فكر

تأسيس الهوية وصورة الآخر عند الإمام الهادي (ج3)

(علماء الأمة – الآخر الفكري)

تناولت في المقالين السابقين: الجذور المؤسسة لفكر الإمام الهادي، التي تمثل معيار التصنيف إلى ثنائية الذات/الآخر، كما تناولت الصحابة بوصفهم الآخر المطلق في تراث الإمام الهادي؛ وذلك لأنهم كانوا الآخر أثناء تأسيس الهوية.

وقد أشرت سابقا إلى أن الأمة عموما، وعلماءها خصوصا، يتقاطعون مع المنظومة العقدية للإمامة، كما يؤسسها الإمام الهادي، حيث يمثلون الآخر في السياق الفكري والعلمي، في مقابل “علماء آل رسول الله”، وحتى يتجلى لنا هذا الآخر في تراث الإمام الهادي، فسندرسه من جوانب عديدة.

أصناف المسلمين عند الهادي:

يقول الهادي(1): (وجميع أهل الصلاة عندنا خمسة أصناف: الشيعة، والمعتزلة، والخوارج، والمرجية، والعامة).

ولنا في هذا التصنيف وقفات، لنتبين الخلفية التي ينطلق فيها من نظرته إلى ذاته، ونظرته إلى غيره.

الوقفة الأولى:

ما مرجعية هذا التصنيف؟ والجواب أن الإمام الهادي يصنف الأمة المسلمة بناء على مواقفهم من الإمامة، وهذا يردنا إلى ما ذكرناه من قبل، أن “الإمامة” فكرة مركزية مهيمنة في خطاب الهادي، وبناء عليها تتحدد معالم الذات/الآخر. فهذه الأصناف الخمسة تميزت بسبب تميزها في الإمامة، ويسرد بعد ذلك الإمام الهادي موقف كل طائفة منها، فـ(المعتزلة والخوارج أجازوا الإمامة في الناس كلهم، والمرجئة والعامة أجازوا الإمامة في قريش دون غيرهم، وأما الشيعة فأجازوا الإمامة في آل محمد دون غيرهم).

الوقفة الثانية:

يدرج الهادي نفسه ضمن الشيعة، فالشيعة بمفهوم الهادي إطار يجمع كل من يقول بإمامة آل علي، بغض النظر عن الاختلافات الفرعية داخل هذا المذهب. وهذا يرسخ هوية الهادوية ضمن الشيعة وليس ضمن أهل السنة. ويؤكد هذا تقاطعه معهم في نقاط مشتركة عديدة، منها: سب الصحابة والقول بكفرهم، والقول بعصمة الأئمة تصريحا أو تلميحا، حصر الإمامة في ذرية علي، الطعن في خلافة أبي بكر وعمر، تكفير المخالف واستباحة ماله ودمه. وقد قدمنا النصوص الدالة على كل هذه النقاط.

الوقفة الثالثة:

يطلق الهادي على أهل السنة مصطلح “العامة”، ومن الواضح أن المصطلح فيه نبز لهم بالجهالة، وأنهم أقل مرتبة في العلم والدين من غيرهم، وقد تردد في كتبه كثيرا هذا الوصف(2)، كما يصفهم بالحشوية(3)، والمشبهة(4)، ويصفهم بالجاهلين(5)، والأمة الضالة(6).

ويرى أن موقف الأمة في تفريطهم بحق إمامة آل محمد وعدم نصرتهم والعون عليهم، يستوجب سخط الله ورسوله، ويتوعدهم بموقف (بين يدي الله، يخاصمهم فيه محمد رسول الله، ويحكم بالحق بينهم الله، “وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا”) ثم يتهمهم أنهم سمعوا الحق ووعوه، (ولكن عاندوا في ذلك الحق، وجنّبوا عن الصدق ظلما وغشما وعداوة لله ولرسوله وولده؛ تمردا وظلما).. ثم يتهمهم أنهم سمعوا أمر الله وفرضه على الأمة بمودة القربى، ولكنهم (رفضوه من بعد ذلك رفضا، وتركوه عدواةً لآل رسول الله وحسدا..) (7).

علماء أهل السنة:

من يقرأ الكتاب الأحكام في الحلال والحرام.. فلا وجود فيه إلا لـ”علماء آل رسول الله”، ويقول عنهم: مشائخنا من أهل البيت، وأسلافنا، والمجمع عليه عند آل رسول الله، ومعنى قول جدي القاسم، حدثني أبي عن أبيه، وبلغنا عن زيد بن علي عن آبائه، وما ذكره جدي هو الحق(8)…إلخ. فهو حضور إيجابي للأسرة وصورة ذهنية علمية مشرقة.

في حين أن بقية علماء الأمة لا حضور لهم، وإن حضروا فيكون في أحد ثلاثة سياقات: إما أنهم تبع لعلماء أهل البيت، وإما للرد عليهم، وإما للاحتجاج عليهم.

وحين يتحدث عنهم، لا يسميهم، بل يستخدم غالبا لفظ “غيرنا”(9). ويطلق عليهم: العامة، كما سبق بيانه، وسماهم أيضا: فقهاء العامة(10)، وقد أورد هذه التسمية في بيان تجاوزهم. ولم أكد أجده سمى مذهبا من مذاهب أهل السنة، بل يقول عنهم: غيرنا، العامة.. سوى مرة ذكر مالك بن أنس وأهل المدينة في سياق تضعيف قوله في حد الساحر(11). وهذا باستثناء الحنفية، فهو يتقارب مع المذهب الحنفي، ودخل في سجال معه، وأخذ بعض الآراء الفقهية منه، وإن كان لا يسميه غالبا(12).

فمن أمثلة جعله لعلماء السنة تبعا لعلماء أهل البيت، قوله في الرد على الإمامية في مسألة الطلاق، فقال: (وخالفهم في ذلك جميع علماء آل رسول الله، واتبعهم على خلافهم في ذلك جميع علماء المسلمين) (13). فصور علماء المسلمين على أنهم أتباع لهم.

ومن أمثلة سياق الرد عليهم: تحدث عن نكاح الذمية، فحرمه، ووصف من أجازه بالضلال والجهل [مع العلم أن من أجازه هم جمهور أهل العلم]، فيقول:(14) (ذوو الجهالات، أهل التكمه في الضلال ممن حفظ التنزيل وجهل التأويل.. لا يعلم من معانيه بكثير ولا قليل، يحسب أن باطنه كظاهره، يرد المحكمات على ما قرأ من المتشابهات، فكلما سئل أو أجاب تكلم بغير الصواب.. فهو يظن لضعف علمه وعظيم جهله أنه عالم بغامض تأويله…إلخ).

كما أنه يتهم علماء أهل السنة بالكذب على علي رضي الله عنه، ويصفهم بالهمج والجهل في روايتهم عنه، ويكذبهم في روايتهم عن علي “بيع أم الولد”؛ لأن أهل بيته أعلم به منهم، فلو كان حقا لرووه هم عنه(15).

ويتحدث عن البخاري وغيره ممن أخرج حديث علي: (ما كُنْتُ لِأُقِيمَ حَدًّا علَى أحَدٍ فَيَمُوتَ، فأجِدَ في نَفْسِي، إلَّا صَاحِبَ الخَمْرِ؛ فإنَّه لو مَاتَ وَدَيْتُهُ؛ وذلكَ أنَّ رَسولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لَمْ يَسُنَّهُ). فيقول واصفا لهم بالكذب و(الاجتراء على الله، والكذب عليه وعلى رسوله وعلى أمير المؤمنين، وهذا الحديث كله باطل محال، كذب فاحش من المقال)(16).

ولا ينقل عن كتب الحديث عند أهل السنة إلا حين يريد أن يحتج عليهم، فيقول لهم: أنتم محجوجون بما في كتبكم، كما في مسألة الطلاق الثلاث بواحدة(17). وما عدا ذلك فهو يقلل من رواياتهم، ويتهمهم بالكذب ووضع الأحاديث، فيقول(18): (كما نسبت الحشوية ما روت من أباطيلها وزور أقاويلها إلى رسول الله؛ ليثبت لهم باطلهم على من اتخذوه مأكلة لهم، وجعلوهم خدما وخولا، كما قال الله في أشباههم: ” فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ”).

الهوية وصورة الآخر عند الإمام الهادي 9 تأسيس الهوية وصورة الآخر عند الإمام الهادي (ج3)

حجية أهل البيت:

يرى الهادي أن مصادر التشريع أربعة: الكتاب والرسل والعقل والأئمة، وأن من أنكر واحدة منها كفر(19). فيقول في الرد على الإمامية الذين زعموا أن القرآن ناقص: (يُسأل من قال: إن بعض القرآن قد ذهب؛ وأنكر أن يكون هذا القرآن الذي في أيدي الناس هو القرآن المنـزل على محمد بعينه، لم يُزد فيه ولم ينقص منه، فيُقال له: خبرنا عن حجج الله سبحانه على عباده ما هي؟ وكم هي؟ فلا يجد بدًا أن يقول: هي الكتاب، والمرسلون، والعقول، والأئمة الهادون). ثم يقول: (فإذا أقر بذلك، وكان الأمر عنده كذلك، قيل له: أليس في كل حجة لله فروض له مؤكدة لا بد من العمل بها واستعمالها؟ فإن قال: لا؛ كفر…)… إلى أن يقول: (والأئمة من بعد الرسل فجعلت لتدل على شرائع الأنبياء، وتحكم بالحق بين العباد، وتنفي من الأرض الغي والفساد).

فالأئمة الهادون هم الحجة الرابعة من حجج الله على خلقه، وهذا يقتضي القول بعصمتهم، فيلتقي الإمام الهادي مع الإمامية في القول بعصمة الأئمة.

وقد انعكست هذه العقيدة على احتجاجات الإمام الهادي، ونظرته تجاه علم علماء أهل البيت، فهو يرى أن ما لم يروه آباؤه وأجداه عن النبي فليس بشيء، ولا يصح، فلو صح لرووه(20).

كما يرى أن علم آل رسول الله لا يخالف وحي الله، يقول(21): (فاعلم هديت أن علم آل رسول الله لا يخالف علم رسول الله، وأن علم رسول الله لا يخالف أمر الله ووحيه). ويذهب إلى أن قياس أهل البيت هو القياس الثابت الأصيل، (فمن علمهم صلوات الله عليهم تفرعت الأحكام، ومن بحر فهمهم استقى جميع الأنام)(22).

ويصف(23) من خالف أهل البيت في علمهم بالضلال، والتعصب لمذهبهم، وأنه كان ينبغي عليهم الاعتماد على (مقالة علماء أهل بيت نبيهم)، فهم أهل الذكر، وهم الذين جعلهم الله مبينين لما اشتبه على الناس، مترجمين لما غمض من الكتاب، يختارون الصواب دون أن يضل عن أفهامهم، ولا يوجد إلا عند علمائهم.. وينعى على علماء أهل السنة أنهم يمنعون الناس من سؤالهم، وقد فرض الله على الناس سؤال أهل البيت؛ لأنهم هم أهل الذكر…إلخ.

ولذلك فقد جعل سبب اختلاف الأمة في الأحكام، (فبعضهم يحلل وبعض يحرم)… بسبب تركهم لاتباع أئمة أهل بيت نبيهم، الذين أمرهم الله باتباعهم والتعلم منهم وسؤالهم، ولذلك وقعت الأمة في الضلال والهلاك (24). ولو أن الأمة اتبعتهم (لما ضلت عن رشدها أبدا، ولا وقع اختلاف بين اثنين في فتيا، ولا اشتبه مشتبه في حلال أو حرام إلا وجد بيانه عند آل محمد)…. (محجة الإيمان، خلفاء الرحمن، والسبيل إلى الجنان، والحاجز عن النيران)… (قولهم صواب بلا خطأ، وقربهم شفاء بلا ردى).

والنص السابق واضح فيه القول بعصمتهم، فما الذي يعنيه أن قولهم صواب بلا خطأ، إلا العصمة لهم، ولذلك فهم بوابة الناس إلى الجنة، كما أن الأنبياء بوابة الناس إلى الجنة. فبهذا يرفع أهل البيت إلى مصاف الأنبياء.

كما أنه يرى أن من تعلم من أهل البيت من غيرهم فقد زاغ وضل وفسد، وسيؤول ذلك به إلى الخلل(25). ولذلك يرد حدوث الاختلاف في أقاويل أهل البيت إما إلى النسيان، وهذا سيتذكر.. وإما إلى أن المختلف تعلم من غيرهم فزاغ.

والإمام الهادي بذلك يحذر تحذيرا واضحا من انتسب إلى أهل البيت أن يتعلم من غيرهم؛ حتى لا يكون مقصيا عن أهل بيته نبيه، فيكون جاهلا ضالا كغيره من “العامة”، ويقع في الخطأ، وبذلك يفقد عصمة مذهبه، ومجانبة الصواب الذي عليه أهل البيت. فالضلال إذن يحصل لدى أهل البيت بمتابعة مذاهب أهل السنة.

❃❃❃

مما سبق يتجلى لنا موقف الإمام الهادي من الآخر الفكري، وإلى أي مدى حاكم الآخر وأدانه بناء على موقفه من الفكرة المركزية المتمثلة في الإمامة.

وبناء على ما سبق يرى الهادي أن “أهل البيت” هم الفرقة الوحيدة الناجية، وكل الفرق سواها فهي فرق على باطل، ويساوي بين أهل السنة الذين يسميهم حشوية وغيرهم من الفرق. يقول(26): (فهذا وفقكم الله دين المؤمنين وديني وما عليه اعتقادي، لست بزنديق ولا دهري، ولا ممن يقول بالطبع، ولا ثنوي، ولا مجبر قدري، ولا حشوي، ولا خارجي. وإلى الله أبرأ من كل رافضي غوي، ومن كل حروري ناصبي، ومن كل معتزلي غال، ومن جميع الفرق الشاذة، ونعوذ بالله من كل مقالة غالية، ولابد من فرقه ناجية عالية، وهذه الفرق كلها عندي حجتهم داحضة. والحمد لله، وأنا متمسك بأهل بيت النبوة، ومعدن الرسالة، ومهبط الوحي، ومعدن العلم وأهل الذكر…إلخ).

ولذلك مثلا، فإنه ساوى في الذبائح بين ذبيحة اليهودي والنصراني والمجوسي، وذبيحة أهل السنة وسماهم “المشبهة”، وذبيحة المرجية والمجبرة، فحرمها كلها، بجامع اجتماعهم في الشرك، وتكذيب قول الله في عدوه ووليه…إلخ.(27).

الهوية وصورة الآخر عند الإمام الهادي 10 تأسيس الهوية وصورة الآخر عند الإمام الهادي (ج3)

مذهب الهادي في الكفر والكافرين:

الذي يظهر أن للهادي مذهبين في مسألة وصف أهل الكبائر بالكفر. أما المذهب الأول فقد عبر عنه في رسالته (المنزلة بين المنزلتين)، ففيها تأثر واضح بآراء المعتزلة، فهو يقرر:

– أن اسم الإيمان لا يستحقه العصاة ومرتكبو الكبائر(28).. 

– وينكر على الخوارج تكفيرهم العصاة والفساق(29)، ويبين الفرق بين الكفار وبين العصاة وأهل الكبائر. فالكفار أباح الله دماءهم وأموالهم وأمر بقتالهم، وحرم مناكحتهم. أما أهل الكبائر فلم يأمر الله بقتالهم (إلا من  بغى)، وأباح مناكحتهم، والصلاة عليهم، ودفنهم في مقابر المسلمين. وفي هذا تكذيب للخوارج الذين (يحكمون في فساق الموحدين بحكم الكفار، فيسبون ذراريهم، ويغنمون أموالهم). – ويقول إن من مات من أهل الكبائر على معصيته 

– غير نادم ولا مستغفر – فهو خالد مخلد في النار(30).

وبذلك فأهل الكبائر (ليسوا بكفار ولا مشركين ولا منافقين، وليسوا بأبرار ولا فضلاء ولا أخيار..فلا يطلق عليهم اسم الإيمان، بل اسم الفسوق والعصيان..فكانوا في منزلة بين منزلتين، وهي منزلة الفساق والفجار التي بين منزلة المؤمنين والكافرين في هذه الدنيا) (31).

كان ذلك المذهب الأول للإمام الهادي في عدم إطلاق الكفر على أهل الكبائر. أما المذهب الثاني، ويبدو أنه وصل إليه مع قتاله في اليمن، وبعد ترسخ الفكرة المركزية للإمامة لديه، والبحث عن مبرر شرعي للقتال والقتل، فهو يقر أن المؤمن لا يحل قتله إلا في حالة من ثلاث حالات: من زنى بعد إحصان، أو قتل نفسا بغير حق، أو كان غير مؤمن. ويقول: (وأنا أرى أن من قُتل بحق، فليس بمؤمن؛ لأن الحق لا يوجب قتل المؤمن إلا أن يكون مرجوما تاب قبل رجمه، أو قاتل نفس تاب وأخلص التوبة لربه قبل قتله، وأقاد من نفسه) (32).

وكتب رسالة بعنوان: (من أين يلزم أهل القبلة الكفر؟)(33)، وخلاصة ما في الرسالة أن من بغى وأحل الله قتاله وقتله، فهو كافر. (ومن لم يكن من المؤمنين المتقين فهو من الكافرين الفاسقين… فالتضاد بين الاسمين: الإيمان والكفر، فحيث نزع أحدهما حل الآخر)… وبالتالي لم يعد يتصف بالمنزلة بين المنزلتين فمن لم يكن مؤمنا فهو كافر.

وخروجا من إشكالية تكفير من يقول (لا إله إلا الله)، فقد وجد في المذهب الإباضي مخرجا لذلك، وهو القول بكفر العصيان، فقسم الكفر نوعين: كفر جحود، وكفر نعمة(34). وبذلك نحا منحى الإباضية في قولهم بأن (كل كبيرة فهي كفر نعمة، لا كفر شرك، وأن مرتكبي الكبائر في النار خالدون مخلدون فيها)(35). ويزعم جمهور الإباضية (أن مخالفيهم من أهل الصلاة كفار وليسوا بمشركين، حلال مناكحتهم وموارثتهم، حلال غنيمة أموالهم من السلاح والكراع عند الحرب، حرام ما وراء ذلك، وحرام قتلهم وسبيهم في السر إلا من دعا إلى الشرك في دار التقية ودان به)(36). فيقول الهادي(37): (والكافر هو كل من ارتكب معاصي الله، خالف أمره وضاد حكمه، فهو كافر لنعم الله، معاند لله، تجب البراءة منه والمعاداة له).

وبذلك اعتبر من مع الزكاة مشركا(38)، واعتبره الوجه الثاني من الشرك، والنوع الأول: شرك الألوهية. واعتبر الوجه الثالث من الشرك: من أطاع عدوا من أعداء الله، والرابع: مدمن الخمر.

واعتبر أن الفئة الباغية كافرة، لم تعد مسلمة، ولذلك يحق للإمام قتلها، حيث يذكر الصنف السادس ممن يستحقون القتل، وهم الفئة الباغية، ثم يستدل بقوله تعالى: (قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ)، وقوله: (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ)(39).

❃❃❃

واستطرادا للحديث عن الكفر، فالإمام الهادي يرى أن الكفر سبب لقتال الكافرين، فيقول(40): (وفُرض على المسلمين قتل المشركين والكفار كلهم، إلا ما يخص أهل الجزية من أهل الكتاب). ويقول(41): (فأما من يولد في دار الكفر، فقد حكم الله عليه بالسبي، وحكم على ما فيها من مال أو نفس وأبانها وحل ما فيها، وصيرها ملكا وغنيمة للمؤمنين، فما جاز من سبي الكبير جاز في سبي الصغير؛ لأن الدار دار كفر). فهو نص واضح على أنه يرى أن الله أحل غير المسلمين دماءهم وأموالهم وديارهم لكفرهم.

كما أنه يرى أن أخذ الجزية من النصارى إنما هو إذلال وإخزاء لهم، وحتى يُتركوا على دينهم(42).. ويقول(43) إن الواجب على المسلم فيهم (أن يظهر لهم الاستخفاف بهم، والتبخيس والإبعاد لهم، والتضييق في كثير مما يجوز التضييق فيه عليهم..).

الهوامش:

1- أصول الدين، 99. 

2- انظر مثلا: المنتخب والفنون، 24، 227، والأحكام في الحلال والحرام، 2/443. 

3- مجموع رسائل الإمام الهادي، 64، 106. 

4- مجموع رسائل الإمام الهادي، 720. 

5- المنتخب والفنون، 30. 

6- الأحكام في الحلال والحرام، 2/465 

7- الأحكام في الحلال والحرام، 2/465 

8- انظر مثلا، الأحكام في الحلال والحرام، 1/ 282، 302، 303، 309…ويقول في الأحكام في الحلال والحرام، 1/404: (وذلك قول المصطفى أبي، وقول علي بن أبي طالب جدي، وقول آبائي من قبلي، وقولي أنا في نفسي). 9- انظر مثلا: الأحكام في الحلال والحرام، 1/348. وانظر: 2/197. 

10- المنتخب والفنون، 227. يتحدث في أحكام الشفعة، ثم يقول: (وهذا الفعال الذي فعلاه فاسد، لا يحل بينهم ولا يجوز لهم، وفقهاء هذه العامة تجيزه). 

11- الأحكام في الحلال والحرام، 2/189. يقول: (حده أن يُقتل إن لم يتب، وإن تاب لم يقتل، وقد قال مالك بن أنس وأهل المدينة: يُقتل ولا يستتاب. وليس ذلك عندنا بقول). 

12- في [المنتخب والفنون، 73] استشهد بأبي حنيفة فقال: (وقال أبو حنيفة وأصحابه: إن الدنانير والدراهم يجمعان في الزكاة، وهذا أحب الأقاويل إلينا). ومن الجدير بالذكر أن الإمام الهادي حين دخل اليمن كان فيها مذهبان منتشران، هما: الحنفية والمالكية. قال عمر بن سمرة الجعدي في كتابه [طبقات فقهاء اليمن، ص 79]، مبينا حال أهل اليمن وقت دخول الهادي: (وكان أهل اليمن صنفين: إما مفتون بهم، وإما خائف متمسك بنوع من الشريعة، إما حنفي وهو الغالب، وإما مالكي). 

13- الأحكام في الحلال والحرام، 1/ 390. 

14- الأحكام في الحلال والحرام، 1/336 – 337. بتصرف. 

15- يقول: (وقد قال غيرنا… ورووا ذلك عن أمير المؤمنين، ولسنا نصدق به عليه، ولا يصح لنا عنه) [الأحكام في الحلال والحرام، 1/359].. وفي موضع آخر يصفهم بالهمج، يقول: (فأما ما يرويه همج الناس عن أمير المؤمنين… فذلك ما لا يُصدّق به عليه)، ويقول: (وأما ما يرويه أهل الجهل عن أمير المؤمنين فلا يقبل ذلك منهم، ولا يصدق به عليه.. ولو كان ذلك كذلك لكان أهل بيته أعلم بذلك) [الأحكام في الحلال والحرام، 2/21]. 

16- الأحكام في الحلال والحرام، 2/215. 

17- المنتخب والفنون، 143- وما بعدها. ويقول معقبا: (وإنما جعلنا هذه الأخبار في هذا الباب، واحتججنا بها؛ لأنها من أخبار العامة التي نقلوها عن ثقات رجالهم، لا يردها منهم أحد إلا مكابر، فقطعنا حججهم في هذا الباب، بما رووا من الأخبار الصحيحة عن الثقات). 

18- مجموع رسائل الإمام الهادي، 64. 

19- مجموع رسائل الإمام الهادي، 542. 

20- مجموع رسائل الإمام الهادي، 698. حيث تحدث عن عدم ثبوت التراويح عن النبي، ثم قال: (ولو كان ذلك شيئا كان منه لروته آباؤنا عن آبائها وجدودها، ولما سقط عنهم شيء منه، ولأتوا به مصححا عنه). 

21- مجموع رسائل الإمام الهادي، 587. 

22- مجموع رسائل الإمام الهادي، 578. يقول: (فكان علمهم – لما ذكرنا، من اختيار الله لهم واصطفائه إياهم، ورضاه باستخلافهم في أرضه، واسترعائه لما استرعاهم من بريته – علماً جليلاً، وكان قياسهم قياساً ثابتاً أصيلاً؛ إذ هم وأبوهم صلى الله عليه وعلى آله وسلم أصل كل دين، وعماد كل يقين، ومنه صلوات الله عليه تفرعت العلوم المعلومة، وثبتت أصول الأحكام المفهومة. ومنه ومن ذريته نيلت العلوم الفاضلة، وبُلغت الأصول الفاصلة، فمن علمهم صلوات الله عليهم تفرعت الأحكام، ومن بحر فهمهم استقى جميع الأنام. فهم أصل الدين، وشرائع الحق المستبين، فكل علم نيل أو كسب فمن فضل علمهم اكتسب، وكل حكم حق به حكم فمن حكم حقهم علم، فهم أمناء الله على حقه، والوسيلة بينه وبين خلقه، المبلغون للرسالات، الآتون من الله سبحانه بالدلالات، المثبتون على الأمة حججه البالغة، المسبغون بذلك على الأمة للنعم السابغة). 

23- الأحكام في الحلال والحرام، 1/388. وأنقل نصه بطوله؛ لأنه يبين عقيدته بوضوح في حجية علم أهل البيت، وبطلان علم غيرهم، يقول: (وأعاذنا الله وإياك من سبل الضالين، الذين همتهم الترؤس على الجاهلين، والتشبت بما قد عرفوا به من مذهبهم وقولهم، وإن كان مخالفا لأصول دينهم، ومقالة علماء أهل بيت نبيهم، الذين عليهم الاعتماد، وبطاعتهم أمر جميع العباد؛ فهم بخلافهم لمعدن العلم يبتغون ما سولت لهم أنفسهم، ومَثَّلت لهم في صدورهم ظنونُهم، فهم مثابرون عليه، خابطون بجهالتهم فيه، غير متهمين لرأيهم، يحسبون أنه لا حق إلا عندهم، قد لبس عليهم الشيطان حقهم ورشدهم، فهم يفتون بالخطأ ويدعون الناس إلى الزلل والهوى، قد حالوا بينهم وبين هداهم ومنعوهم من سؤال علمائهم، الذين أمروا بسؤالهم من أهل بيت نبيهم، بما يلبسون عليهم من أمورهم ويوهمونهم أن الحق في أقاويلهم، يحلون لهم بجهلهم كل حرام، ويحرمون عليهم ما أحل الله ذو الجلال والاكرام، قد تقلدوا للأنام أمورهم وأسبابهم، فباؤا مع وزرهم عند الله بأوزارهم،  فهم كما قال الله رب العالمين فيهم وفي إخوانهم الأولين: { وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ}، ولا يقصدون فيما اشتُبه عليهم من أُمِروا بقصدهم، وافتُرض عليهم سؤالهم، وأمروا بطلبهم، والالتجاء إليهم في كل أمورهم، من أهل بيت نبيهم، وذلك قوله الله سبحانه: { فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}، وأهل الذكر فهم آل محمد عليه السلام الذين أورثوا الكتاب، ونُزلت عليهم الأحكام، وجُعلوا مبينين لما اشتبه على الأنام من جميع ما كان من حلال أو حرام، فهم المترجمون لما غمض من الكتاب، الموفقون لما اختار الله من الصواب، لا يضل عن أفهامهم، ولا يجوز أن لا يوجد عند علمائهم. فصل كل نور وخطاب وتبيان كل ما يحتاج إليه من الأسباب، إذ هم أمناء الله في خلقه، وخلفاؤه في أرضه وبلاده، والمسترعون جميع خلقه وعباده، الذين أورثهم الله كتابه المبين، وجعلهم أولاد خاتم النبيين، وفي ذلك ما يقول رب العالمين: { ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ}، ففيهم إذ كانوا بشرا ما في غيرهم من الظالم لنفسه، والمقتصد في قوله وفعله، والمبرز السابق إلى ربه الذي لا يتعلق به المتعلقون ولا يدانيه في سبقه السابقون). 

24- مجموع رسائل الإمام الهادي، 569. 

25- مجموع رسائل الإمام الهادي، 585. يقول مبينا سبب وقوع الاختلاف في علماء أهل البيت، الوجه الأول: النسيان، ثم يقول: (والوجه الثاني فهو أكبر الأمرين وأعظمهما وأجلهما خطرا، وهو أن يكون بعض من يؤثر عنه العلم تعلم من غير علم آبائه، واقتبس علمه من غير اجداده… فصار علمه لعلم غيرهم مشابها، وصار قوله لقولهم عليهم السلام مجانبا… وإن كان منهم في نسبه، فليس علمهم كعلمه، ولا رأيهم فيما اختلف فيه الحكم كرأيه…). وانظر أيضا: [الأحكام في الحلال والحرام، 2/443]، وفيه: (وأما من كان منهم مقتبسا من آبائه، أبا فأبا حتى ينتهي إلى الأصل، غير ناظر في قول غيرهم… فذلك لا يضل أبدا، ولا يخالف الحق أصلا). 

26- مجموع رسائل الإمام الهادي، 106. 

27- مجموع رسائل الإمام الهادي، 720. يقول: (يحرم من الذبائح ست ذبائح: … 5/ وذبيحة المشبه؛ لأنه يقول إنه يعبد الذي يقع عليه بصره يوم القيامة… إلى أن يقول: (فجميع هؤلاء الستة الأصناف ما ذكروا اسم الله على شيء من ذبائحهم؛ إذ لم يعرفوه حق معرفته، ولم يقروا له بتوحيده وعدله، ولم يصدقوه في وعده ووعيده، وكذبوا قوله في وليه وعدوه). 

28- المنزلة بين المنزلتين، 34-44. 

29- المنزلة بين المنزلتين، 51-53. 

30- المنزلة بين المنزلتين، 49. 

31- المنزلة بين المنزلتين، 58. 

32- في كتابه “الأحكام في الحلال والحرام، 2/222″، يذكر أن القتل يجب على عشرة أصناف، أول صنف هم: (أهل الشرك إذا أبوا أن يجيبوا إلى الإسلام أو إلى المعاهدة). وفي رسالة “المنزلة بين المنزلتين، 56″، يقول: (وفُرض على المسلمين قتل المشركين والكفار كلهم، إلا ما يخص أهل الجزية من أهل الكتاب). 

33- مجموع رسائل الإمام الهادي، 676. 

34- مجموع رسائل الإمام الهادي، 77، وانظر: الأحكام في الحلال والحرام، 2/225. 

35- مقالات الإسلاميين، للأشعري، 110. 

36- مقالات الإسلاميين، للأشعري، 104. 

37- مجموع رسائل الإمام الهادي، 77. 

38- مجموع رسائل الإمام الهادي، 78. 

39- الأحكام في الحلال والحرام، 2/222. 

40- المنزلة بين المنزلتين، 56. 

41- مجموع رسائل الإمام الهادي، 721. 

42- الأحكام في الحلال والحرام، 1/ 191. 

43- الأحكام في الحلال والحرام، 1/ 378

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى