تقود الحروب الدول إلى لحظاتٍ حرجة في تاريخها، لأنَّ ما يعقب الحرب – عادةً – هو بناء دولة أو تشكُّل هُويَّة، أو صناعة ذاكرة تاريخية جديدة، أو تلاعب بما هو موجود. يعبر اليمن حاليًا لحظة مهمَّة في تاريخه المعاصر، وقد جرفت الحرب الدائرة في اليمن أمورًا مادية كثيرة نعلمها جميعًا، لكن هناك أمور لامادية قد لا تظهر للعيان، لكن لها الأثر الكبير في بناء السَّلام؛ والمتمثل في كينونة الدولة وهويتها والذاكرة التاريخية لها، هذه المفاهيم اللامادية قد تعزِّز السِّلم المجتمعي، أو قد تهيجه وتجعل السَّلام الدائم في اليمن أمرًا يصعبُ تحقيقه، بحيث ستكون جولات الحرب مستمرة ما بين فينةٍ وأخرى.
يبحثُ هذا المقال في مفهوم الهُويَّة اليمنية ووضعها في الوقت الرَّاهن، وما قد تؤول إليه بعدما تضع الحرب أوزارها، ويعود ذلك لأهمية الهوية الوطنية ليس لأنها ضرورية في عملية بناء السَّلام فقط، بل لأنها ترتبط برؤية الأمة لذاتها ومستقبلها وتصبح المنظار الذي يرى الفرد العالم من خلاله. فالجماعة المتخيلة ليست وهمًا أو أحلامًا كما أنها قد لا تكون حقيقة أو واقعًا، بل هي أحد السُّبل المعرفية التي تقود إلى التعامل مع الآخر، وقد وصفها علي حرب بالحاجز حيث يقول: “تمسي حاجزًا يتمترسُ وراءه صاحبها أو المؤمن بها [….] على نحو أصولي، أو شمولي، أو عنصري فاشي” [1]. مما يؤدي إلى عدم قبول الآخر والتعايش معه سواء على البُعْد الطائفي أو المناطقي أو الجهوي أو العِرْقي. ولعلَّ الحديث عن القومية أو الهوية اليمنية لم تأخذ حيزًا في الخطابات السِّياسية أو الأكاديمية عند نشوء الدولة اليمنية الحديثة في ستينيات القرن الماضي كونها كانت مضمَّنة في القومية العربية كما أن شعار “أنَّ اليمن هي أَصل العرب” اقتضى بأنَّ الهوية اليمنية هي أساسًا هوية عربية فلم يكن هناك داع إلى الاشتغال عليها.
لكن مع سيطرة جماعة الحوثي على السُّلطة في صنعاء عام 2014م، وقيامها بأنشطة تحت شعار الهوية الإيمانية وما تحملها من مضامين طائفية وسلالية قذفت إلى الواجهة مسألة الهوية اليمنية، وبطبيعة الحال قاد إلى رد فعل بظهور حركة الأقيال[2] التي تدعو إلى إحياء الهوية اليمنية استنادًا للحضارات اليمنية القديمة وقد اتخذت الوعل [3]شعارها. كما شهدت مواقع التواصل الاجتماعي في اليمن مؤخرًا تفاعلًا واسعًا لوسم الهوية اليمنية والذي ظهر بعد ضوابط للملابس النسائية أقرتها جماعة الحوثي في صنعاء. وفي خضم الحرب الحالية فإننا قد نشهد انتاج جماعة متخيلة تحتاج إلى صناعة ذاكرة تاريخية ليتم توظيفها في إنتاج هوية متخيلة.
ما الهُوية؟
إنَّ مصطلح الهُوية من المصطلحات التي تعددت تعاريفها وتعرض مفهومها إلى نقد كبير في العلوم الإنسانية المعاصرة مما أدى إلى إعادة تعريفها ومحاولة تفسيرها على عدة أصعدة، وقد قاد هذا إلى تحول كبير لمصطلح الهوية في مطلع القرن الجديد. ولن نخوض في مسيرة مفهوم الهُوية ولكننا سنشير إلى أهم التعريفات التي وضعها المهتمون بدراسة الهوية حيث يرى الفيلسوف الكندي تشارلز تايلر بأنَّ مفهوم الهوية هو الشعور بالرابطة والهدف المشترك، فالشخص يشعر أنه ينتمي إلى شعب معين، أو أنه جزء من هذا الشعب، عندما يشعر بـ رابطة مع أولئك الذين يكوّنون الشعب، وتربطه معهم قيمة مشتركة قوية أو هدف قوي[4] ، ويعرفها وجيه كوثراني بأنها “انتماء فرد إلى جماعة، تبدأ الجماعة بالعائلة الصغيرة إلى العائلة الكبيرة إلى القبيلة والعشيرة، إلى الطائفة أو الجماعة الدينية، إلى الدولة.”[5] ويوضح عزمي بشارة إشكالية مفهوم الهوية بأنها قضية حديثة ظهرت مع نشوء الفرد، وما قبل ذلك كانت فقط مصطلحًا فلسفيًّا، موضحًا أنَّ موضوع الهُوية معقَّد ومتشعِّب، وهو في الأصل يعبّر عن مصطلح فلسفي جاء نتيجة لحاجات الفلسفة العربية في القرنيْن الرابع والخامس الهجري، لترجمة ما جاءت به الفلسفة اليونانية، مبينًا أنَّ هذه الكلمة تأتي من الضَّمير “هُو”، أي مُجمل صفات الفرد الرئيسية التي تميزه عن غيره. ويشير إلى أنَّ هذه الفكرة انتقلت إلى علمِ الاجتماع والاستخدام اليومي للكلمة، لتأخذ معنى التعريف بالآخر والانتساب إلى فئة معينة، مُشيرًا إلى أنَّ مجموعة الانتماءات تتفاوت في الأهمية بالنسبة للأفراد، حيث ينتمون إليها بدرجات مختلفة عاطفيًا، ويُضيف إلى أنَّ بعض خصائص الهُوية تتأسَّس دون إرادة الفرد عن طريق المؤسسات الثقافية التي تعمل باستمرار على تكوين هؤلاء الأفراد.[6]
أضف إلى ما سبق ظهور مصطلحات جديدة للهُوية فهناك الهوية المركبة والهجينة والثقافية والتي تُشير بأنَّ الفرد قد تكون له أكثر من هوية في الوقت ذاته، حيث بإمكان الهوية أن تكون فردية وجماعية، دينية وقومية، وغيرها من الثنائيات أو الثلاثيات. ويرى لفيفٌ من دارسيِ الهويَّة بأنها أكبر قاتل في التَّاريخ، ويراها تايلر بأنها تعيق عملية التعايش داخل المجتمعات المتعددة.
ولتقريب هذه المفاهيم علينا أن نتخيل بأنَّ الهوية عبارة عن مبنى من ثلاثة طوابق ففي الطابق الثالث هويات جماعية فوق وطنية/ عالمية، كالهويات الدِّينية والعرقية العابرة للحدود، أمَّا الطابق الثاني فهي هويات وطنية، وهي حصيلة جمع بين الهويات الفردية والهويات المحلية داخل البلد الواحد. أما الطابق الأول هويات جماعية محلية، أو دون وطنية، كالهويات المناطقية والقبلية، والدينية/ المذهبية، وهي ما يسميها ما نويل كاستلز الهويات الأولية، وتتزاحم هويات الطابق الأول فيما بينها كما تتدافع مع هويات الطابق الثاني مهددة تصدع للمبنى ككل.[7]
في مسألة الهُوية اليمنية
شهدت مسألة الهُوية تضخمًا في وقتنا الحالي على مستوى العالمي وما حملته من تخيلات اجتماعية، فأزمة الهوية اليوم نابعة من مآسي التاريخ، أو الهجرات المختلفة، والتحولات الاجتماعية وتغيّر الأنظمة السياسية[8] ، كما برزت في العالم العربي في العقديْنِ الأخيرين وذلك للتحولات السياسية التي تشهدها المنطقة مع وجود البِنْيَات التَّقليدية للمجتمعات العربية والتي تساعد بأن تطفو عليها الهويات الطائفية والاثنية والمناطقية، لذلك يحذر عزمي بشارة من أنَّ نقاش مسألة الهُوية محفوفٌ بمخاطر عديدة منها: توسيع نطاق مسألة الهوية وتحميلها قضايا أخرى لا تتعلق بها.[9] وإذا ما أسقطنا هذه المخاطر على الحالة اليمنية فإننا سنجد بأن تفسير هشاشة الدولة في اليمن وانقسام اللحمة الوطنية يعود لسببِ غياب الهوية الوطنية الجامعة، لكن هذا التفسير قد يُعطي تمويهًا لفَهْم الإشكالية المركبة المتعلقة بتاريخ نشوء الدولة الحديثة في اليمن وفشل النخبة السياسية في دمج المجتمع من الجانب الاقتصادي والحقوقي، كما أن تفسير غياب الهوية الوطنية بأنه سبب في ظهور الصراع الطائفي هو تفسير معكوس كون الانتماء الديني أو المذهبي لا يتنافى مع الهوية الوطنية لكن الإشكالية تكمن في الجماعات السياسية التي تستثمر في الهوية الطائفية لتحول الانتماء الطائفي إلى انتماء سياسي لأجل الصِّراع على السُّلطة[10] .
وقد فُسِّرَ الصِّراع الدائر في اليمن من منظور طائفي، وهنا لا بدَّ أن نوضح بأنَّ الطائفية تختلف عن الطائفة، كون الطائفة “هي تكوين تاريخي وامتداد اجتماعي وإرث طقوسي وتطور طبيعي”، بينما الطائفية “هي توجّه سياسي يسعى للحصول على امتيازات، أو مكافئات باسم الطائفة ،أو ادعاء تمثيلها، أو إثبات تمايزات عن الطوائف الأخرى”[11] . لذلك لم تكن الطائفة المذهبية/الدينية هي مصدر الطائفية السياسية، فمصدرها هو استغلال الصراعات السياسية والاجتماعية.
كما بالإمكان اسقاط السياسات الطائفية على حالة اليمن حيث تُرفع مطالب جماعة ما من منطلق مظلوميتها الطائفية أو الاثنية أو الجهويَّة وتستثمر مظلوميتها عبر الإعلام وتنشئ ذاكرة تاريخية طائفية أو مناطقية بحيث لا ينتج عن ذلك رد المظالم من منطلق العدالة، بل من منطلق مصالح الطائفة أو الجماعة مما يقود إلى تصدع الهوية الوطنية على حساب هوية الجماعة. والمتأمل في الشَّأن اليمني يجد انطلاق جماعة الحوثي من قاعدة المظلومية وكذلك الحراك الجنوبي، والتهامي، والحضرمي، استطاع الأول والثاني تحقيق مكاسب ميدانية والاستئثار بالسلطة لمصالح هوية الجماعة والذي يؤدي إلى إعادة إنتاج أو أنتجت هوية طائفية أو مناطقية أخرى تحت مظلة المظلومية مما يعزِّز هوية الجماعة على الهوية الوطنية والدخول في حلقة مفرغة.
لذا، فالتنازع في اليمن ليس طائفيًّا، بل يُستغَل من قبل الجماعات لِتَطْيِيف كل ما هو ليس طائفيًا، لكن هناكَ تنازع هوياتي كان خفيًّا قبل الحرب وأصبح جليًّا أثناءها. هذا التنازع قد يكون بسبب الخلط بين الهوية الثقافية والهوية السياسية، فالأولى تحتوي على أمور مشتركة بين الناس كالتاريخ والعادات والقيم الثقافية والمعتقدات الدينية وقد تختلف جزئيًّا أو كليًّا من منطقة إلى أخرى، بينما الثانية تقوم على أنَّ المواطنين يتقاسمون الحقوق والقيم السياسية والمدنية الموحدة بشكل متساوٍ، فيكون الخلط حينما تعتبر الهوية الثقافية هوية سياسية فيستلزم على المرء أن يتخلى عن هويته الثقافية الأصلية ليندمج في هوية ثقافية جديدة إذا ما أراد أن ينال حقوقه المدينة والسياسة وقد نرى شواهد ذلك في خضم الصراع الدائر في اليمن من ممارسات جماعة الحوثي في فضاء الدولة من مدونة السلوك الوظيفي والفعاليات الدينية التي تتضمن رزنامة التقويم السنوي للدولة وكذلك ممارسات المجلس الانتقالي في عدن. أما النسخة المتطرفة منها فهي اعتبار كامل محتويات الهوية الثقافية هوية وطنية فيلزم الفرد بلباس وعادات ومأكل معين ومعتقدات كهوية وطنية وإن مخالفة هذه الثقافة هي خيانة للوطن.
التنازع الهوياتي في اليمن:
لم يُعاني اليمن طِوال تاريخه من تنازع طائفي على السُّلطة بقدر ما عانى من تنازع هُويَّاتي، ويجدر بالإشارة بأنَّ هذا التَّنازع كان على مستوى السُّلطة والجماعات، ولم يكن على مستوى الأفراد والمجتمع، ويُبين أحمد الأحصب بأنَّ هناك ثلاث تنازع هُويَّاتي على السُّلطة في اليمن عبر تاريخها وهي جهويَّة وقبلية ومذهبية، ففي الجانب القبلي فهو التنازع بين القحطانيين والهاشميين ودعواه بأنَّ الهاشميين سيطروا على الحكم طيلة ألف سنة، أمَّا المذهبي فهو يقسم البلاد إلى طرفيْن(زيدي وشافعي) مع رفع دعوى بأنَّ الزيود استأثروا بالسلطة. أما في الجانب الجهوي/المناطقي فإنَّ تقسيماته تتعدد، ففي المستوى الأول: لدينا شمال وجنوب، مع اعتبار بأنَّ حضرموت تقف أمام بقية اليمن بشماله وجنوبه، في حين المستوى الثاني ينقسم “كل من الشمال والجنوب إلى ثنائيات متقابلة، ففي الشمال يقف اليمن الأسفل (منْزَل) في مواجهة اليمن الأعلى (مَطْلَع). والتهاميون في مواجهة الجبَالية، ولعلَّ هذه المقابلة هي الأقل حضورًا ونشاطًا وتعبيرًا عن نفسها، وفي الجنوب تقف حضرموت في مواجهة الجنوب برمَّتِه، والجنوب في مواجهة الضالع والعدانية (العدنيون) في مواجهة البدو. وفي جميع تلك المقابلات يُحاكم الطرف الأول الطرف الثاني ويتهمه بالاستحواذ والسيطرة على السلطة”[12] . وتشترك جميع الأطراف الجهوية بدعوى سيطرة شمال الشمال على السلطة في اليمن بينما لا يوجد أي دعوى من شمال الشمال باتجاه أي من المناطق الأخرى. ويضيف الأحصب بأنَّ هناك خلطًا حول هوية السلطة الزيدية حيث لها ثلاثة مستويات (زيدية اجتماعية جغرافية وزيدية مذهبية وزيدية سلالية هاشمية)[13] ، ويسقط الأحصب تلك الدعاوي حيث يوضح بأنَّ هوية السُّلطة في اليمن لم تكن لدى شمال الشمال بشكل جامد طوال تاريخ الوسيط والحديث لليمن، بل تنقلت بين اليمنيين بمختلف هوياتهم ومناطقهم .[14]
ويتضح لنا من دراسة الأحصب بأنَّ التاريخ اليمني شهد تنازع هوياتي على السلطة كان يؤدي دائمًا في أوقات ضعف الدولة المركزية إلى التفتت والانقسام وكذلك إلى جولات حرب دورية. وما يحدث في وقتنا الراهن من تفتت هو ليس حَدَثًا خارج سياق تاريخ اليمن، بل هو سيرورة ونتيجة الرقعة الجغرافية والتنوع الثقافي. ولكن القلق من ممارسة فرض هوية السلطة كهوية للشعب وفرضها على مجتمع متعدد ثقافيًّا فبعد سيطرة الحوثيين على السلطة عام 2014م يتم استغلال المناسبات الدينية وغيرها في ترويج ثقافة الجماعة باعتبارها هوية وطنية تحت لافتة الهوية الإيمانية، ناهيك عن استغلال الفضاء العام للدولة في كل ما يخدم هُوية ومعتقدات الجماعة وهو ما يؤدي إلى إضعاف مبادئ الوحدة وتعزيز التفرقة وعودة الهوية إلى ما دون وطنية. وما نشهده من احتفاء كبير في العالم الافتراضي بالأيام الوطنية مثل 26 سبتمبر، أو صناعة أيام جديدة، مثل: “يوم البُن اليمني والأغنية اليمنية ويوم المسند والوعل أو (تريند) الهوية اليمنية” ماهي إلا ردود مناهضة في مساحة ممكنة ضد ممارسات فرض هوية جماعة على مجتمع تعددت مشاربه.
وما يُخشى على اليمن أن يُعاد تكرار ما جرى في العراق ولبنان، ففي الحالة الأولى بعد الاحتلال الأمريكي عزَّز مجلس الحكم الانتقالي نظام المحاصصة الطائفية والاثنية مما جعل الهوية المحلية طاغية على الهوية الوطنية بينما في حالة لبنان أوحى دستور الاستقلال عام 1943م إلى المحاصصة ثمَّ تعزز ذلك بعد الحرب الأهلية واتفاقية الطائف عام 1990م. قد تكون حالة اليمن الهوياتية ذات البعد الطائفي أقل بروزًا عن العراق ولبنان، لكن الحرب وممارسات جماعة الحوثي أبرزت حضور الهويات المحلية، وزرعت الأوهام حول الآخر بصورة العدو والخصومة الدائمة، وبالتالي خلق العداء والرغبة في الإقصاء والتجريم.
أزمة الهُوية الوطنية:
يجادل البعض بأن اليمن لا تحمل هُويَّات ثقافية متعددة، وإن الهوية الوطنية الجامعة هي الهوية اليمنية كون المجتمع اليمني لا يحتوي على أقليات دينية أو طائفية، لكن واقع الحال يقودنا إلى أن هذه الرؤية أثبتت فشلها، فاليمن قد لا يحمل اختلاف ثقافي في الأساسيات ولكنه يحمل في الفرعيات وعلى الدولة الاعتراف بذلك، كما أنَّ على القوى السِّياسية الاتعاظ من مسار تاريخ اليمن، فالاستحواذ على السُّلطة وفرض هوية معينة قد يقود إلى إشكاليات أكثر تعقيدًا للمشهد اليمني، وقد لا نخرج من دوامة الصراعات والمظلومية التي ستعيد إنتاج مظلومية أخرى. وما حدث بعد حرب صيف 94م ليس ببعيد، فحقيقة الشعب وجوهره كما يرى ارنست رينان لا يكون في العِرْق، أو اللغة، أو المصالح، أو الجغرافيا، بل يكون في امتلاك إرث مشترك غني بالذكريات الصحية (وهو ما نمتلكه في اليمن)، وتوافق ورغبة في العيش المشترك والإرادة في إدامة التراث المشترك.[15]
وبالرغم من مساوئ الحرب الحالية إلا إنها قد تكون فرصة في إعادة تشكيل هوية وطنية متينة وبناء دولة حديثة، فالحديث عن دولة ديمقراطية بعد مرحلة انتقالية دون امتلاك هوية وطنية جماعية قوية تستطيع عبرها ضمان أكبر قدر من التزام الفرقاء السياسيين لبعضهم البعض[16]؛ من أجل تحقيق مشروع سياسي مشترك، فهو حديث طوباوي بعيد المنال. ولعل من أبرز الإشكاليات التي عانى منها بناء الدولة الحديثة في اليمن وجعل الأوضاع غير مستقرة هو عدم الاعتراف بالهويات ومصالحها، بل تعدى الأمر إلى الاستحواذ وممارسات خارج المواطنة المتساوية جعلت وضع البلاد غير مستقر حيث يقول آرنت ليبهارت: إن الذي يهدد الاستقرار هو إخفاق المؤسسات الوطنية في الاعتراف الصريح بالانقسامات والمصالح الطائفية القائمة وحسن التعامل معها” .[17]
فالهويَّة الوطنية الجامعة التي تكوّن جسرًا يجمع بين مختلف الهويات الثقافية تشكّلت في الغرب عبر مسار تاريخي طويل ومكلّف إبان تشكل الدولة الحديثة وسميت الدولة / الأمة (Etat- nation) والأمة هنا لم ترتبط برابط ديني أو عرقي وإنما برابط التعاقد بين المواطنين على العيش المشترك تحت جناح الدولة، ولعلنا في اليمن ما يجمعنا أكثر مما يفرقنا كأمة عربية إسلامية ولا نحتاج إلى خوض المسار الغربي التاريخي، ولكننا نستطيع أن نستلهم من خلاصة تجاربهم في بناء الدولة الحديثة تحت هوية وطنية جامعة.
لذلك قد يكون الحل للتنازع الهويَّاتي في اليمن هو استخدام الوطنية السياسية أو ما يسميها البعض بالوطنية المدنية أو ما ذهب إليها يورغن هابرماس بتسميتها بالوطنية/الهوية الدستورية حيث يكون للمواطن الحق بأن يحتفظ بهويته الثقافية في حين يكون له كامل حقوقه السياسية والمدنية في إطار الدولة التي يحمل جنسيتها. فببساطة يحصل المواطن على حقوقه السياسية والمدنية مقابل تعهده المبدئي بالالتزام بالوجبات الدستورية، ويرى هابرماس بأن هذه الهوية هي الأكثر توافقًا مع متطلبات الدولة التي تحتوي على مجتمع متعدد الثقافات وهي الطريق إلى بناء توافق وطني .[18]
وختامًا: نرى أنَّ المواطَنَة القائمة على المساواة، والتي تمنح معنى للفرد بأن يكون منتميًّا إلى وطن يحتضن الجميع دون تمييز، وعلى النُّخب السِّياسية الواعية أن تسعى إلى صناعةِ المواطنة تحت هُويَّة وطنيَّة جامعة تشعر من ينتمي إلى اليمن بأنه مميز دون أن يتم نفي الآخر، لكن حين تكون المواطنة تفتقر إلى الحقوق، ومحمَّلة بالواجبات بالإضافة إلى مظالم وتمييز صارخ، فإن ظهور الهويَّات الطائفية أو المناطقية ستستمر وسيظل اليمن عالقًا بين الهويَّات المتنازعة والمتخَيَّلة.
الهوامش:
- علي حرب، أطروحات في الفكرة والهوية (أبواب،ع 6، 1995) ص49.
- حركة وطنية قومية في اليمن، أطلقت على نفسها اسم “الأقيال”، وهي حركة مضادة للفكر الحوثي. للمزيد انظر: https://cutt.us/Slcfm
- يعد الوعل من أهم الحيوانات في اليمن القديم، بوصفه رمزاً للحضارة اليمنية قبل الإسلام.
- تشارلز تايلر، المتخيلات الاجتماعية الحديثة، ترجمة الحارث النبهان (الدوحة: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2015) ص 213.
- وجيه كوثراني، الهوية والمواطنة والدولة: إشكال في وعي العلاقة أم في بنية الثقافة؟، مجلة التسامح، ع29 (شتاء 2010)، ص 10.
- عزمي بشارة، تأملات في مسألة الهوية، مجلة تبين، مج11، ع41، 2022، ص 16.
- أحمد الأحصب، هوية السلطة في اليمن جدل السياسة والتاريخ، (الدوحة، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2019) ص 39.
- الزواوي بوغوارة، الهوية في الخطاب الفلسفي الفرنسي المعاصر: فانسان ديكومب نموذجاً، مج11،ع41، 2022، ص 66.
- عزمي بشارة، مرجع سابق، ص 17.
- عزمي بشارة، تأملات في مسألة الهوية، مجلة تبين، مج11، ع41، 2022، ص 16.
- عبد الحسين شعبان، الطائفة والطائفية: المواطنة والهوية، شوهد في موقع الخليج تاريخ 30/01/2023م، على : https://cutt.us/xhzgB
- أحمد الأحصب، هوية السلطة في اليمن جدل السياسة والتاريخ، (الدوحة، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2019) ص 39.
- المرجع نفسه
- المرجع نفسه، ص101.
- نادر كاظم، استعمالات الذاكرة (بغداد: دار الشؤون الثقافية العامة، 2013) ص83
- تشارلز تايلر، المتخيلات الاجتماعية الحديثة، ترجمة الحارث النبهان (الدوحة: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2015) ص 213.
- آرنت ليبهارت، الديمقراطية التوافقية في مجتمع متعدد (بيروت: معهد الدراسات الاستراتيجية، 2006م) ص 218.
- نادر كاظم، استعمالات الذاكرة (بغداد: دار الشؤون الثقافية العامة، 2013) ص83.