فكر

تأسيس الهوية وصورة الآخر عند الإمام الهادي (ج4)

(الآخر الاجتماعي/السياسي)

نختم بهذا المقال سلسلة المقالات السابقة التي درسنا من خلالها صورة الآخر في تراث الإمام الهادي، فتناولنا أولا: مفهوم الإمامة لديه، بصفتها الفكرة المركزية التي تأسس عليها تراثه الفكري، ثم تناولنا صورة الصحابة في تراثه، ثم صورة علماء الأمة، ونختم بتناول صورة الآخر الاجتماعي/ السياسي.

السياق التاريخي:

جاء الإمام الهادي إلى اليمن في فترة مضطربة، وهذا الاضطراب ليس في اليمن فقط، بل في العالم الإسلامي كله، فالمتأمل لأحداث التاريخ يجد أن القرن الثالث الهجري هو أشد القرون اضطرابا في تاريخ المسلمين، وهي اضطرابات انفجرت في كل مكان، وبالذات بدءا مع عصر المأمون، وكانت هذه الاضطرابات كفيلة بإعادة تشكيل خارطة العالم الإسلامي، وانتهى عصر الوحدة العامة التي كان عليها منذ عصر الخلافة الراشدة، ثم العصر الأموي، ثم معظم العصر العباسي الأول [إذا استثنينا الأندلس]. ومن رأيي أن هذا القرن بحاجة إلى دراسات مكثفة للكشف عن التغيرات السياسية والاجتماعية والثقافية التي أصابت العالم الإسلامي، وبعضها لا زال مؤثرا في واقعنا حتى اليوم.

وإذا نظرنا إلى اليمن والإمام الهادي، فسنجد أننا بإزاء ثلاثة تمثلات للآخر:

الأول:

الخلفاء العباسيون، فهذا الآخر يأتي في سياق الصراع العام بين العباسيين والعلويين، ولا سيما أن العباسيين رفعوا شعار “الرضا من آل محمد”، واعتمدوا في شرعية ثورتهم على “حق أهل البيت في الحكم”، وكانوا أثناء التخطيط السري يعملون معا. ولذلك هبت الثورات العلوية في وجه العباسيين، سواء في العراق أو في فارس أو في الحجاز واليمن أو في المغرب… ويعد خروج الهادي إلى اليمن جزءا من هذا السياق العام، بغض النظر عن تفاصيله المباشرة.

الثاني:

الإمامية (بثوبها الواسع)، وهم يعدون جزءا من الشيعة إلا أنهم ذهبوا بالإمامة بعد الباقر إلى جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي بن الحسين، بدلا من زيد بن علي. وكانت لهم تحركات ثورية في هذا القرن، وفي اليمن كان داعية الإسماعيلية ابن حوشب ثم علي بن الفضل مصدري قلق كبير، وامتد نفوذهما إلى معظم أنحاء اليمن. وقد بدأت دعوة ابن حوشب نحو 268هـ، وبلغت ذروتها مع الاستيلاء على صنعاء في نحو 294 هـ، كما استطاعوا الدخول إلى معقل نفوذ الإمام الهادي، وخاصة في نجران.

واجه الإمام الهادي الإمامية من ناحيتين: الناحية الفكرية والناحية السياسية، ولذلك فهم يمثلون الآخر الفكري والاجتماعي أيضا.

الثالث:

أهل اليمن، وكانت اليمن تعيش في صراعات مستمرة، واضطرابات عديدة، فمن ناحية كانت هناك دويلات ناشئة: بنو زياد، وبنو يعفر. ومن ناحية أخرى كانت هناك القبائل وشيوخها، الذين تتوزع ولاءاتهم السياسية للعباسيين أو للدويلات أو ينحون منحى الاستقلال، ومن ناحية ثالثة كان هناك ولاة بني العباس في اليمن.. كل هؤلاء دخلوا في صراعات بينية، وحين أتى الهادي كانت صعدة هي منطلقه الرئيس، وما عداها فقد خاض معهم حروبا وسجالات متعددة، وشهدت المناطق التي كانت خاضعة له، كنجران، تمردات عديدة.

موقف الهادي من العباسيين:

تجلى موقف الهادي من العباسيين في رسالته (دعوة وجه بها إلى أحمد بن يحيى بن زيد ومن قِبله)، ففيها هجوم شديد، وحديث طويل عن بني العباس دون تسمية لهم (1). وفيها يبين مبررات خروجه عليهم. وفيما يلي تحليل موجز للصورة النمطية لبني لعباس لدى الهادي.

الصورة الدينية، يصور الهادي بني العباس على أنهم قد قتلوا الدين، وعطلوا الكتاب، وعطلوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ونسوا لقاء الله، وهم حزب الشيطان، الذين جاهروا بالفسق والعصيان، وأحيوا البدع وأماتوا السنن.

والصورة الأخلاقية والسلوكية، في أنهم يظلمون ويبغون ويستبيحون أموال المسلمين ودماءهم وأعراضهم، وحرموا الناس من حقوقهم، واستأثروا بها لأنفسهم.. ويصفهم بالخيانة ونقض العهود والمواثيق، وإذلال وجهاء الناس، وانحصار هممهم في بطونهم وفروجهم.. (فراعنة جبارون، أهل خيلاء فاسقون…لا يرحمون العباد، ولا يصلحون البلاد).. كما أنهم (معتكفون على السفاح…أفعال قوم لوط أفعالهم، يتخذون الرجال، ويأتونهم من دون النساء)… إلخ.

فالإمام الهادي يرسم لبني العباس صورا ذهنية قاتمة، من الناحية الدينية، ومن الناحية الأخلاقية والسلوكية، كما أنه ينزع عنهم مبررات الحكم؛ بإظهارهم غير مؤهلين لحكم الناس، ويمارسون الظلم والعسف والطغيان.

كما أن الهادي يشير إلى أن العباسيين لم ينالوا الحكم إلا بغدرهم بأولياء الله، ولم يتمكنوا من قتلهم واضطهادهم إلا عن طريق الغدر (ويقصد أهل البيت)… فهم أهل غدر ونكث للمواثيق والعهود، وهم أهل جبن عن المواجهة الحقيقية. (بل الكفار الطغام أوفى بالعهود منهم، وأقل اجتراء منهم في كثير من الأمور.. وهم في ذلك يدعون أنهم أئمة المسلمين، وقادة المؤمنين، وخلفاء للواحد الكريم، وولاة للعظيم الرحيم).

ثم ينفي أحقية بني العباس بالإمامة مستدلا بأن الله لا يجعلها في القوم الظالمين، ولا يعقدها للفاسقين، فكيف وهم قد أخذوا ما ليس بحقهم؟!

ثم يبين أنهم إنما تمكنوا من الحكم بتقاعس أهل الحق عن حقهم، وسكوت الأمة عن ظلمهم، وترك الجهاد والخروج ضد الظلمة… ويدعوهم إلى الاقتداء بأولياء الله، الذين خرجوا في وجوههم، وجاهدوهم، مع أن الظلمة في قوتهم ومنعتهم، وبيدهم الجيوش والأموال والسلطان، حتى نالوا الشهادة مقبلين غير مدبرين.

ثم يبشر أصحابه أن بني العباس قد ضعف أمرهم، ووهنت قوتهم، وصار أمرهم في نقصان وخذلان، ولم يعودوا كما كانوا، بل صار يتلاعب بهم عبيدهم، وسلط الله عليهم شرارهم، ولم يعد بيدهم شيء من الأمر، وهذا جزاء من الله لهم على ظلمهم وبغيهم، فقد حلت بهم سنته كما حلت بالظلمة من قبلهم، ولذلك فيدعو الناس إلى أن يعيدوا الأمر إلى نصابه.

وفي هذا النص بيان واضح لحال بني العباس أثناء خروج الهادي، وما وصلوا إليه من الضعف، الذي أدى إلى قيام الثورات في مختلف بقاع العالم الإسلامي، ومن ثم نشوء كثير من الدويلات المستقلة، وما بقي منها متصلا بالخلافة فهو من ناحية شكلية اسمية فقط.

الهوية وصورة الآخر عند الإمام الهادي 12 تأسيس الهوية وصورة الآخر عند الإمام الهادي (ج4)

موقف الهادي من الإمامية:

من الواضح أن الهادي يرى الشيعة قسمين: زيدية ورافضة(2)، ويسمي الرافضة: الإمامية، في حين يطلق على الزيدية مصطلح: الشيعة. وبذلك ميز الشيعة الرافضة (أو الإمامية) عن بقية الشيعة، الذين هم الزيدية. ولم يكن قد تبلور التفريق بين فرق الشيعة الأخرى: الإمامية الاثناعشرية، والإسماعيلية.. فكلهم يندرجون تحت اسم “الرافضة”؛ لأنه يجمعهم رفض إمامة زيد بن علي. وبذلك فالهادي لم يميز بين الإمامية والإسماعيلية في هجومه عليهم.

شن الهادي هجوما شديدا على الإمامية في كتبه، ووصفهم بأشنع الصفات، وأقبح الأوصاف. وكما ذكرنا فموقفه من الإمامية جاء من الناحية الفكرية، ومن الناحية السياسية؛ لأنه دخل معهم في صراع في بعض فترات حكمه، فكان الموقف الفكري مساندا للموقف السياسي.

وبالنظر في الموقف الفكري، فقد وقفنا مليا عند تناوله للإمامية، لتحليل خطابه ودوافع هذا الهجوم، وهل هو موقف فكري مباين لما هم عليه جملة وتفصيلا، أو أن موقفه منهم يرتكز إلى مذهبه في الإمامة.

أول سبب(3) من أسباب هجومه على الإمامية يتمثل في موقفهم حين تخلفوا عن القتال مع زيد بن علي، (مخافة من السلطان، ثم لم يدروا بم يحتجون على من لامهم وعاب عليهم فعلهم، فقالوا بالوصية حينئذ، فقالوا: كانت الوصية من علي بن الحسين إلى ابنه محمد، ومن محمد إلى ابنه جعفر؛ ليموهوا على الناس، فضلوا وأضلوا..) فهو يرى تقاعسهم عن نصرة زيد مردهم إلى الخوف من القتال، وإيثار الدنيا، ثم إنهم ارتكبوا جرما بزعمهم الوصية وذهبوا بها إلى الأئمة الاثني عشر…

ثم يساوي الهادي بين الإمامية وبين أهل السنة، بأن كلا منهم نسبوا أباطيلهم إلى رسول الله، وإلى ولد رسول الله.. ولذلك سماهم زيد بن علي روافض؛ لأنهم رفضوا إمامته، وخرجوا من بيعته.

إذن فهذا الدافع الأول للهجوم على الإمامية؛ لأنهم يطعنون في شرعية الفكرة المركزية التي يؤسس عليها هويته، وهي “الإمامة في ذرية الحسن والحسين، دون حصرها بأشخاص معينين؛ فلو انحصرت فيهم لما وصلت إليه. ولذلك فالإمامية تمثل تهديدا وجوديا لهوية الهادي. ومن الطبيعي أن يشن عليهم هجوما شديدا، وربما أشد من هجومه علي من يسميهم “العامة”؛ لأن التهديد من الإمامية يأتي من داخل الفكرة المركزية نفسها، القائمة على إمامة علي والحسن والحسين.

وبالمناسبة، فمصطلح “الرفض” شاع أنه يطلق على من رفض بيعة أبي بكر وعمر، وهذا شيوع خاطئ للمصطلح [أو على الأقل نقول: مفهوم سني للمصطلح لا علاقة له بالتاريخ]، بل أطلق المصطلح على من رفض إمامة زيد بن علي وخرج عن بيعته، تمييزا لهم عن الذين بايعوه ووقفوا معه في قتاله. فالروافض هم الإمامية الذين أعلنوا رفضهم لبيعة زيد في مقابل الزيدية الذين بايعوا زيداً أو اعتدوا بإمامته(4). وبهذا السياق يستخدم الهادي مصطلح “الرافضة”، ويذمهم، ويشنع عليهم. ومن الخطأ الاستدلال بهجوم الهادي للرافضة على أنه يقصد بهم من يقصده أهل السنة، أنهم الذين رفضوا إمامة أبي بكر وعمر.

كذلك فالإمام الهادي هاجم الإمامية – دون أن يسميهم – في دعواهم أن القرآن ناقص، وقد أشرنا لهذا سابقاً. وهذا الهجوم يمثل مباينة فكرية لهم من حيث العقيدة، ولا شك أن الهادوية في هذا المعتقد قد سلموا مما وقعت فيه الإمامية.

وأما مسألة القول بعصمة الأئمة فإذا كانت الإمامية الاثنا عشرية حصرتها في اثني عشر إماما (والإسماعيلية في سبعة أئمة)، فإن الهادي يجعل كل إمام من أهل البيت ناطقا بالحق مختاراً للصواب مترجما للكتاب… أما الموقف من الصحابة فهناك تماهي بين الموقفين: الهادي والإمامية، وقد أشرت لذلك من قبل. كما أن الهادي يطعن في بيعة أبي بكر وعمر(5)، مثل الإمامية.

ويرفض الهادي مصادر الاستدلال التي عند أهل السنة، فهي عنده أربعة: الكتاب والسنة والعقل والأئمة. فأما الكتاب فهو يشترط أن يكون ترجمانه وتفسيره من خلال أهل البيت، وبذلك يقيد الاستدلال بالكتاب بما يفهمه علماء أهل البيت دون غيرهم. وأما السنة فهو يحصرها على ما رواه أهل البيت، ويرفض كتب الحديث ويعتبرها أباطيل، ويعتبر أن أي حديث لم يرووه فهو باطل، ويستدل بما يجمع عليه علماء أهل البيت دون غيرهم، ويعتبر أن قياسهم هو القياس الثابت الأصيل… إذن فهو مباين لأهل السنة في هذه المسائل.

وأما تعيين علي للإمامة باسمه ونسبه، وصفا ونصا، فقد بينت من قبل أن الإمام الهادي يسير وفق مذهب الإمامية في هذه المسألة، ولذلك حكم بضلال الصحابة ونقضهم للكتاب؛ لأنهم خالفوا أمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم في منح الإمامة لعلي. بالرغم من أن الهادي ذكر أن موقفه يخالف موقف الإمامة في هذه المسألة(6)، إلا أن موقفه العملي موافق لهم، متسق معهم.

وإذا تتبعنا كتبه نجده هاجم الإمامية أيضاً في ثلاثة مواطن أخرى، موطنان منها متعلقان بمخالفتهم في مسائل فقهية، أحدها(7): قول الإمامية: (من طلق زوجته على غير طهر من جماع، أو طلق ثلاثا معا لم يكن ذلك طلاقاً).. وتبعا لذلك ناقشهم نقاشا طويلا، وأثناء ذلك وصفهم أنهم (شرذمة مخالفة للحق)، وأنهم (تكلموا بالظن والهوى)، ثم ختم نقاشه: (ولا أعلم أحدا خالف ما روي وقيل به من ذلك غير هذا الحزب، حزب الشيطان الخاسر الهالك عند الله، الجائر المحل للشهوات، المتبع اللذات، المبيح للحرمات، الآمر بالفاحشات…). في أشد هجوم عليهم، ولكنه هجوم وصفي يسير فيه على هذا النحو؛ بما يعزز موقفه تجاههم في معركته معهم.

المسألة الثانية: إباحة الإمامية زواج المتعة، فقد هاجمهم الهادي في هذه المسألة(8)، ووصفهم بـ(الفرقة المارقة الذين استحلوا الفاحشة)، وأنه (سفهاء، رووا الروايات الكاذبة).

المسألة الثالثة: أنكر على الإمامية غلوهم ومبالغتهم في القول إن دلالة الإمامة تتمثل في قدرة الإمام على فعل ما لم يفعله النبي(9).

وبهذا يتبين لنا نقاط الافتراق الفكري بين الهادي والإمامية، ولماذا اعتبرهم الهادي تمثلا آخر بالنسبة إليه، سواء من الناحية الفكرية أو من الناحية السياسية.

الهوية وصورة الآخر عند الإمام الهادي 14 تأسيس الهوية وصورة الآخر عند الإمام الهادي (ج4)

عامة أهل اليمن:

ذكرت سابقا أن الإمام الهادي يرى أن الفئة الباغية كافرة، وأن أهل الكبائر كفار نعمة، وقد انسحب هذا الوصف على من كان يقاتلهم من أهل اليمن(10).

فكان يرى أنه يجاهد قوما، بدلوا دين الله وتركوا كتابه، فيقول عنهم(11):

فقد عاقني الأمر المؤكد فرضه

فقمت به، فعل امرئ غير خائب

جهاد أناس بدلوا الدين عنوة

ودانوا بدين للكتاب مجانب

ثم يصف تبدل حالهم بعد قتاله لهم، وجهاده إياهم، وأنهم رضوا بحكم الله:

فأضحى كتاب الله يُرضَى بحكمه

وقد كان مسخوطا بتلك الجوانب

وفي أحد لقاءاته مع الأكيليين (قبائل من خولان)، وصف المعركة التي دارت بينهم، وفيها يقول واصفا خصومه بالكفر، ومبينا أنهم رفضوا كتاب الله لما جاءهم به، وأنهم قالوا له سيتبعونه لو حكم بينهم بغير الكتاب، أما لو أراد إقامة الحق فإنهم سيقاتلونه كما قاتلت اليهود جَدّيه(12):

دعوت الناس كلهم لحق

وأكثرهم عن التقوى يحيدُ

لأنهمُ على فسق توالوا

ويتبع ذلك الكفر العنيدُ

فقلت لهم: ذروا كفرا وفسقاً

وخلوه، فقالوا: لا نريدُ

كتابَ الله، لما أن أتتنا

شرائعه، ومن هذا يحيدُ؟!

فإن تأخذْ بغير الحق تُتْبَعْ

ويُصبحْ كلنا لك يستقيدُ

وإلا فاعلمنْ أنا حروبٌ

كما فعلت بجَدّيكَ اليهودُ

والذين يحاربونه إنما يحاربون الله وابن نبيه(13):

وحاروا بحرب الله وابن نبيه

مجاهرة، واللهُ ليس يُحارَبُ

فالله معه، والنبي والده، ولذلك فالله سيدفع عنه كيد أعدائه، ويحفظه منهم(14):

واللهُ ربي، والنبيُّ فوالدي 

والله يحفظني، وعني يدفعُ

وهم يحاولون إطفاء نور الله، ولكن هيهات فقد أظهر الله على يديه نوره(15):

وقاموا ليُطفوا نورَ مَن سمك العلى

وذلك أمر ليس يُدركه البشرْ 

 وأصبح نور الله في الأرض ساطعاً 

وأصبح أمر الله بالحق قد ظهرْ

ويتحدث عن خصومه من بني الحارث من أهل نجران، ويشير إلى عفوه عنهم أولا، ثم نكثهم لعهده وقتله لهم، ويستخدم لفظ: غفرتُ، وكفروا. وأن مصيرهم جهنم(16):

غفرتُ لمن أخطا، وبين عذره

 فأفسدهم عفوي، فبُعداً لمن كفرْ 

 وما نقموا مني سوى أن دعوتهم

إلى كل تنزيل من الحق في السور

إلى أن يقول:

فمنهم فريق في جهنم فُلّقتْ

 جماجمهم بالبيض في قرية الهجرْ

 وآخر منهم هارب بمذلة

 وخزي، وهذاك الجزاءُ لمن غدرْ

ويصف آل طريف – الذين أسروا ابنه محمد المرتضى، في إحدى معاركه معهم بصنعاء – بأنهم لم يراعوا حق الله وحق نبيه فيه، وأن موعدهم جهنم، يعذبون فيها، ويكون خصيمهم النبي نفسه(17).

فويل بني الدنيا من الله، إنه

 سيصليهمُ نارا تلَهَّبُ بالجمرِ

 جحيم لها حر شديد، وكربة 

لها شرر عال، يُشَبَّه بالقصر

طعامهم الزقوم فيها، وشربهم

 حميمُ غُسَاق، لا يسوغ من الحر

 محمد المرضي فيها خصيمهم

 ليأخذ منهم ما له كان من وَتْر

❃❃❃

كما أن هناك بعض الصور التي تشي باحتقار هذا الآخر، ومن ذلك مثلا، وصفه لخصومه بالكلاب، فيقول واصفا إحدى معاركه، وهروب خصومه منه(18):

وهمُ ما بين كلبٍ هاربٍ

 ذاهل العقل، ومرعوب صعَقْ

إلى أن يقول متشفيا بذلهم ومهانتهم بعد العز الذي كانوا عليه:

فشفى غيظي ووجدي ذُلُّهم

 حين زال العز عنهم، فامتحقْ

ويصف أحد خصومه من بني الحارث بأسوأ الوصف، فيقول:

وأفسده صفحي وإيجاب 

 وما أنْ له حق علي بواجب

حقه لأنه ملعون لعين منافق

 كفور لآلائي، رديء المناصب

 جريء إذا عوفي، ذليل إذا ابتلي

 مهين، ضعيف فكره في العواقب

❃❃❃

الهوية وصورة الآخر عند الإمام الهادي 13 تأسيس الهوية وصورة الآخر عند الإمام الهادي (ج4)

كما أن الهادي يعبر في شعره بصراحة عن رغبته في سفك الدماء، وأنها همه، وأنه يتسلى بها إذا تسلى الجبان بالطعام والشراب، حتى يرى أعداءه في الهوان أسرى وقتلى، فذاك ما يشفي غليله، وكأنما معاركه لشفاء الغليل وإهانة الخصوم. فيقول(19):

إننا معشر الفواطم قوم

 لا نمل اللقاءَ إذا النِّكْسُ ملّا

همّنا الضرب في اللقاء، مع الطعن

 وسفك الدماء نَهْلا وعَلّا

 سلوتي في الطراد فوق ذُرى الخيل

 إذا النكس بالصبوح تسلى

 لو تراني في شكتي وسلاحي

 فوق طرفي لقلت: ليثا مخلى

 وقدَ اثخنتُ عند ذاك عداتي

 فهمُ في الهوان أسرى وقتلى

إلى أن يقول:

لست من هاشمٍ، ذؤابة مجدٍ

 إن لم أُرَوّ السيوف حتى تملا

لست بالفاطمي إن حلت الحرب

 من أوزارها قتيلا وقتلا

 ولمَ اشف الغليل من حار كعب

 وأثير المغارات خيلا ورجلا

 عندها أشتفي وأشفي غليلي

 أنْ تركت النساء يرقصن ثكلى

ولقد كان يرى أن السلاح هو السبيل الأنجع للحفاظ على المجد، وطلب ميراث النبوة، ويلوم بني عمه من آل الرسول أنهم تقاعسوا عن طلب حقهم، فيقول(20):

أرى الطالبيين الأسود تخاذلوا 

فمنهم مدان للعدى ومصانعُ 

ولم يطلبوا إرث النبوة بالقنا 

ولم يمنعوه والرماح شوارع 

أرى حقهم مستودعا عند غيرهم 

ولا بد يوما أن تُرد الودائع

وتلحظ الصورة الوصفية للطالبيين بأنهم “أسود” حتى في تخاذلهم، فهي صورة إيجابية لهم، في حين وصف خصومه أنهم كلاب.

ولذلك يفتخر الهادي على بني عمه أنه نهض وبنى لهم مجدا وبيتا وشرفا، ولم يقعد كما قعدوا(21):

نهضت ولم أعجز وقلت مواعظا 

ذخائر علم إن وعاهن سامعُ 

بنيتُ لكم بيتا من المجد سمكه 

دوين الثريا، فخره متتابع 

فأضحى لكم عز به ومفاخر 

وذكر ومجد شامخ الفضل يافع 

بعثت كتاب الله بعد هلاكه 

فليس بغير الحق يزمع زامع

❃❃❃

الصورة العامة لأهل اليمن في تراث الهادي صورة سلبية، سواء صورتهم الدينية أو السلوكية، فهم قد نقضوا الكتاب، ولا يريدون اتباع الحق، واستباحوا الحقوق، واستمرأوا الفساد والظلم، ولا يريدون أداء فروض الله في أموالهم. ولذلك تمثل هذه الصورة مبررا لقتاله إياهم، كما تمثل مفارقة إيجابية للهادي في نقله اليمنيين من تلك الحالة السيئة التي أهلكوا فيها كتاب الله وأحيوا فيها سبيل الشيطان، إلى حالة مشرقة بعد دخوله إليهم، حيث بعث كتاب الله بعد هلاكه. وكتاب سيرة الهادي مليء بهذه الصور التبريرية، ونحن لا نستطيع الاعتماد عليها في مدى صدقها؛ لأن السيرة تظل رواية من طرف واحد، فلا نستطيع تبين وجهة نظر الطرف الآخر. ولذلك اقتصرنا على تحليل شعره فقط.

وبالنظر في شعر الهادي، نجده يتحدث عن غنيمة أموال خصومه الذين قاتلهم، فيقول مثلا(22):

عاينوا الموت فخلّوا دورهم 

وعيالات لهم عند الفرَقْ 

وزروعا وعنابا جمة 

وسلاحا وأثاثا وسرقْ 

وعبيدا ودروعا غُنمتْ 

وثيابا ومتاعا وورقْ 

وهم قد طرحوا أسلابهم 

ورماحا وسيوفا ودرقْ

ويقول إنه يستبيح من أعدائه: دماءهم وأموالهم وتخريب دورهم وقطع زروعهم، ويصفهم بالكفر، وأنهم قد استوجبوا كل ذلك بأفعالهم(23):

فأعذرنا ولم نعجل عليهم 

وخيرناهم كل الخصالِ 

وقلت: ألا احقنوا عني دماكم 

وإلا تحقنوها لا أبالي 

ولست بمسرع في ذاك حتى 

إذا ما كفر كافركم بدا لي 

وإخراب السوافل والعوالي 

وحلت لي دماؤكم بحق 

وقطع الزرع واستوجبتموه 

بما قد كان حالا بعد حال 

فقمت عليكم حقا، وقولي 

بذلك قد يصدقه فعالي

❃❃❃

هذه خلاصة من صورة أهل اليمن الذين قاتلهم الهادي وقاتلوه، لدى الإمام الهادي، فقد كان يمنح لنفسه كافة المبررات الشرعية في قتاله، ويصف قتاله لهم بأنه جهاد، وأن رفضهم للانضمام تحت لوائه عصيان منهم، بل بغي وتمرد، ويجعل الباغي ليس من تمرد على إمام المسلمين، إنما من بغى هو من تمرد على إمام أهل البيت، فهو بغى على رب العالمين(24)، ولذلك قال بكفر الفئة الباغية، كما تقدم(25)، وبوجوب قتالهم، وأن من قاتلوه فقد حل له أخذ أموالهم واستباحة ديارهم..(26)، ويعد أصحابه بالجنة وأعداءه بالنار(27).

الهوامش:

1- الرسالة ضمن كتاب مجموع رسائل الإمام الهادي، 605 – وما بعدها. 

2- ويبدو أن هذا التقسيم كان السائد في الفترة المبكرة من التاريخ الإسلامي، وتعد إشارة الجاحظ (ت 255هـ) من أقدم الإشارات، حيث يقول في رسائله: (اعلم أن الشيعة رجلان: زيدي، ورافضي، وبقيتهم نزر جاء لازماً لهم. وفي الإخبار عنهما غنى عمن سواهما). 

3- مجموع رسائل الإمام الهادي، 63. 

4- وهذا ما نص عليه ابن دريد (ت: 321هـ) في جمهرة اللغة، فقال: (وسمي هذا الجيل من الشيعة الرافضة؛ لأنهم رفضوا زيدا، فسمي من اتبعه الزيدية ومن فارقه الرافضة). 

5- انظر المنتخب والفنون، 494 – وما بعدها. 

6- المنتخب والفنون، 494. 

7- الأحكام في الحلال والحرام، 1/ 390 – وما بعدها. 

8- الأحكام في الحلال والحرام، 1/308. 

9- مجموع رسائل الإمام الهادي، 508 

10- اقتصرت في الأمثلة على ما ورد على لسانه في شعره، وقد كان هذا ديدنه أيضا في حديثه، كما نقل عنه كاتب سيرته، وعلى سبيل المثال: يصف في أحد معاركه مع الدعّام بن إبراهيم (أحد مشايخ همدان)، فقال بعد المعركة: (والله ما دخل قلبي رعب منهم، ولا اعتددت بهم، وكيف أعتد بهم وأنا أعلم أن الله معي، فإن قُتلت فإلى الجنة، وإن قَتلت منهم واحدا صار إلى النار)… قال صاحب السيرة: وكان رجل يرمي الهادي بالحجارة، فقال الهادي لرجل من أصحابه: (خذ هذا السهم فارم به هذا الكافر) [سيرة الهادي، 104]. وأثناء قتاله لبني يعفر في صنعاء، أرسل إلى قائد خصومه: (علام يقتتل الناس بيني وبينك!! ابرز إلي؛ فإن ظفرتَ بي أرحتَ مني الكافرين، وإن ظفرت بك أرحتُ من المؤمنين) [سيرة الهادي، 234]. وهذه كانت تسميته لجيشه وجيش خصومه، فأصحابه هم المؤمنون، وجنود خصومه هم الكافرون. 11- سيرة الهادي، 151. 

12- سيرة الهادي، 157. 

13- سيرة الهادي، 179. 

14- سيرة الهادي، 191. 

15- سيرة الهادي، 187. 

16- سيرة الهادي، 187. 

17- سيرة الهادي، 299. 

18- سيرة الهادي، 198. ونقل عنه صاحب سيرته [ص50] قوله: (والله لو كان معي ثلاثمائة وثلاثة عشر مؤمنا – لا، بل لو كان معي خمسمائة، لأن تلك كانت فضيلة لرسول الله – لدُستُ بها اليمن). فعبارة “دست اليمن” تصوير احتقاري لأهل اليمن، وأنهم محل للدوس، وفيه أيضا ربط بين نفسه وفئته مع أهل بدر، وجعل اليمن بمقام قريش التي حاربت النبي صلى الله عليه وسلم. 

19- سيرة الهادي، 176. 

20- سيرة الهادي، 301. 

21- سيرة الهادي، 301. 

22- سيرة الهادي، 198-199. 

23- سيرة الهادي، 307. ويمكن هنا إيراد بعض الأمثلة التطبيقية الداعمة لهذه النظرة وهذه الأحكام، بالنظر في ما ذكره مؤلف سيرة الهادي مبينا أن الهادي كان يأمر بهدم قرى خصومه وحرقها ونهبها وقطع زروعها وترحيل أهلها [انظر مثلا، ص 178 (هدم ميناس من قرى بني الحارث). وانظر ص 195-196: أمره بهدم علاف، وحرقها ونهبها وطرد القوم منها]، ويعتبر أموال خصومه الذين يحاربهم غنائم، وخمسها [سيرة الهادي، ص186]، بل يرسل أصحابه لنهب أموال خصومه (الإبل والخيل والعبيد والغنم والحمير)، واعتبارها غنيمة قسمها وخمسها [ص192. وفيه بعد ذكر النهب: (ولما وصلت الغنيمة إلى الهادي أمر بها أن تقسم على سهام الله تعالى، فقسمت على خمسة أسهم، فأخذ الهادي عليه السلام خمسها…)]. 

24- الأحكام في الحلال والحرام، 2/432. يقول: (فكيف بقتال من بغى على رب العالمين، وخالف حكم المحقين، ولم يطع من أمره الله بطاعته من الأئمة الهادين؟!). 

25- الأحكام في الحلال والحرام، 2/222. 

26- مجموع رسائل الإمام الهادي، 632. 

27- سيرة الهادي، 51.

مقالات ذات صلة

‫2 تعليقات

  1. بخصوص نكاح المتعة فإن المذهب الزيدي يعتبره مسألة ظنية اجتهادية بعضهم أباحه وبعضهم حرمه وبعضهم ينقل الخلاف فيه عن أهل البيت، فليس صحيحا ما شاع من أن الزيدية يوافقون أهل السنة في تحريم نكاح المتعة تحريم قطعي مؤبد، راجع كلام الجلال عن نكاح المتعة رغم أنه يعد من معتدلي الزيدية وكذلك كلام مفتي الزيدية زبارة في نكاح المتعة الذي نقله الأكوع في هجر العلم ويوجد علماء نسبوا إباحة نكاح المتعة لبعض الزيدية ويحتاج الموضوع -نكاح المتعة لدى الزيدية- لبحث استقصائي لعل الكاتب يتحفنا به فهو مهم.

  2. بخصوص نكاح المتعة فإن المذهب الزيدي يعتبره مسألة ظنية اجتهادية بعضهم أباحه وبعضهم حرمه وبعضهم ينقل الخلاف فيه عن أهل البيت، فليس صحيحا ما شاع من أن الزيدية يوافقون أهل السنة في تحريم نكاح المتعة تحريم قطعي مؤبد، راجع كلام الجلال عن نكاح المتعة رغم أنه يعد من معتدلي الزيدية وكذلك كلام مفتي الزيدية زبارة في نكاح المتعة الذي نقله الأكوع في هجر العلم ويوجد علماء نسبوا إباحة نكاح المتعة لبعض الزيدية ويحتاج الموضوع -نكاح المتعة لدى الزيدية- لبحث استقصائي لعل الكاتب يتحفنا به فهو مهم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى