول وقامت أخرى على أنقاضها، ولم تهدأ الثورات إلا فيما ندر بسبب الانحراف عن نهجِ الشُّورى وممارسات الظلم والاستئثار بالسُّلطة والثروة جنبًا إلى جنبٍ مع الأطماع الشَّخصية والصراع على النُّفوذ والثروة، ولم يكن هناك استثناءات مذهبية في مرجعيةِ الثَّائرين والمتمردين، ولا فرق بين سنةٍ وشيعة، بل يمكن القول إنَّ أعداد الثائرين المنتمين لمذاهب السنة أكثر بكثير من المنتمين لمذاهب الشيعة .

ولإخفاء حقيقة ألا تميز للتشيع والشيعة في التعامل مع الحكام فقد روج بعض مثقفي الهادوية المعاصرين لفكرة أنَّ الفكر السُّني ينحو بأتباعه نحو السلبية تجاه مظالم الحكام، ويفرض عليهم السكوت عنها والطاعة وإن عمل الحكام ما عملوا؛ في مقابل ما يفترضوه أن المذهب الهادوي هو على العكس من ذلك، ويستدلون على كلامهم هذا بأن الإمام يحيى – وهو يعمل على تحويل دولته من إمامة إلى ملك وراثي تخضع له الرعية دون نقاش- عمل على نشر كتب السُّنة، وطبع بعض مؤلفات الشوكاني وأمثاله من علماء السنة ليعمق في النفوس طاعته وتقديسه!

وبتعبيرٍ أوضح, يريد المشار إليهم (وهم مصنفون بأنهم هادوية مثقفون طليعيون مبرءون من التعصب المذهبي) أن يقنعوا النَّاس أن طبع بضع مئات من النُّسخ من بعض كتب علماء السنة في نهاية العشرينات من القرن العشرين الميلادي (وهي مؤلفات بالضرورة لن يقرأها إلا القليل من الفقهاء الذين يمتلكون بالتأكيد نسخًا مخطوطة منها)، وبعد أن تمكن يحيى وزعماء بيوتات الهاشميين منذ عشرات السنين من تثبيت سلطانه بحماس المتشيعين لآل البيت، أنَّ طبع تلكَ الكتب كان كافيًا لتغيير المزاج الشيعي والعقيدة الهادوية المؤسسة من ألفِ سنة في الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر، وتكريس النَّفسية السُّنية الرافضة للتصدي للظالم ورفض المظالم!

فقهيًا كان اجتهاد علماء أهل السنة والجماعة في شروط مواجهة منكرات الحكام ومظالمهم لا يختلف عن فقه أوائل أئمة أهل البيت (وشبيه برأي فقهاء هادوية اليمن كما هو ثابتٌ في كتبهم)، فقد فرقوا أولًا بين الإمام العادل والإمام المتغلب، فالأول لا يجوز الخروج عليه إذا طرأ عليه فسق (أي أخطاء صغيرة) وفيها ثلاثة أقوال بين من يقول إنه ينعزل مطلقًا، أو لا ينعزل مطلقًا، أو من يقول لا ينعزل إن أمكن استتابته وتقويم اعوجاجه وإن لم يمكن خُلع! أمَّا لو طرأ عليه كفر أو تغيير للشرع أو بدعة خرج عن حكم الولاية وسقطت طاعته، ووجب على المسلمين القيام عليه، ونصب إمام عادل إن أمكنهم ذلك، فإن لم يقع ذلك إلا لطائفة وجب عليهم القيام بخلع الكافر، وأمَّا الحاكم المبتدع فلا يجب القيام عليه إلا إذا ظنوا القدرة عليه وإلا فلا، وليهاجر المسلم عن أرضه إلى غيرها ويفر بدينه!

أمَّا الإمام المتغلِّب فإن كان عادلًا لم يأثم، وإن كان جائرًا يأثم وعصى بالتَّغلب، فطاعته مشروطة بإقامة الجمعات، والأعياد، والجهاد، وإنصاف المظلوم غالبًا، لأنَّ طاعته خير من الخروج عليه لما في ذلك من حقن الدماء وتسكين الدَّهماء، لكن الخروج عليه من المسائل الظنية، والخارج عليه غير آثم لأنه عمل باجتهاده في مسألة ظنية فروعية.(1)

ومن سوء حظ المشار إليهم أنَّ وقائع التَّاريخ اليمني القديم والحديث تنقض حكمهم المتعصب للمذهب الهادوي المفترى عليه بأنه مذهب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومقارعة الظالمين! فبالإضافة إلى ما هو ثابت من براءة عقيدة أئمة أهل البيت من فكرة الخروج على الظالم على الطريقة الهادوية؛ فإنه يمكن ملاحظة أنَّ معظم (إن لم نقل كل) المعارضات لمظالم أئمة الدولة القاسمية الهادوية في مرحلتها الأولى بعد خروج الأتراك الأول من اليمن، أو في زمن الدولة الثانية في عهد بيتِ حميد الدِّين.. معظم المعارضات لمظالم الأئمة الهادوية كان وراءها علماء يدينون بمذهب أهل السنة والجماعة، وتلاميذ لفكرهم وعلومهم على رغم أنف الدعاية الإمامية التي تصفهم بالنصب وكراهية أهل البيت وحب معاوية! وفي المقابل سكت المتشبعون بالعقيدة الهادوية المؤمنون بقيادة أهل البيت لسبب بسيط وهو أن المذهب الهادوي يعمق في نفوسهم قداسة أهل البيت، وأنهم سلالة طاهرة لا يجوز حتى معارضتها سرا في النفوس لأنه إثم يحاسبون عليه!

veda aliakbar Copy e1661100935231 المسلمون في مواجهة مظالم الحكام: قراءة في الفكر السني والهادوي!

وإذا كنا لن نجد بسهولة متشيعًا هادويًا علويًا أو غير علوي مقتنعًا بالثورة على الأئمة الظلمة إلا إذا كان يسعى للسلطة بحجة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ فإنه بسهولة يمكن أن نجد أعلامًا عظيمة من العلماء ورجالات اليمن من البيئة الهادوية ذاتها؛ كانوا من الرافضين للتشيع  المعجبين بالفكر السني، وهم الذين تصدوا لنقد مظالم الأئمة للرعية؛ وخاصة من أبناء المناطق السنية الذين عانوا من مظالم تاريخية تبدأ من تكفيرهم ومحاولة فرض مذهب الأئمة عليهم إلى استحلال أموالهم، وتحريف المبادئ الإسلامية لقهرهم ونهبهم كما حدث من بعض الأئمة الذين كانوا يفرضون على سبيل المثال الزكاة على الناس دون النصاب المحدد شرعًا!

وفي تاريخ الدولة القاسمية الأولى سوف نجد أن في طليعة من رفض مظالم الأئمة وتحريفاتهم الدينية وتعصبهم المشين علماء كانوا مجتهدين تجاوزوا المذهب الهادوي إلى رحاب الأخذ بالدليل من كتب السنة الشهيرة، ودافعوا عن الصَّحابة وعلماء السُّنة، واعتمدوا السنة النبوية كما جاءت في صحاح أهل السنة؛ كمثل: العلامة محمَّد بن إبراهيم الوزير (ابن تيمية اليمن)، والعلامة الحسَن بن محمد الجلال، والعلامة صالح بن مهدي المقبلي، والعلامة عبد القادر بن أحمد شرف الدِّين(شيخ الشَّوكاني)، والعلامة ابن الأمير الصَّنعاني، والعلامة محمد بن علي الشَّوكاني.. وهناك شخصيات من داخل الأسرة القاسمية مثل المؤرخ الشهير يحيى بن الحسين (الذي ما زال مغضوبًا عليه حتى اليوم بتهمة التسنن من قبل المتعصبين الهادوية الذين يملؤون الدنيا صراخًا عن تسامح المذهب وقبوله لحرية الاختلاف والاجتهاد) الذي كان من رموز الرفض لمظالم الأئمة، وقد سجل في الجزء الثاني من تاريخه “بهجة الزَّمن في تاريخِ اليمن” نماذج كثيرة لمظالم أسرته وانحرافها عن الطَّريق المستقيم، وفيه أسماء عديدة لعلماء مناهضين لمظالم الإمامة القاسمية رغم كونهم ممن رفضوا الجمود المذهبي وانحازوا للفكر السني وخاصة في اعتمادهم على كتب الحديث المعروفة.

وفي زمن دولة بيت حميد الدين (1918-1962)، وبمراجعة سريعة لأسماء الطلائع الوطنية الذين رفضوا مظالم الإمام يحيى وأبنائه، ونشروا الوعي بضرورة الثورة عليه.. فسوف نجد أنهم كلهم كانوا رافضين لفكرة التشيع، وحصر الإمامة في سلالة معينة، وكانوا متأثرين بالفكر السني، وعلوم أهل السنة وخاصة في جانب الحديث النبوي، وقد واجههم الإمام وأعوانه بالتهم التقليدية بأنهم نواصب يحبون معاوية ويبغضون أهل البيت، وسوف نورد هنا ما سجله أحد رموز الأحرار في مقارعة مظالم الأئمة وهو المناضل العزي صالح السنيدار في كتابه “الطريق إلى الحرية” من معلومات دقيقة عن نوعية الأحرار الذين انتفضوا ضد مظالم الإمام يحيى وأبنائه، فلن تجد منهم إلا عالمًا بالسُّنة معجبًا بها، والسنيدار نفسه لم يلتحق بحركة الأحرار إلا بعد اقتنع بفساد فكرة التشيع وتقديس أهل البيت!  وهاكم بعض أبرز أسماء كبار الأحرار وموقفهم من التشيع والسنة، ودورهم في مواجهة مظالم الإمام وأبنائه (2):

1- محمد عبدالله المحلوي: كان علامة مقارعًا للإلحاد عند بعض موظفي الأتراك المتأثرين بالعلمانية، وكان رافضًا للتشيع وتقديس السُّلالة، وله دور كبير في الأخذ بأيدي الناس إلى طريق الكتاب والسنة، وفضح طريقة الأئمة المخالفة لهدي النبي الكريم وعلي بن أبي طالب.

2- أحمد بن أحمد المطاع: من شهداء ثورة 1948، ومن طلائع الأحرار الفقهاء بعلوم الدين والعصر، أسهم مع المحلوي في بث الوعي بفساد التشيع والتنديد بمظالم الإمام، كان أبوه من أهل السنة، شديد البغض لآل حميد الدين، فدرّس أبناءه كتب السنة.

3- محمد بن زيد(المفرح): كان غير متعصب رغم هاشميته، يميل إلى علوم السنة، وممن نشر الوعي بمظالم الأئمة القاسميين، وحارب بذكاء خرافاتهم التي كانوا يروجونها لتكريس التشيع في قلوب العامة والجهلة، وعمل لنشر فكرة الأحرار مع المحلوي.

4- الشيخ حسن الدعيس: من الطلائع الثورية التي شنعت على مظالم الإمام، وحاربت الجمود المذهبي، كان جريئا في مواجهته لخرافات التشيع التي يستخدمها الإمام لتضليل الجهلاء، عانى كثيرا من ملاعيب الإمام ومحاولاته دون جدوى الإساءة إلى سمعته وذمته المالية.

5- آل الإرياني: ومنهم القاضي عبد الرحمن الإرياني ثاني رئيس للجمهورية في صنعاء، كان أبوه من علماء السنة فربى أولاده على اتباع الدَّليل الصَّحيح أي رفض المذهبية ومن باب أولى اتباع الهادوية، وكان لهذه البيئة العلمية دور في تنشئهم على رفض مظالم الإمام وأبنائه، ومن ثم العمل في إطار فكرة الأحرار لتغيير المنكر.

6- العلامة أحمد عبد الوهاب الوريث: من رموز الطلائع الحرة المجاهرين بعلوم السنة، كان متأثرا بفكر حركة الإخوان المسلمين السنية  وكتابات الشيخ حسن البنا؛ حتى أنه كان يقتبس منها عبارات الوصايا العشر وعقيدتنا وينشرها في الغلاف الداخلي لمجلة (الحكمة) التي كان يرأس تحريرها.

7- القاضي العلامة عبدالله بن محمد العيزري. من عظماء مدينة ذمار، كان من علماء السنة المجاهرين برأيهم في بيئة شيعية متعصبة، كان يصارح الإمام يحيى بالأخطاء ولا يخاف في الله لومة لائم، من تلاميذه المتابعين له: أحمد عبدالوهاب الوريث، والقاضي أحمد بن أحمد سلامة، والقاضي إسماعيل الأكوع.

8- العلامة زيد الديلمي: من كبار علماء السنة واتباع الدليل.

9- القاضي علي المغربي: من أكبر مشايخ السُّنة، وكان مناوئًا لبيت حميد الدِّين من أول ظهورهم، وكان يسمي والد الإمام يحيى: جرثومة الفساد.

10- العلامة أحمد محمد الكبسي: من كبار علماء السنة كان جريئا في مواجهة مظالم الولاة الأتراك، ومع ذلك لم يستجب لدعوة والد الإمام يحيى للخروج عليهم.

11- العلامة عبدالله بن إبراهيم: من كبار علماء السنة، كان منتقدًا للأوضاع التي عايشها، ومن العارفين بحقيقة الحكم الإمامي وأساليب الدجل والكذب التي يمارسونها لخداع البسطاء من الناس باسم التشيع لأهل البيت.

ويمكن تعميم هذا الكلام على معظم الشيعة قديمًا في بقية العالم الإسلامي؛ فلم يظهر منهم عالم – رغم وجودهم الكبير في المناطق التي تعرضت للغزو الصليبي في جبال الشَّام والعراق وإيران- يتصدى لمواجهة العدوان الصليبي أو المغولي دفاعًا عن الأمة مثلما نجد من علماء السُّنة كالعز بن عبد السَّلام، وابن تيمية، وليس غائبًا عن الأذهان الدور الذي قام به فقهاء شيعة في التمهيد لدخول بالمغول بغداد والتعاون معهم!

Antoine Jean Gros 010 1 المسلمون في مواجهة مظالم الحكام: قراءة في الفكر السني والهادوي!

وفي العصر الحديث تصدى علماء الأزهر الشريف لقيادة ثورات المصريين ضد استعمار نابليون لمصر، وكان الجامع الأزهر هو مركز القيادة لها، والأمر نفسه في ثورات الجزائريين، والمغاربة، والتونسيين، والليبيين، التي كان قادتها ورموزها هم علماء السنة.

تحريم الخروج على الإمام:

وفي مقابل عقيدة الخروج على الظالم – أو السَّعي المسلح إلى السُّلطة- في المذهب الهادوي؛ فإنهم يحرمون الخروج أو البغي على أئمتهم (مع اشتراط نظري بأن يكونوا عادلين.. لكن أي إمام على استعداد للإقرار بأنه ظالم؟)، ويعدونه أخطر من الكفر، ويعدون جهاد البغاة أي الخارجين عليهم أفضل من جهاد الكفار، ولذا يجيزون الاستعانة بالكفار والفاسقين على المسلم الباغي أي الثائرين على مظالمهم! ويضعون في مذهبهم شروطا صعبة جدا لإجازة الخروج على أئمتهم أو شرعية البغي تجعله شيئا أشبه بالفلكولور، ويمنحون الإمام حق الدفاع عن سلطته اعتمادا على تأييد أي عدد له من الرعية أي عدم التنحي عن الإمامة لو وجد ناصرًا له من أي قطر واحد. وقد تشدد الهادوية منذ يحيى بن الحسين في التنظير لفكرة طاعة الإمام حتى في الباطن، وأنَّ من عارضه سلميًا فهو آثم ويسقط حقه في الفيء وبيت مال المسلمين، وأجازوا لأنفسهم ممارسة كل جريمة مثل القتل والصلب والتدمير والحرق في حق من يثور ضدهم، ومن البديهي أننا لا نجد حاكما من البطنين يقبل أن يعترف بمظالمه وحق الرعية في خلعه وإشهار السيف في وجهه! أو يعجز عن توفير تأييد عدد كاف من المؤيدين!

والغريب أنك تقرأ لكثيرين منهم استنكارهم لما يسمونه روح الخضوع لسلاطين الجور الظلمة عند أهل السُّنة، وهم أنفسهم الذين لم يقتنعوا حتى الآن بالثورةِ على أئمة اليمن الأشد ظلمًا في تاريخه، واستئثارًا بالسُّلطة والمال لهم ولأبنائهم وأقاربهم كما يتضحُ جليًا في تاريخ أئمة الدَّولة القاسمية في الوقت الذي كانوا فيه يسومون الرعية سوء العذاب، والنَّهب والظلم، حتى أنهم فرضوا الزكاة في مواسم الجدب والجوع، وحتى على فناجين الشَّاي، وفرضوا الضرائب حتى على المشترين وليس البائعين فقط، وحتى على البائعين في الشوارع (أصحاب البسطات)!(3).

وما يزال هؤلاء الهادوية الذين يولولون عن الجهاد ضد الظلمة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يستنكرون حتى الآن الخروج على الظلمة من أئمة بيت حميد الدين: يحيى وأحمد والبدر، وقاتلوا مع هذا الأخير حتى أهلكوا الحرث والنسل في اليمن؛ رغم أن كثيرا من دواعي الخروج على الحاكم الظالم كانت متوفرة في حكمهم.

وما يزال المتعصبون العنصريون منهم حتى الآن يجرمون الثورة على الإمام يحيى حميد الدين عام 1948 بحجة أنه إمام شرعي مجتهد عدل (رغم كل الجرائم التي ارتكبها في حق اليمنيين المسلمين والتي تتناقض كليا مع كلامهم النظري في واجبات الإمام تجاه رعيته!) أو أنه قتل غيلة أو أن الثائرين عليه لم يلتزموا شروط المذهب في كيفية إعلان الثورة عليه!

وبمقارنةٍ سريعة بين دوافع المتمردين على الخليفة عثمان بن عفان – وهو التَّمرد الذي يبصم على صحته الشيعة بكل مؤلفاتهم- وبين دوافع ثورات اليمنيين ضد حكم الأئمة في بلادهم وخاصة أئمة الدولتين القاسمية والحميدية يتضح أن دوافع الثورة ضد عثمان كانت مبالغا فيها إلى حد كبير.. ومع غيظ القوم من عثمان وإقرارهم بمشروعية التمرد ضده؛ إلا أنهم احتاطوا لأنفسهم فقهيا على سبيل تحريم الثورة ضد أئمتهم كما حدث معه؛ فوضعوا مجموعة من المعايير التي تفرغ أي صورة من المعارضة أو التمرد ضدهم من مشروعيتها في مذهبهم، ودون الاحتياط بقاعدة: الطاعة في المعروف ولا طاعة في المعصية، وقد أجملها صاحب موسوعة التاج المذهب في أحكام المذهب على النحو الآتي:

1- ليس من شرط صحة إمامة الإمام الإجماع عليه! فهذا الشرط عندهم يؤدي إلى الإخلال بالإمامة وطاعة الإمام.

[ تذكروا طنطنتهم الدائمة في التشكيك في بيعة الصديق بحجة أنَّ عليًا وآل البيت لم يحضروا البيعة لانشغالهم بتجهيز النًّبي للدفن. واستخدامهم حقيقة أنَّ سعد بن عبادة لم يبايع أبا بكرٍ وعمر في التَّقليل من مشروعية حكمهما].

2- وجوب طاعة الإمام القائم بها وإن لم يقل بإمامته أحد (!)، ولا يجوز الإخلال بطاعة الإمام ولا الشك في إمامته لسوء عمل من العمال أو الجند بدون رضائه بحكم أن ذلك كان معروفا في وقت النبي الكريم ومن خلفه، ولم يقدح في النبوءة ولا إمامة الخلفاء.

[ كثيرا ما كان اليمنيون يشكون مظالم عمَّال الأئمة إليهم فيقابلونهم بالإهمال والإعراض وإطلاق أيدي الظلمة أكثر في الرعية وخاصة في المناطق السنية..].

3- من نكث بيعة الإمام ولم يقاتل فهو آثم، ومن تكلم على الإمام يجوز قتله. أما من قاتل الإمام فبالضرورة يجب قتاله.

4-  يؤدب بما يليق من توبيخ أو حبس أو ضرب أو أي من وجود التعزير من يثبط الإمام عن طاعته ومعاهدته ومناصرته أو ينفى إن لم ينزجر بالتأديب.

[ لم تقيد النصرة والطاعة في المعروف بل جاءت مطلقة أي حتى لو كانت في معصية وظلم].

5- من عادى الإمام بقلبه فهو مخطئ، والمقصود هنا أن يريد أو يتمنى إنزال الضرر به من الله أو من غيره. وإن عاداه بلسانه فهو فاسق.

6- يجب على الإمام ألا يتنحى عن الإمامة والقيام بأعبائها ما وجد ناصرًا له من المسلمين لتنفيذ أوامره ونواهيه ولو في بلدٍ واحد.

[من الثَّابت أنَّ الخليفة الرَّاشد عثمان كان له مناصرون أكثر بكثير جدًا من عدد المتمردين الذين كان عددهم قرابة الألفين].

7- يجوز للإمام الاستعانة بالكفار والفسقة على جهاد من أراد قتاله من كافر أو باغ. (الباغي هو وصف للمسلم الثائر على الإمام).(4)

[ ألا تنفع هذه الحجة في تبرئة عثمان من الاستعانة بمروان بن الحكم الذي يعده الشعبة كافرا؟]

الهوامش:

  1.   لمزيد من التفاصيل، يراجع الجزء الثالث من العواصم والقواصم لابن الوزير، ص227 وما بعدها.
  2. الطريق إلى الحرية، مذكرات العزي صالح السنيدار، أعدَّه للنَّشر علي عبدالله الواسعي.
  3. ينظر مظاهر من مظالم الدولة القاسمية بحق اليمنيين في: الجزءين الثاني والثالث من “بهجة الزمن في تاريخ اليمن”، يحيى بن الحسين: ص189 و629 و660 و705 و798 و864 و875 و932 و933 و934 و1046 و1061، تحقيق د. أمة الغفور الأمير. وقد روى حكاية فرض الزكاة على فناجين الشاهي في ريمة الأستاذ محمد عبدالوهاب جباري في حوار صحفي مع العقيد محسن خصروف في صحيفة 26 سبتمبر.
  4. التاج المذهب لأحكام المذهب شرح متن الأزهار في فقه الأئمة الأطهار. يجدر الإشارة هنا إلى أن الواجبات التي ألقيت على الإمام تجاه الرعية في الكتاب ممتازة في مجملها لكن تؤكد معظم وقائع التاريخ اليمني أنها كانت غالبا (من باب الاحتراز فقط) مجرد قواعد نظرية لا يؤخذ بها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى