فكر

بناء النظام الفكري للشيعة: القاسم الرسي

أهل السنة عند القاسم (ج4)

في هذا المبحث نتناول منظور القاسم إلى أهل السنة، ونكشف عن هذا المنظور في ناحيتين: المنظور الديني، والمنظور العلمي.

أولاً: الصورة الدينية لأهل السنة

سأجلي موقف القاسم من أهل السنة، ببيان الصورة الدينية لعلماء أهل السنة، واتهامهم بممالأة الحكام الجائرين، ثم اتهام بني أمية بأنهم سبب ضلال الأمة عن دينها، وأن علماء أهل السنة ضلوا بهم، فكان هذا الضلال سببا في تشويه صورة الإسلام، وتطاول الملاحدة – كابن المقفع – عليه.

1/ الصورة الدينية لأهل السنة

القاسم يسمي أهل السنة: العامة (1)، وهو يقصد بهم علماء أهل السنة أنفسهم (2). ويصفهم أنهم جهلة (3)، وأنهم عماة (4)، ونبزهم بأنهم حشوية (5).

يرى أن أهل السنة هم القدرية، ومن المعلوم أن مصطلح القدرية عند أهل السنة يراد به: من أنكر إرادة الله في أفعال الناس، ونسب كل فعل لنفسه، فنفى قدرة الله، وقالوا بأن الأفعال بمشيئة البشر، وأول من ظهر بها: معبد الجهني.

لكن الإمام القاسم يرى أن القدرية هم من ينسب إلى الله إرادة في أفعال الناس (6)، وساوى بينهم وبين الجبرية، فقال: “والقدرية والمجبرة يقولون: معصيتنا بقضاء الله وإرادته” (7)، بل يطلق الوصفين معا عليهم، فيقول: “والقدرية المجبرة” (8). ومع أنه يناقش أهل السنة ويسميهم القدرية، فإن الصورة التي يناقشها هي الصورة التي يتخيلها عنهم، ولم يناقش أهل السنة وما ذهبوا إليه من تفصيل في هذه المسألة. والإمام القاسم يتبنى مذهب المعتزلة على عمومه في القدر، على أن العبد هو فاعل فعله، ولا توجد أي إرادة لله في الفعل. وهؤلاء هم القدرية عند أهل السنة. وعلى أي، فليس هذا مقام الخوض في المسألة، إنما هو بيان لكيفية تصور الإمام القاسم لأهل السنة في هذه المسألة.

فيقول عنهم(9): “القدريون الكافرون الكاذبون على الله”، و”القدريون المفترون”، و”القدرية السفهاء”

كما يصف علماء أهل السنة بالضلال، بل يرميهم بالمشبهة الملحدين، وأنهم حرفوا الكتاب كما فعل اليهود والنصارى من قبل. كما يتهم بوضع الأحاديث التي فيها الإلحاد والكفر بالله(10):

“ولقد ضل قوم ممن ينتحل الإسلام من المشبهة الملحدين، الذين شبهوا الله عز ذكره بخلقه، وزعموا أنه على صورة الإنسان، وأنه جسم محدود، وشبح مشهود، واعتلّوا بآيات من الكتاب متشابهات، حرفوها بالتأويل، ونقضوا بها التنزيل، كما حرّف من كان قبلهم من اليهود والنصارى كلام الله عن مواضعه، وبأحاديث افتعلها الضلال، من بغاة الإسلام، فحملها عنهم الجهال. فيها الإلحاد والكفر بالله، وأحاديث لم يعرفوا حسن تأويلها، ولم يعنوا بتصحيحها، فضلوا وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل”.

ثم يتناول مجموعة من تأويلات أهل السنة، ومنها: قولهم برؤية الله في الدار الآخرة، ثم يصفهم بالمنافقين في حين يصف من أنكر الرؤية من الزيدية والمعتزلة وغيرهم بـ”أهل الإيمان”، فيقول (11): “فأما أهل العلم والإيمان، ففسروها على غير ما قال أهل التشبيه المنافقون، فقالوا : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ) يقول : مشرقة حسنة، (إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) يقول : منتظرة ثوابه وكرامته ورحمته”.

كما يرمي مخالفيه بالكفر، ويصور مقولاتهم بغير حقيقتها، فيقول (12): “وقوله: (وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً) [النساء : ١٦٤]. فذهبت المشبهة إلى أن الله تعالى عما قالوا علوا كبيرا: تكلم بلسان وشفتين، وخرج الكلام منه كما خرج الكلام من المخلوقين، فكفروا بالله العظيم حين ذهبوا إلى هذه الصفة”. فأهل السنة لم يقولوا إن الله تكلم بلسان وشفتين وأنه تكلم بخلقه. ثم يرد عليهم مفسرا الآية كما قالت به المعتزلة.

ثم يختم مقررا كفر خصومه، الذين صورهم على أنهم مشبهة مجسمة، فيقول (13): “فكل من وصف الله جل ثناؤه بهيئات خلقه، أو شبهه بشيء من صنعه، أو توهمه صورة أو جسما، أو شبحا، أو أنه في مكان دون مكان، أو أن الأقطار تحويه، أو أن الحجب تستره، أو أن الأبصار تدركه، أو أنه لم يخلق كلامه وكتبه، والقرآن وغيره من كلامه وأحكامه، أو أنه كشيء مما خلق، أو أن شيئا من خلقه يدركه، مما كان أو يكون، بجارحة أو حاسة، فقد نفاه وكفر به وأشرك به”.

ويقول في رسالته مؤكدا كفرهم ومحذرا منهم (14): “فليتق الله عبد ولينظر لنفسه، وليحذر هذه الطائفة من القدرية والمجبرة، فإنهم كفار بالله، لا كفر أعظم من كفرهم، لما وصفنا من فريتهم على الله جل ثناؤه، في كتابنا هذا”. ويتهمهم أيضاً بالكذب على الله ورسوله، وتضليل الناس (15).

وسئل القاسم (16): ما ترى في شهادة أهل الخلاف وذبائحهم من المرجئة والمشبهة، والفساق وشربة الخمور، وفي أسواق العامة؟ فقال: “أما ذبائح أهل الملة كلهم فتؤكل، إلا من كان لا ينفي عن الله التشبيه، فإني لا أحب أن تؤكل ذبيحته، وشهاداتهم إذا كانوا أهل ورع وأمانة، وإن كانوا أهل الخلاف فيجوز، إلا أنه قد ذكر أن الخطابية هم صنف من الروافض يتقارضون الشهادة فيما بينهم، فإن كانوا كما يذكر عنهم، فلا تجوز شهادتهم ولا نعمة عين”.

فلكونه يرى أن أهل السنة مشبهة؛ فإنه لا يحب أكل ذبائحهم.

المسلمين 1 بناء النظام الفكري للشيعة: القاسم الرسي

2/ اتهامهم بموالاة أئمة الجور

وصف القاسم علماء أهل السنة والجماعة أنهم أعوان الظلمة من بني أمية، فيقول (17): “وقد قال غيرنا من مرتابي هذه العوام الغوية، وأعوان المعتدين من ظلمة بني أمية : لا يحل قتل من قال لا إله إلا الله”.

ويقول عن ابن شهاب الزهري (18): “وليس ما في أيدي هذه العامة من تفسير هذه الآية المحكمة (19) عن ابن شهاب الزهري وأضرابه، ولا من كان من لفيفه وأصحابه، الذين كانوا لا يعدلون بطاعة بني أمية، وما أشركوهم فيه من دنياهم الدنية، فلم ينالوا مع ما سلم لهم منها، ما حاطوا به ودفعوا به عنها، من تلبيس لتنزيل، أو تحريف لتأويل، وابن شهاب لما كان كثرة وفادته إليهم معروف، وبما كان له من كثرة الضياع وكثرة الغلة بهم موصوف”.

2/ من يسميهم "أئمة الجور" هم الذين حاربوا أهل البيت

يفسر القاسم قوله تعالى: (إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ) [المائدة: 33]، مبينا مفهوم المحاربة لله وللرسول، وأنها ما فعله “أئمة الجور” ومن عاونهم من “العامة” بأن شهد عليهم زورا وبهتانا، حتى سفكت دماؤهم. فهؤلاء هم الذين يحاربون الله ورسوله. وهو بهذا يجعل الخارجين من أهل البيت هم الأئمة الشرعيين، ومن كانوا أئمة الناس هم البغاة الخارجون المحاربون.

يقول (20): (ومعنى ما ذكر الله في الآية من المحاربة والفساد، وما أمر به فيه من التقتيل والصلب والقطع أو النفي من البلاد، فهو الإجلاب والجيئة والذهاب، والاستدعاء على الحق والمحقين، والمخالفة على الأرباب المتقين، والتحيل والحشد للمبطلين إليهم، والقول بالزور والبهتان عليهم، في سفك دمائهم، والتماس ضرائهم، ومجاهدة أولياء الله فيهم بالمحاربة، وإجماعهم عليهم بالأذى والمناصبة، فمن بلغ هذا من المبطلين وصار إليه، كان حكم الله جل ثناؤه عليه، وجزاؤه على ما هو من ذلك فيه، أن يقتل أو يصلب أو يقطع أو ينفى من الأرض والبلاد، التي سعى فيها على الله ورسوله والمحقين بما ذكره الله من الفساد).

4/ من يسميهم "أئمة الجور" هم بنو أمية:

يصف القاسم (21) بني أمية أنهم سبب ضلال الأمة بما سنوا فيهم وشبهوا، وقهرهم الناس وغلبة سلطانهم؛ حتى “تغلب عليهم الشيطان؛ فألفه الناس لطول صحبته.. ثم خلف من بعدهم أخلاف السوء، التي أتت عداوتها للإسلام من وراء عداوة كل عدو… فقد أصبحوا وأمسوا عن الحق بكما وصما وعميا، وصاروا هم وأئمتهم من بني أمية لأنفسهم في ذلك داء دويا”.

ويتهمهم بالكفر، فيقول: “وكذلك داؤهم من الجهل والضلالة والكفر، فلن يشفى منهم إلا بإكراه من الله لهم على الإيمان وجبر، وذلك فما لا يكون منه بعد أن أمرهم”… “فهذا يا بني فاعلمه من أمرهم، ومما هم فيه من جهلهم وكفرهم”.

ويؤكد هذه المعاني في رده على ابن المقفع، وأوهامه عن الإسلام (22):

“ولكني أراه ظن ديننا، وتوهم أحكام ربنا، أحكام معاوية بن ابي سفيان، وما سن بعد معاوية ملوك بني مروان، من تناقض أحكامها، وجورها في أقسامها، وأولئك فأعداء ديننا، وحكم أولئك فغير حكم ربنا…”.

❃❃❃

ومقابل هذه المواقف تجاه حكام بني أمية، إلى درجة رميهم بالكفر – نجد موقفه من المختار الثقفي مختلفا كل الاختلاف؛ فقد سئل (23): هل يصح ما روي عن النبي أنه قال: (في ثقيف كذاب وميتم)، وهل يصح ما قيل في المختار إنه تنبأ؟ فقال: “ليس يصح في المختار ما يقولون، وقد كانت له أفعال وأيادي محمودة، وقد دعا له جميع آل محمد الرجال والنساء، حين بعث إليهم برأس عبيد الله بن زياد لعنة الله عليه”.

فالمختار؛ لأنه قَتل عبيد الله بن زياد [الذي قُتل الحسين تحت ولايته] صارت أفعاله وأياديه محمودة، ويبرئه مما نسب إليه من الضلال والكفر.

A 1 بناء النظام الفكري للشيعة: القاسم الرسي

ثانياً: الصورة العلمية لأهل السنة

1/الاستعلاء العلمي على الآخر:

تغيب الصورة العلمية للآخر عند القاسم، وإن ظهرت فهي تظهر بصورة الجهل والضلال في فهم الدين، بل تعمد الكذب والتضليل والتحريف للدين، بدءا من الصحابة ثم من يليهم. وقد رأينا آنفا الصورة العلمية للصحابة.

وبالنظر في الفقه المجموع عن القاسم نجد أن استدلاله إنما يكون بعلم علي وأهل بيته فقط، واستبعاد من عداهم، وقد ضربنا أمثلة على ذلك آنفا.

وحين يستشهد بالآخر؛ فإنما يستشهد به غالبا في مقام التضعيف، كقوله مثلا (24): “وقال غيرنا: إن من وجد برذعة حمار، أو كان في بيت مبلط بزجاج أو رخام، تيمم أي ذلك وجده… وهذا خلاف لما أمر الله به من تيمم الصعيد لا يخفى، وقولٌ لا يقول به إلا من جهل وجفا”. وهو يشير إلى مذهب الحنابلة الذين أجازوا التيمم بنحو ذلك. فيصف مخالفيه بالجهل والجفاء، ومخالفة أمر الله.

وثمة استعلاء علمي يستخدمه القاسم تجاه خصومه، ليس من خلال وصفه المستمر لهم بالجهل والضلالة، ولا بالدعوة إلى ترك الأخذ عنهم، بل إنه يصرح أنه لا اعتداد لأقوالهم ورواياتهم حتى لو وافقت الصواب.

فيقول (25): “القصر في كل سفر واجب على كل من سافر. وكان يقول: قلنا بقصر الصلاة للمسافر من كل بر أو فاجر؛ لأن فرضها المقدم كان في السفر والحضر على ركعتين، وقلنا بذلك وأخذناه لما فهمناه عن كتاب الله المبين، ولم نأخذ ذلك عن رواياتهم وإن كانوا قد رووه، ولم نقبله عنهم – والحمد لله – وإن رأوه”.

وهذا الاستعلاء ظهر في مواطن عديدة، ومن ذلك أنه يرفض الروايات التي تأتي عنهم، ولا يعتد بها، فهو لا ينظر أصحيحة هي أم سقيمة، بل يرفضها جملة وتفصيلا. وعلى سبيل المثال:

سئل(26) : عن معنى خصومة علي والعباس إلى أبي بكر ثم إلى عمر فيما قد روي عنهما؟ فقال: “ليس هذا بشيء ولا يصح ولا يلتفت إليه”. كما سئل (27): عن علي بن أبي طالب رحمة الله عليه هل زوج ابنته عمر بن الخطاب؟ فقال : خبر من الأخبار قد ذكر، ولا يدرى ما حقيقته. وبالرغم من أن الحادثتين قد ثبتتا، ورويتا بأصح الأسانيد الحديثية، حيث وردا في الصحيحين (28). كما أن تزويج عمر بأم كلثوم محل إجماع المؤرخين. ولكن القاسم يوهنه بأنه مجرد خبر ولا يعلم حقيقته.

2/ أصول الاحتجاج عند القاسم:

أصول الاحتجاج عند القاسم ثلاثة (29): العقل، والكتاب، والرسول، وكل الحجج الثلاث مردها إلى الإجماع… (فأصل المعقول ما أجمع عليه العقلاء ولم يختلفوا فيه)، (وأصل الكتاب فهو المحكم الذي لا اختلاف فيه)، (وأصل السنة التي جاءت على لسان الرسول صلى ‌الله ‌عليه ‌وآله ‌وسلم، ما وقع عليه الإجماع بين أهل القبلة).

ثم يهاجم أهل السنة الذين يصفهم بالحشوية، “وقد أنكرت الحشوية من أهل القبلة رد المتشابه إلى المحكم، وزعموا أن الكتاب لا يحكم بعضه على بعض، وأن لكل آية منه ثابتة واجب حكمها بوجوب تنزيلها وتأويلها، ولذلك وقعوا في التشبيه، وجادلوا عليه، لما سمعوا من متشابه الكتاب، فلم يحكموا عليه الآيات التي جاءت بنفي التشبيه”.

والقاسم يختلف في هذه الأصول عن أهل السنة؛ فالكتاب عند القاسم هو ما يفهمه آل الرسول منه، أما ما يفهمه غيرهم فلا اعتبار به، ولا اعتداد. وأما السنة فهو يعتد بما يرويه آل الرسول منها، وما عدا ذلك فهي روايات لا تستحق أن يُلتفت إليها، كما بينا آنفا من نصوصه. وأما الإجماع فهو إجماع آل الرسول فقط.

فالقاسم لا يعني بالإجماع إجماع علماء المسلمين، بل يصرح أن المراد به “إجماع آل الرسول”. وهو يرسخ هذا في ما يقرره من أحكام فقهية، في مواطن عديدة (30). بل يدعو الناس إلى الاكتفاء بما عليه آل الرسول من فقه، فقد سئل عن مواقيت الصلوات الخمس، فقال: “اجتز بما عليه جماعة آل رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يختلفون فيه”(31). وإذا اختلف أهل البيت فيُؤخذ بما أجمعوا عليه ويُترك ما اختلفوا فيه (32). فهو لا يعتد بمن سواهم، وعلى المؤمن أن ينظر فقط في علم أهل البيت دون غيرهم (من العامة).

ثم إن القاسم يرى أن أولاد الحسن والحسين هم القناة الوحيدة التي يعرف الناس من خلالها ما أجمع عليه أهل البيت، وما نقله أئمتهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما بينوه من أحكام الشريعة. ويظهر هذا من حجاجه للرافضة في مسألة المسح على القدمين، وإنكاره أن يكونوا اطلعوا على علم أئمة أهل البيت دونهم.

يقول (33): “من أين قلتم في هذا بخلاف جماعة ولد الحسن والحسين، صلوات الله عليهما؟ فإن قالوا: لأنه قالت به الائمة منهم، وهم الذين يلزم القبول عنهم. قلنا: فأعطتكم الأئمة ما لم تعط أبناءها، وحملتكم من هدى الله فيه ما لم تُـحَمِّله أقرباءَها؟ فوصلت بذلك منكم البعيد الغريب، وقطعت من أرحامها القريب الحبيب”.

ويضفي القاسم على آراء أهل البيت صبغة دينية؛ حين ينفي عن علمائهم إطلاق الرأي، ويؤكد أنهم ينطلقون في مقولاتهم من الكتاب أو السنة فقط؛ فقد سُئل: عن إطلاق الرأي عند الضرورة؟ فقال: “ليس لأحد أن يقول برأيه إلا ما أشبه الكتاب والسنة المعروفة، وإلا أمسك فلم يقل”(34).

❃❃❃

وقد رسخ الإمام القاسم حجة “الحق ما اتفقتم معنا عليه، والباطل ما تدعونه”، فعلى سبيل المثال، حين يناقش أهل السنة في مسألة أن قوما يخرجون من النار بعد دخولهم فيها، فيقول (35): “إذا اجتمعتم أنتم وأهل الحق على الدخول، ثم خالفتموهم في الخروج، فالحق ما اجتمعتم عليه من الدخول، والباطل ما ادعيتموه – بلا إجماع ولا حجة – من الخروج”… وكذلك في مسألة الفاسق، فيقول أن الجميع متفق على تسميته فاسقا، ثم اختلفوا بعد ذلك؛ فبعضهم عده مؤمنا، وبعضهم كافرا..”فالحق ما أجمعوا عليه من تسميتهم إياه بالفسق، والباطل ما اختلفوا فيه”.

وبالرغم من أن هذه حجة باطلة؛ فلو سلمنا بها لقال لنا اليهود: ألسنا وإياكم نتفق على رسالة موسى، ونختلف على نبوة محمد؟ فعندئذ يقولون: الحق إذن ما اتفقنا عليه، والباطل ما اختلفنا فيه… ولكنها أصبحت منهجا يتبناه المناظرون من الزيدية من بعده، وقد تبناها الإمام الهادي بعد ذلك كثيرا.

تسعون ألف طالب من أنحاء العالم الإسلامي يقدمون لسماع كتاب صحيح البخاري

3/ الحنفية والمعتزلة: مستثنون من الصورة

يندر أن يذكر القاسم أسماء المذاهب الأخرى، أو يشير إلى فقهائهم بأسمائهم، فهو يبين الأحكام الفقهية كما يراها، ومن النادر الذي ذكره تظهر صورة إيجابية للحنفية دون غيرهم.

فمن ذلك أنه ذكر الاختلاف في زكاة الحلي، وأورد قول أبي حنيفة بأن فيه زكاة، وقول مالك ألا زكاة فيهن، ثم قال: “وأحب إلينا أن يزكى؛ لأنه مال…” (36). وفي موطن آخر ذكر قولا للشافعي وآخر لأبي حنيفة، ثم قال: “وقول أبي حنيفة أحب إلينا، وأشبهه بالحق” (37).

وكذلك علماء المعتزلة ظهروا بصورة إيجابية عند القاسم، نجد ذلك عنده (38): في تفسير قوله تعالى: (لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ) [سورة البقرة: 233]، فهو ضعف قول من قال “وعلى الوارث ألا يضار”، والقول ينسبه المفسرون إلى الزهري ومجاهد وغيرهما. ثم أورد تفسير واصل بن عطاء وعمرو بن عبيد.

وقد سبق أن أوردنا وصفه لمن أنكر الرؤية من الزيدية والمعتزلة وغيرهم بـ”أهل الإيمان” (39).

الهوامش:

  1. في مواطن عديدة، انظر مثلا: مجموع كتب ورسائل الإمام القاسم بن إبراهيم الرسي، 2/47.
  2. انظر مثلا، رده عليهم في تفسير قوله تعالى: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ) [الأعراف : ١٧٢]. مجموع كتب ورسائل الإمام القاسم بن إبراهيم الرسي، 2/ 591.
  3. مجموع كتب ورسائل الإمام القاسم بن إبراهيم الرسي، 1/ 238.
  4. مجموع كتب ورسائل الإمام القاسم بن إبراهيم الرسي، 1/ 493.
  5. مجموع كتب ورسائل الإمام القاسم بن إبراهيم الرسي، 1/ 489.
  6. انظر رسالته في الرد على المجبرة: مجموع كتب ورسائل الإمام القاسم بن إبراهيم الرسي، 1/ 499 – وما بعدها.
  7. مجموع كتب ورسائل الإمام القاسم بن إبراهيم الرسي، 1/ 501.
  8. مجموع كتب ورسائل الإمام القاسم بن إبراهيم الرسي، 1/ 604.
  9. مجموع كتب ورسائل الإمام القاسم بن إبراهيم الرسي، 1/ 595، و597، و603.
  10. مجموع كتب ورسائل الإمام القاسم بن إبراهيم الرسي، 1/ 585.
  11. مجموع كتب ورسائل الإمام القاسم بن إبراهيم الرسي، 1/ 587.
  12. مجموع كتب ورسائل الإمام القاسم بن إبراهيم الرسي، 1/ 591.
  13. مجموع كتب ورسائل الإمام القاسم بن إبراهيم الرسي، 1/ 592.
  14. مجموع كتب ورسائل الإمام القاسم بن إبراهيم الرسي، 1/ 604.
  15. مجموع كتب ورسائل الإمام القاسم بن إبراهيم الرسي، 1/ 615.
  16. مجموع كتب ورسائل الإمام القاسم بن إبراهيم الرسي، 2/ 614.
  17. مجموع كتب ورسائل الإمام القاسم بن إبراهيم الرسي، 2/ 236.
  18. مجموع كتب ورسائل الإمام القاسم بن إبراهيم الرسي، 2/ 584.
  19. يقصد قوله تعالى: (إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ) [المائدة: 33].
  20. مجموع كتب ورسائل الإمام القاسم بن إبراهيم الرسي، 2/ 584.
  21. مجموع كتب ورسائل الإمام القاسم بن إبراهيم الرسي، 1/ 246 – وما بعدها.
  22. مجموع كتب ورسائل الإمام القاسم بن إبراهيم الرسي، 1/ 355.
  23. مجموع كتب ورسائل الإمام القاسم بن إبراهيم الرسي، 2/615.
  24. الروض الباسم في فقه الإمام القاسم، 1/164.
  25. الروض الباسم في فقه الإمام القاسم، 1/291.
  26. مجموع كتب ورسائل الإمام القاسم بن إبراهيم الرسي، 2/ 614.
  27. مجموع كتب ورسائل الإمام القاسم بن إبراهيم الرسي، 2/ 560.
  28. كون أم كلثوم زوجة عمر، انظر صحيح البخاري (4071). وفي خصومة علي والعباس، انظر صحيح مسلم (1757).
  29. مجموع كتب ورسائل الإمام القاسم بن إبراهيم الرسي، 1/631، وانظر: 2/369.
  30. انظر مثلا: الروض الباسم في فقه الإمام القاسم، 1/120،  138، 200، 292، و2/37. وانظر: مجموع كتب ورسائل الإمام القاسم بن إبراهيم الرسي، 2/ 559.
  31. الروض الباسم في فقه الإمام القاسم، 1/194.
  32. مجموع كتب ورسائل الإمام القاسم بن إبراهيم الرسي، 2/ 563.
  33. الروض الباسم في فقه الإمام القاسم، 1/ 121.
  34. مجموع كتب ورسائل الإمام القاسم بن إبراهيم الرسي، 2/ 563.
  35. مجموع كتب ورسائل الإمام القاسم بن إبراهيم الرسي، 1/616.
  36. الروض الباسم في فقه الإمام القاسم، 1/342. وانظر أيضا: 1/ 352.
  37. الروض الباسم في فقه الإمام القاسم، 1/346.
  38. مجموع كتب ورسائل الإمام القاسم بن إبراهيم الرسي، 2/578.
  39. مجموع كتب ورسائل الإمام القاسم بن إبراهيم الرسي، 1/ 587.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى