فكر

براءة الإمام زيد وأئمة آل البيت من عقيدة الاعتزال (الجزء الثاني)

زيد بين المعتزلة وأهل السنة:

هل كان الإمام زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب معتزليا تتلمذ على يد المعتزلي الشهير واصل بن عطاء، وأخذ عنه مباديء الاعتزال؟ أم كان فقط متأثرا به وتلاقى معه في بعض المباديء مثل المنزلة بين المنزلتين والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ أم كان مثله في إيمانه بمباديء الاعتزال أو العدل والتوحيد، وعلاقته به مجرد مذاكرة علمية بين ندين متساويين؟ أم أنه كان على عقيدة السلف وأهل الحديث الذين عرفوا أهل السنة والجماعة؟

هذه الأسئلة محور أساسي عند كل من تكلم عن حياة زيد والزيدية في اليمن وخارجها، وهي تدل في رأينا – كما سلف- على أن زيدا لم تتبلور له مدرسة وتلاميذ بصورة تحفظ عنه مذهبه وآراءه الفقهية والعقدية، وبمعنى آخر فهو لم يترك مذهبا مكتملا معلوما يمنع اختلاف أتباعه على كل صغيرة وكبيرة فيه من الإمامة إلى الفروع في الوقت الذي ينتسبون إليه بحماسة إلى درجة التعصب، وربما لا تفسير لذلك إلا أن غيابه عن الحياة في مرحلة مبكرة – قبل زمن التدوين- قد فرق فكره وفقهه بين القبائل والمؤيدين كما تضيع الدماء هدرا، وما اعتنقه بعضهم من أفكار بعده نسبوها إليه؟

والحديث عن معتزلية زيد من عدمها تقتضي النظر في تراثه وإمكانية وجود أفكار العدل والتوحيد المعتزلية من عدمها فيه، وموازنة ذلك التراث بأصول عقيدة أئمة أهل البيت السابقين عليه والمعاصرين له مما ثبت عنهم من الأقوال والروايات ليعرف الناس حقيقة عقيدة زيد.. فهذا هو المنهج الأسلم وليس إطلاق الأحكام الجزافية دون دليل أو الاعتماد على روايات عشوائية، أو تقريرات يبتغي البعض بها رفع مصداقية مذهبه بالانتساب إلى إمام من أئمة أهل البيت الكبار.

فهل كان زيدا معتزليا سواء بالتتلمذ على واصل بن عطاء أو التأثر به والمذاكرة معه، أو أنه أخذ مباديء العدل والتوحيد من آبائه؟

مما جمعته هذه القراءة من روايات الزيدية المتقدمين، وأقوال العلماء والباحثين المعاصرين المرموقين يتأكد بوضوح أن زيدا كان على عقيدة السلف وأهل السنة، وأنه بريء من عقيدة الاعتزال، فهو لا يمكن أن يكون معتزليا لا بالتتلمذ ولا بالتأثر ولا بالزعم أنه ورثها عن آبائه.

وهذه مجموعة من الروايات والشهادات والنتائج التي تجمعت لدينا:

الإمام زيد وأئمة آل البيت من عقيدة الاعتزال 3 براءة الإمام زيد وأئمة آل البيت من عقيدة الاعتزال (الجزء الثاني)

1/ الإمام محمد بن إبراهيم الوزير: (ت840هـ)

رفض ابن الوزير في كتابه الشهير/ العواصم والقواسم في الذب عن سنة أبي القاسم/ رفضا حازما كلام مؤرخ الفرق الإسلامية الشهير/ الشهرستاني الذي صنف الإمام زيد بأنه معتزلي، وأنه أخذ مذهب الاعتزال تقليدا أو تلمذة لواصل بن عطاء، وأنه كانت بينه وبين أخيه محمد الباقر مناظرات في ذلك.. يقول ابن الوزير:

[ فهذا من الأباطيل بغير شك، ولعله من أكاذيب الروافض، ولم يورد له الشهرستاني سندا ولا شاهدا من رواية الزيدية القدماء، ولا من رواية علماء التاريخ، ولا الشهرستاني ممن يوثق به في النقل، وكم قد روى في كتابه هذا من الأباطيل المعلوم بطلانها عند أئمة الشأن…. ولو كان الشهرستاني كامل المعرفة والإنصاف لذكر مع ما ذكره ما هو أشهر منه في كتب الرجال، وتواريخ العلماء، وأئمة السنة، وفي الجامع الكافي ثم ذكر الراجح بين النقلين، وقواه بوجوه الترجيح…. ومما يدل على عدم تحقيقه في معرفة الرجال أنه عد زيد بن علي من أتباع المعتزلة، ثم ذكر بعد ذكر الإمامية جماعة جلّة من أئمة السنة ورواة الصحاح وعدهم من أتباع زيد بن علي، وسماهم زيدية، بل عدهم من مصنفي كتب الزيدية منهم: شعبة، ووكيع، ويحيى بن آدم، ومنصور الأسود، وهارون بن سعد العجلي، وعبيد الله بن موسى، والفضل بن دكين، وعلي بن صالح، ويزيد بن هارون،، والعلاء بن راشد، وهيثم بن بشير، والعوام بن حوشب، ومستلم بن سعيد، وجعلهم كلهم مثل أبي خالد الواسطي في الدعاء إلى مذهب الزيدية، والتأليف فيه….. فكيف يصح هذا مع كون مذهب زيد والزيدية هو مذهب المعتزلة، وفي هؤلاء رؤوس خصوم المعتزلة لولا عدم معرفته وتحقيقه في أحوال الرجال؟](1)

وعن تطابق عقيدة زيد مع أهل السنة في العدل ومخالفتها لعقيدة المعتزلة: يقول:

[ كان اعتقاد جميع المسلمين حتى المعتزلة والشيعة – إلا من تلقن الكلام ومرض قلبه بدائه- أن مشيئة الله نافذة، وأنه سبحانه لا يشاء أمرا من هداية عاص أو غيرها إلا وقع مراده على ما أراده.., وفي كلام أهل البيت عليهم السلام لتقرير ذلك نصوص خاصة لا يمكن تأويلها، وعمومات ظاهرة… فمن المنقول عن الإمام المقتدى به منهم زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام فقد روى عنه المزي (أي جمال الدين المزي في تهذيب الكمال في معرفة الرجال)، والذهبي في تهذيب التهذيب كلاهما من طريق مطلب بن زياد الكوفي.. قال: جاء رجل إلى زيد بن علي فقال له: أنت الذي تزعم أن الله تعالى أراد أن يعصى؟ فقال زيد بن علي: أفيعصى عنوة؟ فهذا صريح مذهب أهل السنة، وكلامه هذا وإن كانت المعتزلة والزيدية المتأخرون يتأولونه فإنه لا تساعدهم قرينة الحال فإنه أورده جوابا على من أنكر صريح مذهب أهل السنة].(2)

( نلاحظ أن مبررات ابن الوزير في نفي رواية نسبة الاعتزال لزيد كان نفيا جملة وتفصيلا وبدءا وانتهاء للرواية، وتختلف عن المبررات التي يسوقها الهادوية الذين يقولون إن مباديء العدل والتوحيد الاعتزالية التي يعتنقونها أصيلة لدى آل البيت، وأن زيدا لم يكن بحاجة لتعلمها من عطاء بن واصل!).

الإمام زيد وأئمة آل البيت من عقيدة الاعتزال 2 2 براءة الإمام زيد وأئمة آل البيت من عقيدة الاعتزال (الجزء الثاني)

2/ الشيخ محمد أبو زهرة:

أثبت الشيخ محمد أبو زهرة رأيه في عقيدة الإمام زيد في كتابيه (الإمام زيد: حياته وعصره- آرائه وفقهه) و(تاريخ المذاهب الإسلامية في السياسة والعقائد وتاريخ المذاهب الفقهية). وأهمية رأي الشيخ أبي زهرة تكمن في أن هادوية اليمن يعتزون بكتابه عن زيد، وكثيرا ما يشيرون إليه كباحث نزيه منصف لأهل البيت والزيدية، وقد قرر أنه لم يجد كلاما صريحا للإمام زيد في مسائل العقيدة ولكنه استنبطها من طرق أخرى متعددة مثل الاعتماد على أن كل رأي لواصل بن عطاء رأس الاعتزال هو رأي لزيد إلا ما ثبت اختلافهما فيه مثل الموقف من خلافات علي والصحابة، أو ما ينسبه الزيدية لزيد أو ما يقوله بعض المتصلين به إذا اتفق مع ما يقوله الزيدية!

ونحن لدينا تحفظ على اعتماد الشيخ زهرة على هذه المصادر في مصادره للتعرف على عقيدة زيد سوف نذكره في فصل خاص يتضمن سردا كاملا مرتبا مع ملاحظتنا عليها لكل ما قيل عن اختلاف عقيدة أئمة أهل البيت والإمام زيد عن عقيدة المعتزلة وهادوية اليمن، وسنرى أن الشيخ نفى اتفاق زيد مع معظم آراء المعتزلة الأساسية!

والغريب أن الشيخ وهو يستعرض عقيدة زيد لم يرجع إلى مسند زيد بن علي مع إصراره على صحة نسبته إليه، ورفضه لكل التشكيكات في راويه خالد الواسطي، ففيه كان سيجد كلاما واضحا على عقيدته؛ لكن يكفينا مؤقتا هنا كلامه عن مخالفة عقيدة زيد للمعتزلة في بعض الأصول على النحو التالي:

يقول الشيخ محمد أبو زهرة:

– عن مرتكب الكبيرة (الوعد والوعيد):

[ الإمام زيد والإمامية يرون أنه لا يخلد في النار إلا غير المسلمين، وأهل القبلة يعذبون بمقدار ذنوبهم ثم يدخلون الجنة..].(3)

وهذا الرأي خلاف رأي المعتزلة وهادوية اليمن الذين يقولون إن الفاسق مرتكب الكبيرة إذا مات ولم يتب يخلد في النار، وما يزال الهادوية في اليمن حتى اللحظة يقيمون الدنيا ولا يقعدونها ضد أهل السنة والجماعة لقولهم بقول زيد هذا، ويعدون ذلك من فعل ملوك بني أمية الذين سخروا علماء الحديث والفقهاء لتزوير أحاديث لتبرير فسادهم الأخلاقي، وأن علماء السنة يبررون بهذا القول لهم الفساد دون خوف من العقاب، وأنه مشابهة لقول اليهود أن النار لن تمسهم إلا أياما معدودة!

– العدل (القضاء والقدر):

[ حقيقة الرأي الذي اعتنقه زيد أنه يجمع بين الإيمان بالقضاء والقدر، واعتبار الإنسان حرا مختارا في طاعاته وفي معاصيه، وأن معاصيه ليست قهرا عن الله تعالى، ولا غلبة عليه، وإن كان لا يحبها ولا يرضاها، لأن الله تعالى لا يرضى لعباده الكفر..].(4)

– [ رأي المعتزلة أن الإرادة والأمر متلازمان فالله سبحانه وتعالى لا يأمر بأمر إلا إذا كان يريد وقوعه، ولا ينهى عن شيء إلا كان لا يريده، وإذا وقع فبغير إرادته.. وإني لا أجد فيما بين يدي من المصادر ما يدل على أنه – أي زيد- كان يرى أن الأمر والإرادة متلازمان لأنه يؤدي إلى أن يعصى الله غلبة، وما كان الله تعالى ليغلب..].(5)

– الصفات:

يميل الشيخ أبو زهرة إلى أن زيدا كان متفقا مع المعتزلة في القول بأن صفات الله هي الذات، أو وفق التعبير الشائع: أنها ليست معاني غير الذات أي غير مستقلة أو متفردة عنه.. لكنه كالعادة لا يجد مستندا لذلك إلا القول إن زيدا كان متفقا في جملة من الآراء مع واصل بن عطاء، مع أنه من الثابت أن زيدا كان يؤمن بعذاب القبر، كما أن أبا زهرة سبق أن أورد اختلاف زيد عن المعتزلة في مسألتي القدر، ومرتكب الكبيرة، وهذه الأخيرة كانت أبرز مسائل الخلاف الفكري في مجتمع المسلمين! وسنرى في الصفحات التالية أن لزيد أقوالا وأحاديث في مسنده الحديثي والفقهي – الذي يصر زهرة على صحة نسبته لزيد- تتحدث عن صفات الله تعالى بما يخالف عقيدة المعتزلة والهادوية وبما يتفق مع عقيدة أهل السنة والجماعة!(6)

– خلق القرآن:

وعن القول بأن القرآن محدث أي مخلوق على حد تعبير المعتزلة، يقول الشيخ أبو زهرة:

[ لا نجد نصا يصرح بأنه (زيدا) كان يرى ذلك القول، ولذلك نمسك عن هذا ولا نحسب أنه قاله، وإن كان القول ينسب للإمامية وأكثر الزيدية..].(7)

– عذاب القبر:

وهذه المسألة لم يتعرض لها الشيخ زهرة لكن الثابت أن زيدا كان يؤمن بعذاب القبر، وقد ورد حديث صريح في ذلك في مسنده، باب: مقدار ما يتوضأ به للصلاة وما يكفي الغسل:[ قال أبو خالد: قال الإمام أبو الحسين زيد بن علي عن أبيه عن جده عن أمير المؤمنين علي عليه السلام قال: عذاب القبر من ثلاثة: من البول والدَّين والنميمة].(8)

ومعروف أن المعتزلة يرفضون الفكرة تماما ومثلهم الهادي يحيى بن الحسين والمطرفية الهادوية.(9)

الإمام زيد وأئمة آل البيت من عقيدة الاعتزال 6 براءة الإمام زيد وأئمة آل البيت من عقيدة الاعتزال (الجزء الثاني)

3 / د. علي سامي النشار:

يقول في كتابه/ نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام:

– [ ليس هناك نص واضح يثبت بأن زيد بن علي ذهب موافقا للمعتزلة إلى أن الصفة عين الذات ولكن الشيخ المفيد (من الشيعة الاثني عشرية) يذهب إلى أن الزيدية تثبت الصفات التي جاءت في القرآن والسنة على أنها ليست معاني غير الذات (أي ليست مستقلة عنها)، وهذا أصل معتزلي، وكان واصل بن عطاء أول معبر عنه..].(10)

(هنا يمكن ملاحظة أن الشيخ المفيد يقصد الزيدية المتأخرين وليس الإمام زيد بدليل نسبة الكلام إلى: الزيدية وليس إلى الإمام زيد كما فعل عندما نسب الكلام في الصفات إلى عطاء بن واصل).

–  وعن القول بقدم كلام الله أو خلقه وبالتالي قدم القرآن أو خلقه يقول: [ لا يرد عن الإمام زيد نفسه شيء يمس هذه المسألة لا من قريب ولا من بعيد..].(11)

-[ ذهب زيد إلى عقيدة الجمهور في مرتكب الكبيرة إلى أنه لا يذهب عنه اسم الإيمان ولا اسم الإسلام بل يعذب حينا من الدهر ثم مرده إلى الجنة..].(12)

الإمام زيد وأئمة آل البيت من عقيدة الاعتزال 5 براءة الإمام زيد وأئمة آل البيت من عقيدة الاعتزال (الجزء الثاني)

4/ الاثناعشري جعفر السبحاني:

يقرر في موسوعته في الملل والنحل، جزء7:

[ لو تتلمذ زيد على واصل أو كان معتزليا في العقائد لانعكست آراء أستاذه في الكتب الموروثة منه، مع أنه ليس من تلك الأصول فيها عين ولا أثر غير التركيز على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي استنتجه من الكتاب والسنة واختمر به منذ شبابه إلى التحاقه بربه..].(13)

وما يهمنا في كلام جعفر السبحاني هو قوله إن الكتب الموروثة من زيد – بغض النظر عن صحة نسبتها إليه- ليس فيها أثر ولا عين لأصول المعتزلة، وهو الحكم نفسه الذي قرره أكثر من باحث في عقيدة زيد مثل د. علي النشار، ود. علي محمد زيد (سيأتي كلامه لاحقا)، وكذلك الشيخ محمد أبو زهرة الذي لم يجد ما يستدل به على ما ينسبه لزيد من آراء الاعتزال أو موافقته لهم إلا ما هو موجود في عقيدة هادوية اليمن، أو استنتاجا منه من آراء واصل بن عطاء على قول من يقول إن زيد تأثر به أو تتلمذ عليه، ويؤكده أيضا أن هادوية اليمن لا يجدون ما يستدلون به على أن عقيدتهم في العدل والتوحيد مستمدة من عقيدة أوائل أهل البيت إلا من كتب القاسم الرسي المتوفي في القرن الثالث الهجري!

الإمام زيد وأئمة آل البيت من عقيدة الاعتزال 7 براءة الإمام زيد وأئمة آل البيت من عقيدة الاعتزال (الجزء الثاني)

5/ د. زيد علي محمد:

د. زيد هو أبرز الباحثين اليمنيين والعرب المعاصرين في تاريخ العقيدة الهادوية وعلاقتها بالمعتزلة، وقد ناقش بالضرورة في كتابه المهم (معتزلة اليمن: دولة الإمام الهادي وفكره) نشأة الزيدية وعلاقتها بالمعتزلة، وأثبت الآراء التالية: (14)

– [ التكوين الثقافي لزيد ليس قريبا من علم الكلام وإنما له علاقة متينة ببيئة المدينة ففيها تلقى الحديث.. وقد أخذ في الحديث والفقه على التابعين كسعيد بن جبير، وسعيد بن المسيب، ونافع.. فكان فهمه قريبا من فقه التابعين..].

– [ ما نسب لزيد من تراث مثل مجموع الفقه والتفسير إذا صح أنه له لا يدل على أن زيدا قد صار معتزليا]… راجع كلام جعفر السبحاني.

– [ أول أثر معتزلي نعثر عليه في أعمال وصلتنا من أئمة الزيدية هو ما نجده في أعمال القاسم بن إبراهيم.. مع عدم وجود اعتراف صريح أنه صار معتزليا].

-[ قول الشهرستاني أن أصحاب زيد صاروا كلهم معتزلة قد ينطبق على فترة لاحقة وليس على أصحابه الذين عاصروه والذين أتوا بعده مباشرة، فقد عرفنا أن فرق الزيدية الأولى لم يؤثر عنها آراء كلامية باستثناء الجريرية].

وحتى الجريرية خالفت المعتزلة في مسألة الصفات كما سنرى بعد قليل!

الإمام زيد وأئمة آل البيت من عقيدة الاعتزال 4 براءة الإمام زيد وأئمة آل البيت من عقيدة الاعتزال (الجزء الثاني)

6/ د. أحمد محمود صبحي:

يشير في كتابه (الزيدية) أن سليمان بن جرير أحد أصحاب الفرق الزيدية – وهي الوحيدة التي نقل عنها آراء كلامية في كتابه- لم يكن متفقا مع المعتزلة في بعض مبادئهم، أو على حد قوله:

يشير في كتابه (الزيدية) أن سليمان بن جرير أحد أصحاب الفرق الزيدية – وهي الوحيدة التي نقل عنها آراء كلامية في كتابه- لم يكن متفقا مع المعتزلة في بعض مبادئهم، أو على حد قوله:

[ سليمان بن جرير كان لا يوافق المعتزلة على أن الصفات هي الذات، وأن علم الله هو الله؛ بل كان يقول: إن علم الله لا هو الله ولا هو غيره..].(15)

ويؤكد هذا الحكم د. النشار في أن سليمان بن جرير – الذي يصفه بمتكلم الزيدية الممتاز- اقترب إلى حد كبير في فكرته عن الصفات من أهل السنة والجماعة، ويختلف إلى حد ما عن المعتزلة.(16)

الإمام زيد وأئمة آل البيت من عقيدة الاعتزال 1 براءة الإمام زيد وأئمة آل البيت من عقيدة الاعتزال (الجزء الثاني)

7/ علي بن أحمد ناصر مجمل:

وهو باحث يمني زيدي عارف بدقائق المذهب الهادوي وتميزه في العقيدة والفقه عن الزيدية الحقيقية، وقد كشف في كتابين له الاختلافات العديدة في الفقه والعقيدة معا بين الهادوية وبين الزيدية، لكن ما يهمنا هنا هو كتابه/ الحدائق الوردية في بيان أصول الدين عند الزيدية المتفق مع سائر الأمة المحمدية/  فقد نقل عن مسند زيد وعدد من كبار علماء ومحدثي الزيدية وآل البيت – بأسلوب ذكي موثق وربما للمرة الأولى حسب قراءاتي- اتفاق أصول مذهب الإمام زيد وعقيدته مع عقيدة أهل السنة والجماعة واختلافها مع عقيدة الاعتزال التي يتبناها الهادوية في اليمن بزعم أنها عقيدة أئمة آل البيت.

ولا شك أن ورود هذه المجموعة من الأحاديث الصحيحة عند هادوية اليمن من مسند الإمام زيد – والتي تتفق مع عقيدة أهل السنة والجماعة وتختلف عن مباديء العدل التوحيد كما تقول بها عقيدة الاعتزال والهادوية- تحسم الجدل حول مسألة علاقة عقيدة زيد سواء باتفاقها مع عقيدة أهل السنة والجماعة أو اختلافها جذريا مع عقيدة المعتزلة ومن ثم عقيدة الهادوية في اليمن. وللأسف الشديد فكما لاحظ مجمل فهذه الأحاديث الموجودة في مسند زيد – الذي يعده الهادوية أصح كتاب بعد القرآن الكريم- هي التي اتهموا بأمثالها أهل السنة والجماعة إلى درجة التكفير واستحلال أموالهم وأعراضهم وتحريم ذبائحهم بتهم التشبيه والتجسيم والجبر وموالاة الظالمين، وبأمثالها اتهموا محدثيهم الكبار مثل البخاري ومسلم بأنهم زوروا الكثير من الأحاديث ونسبوها كذبا للنبي صلى الله عليه وسلم لتبرير فساد خلفاء بني أمية وطغيانهم، ومجونهم!

وهذه نقول لأبرز ما نقله علي مجمل من أحاديث مسند زيد مما يخالف عقيدة المعتزلة، ويتفق مع عقيدة أهل السنة والجماعة:(17)

–  في الصفات:

أ/ إثبات صفة اليدين عند الإمام زيد:

[ جاء في مجموع الإمام زيد بن علي في (باب صدقة السر) ما نصه:

[ حدثني زيد بن علي عن أبيه عن جده عن علي عليهم السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إن صدقة السر تطفيء غضب الرب تعالى، وإن الصدقة لتطفيء الخطيئة كما يطفيء الماء النار، فإذا تصدق أحدكم بيمينه فليخفها من شماله فإنها تقع بيمين الرب تبارك وتعالى، وكلتا يدي ربي سبحانه وتعالى يمين فيربيها كما يربي أحدكم فلوه أو فصيله حتى تصير اللقمة مثل أحد].

[ ملاحظة: الحديث ورد عند الإمام البخاري، مع زيادة (وكلتا يديه يمين) عند الإمام زيد!].

ب/ إثبات النزول الإلهي إلى السماء الدنيا:

جاء في مجموع الإمام زيد في (باب فضل الحج وثوابه) ما نصه:

[ حدثني زيد بن علي عن أبيه عن جده عن علي عليهم السلام قال: لما كان عشية عرفة ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم واقف أقبل على الناس بوجهه فقال: مرحبا بوفد الله – ثلاث مرات- الذين إذا سألوا أعطاهم الله ويخلف عليهم نفقاتهم في الدنيا ويجعل لهم في الآخرة مكان كل درهم ألفا، ألا أبشركم؟ قالوا: بلى يا رسول الله قال: فإنه إذا كان في هذه العشية هبط الله سبحانه وتعالى إلى سماء الدنيا ثم أمر الله ملائكته فيهبطون إلى الأرض فلو طرحت إبرة لم تسقط إلا على رأس ملك……].

( ثمة ملاحظة موضوعة بعد الحديث منسوبة لزيد بن علي يقول فيها: إن الله أعظم من أن يزول، ولكن هبوطه: نظره سبحانه وتعالى إلى الشيء.. وقد تكون العبارة محاولة من البعض لنفي موافقة زيد لأهل السنة موافقة تامة في هذه المسألة لكن لا أحد من أهل السنة يقول إن النزول الإلهي شبيه بنزول المخلوقات بل هم يؤمنون بالمعنى دون تشبيه أو تكييف).

ج/ إثبات رؤية الله في الجنة عند الإمام زيد:

وفي مجموع الإمام زيد بن علي من حديث طويل باب (فضل الشهادة) عن درجات الشهداء… [ والسابعة أن لهم كل يوم جمعة زورة يزورون الله عز وجل فيحيون بتحية الكرامة ويتحفون بتحف الجنة ثم ينصرفون فيقال هؤلاء زوار الرحمن].

( والشاهد هنا أن زيارة الله عز وجل وتحيته يلزمها رؤيته، وإلا ما فائدة الزيارة فالله وفق عقيدة الهادوية والمعتزلة موجود في كل مكان، وتحيته لا تستلزم الزيارة في وقت مخصوص بكل ما تعنيه كلمة الزيارة من انتقال من مكان إلى آخر!)

وفي (الجامع الكافي في فقه الزيدية) رواية أكثر دقة ووضوحا في التعبير للشريف أبي عبد الله العلوي في كتاب الزيادات قال الحسن بن يحيى بن الحسين بن زيد بن علي (وهو حفيد حفيد زيد بن علي والرواية منسوبة لزيد) ما نصه:

[ وقد روي في الحديث أن أهل الجنة تبلغ بهم الكرامة إلى أن ينظروا إلى خالقهم كما ينظر بعضهم بعضا، والله سبحانه وتعالى أجل وأعظم من أن تدركه الأبصار أو تحيط به العقول أو تقع عليه الأوهام، والأمر في ذلك مردود إلى الله يفعل ما يشاء ويرى أولياؤه من عظمة نوره وجلال عظمته ما لم تكن أبصارهم تطيق النظر إليه في الدنيا].

د/ الإيمان بالقضاء والقدر:

جاء في مجموع الإمام زيد بن علي بسنده إلى علي ضي الله عنه ما نصه: [ والله ما كذبت ولا ابتدعت ما نزلت هذه الآية إلا في القدرية (إن المجرمين في ضلال وسعر* يوم يسحبون في النار على وجوههم ذوقوا مس سقر* إنا كل شيء خلقناه بقدر) وإنهم لمجوس هذه الأمة فإن مرضوا فلا تعودوهم وإن ماتوا فلا تشهدوا جنائزهم فإن من زعم أن في الأرض شيئا لم يقدره الله ولم يقضه ولم يخلقه فقد زعم أن مع الله إلها آخر يقضي ويقدر سبحانه الله عما يقولون علوا كبيرا ].

[ حذف المتعصبون آخر هذ الحديث من بعض نسخ مجموع زيد بن علي كما حذفوا قوله عن (الإمامة في جميع قريش) والضم في الصلاة بدعوى أنها مدسوسة].(18)

وجاء في مجموع زيد بن علي بسنده: [ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أول ما خلق الله القلم ثم خلق الدواة وهو قوله تعالى: (ن والقلم وما يسطرون) ثم قال خط ما هو كائن إلى يوم القيامة من خلق وأجل ورزق أو عمل إلى ما هو صائر إليه من جنة أو نار..].

تأثر زيد ببعض أفكار واصل بن عطاء:

ومما هو شائع عند بعض مؤرخي الفرق الإسلامية إن الإمام زيد بن علي تأثر بواصل بن عطاء فقط في مسألتين اثنتين هما: المنزلة بين المنزلتين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر!

وكما ثبت فيما مضى؛ فإن زيدا كان لا يؤمن بالمبدأ المعتزلي الشهير: المنزلة بين المنزلتين الذي يقول إن مرتكب الكبيرة إذا مات دون توبة فمصيره الخلود في النار، فإنه من الجائز أن نستنتج من هذا أنه كان لا يرى رأي المعتزلة أنه قد خرج من الإسلام ولم يدخل الكفر، وإنما هو فاسق أو عاص ما يزال له كل صفات وحقوق المسلم كما يقول أهل السنة.. وأهمية هذا الأمر في بيان اختلاف زيد عن واصل وعدم تأثره به لا تلمذة ولا تأثرا أن هذا المبدأ بالذات كان محور الجهود الفكرية لواصل – أو قضية حياته كما يقال- وأحد الأسباب الرئيسية التي سميت المعتزلة باسمها هذا عندما قيل إنهم اعتزلوا حلقة الحسن البصري رافضين موقفه المشهور في وصف العاصي بأنه منافق، وفي المقابل رفضوا وصف الخوارج للعاصي بأنه كافر، واستقر بهم الأمر على منزلة وسط أي ليس كافرا ولا مؤمنا!

أما بالنسبة لتأثر زيد بواصل في مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلى درجة القيام بثورته ضد هشام خلافا لقعود أهل البيت عن الجهاد؛ فأمر لا يصمد أمام النقاش، فأولا كان هذا المبدأ مشهورا في الذهنية الإسلامية وفي النصوص القرآنية والنبوية، ولا يحتاج زيد للتتلمذ على واصل ليتبناه في عقيدته، وثانيا فإن المعتزلة لم يشتهر عنهم هذا المبدأ إلا نظريا، ومشاركاتهم النادرة في الثورات كانت بناء على قرارات شخصية لبعض المنتسبين لهم، ومعلوم أن المعتزلة لم يكن لهم دور إيجابي في الوقوف مع القدرية الأوائل الذين تعرضوا للقتل ظاهريا بسبب آرائهم الفكرية المؤسسة للاعتزال فيما بعد( غيلان الدمشقي والجعد بن درهم)، ولم يشاركوا في ثورة يزيد الناقص بن سليمان بن عبدالملك (الذي اعتنق أفكار القدريين الأوائل) ضد الخليفة الفاسق الوليد بن يزيد بن عبدالملك، ولم يشاركوا في ثورة الحارث بن سريح (128ه) التي كان منظرها وداعيتها الفكري أحد أوائل القدريين وهو الجهم بن صفوان الذي قتل في المعركة، ومن قبل لم يشاركوا في ثورة زيد بن علي ولا في الثورات الزيدية التي تلتها إلا في واحدة فقط، وبدءا من عهد أبي جعفر المنصور صاروا رجال الدولة العباسية المقربين، وسيوفهم المسلطين على خصومهم ومخالفيهم!

وبعد كل ذلك فأنى يجوز القول إن الإمام زيد تأثر بواصل بن عطاء وبالمعتزلة في هذين الأصلين؟ ولماذا هذا الإصرار على نسبة زيد بن علي لعقيدة يخالفها بوضوح سواء لأن عقيدة آبائه الأئمة مخالفة لها، أو لوجود نصوص واضحة في مسنده تخالف عقيدة المعتزلة؟

الهوامش:

  1. العواصم والقواسم، ص 316، جزء2، مصدر سابق.
  2. المصدر السابق، ص314و315.
  3. الإمام زيد: حياته وعصره وفقهه، الشيخ محمد أبوزهرة، ص 206، دار الندوة الجديدة، بيروت لبنان، بدون تاريخ.
  4. المصدر السابق، ص209.
  5. المصدر السابق، ص 210و211.
  6. المصدر السابق، ص217 و218.
  7. المصدر السابق، 218.
  8. مسند الإمام زيد، المجموع الحديثي والفقهي، ص96، تحقيق عبدالله حمود العزي، مؤسسة الإمام زيد بن علي الثقافية، ط2، 2009.
  9. انظر كتاب: حوار عن المطرفية: الفكر والمأساة، زيد الوزير والحوثي وعزان، ص 56، كتاب المسار2، ط1، 2002مركز التراث والبحوث اليمني.
  10. نشأة التفكير الفلسفي، ص 133و134، جزء2، مصدر سابق.
  11. المصدر السابق، ص134.
  12. المصدر السابق، ص136.
  13. نقلا عن الزيدية والامامية وجها لوجه لمحمد بن ابراهيم المرتضى، ص15.
  14. معتزلة اليمن: دولة الهادي وفكره، ص28، مصدر سابق.
  15. الزيدية، د. أحمد محمود صبحي، ص82، ط3، 1991، دار النهضة العربية، نسخة إلكترونية.
  16. نشأة التفكير الفلسفي، ص156، جزء2، مصدر سابق.
  17. الحدائق الوردية في بيان حقيقة أصول الدين عند الزيدية المتفق مع سائر الأمة المحمدية، علي بن أحمد بن ناصر، بدءا من ص 74 وما بعدها، دار النشر للجامعات، صنعاء،2011.
  18. المصدر السابق، ص86.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى